أما بعد:
أيها الأحباب الكرام .. إني أحبكم في الله، وأسأل الله أن يحشرني وإياكم في ظل عرشه، وفي مستقر رحمته وبره ورضوانه، وجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.
أحبتي في الله: نسمع بين الحين والحين أخباراً مؤسفة عن أخ داعية انفصل عن ركب الدعوة، والتفت إلى حظ نفسه أو دنياه أو هواه أو شهوته، ونتألم لفراقه ونحس أن فراقه هذا إنما هو فراق عضوٍ من أعضاء أجسادنا، كفقدان العين أو اليد، ألا يحزن الإنسان عندما يفقد عينه أو يده؟! لا شك أنه يتألم ألماً كبيراً ومن الطبيعي أن يتساقط في الطريق الضعفاء من الدعاة، وكلما اتسعت الدعوة كلما رأينا هذه الظاهرة تكثر؛ لأن التربية في القلة وفي السابقين تكون أعمق وأبلغ، وكلما جاء الانفتاح جاء إلى الدعوة الغث والسمين والقوي والضعيف، وقد يدخل من بينهم صاحب المصلحة والهوى، ثم بين الحين والحين الضعيف لا يستطيع أن يقاوم، فالدعوة تحتاج إلى صبر ورباط وإيثار وتضحية وجهاد وإلى سهر وتعب، وأصحاب النفوس الضعيفة لا يحتملون، إن صبروا عاماً لا يصبرون العام الثاني، بل تراهم بين الحين والحين يتبرمون ويتضايقون، ثم بعد ذلك يطرحون التبريرات لانخلاعهم وتخلفهم عن مسيرة الدعاة إلى الله، وغالباً ما يحملون الدعوة سبب خروجهم وتخلفهم، بأنها لم ترعهم ولم تقدرهم ولم تعرف حقوقهم، وهكذا يعطون أنفسهم هذا المبرر الخداع حتى يقنعوها أنهم على حق وأن الدعوة على باطل، وأن تأخرهم عنها هو سبب ذلك الخطأ الكبير -كما يقولون- التي ارتكبته الدعوة في حقهم.
من الخطر أن تأخذ الداعية العزة بالإثم بعد أن يفارق الجماعة التي كان يعمل فيها، ثم بعد ذلك يرى نفسه وحيداً معزولاً ضعيفاً، الشهوات والشياطين من الإنس والجن تناديه من كل جانب، فيستمر على ما هو فيه، إنه انتحار عن طريق غير مباشر، إنها مهلكة، كان الأولى به أن يهب مرة ثانية، فيلتصق لائذاً بجسم الجماعة، كما يفر من احترق بيته إلى رجال الإطفاء بأقصى سرعة؛ لكي يتداركوا ما تبقى من البيت لينتفع به، لكن -مع الأسف الشديد- بعض الدعاة إذا انفصلوا عن جسد الجماعة والعمل في سبيل الله نراه يصرف طاقته وقلمه وفكره وجهده كله لمحاربة الجماعة والعمل الإسلامي، فيعين على شق الصف، وتصديع القلوب، وتتبع العورات، وتجسيم الأخطاء، حتى يجعل من القذاة الصغيرة جذعاً، ومن الحصاة جبلاً، ويسلط الأضواء على ما ستره الله، والجماعة والدعاة بشر يصيبون ويخطئون، فحتى وجوده هو أصبح الآن إذا افترضهم ملائكة، غير ضروري في الدعوة؛ لأن الملائكة لا يحتاجون إلى أمر بالمعروف ولا يحتاجون إلى نهي عن منكر، فهم معصومون، وبما أنه في عالم دعاة ومناهج وخطط رسمها بشر، فهي صواب تحتمل الخطأ، والخطأ يقاوم بالنصح المحمول على الأدب والاحترام، والمحبة والتقدير، والصدق والمودة.
لكن نرى ذلك الإنسان الذي لو كلفته الجماعة قبل أن ينفصل عنها لتثاقل في تنفيذ تكليفها نراه يكون بعد انفصاله عنها أمة وحدة في تصديع الصف، لا يقر له قرار في ليلٍ أو نهار، يسعى يميناً وشمالاً، يلتقي بفلان وينادي علاناً، ويوغر صدره ويجعل أذنه مصباً لكل نميمةً وغيبة، ويعتبر هذه الغيبة في الله، ويوجد لها مخرجاً شرعياً ويسميها الغيبة في الله، تعالى نغتب في الله، بدل أن يقول: تعال نؤمن ساعة يقول: تعال نغتب في الله، فالإمام الفلاني عقيدته كذا وكذا، والداعية الفلاني منحرفٌ هالك، والداعية العلاني ضالٌ كافر، والداعية ... إلخ، ولا يبقى في الساحة إلا هو، فهو الذي لا يخطئ وهو المعصوم وهو الذي على حق، وكل هذه الأمة التي كانت سبباً في تربيته وتنشئته، وتثقيفه وتعليمه وتهذيبه، وصبرت على أذاه وعيوبه، وأوجدته نبتة صغيرة برعماً، تكفئه الرياح يميناً وشمالاً إلى أن صار شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وكان شوكة في عيون الجماعة لأعدائها ولا حول ولا قوة إلا بالله! بل قد ينادي إلى جماعة جديدة تحت مسمى جديد، ينادي لعقد المؤتمرات، ثم لو تتبعت المنهج الذي وضعه واللوائح التي أعلنها لوجدتها هي هي في الجماعة التي كان فيها، إلا أن الهوى الذي غلب عليه والشيطان الذي سول له جعله يظن أنه جاء بجديد، وهو الحق، وأن القديم عند جماعته هو الباطل، ولا بد أن يتبع هو وعقله وهو الوحيد الصحيح، ومئات العقول التي مبدؤها التشاور هي على باطل.
قد تعاقب الأم أبناءها، ولكن هذه المعاقبة على غير طبيعة الأم، فالأصل فيها الرحمة والمودة والحنان، لكنها إذا رأت ابنها يكسر الكئوس ويحطم الأطباق، ويلوث البيت تعاقبه وقد تطرده خارج الدار، ويذهب بعيداً بعيداً بعيداً، لكن بعد لحظة يقف ويلتفت عن يمينه وشماله، فلا يرى خلفه إلا عتبة الباب، فيعود ماشياً ناكس الرأس ويضع يده ووجهه وذراعه على عتبة باب أمه، وينام، وإذا فتحت الأم بعد لحظة بابها وهي تبحث عن وليدها وقد رأته في هذه الحالة، حالة الندم والتوبة، وحالة الذل والانكسار، وحالة الرجوع بعد الهروب، هل ترميه أم تلقي بنفسها عليه وتأخذه إلى صدرها وعطفها وحنانها وتقول: أي بني! لماذا جعلتني أعاقبك، فأخالفك لما خلقني الله عليه وجبلني عليه من الرحمة والحنان والعطف؟ هذا منك ليس مني أنت الذي كنت السبب في ذلك، تعال تعال يا بني! فتدخله في حنان وعطف ورحمة ومودة له، فتطعمه وتنظفه وتغسله وتلبسه، ويحس الآن بعد عودته الثانية إلى أمه أنه أحوج ما يكون إليها، فإن كان من قبل لا يعرف قيمتها لمألوف الحياة عندها أصبح الآن بعد الطرد والوحشة وبعد الغربة والتشرد يعرف قيمة السكينة بجوار هذه الأم، يوم أن تناوشته الشياطين شياطين النفس والهموم والوساوس، والإنس والجن كما يقول الله سبحانه وتعالى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا [الأنعام:72] هذه هي أمه الآن تدعوه فيعود إليها.
يا أيها الخارج من الجماعة والبعيد عن أمه! إن الجماعة تدعوك كل لحظة، كل لحظة هم تحس بها، كل لحظة غربة تحس بها، كل لحظة تشرد، كل لحظة كرب ووحشة، إن هذه اللحظات تذكرك بذلك الصدر الحنون الذي صبر عليك وأنت طفل صغير تخطو في حقل الدعوة خطواتك الأولى، وعلمك وأدبك ورباك، فلما كبرت واشتد عودك رميتها:
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني |
وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هاجنِ |
ما كان ينبغي أن يكون حظ الجماعة منك هذا، بل لها البر كل البر.
فالدعوة إلى الله أول أتباعها الفقراء كما تعلمون من حديث أبي سفيان مع هرقل يوم أن سأله هرقل: هل أتباع هذا النبي الجديد الفقراء أم الأغنياء؟ قال: الفقراء والمستضعفون والسوقة، قال: كذلك أتباع الأنبياء: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ [الأنعام:50].
وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام:50] لأن قضية نسج الخيالات حول القيادات في الجماعات، بدافع العاطفة والمحبة والإفراط في المحبة من أخطر ما يكون على الدعوات في سبيل الله، وهي التي تجعل أتباع هؤلاء الدعاة يتمسكون بأشخاص الدعوة لا بالدعوة نفسها، وإذا ما ضعف ذلك القدوة أو انحرف الأتباع بعده، بل يبررون انحرافه ويجعلون الخطأ صواباً، من أول لحظة الرسول صلى الله عليه وسلم ينفي عنه ما يتشدق عنه أتباع الدعاة اليوم، والله الداعية الفلاني أو قال لنا شيخنا أو شيخ الطريقة أو العالم، أو القدوة أو شيخ الإسلام، أو كذا أو كذا بأي عبارة تقال: إنه سيحدث كذا وكذا وكذا، ثم حدث كما قال بعد عام أو بعد ثلاثة أعوام، كأنه يعلم الغيب ويعتبرون هذه كرامة ويعتبرون هذه درجة عالية ارتقى فيها فوق البشر، وأن الله خصه؛ لأنه ولي من أوليائه وهكذا، فإذا مات بنوا على قبره ضريحاً وجعلوه مزاراً وتبركوا به حياً وميتاً.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يحذر أمته من خلال هذه الآية لأتباعه ويحذر كل متبوعٍ من أمته أن يقول هذه الكلمة كما قالها محمد صلى الله عليه وسلم، وكما علمه القرآن: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ [الأنعام:50] لكي تخلص القلوب وتسلم النيات لله رب العالمين، لهذا كان الصحابة رضي الله عنه يبايعونه ويقولون: ماذا لنا يا رسول الله؟! والبيعة على أنهم يدافعون عنه كما يدافعون عن أبنائهم ونسائهم وأموالهم، ويحاربون الأحمر والأسود: (ماذا لنا يا رسول الله؟! قال: لكم الجنة -غيب من الغيوب لا يملك هو منها شيء الآن، شيء مادي ما يملك منه، وعد تأخذون مني هذا الوعد؟ لكم الجنة قالوا: امدد يدك نبايع لا نقيل ولا نستقيل) وحتى في أواخر المعارك كان يقسم الغنائم على المؤلفة قلوبهم، ويترك السابقين من المهاجرين والأنصار، كما حدث في معركة حنين وغنائم هوازن..
وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام:50] حتى لا تكون أمة محمد صلى الله عليه وسلم كأمة النصارى التي غالت في حب المسيح فعبدوه من دون الله: (لا تطروني كما أطرت اليهود والنصارى أنبياءهم، أو كما أطرت النصارى المسيح بن مريم إنما قولوا: عبد الله ورسوله، ولا أقول لكم إني ملك، فإذا رأيتم مني من الأيام تصرفاً معيناً ينم عن بشريتي فتذكروا أنني بشر: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف:110]) وهذا هو الفرق فقط لا غير، الفرق بعد أن اعترفت أني بشر أنه يوحى إليَّ، وهذا أمر خارج عن إرادتي من الله، وأبلغكم هذا الوحي، وهكذا الدعاة إلى الله.
لقد اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الدعوة، فالتفت وعبس في وجه عبد الله بن أم مكتوم ، وقابل سادة قريش؛ لعل الله يهديهم وبهدايتهم تهتدي الأمة فكان هذا الاجتهاد يقومه القرآن: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2] ولو كان ملكاً من الملائكة لما حدث هذا، والله سبحانه وتعالى يخبر عن هذا الصنف من المخلوقات: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] فهم في طاعة تامة: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام:50] فهو في قضية الوحي والأمر الشرعي معصوم صلى الله عليه وسلم، وفي القضايا الجبلية البشرية أكمل الناس وأحسن الناس صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك يأتي من أمته من يحرص كل الحرص على التشبه والتأسي به، وهؤلاء هم القدوات، فإذا ما رأينا هفوة من قدوة، ما تدعوني هذه الهفوة أن أنفصل عن هذه الجماعة، وأن أترك الدعوة إلى الله؛ لأن وجودي في هذه الجماعة والدعوة إلى الله قضية دين، وأنفع نفسي فيها قبل أن أنفع الجماعة، ماذا علمتني هذه الجماعة؟ ألم يزداد فيها إيماني وصيامي وصلاتي وحجي وذكري وتسبيحي وإنفاقي؟ .. وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام:50].
الحذر كل الحذر أن يكون الداعية إلى الله أعمى يتخبط، والأعمى في مسيره يتعثر ويصطدم ويسقط، فالحذر كل الحذر من التعثر في طريق الدعوة والاصطدام والسقوط، فإن الله جعل البصر والبصيرة للداعية نور يشق بها الطريق: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] أدعو إلى الله على بصيرة ليس على ضلال وجهل: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام:50].
فلننتمِ إلى هذه الملة وإلى هذه الجماعة ولنعظ عليها بالنواجذ، ولنعلم أنها هي الماء الذي يحيا به السمك ونحن السمك، هي الهواء الذي يسبح في الطير ونحن الطير، هي الغذاء ينمو منه النبات ونحن النبات، وبدونها فالهلاك والموت، واسألوا الذي جرب ذلك ماذا حدث له، اسألوهم وأنتم تعرفونهم يوم أن عرفوا الطريق، ثم بعد ذلك انحرفوا: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:175-176] من الذي يرضى أن يكون في هذا الموقع الخسيس، نسأل الله العافية .. أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].
أيتها الجماعة .. إذا جاءكم الداعية تائباً منيباً آسفاً نادماً على ما بدر منه، فافتحوا له صفحة ولا تكثروا عليه العتاب بل قولوا قولة يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92]، واعتبروها نزغة من نزغات الشيطان، إذ نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي، ولا تخاطبوه في لحظات عودته إلى أمه الجماعة إلا بالتي هي أحسن: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً [الإسراء:53].
لن يأتيكم وحده أبداً سيأتيكم ومعه شيطان أنتم لا ترونه، هذا الشيطان سيأخذ في لحظات عودته كل ضحكة منكم أو غمزة، أو كلمة أو عبارة أنه هو المقصود فيها، وأنها استهزاء وأنه هو المعني والمراد، وأن كل من في المجلس يعرفون حكايته وأنه هو الضعيف، وهو الذي فر العمل وهو إلى آخره، لا. الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يربي أصحابه يقول: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا وكذا؟) حتى يؤلف بين قلوبهم، قضية التأليف من أخطر ما يكون، تعب الأنبياء بها تعباً عظيماً، ويؤسفني أن بعض الجماعات أو الأفراد يحطمون وثائق وعلائق ذلك التأليف الخطير، الذي امتد عبر القرون بين القلوب المؤمنة، والتي اشتركت في مساندته وتدعيمه وتمكينه آيات وأحاديث، ومواقف وسير، وبطولات ودماء، وصبر وأمثلة، وسجون ومعتقلات، وبكل سهولة يأتي شخص ما فيفرق بين القلب والقلب، وبين الروح والروح، ولا يبالي ولا يعبأ أن يأكل لحم أخيه أو يكون سبباً في فتنة أخيه أو في إبعاده عن الجماعة؛ لكي يكون غنمةً قاصيةً يأتيها الذئب في أي لحظة فيفترسها وليس حوله أحد يعينه وينصره.
رضي الله عن عمر يوم قيل له: إن فلاناً يشرب الخمر ويسبونه، قال: [لا. لا. تعينوا الشيطان عليه] ثم كتب إليه يدعوه إلى التوبة والمغفرة ويذكره بقوله تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ [غافر:3]، فلما قرأها، قال: إن أمير المؤمنين يدعوني إلى التوبة، ويهددني بالعقوبة، وإني جئت تائباً إلى الله رب العالمين: وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام:52].
فيا جماعة الحق والخير: عندما نفسر ونفهم هذه الآيات لا نقف عند خصوص السبب، ولكن نقف عند عموم المعنى، فلا نقول فقط: إن سبب نزول هذه الآيات القصة الفلانية التي حدثت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الشيخ تجاوز المعنى، لا. فالقرآن يخاطبنا نحن في كل جيل، وفي كل زمان، وفي كل مكان، وإن كان الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو الخطاب إلى كل من ينوب عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه الآيات مطلقة الزمان والمكان إذا جاءك الداعية تائب ونادم، بل أنتِ إذا رأيتي انفصال العضو عن الجسد بادري إليه، وقولي له كما يقول الشاعر:
وإني كلما أذنبت جئت إليك أعتذر |
أنت تذنب وأنا أعتذر، بل آسف وأقول: لعلي السبب في ذنبك، فاغفر لي وتعال إليَّ مرة ثانية.
إضفاء جو الأبوة والرحمة مطلوبٌ من الجماعة؛ لأنها أكبر وأعلم وأفهم، فهي أولى بمثل هذا الحلم .. وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:51-52]
وأنا أقول للأفراد الذين ينفصلون عن الجماعة؛ لأسباب تافهة: قد تكون هذه الأسباب فيها حظوظ نفس. والله! إن الدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وإنها لا تساوي هم ساعة في حظ نفسي، الجماعة عندما تجري انتخابات؛ لكي تختار مسئولاً على لجنة أو نقابة أو عمل، أو أي مركز من مراكز العمل الإسلامي، أو أي ثغرة من ثغور العمل الإسلامي، فلا يتطلع الأخ ويرفع هامته ويشرئب بعنقه، فإذا ظهرت النتيجة في عدم اختياره ندم وتأسف وحمل في قلبه، وأخذ يتذكر جهوده وبذله وعطاءه.
هل كنت تبذل لنفسك أم لله؟ هل أنت كنت تمن بهذا البذل؟ والله ما كان لك أن تدفع درهماً أو تقدم قطرة من دمك إلا بتوفيق الله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21].. يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات:17] هذا سؤال موجه إلى كل من يمن على الله عز وجل، بل الله سبحانه وتعالى يمن عليكم أن هداكم للإيمان، قل هذا يا محمد! هذا وبين لهم هذه الحقيقة: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
فلا يقل: والله أنا السبب في تأليف الكتاب الفلاني ودعوة القائد العلاني، وأنا الذي صبرت وأنا من المؤسسين، وأنا ركن ركين في العمل الإسلامي، نسوا جهدي وبذلي، إن نسوا جهدك وبذلك فإن الله لا ينساه: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:115] يجب أن تعي هذه الحقيقية، ومن يتق ويصبر، فإن الله لا يضيع أجره.
فالله سبحانه وتعالى يبين أنه إذا اختير الأصغر والأقل علماً، والأقل سبقاً .. إلى آخره، قد يكون هذا امتحان وابتلاء للأعلم والأسبق والأقدر والأكبر والأكفأ؛ لأن علمه وكبره وفهمه ما نفع في هذا الموقف؛ لأنه سقط في الامتحان، فالله سبحانه وتعالى يقول عن هذا الامتحان: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام:53] يجيب الله على هذا التساؤل الذي فيه رائحة الكبر: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53] لعل هذا الصغير النحيف الذي ما عنده شهادة، ولا مال، ولا ثراء، ولا نسب، عنده صدق وإخلاص كالجبال في قلبه لو أقسم على الله لأبره، وبروحانيته وإيمانه أنفع للجماعة من الصفصفات الفكرية، والترف الذهني الذي يحمله ذلك المثقف الكبير والمسئول العظيم؛ لأن الله يعلم نوايا نفسه وشفافية روحه وأثره البليغ بكلماته البسيطة الصادقة في الناس وفي الدعوة، فاختاره الله تعالى، وقدر أن يكون هو في مقام المسئولية: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام:52-53].
يا إخوان .. كثيراً ما كنا نجلس إلى فصحاء بلغاء خطباء، إذا تكلموا لا تدري كيف يخرج الكلام من أفواههم، كاللؤلؤ الرطب يتناثر من أفواههم، لكنه لم يتجاوز الآذان، وليس له أثر في قلوبنا وفي نفوسنا، كأننا نسمع آلة أو جهازاً أو ببغاء يردد كلاماً لا معنى له؛ لأنه لا يملك حرارة الإيمان، وكم من أخٍ لا يستطيع أن يركب جملة على جملة وعبارة عن عبارة، مرة يكمل المعنى بإشارة، ومرة يكمل المعنى بلهجة عامية، ومرة يلتقط كلمة واحدة من اللغة العربية، ثم يسكت لكي يجمع فكره، فيكمل الجملة الناقصة المقطوعة، ومع هذا ما إن يتكلم دقيقة إلا وتنهمر دموعنا تأثراً وخشوعاً واعتباراً وموعظة لكلامه، وأبلغ مثل أضربه الآن ما يقوم به أطفال الحجارة في فلسطين، لم يتخرجوا من جامعات ولا من كليات ولا حفظوا مصحفاً ولا حفظوا حديثاً ولا أخذوا شهادة دكتوراه، ولا درسوا علم مشايخ، ولا تفننوا في فن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. نقرأ أخبار الشهداء الذي عمره عشر سنوات، والذي عمره ثلاث عشرة سنة، وأربع عشرة إلى العشرين سنة ؛ هذا ما خبرته في الدعوة والعلم! وهؤلاء فعلوا ما لم يفعله كبار المشايخ والدكاترة والهيئات، وصاروا حجة الله في الأرض على الحاكمين والمحكومين وتنطبق هذه الآية على أهلهم وعلى أمثالهم .. وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام:53] نعم. هؤلاء أطفال الحجارة مَنَّ الله عليهم من بيننا في زماننا هذا زمن الهزائم والذل والركون إلى الأرض، والتخلف مع القاعدين، مَنَّ الله عليهم بالجهاد ما لم يمن على لحىً طويلة وعلى شهادات عريضة، وعلى هيئات ورموز تشار إليها بالبنان وتسلط عليها الأضواء، وأقام الله الحجة على أهل هذا الزمان بحجارة، وما يدرون مساكين، إلى متى يستمر يوماً أو يومين أو ثلاثة، كل يوم يبعثهم الله من جديد، وكما يقول الشاعر:
ونبيت لا ندري أنصبح بعدها أم أن عين الموت بالمرصاد |
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام:53-54] هذا الخطاب أوجهه إلى الجماعات الإسلامية، إذا جاءكم الذي أخطأ ثم عاد تائباً استقبلوه بالسلام والترحاب والبشاشة، لا يحس الوحشة، لا تنظرون إليه شزراً وعجباً، ما الذي جاء به؟ الله جاء به، لولا أن في قلبه بقية إيمان لما جاء، ولولا أمواج التوبة تصطدم في صدره لما جاء، فإذا فرحنا له كفرحنا في استقبال الغريب المسافر من أحبابنا بعد زمن طويل، كيف نهش ونبش في وجهه ونرحب به ونجعله يجلس على صدر المكان، وعلى الأريكة ونسأله عن نفسه وأهله وأولاده، وأحواله وماله ومشاكله، وعن قلبه وإيمانه وصلاة الجماعة، ونبين له المودة والرحمة والعطف ... إلى آخره، حتى لا يحس بالوحشة والغربة فآثار المرض لا تزال فيه، فإذا نحن مسحنا عليه بيد حنون بيد المعالج، حتى يشفى ولا ينفر ويبتعد من جديد؛ لأنه الآن في فترة نقاهة وعنده حساسية مرهفة لكل فيروس يهجم على جسمه، فالله سبحانه وتعالى يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:54] الله يغفر، ونحن لا نغفر، الله يرحم ونحن لا نرحم، الله يتوب ونحن نعاتب ونلوم، ونحاسب ونعنف، ونقطع ونمزق، والله سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمات أقام الحجة على الدعوة والداعية سواءً بسواء قال في آخرها: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55] هذا التفصيل الدقيق، وهذا البيان العميق؛ لكي تستبين سبيل المجرمين فلا يبقى للمنفصل عن الجماعة عذر بعد ذلك، بعد وضوح السبيل سبيل أهل الحق، وسبيل أهل الباطل، بعد أن ذاق رحمة الجماعة وشقاء الانفراد، وقوة الجماعة، وضعف الغربة التي هو فيها والوحشة والابتعاد، فما عليه بعد أن وضحت له سبيل المجرمين، الذين كانوا يحرصون كل الحرص أن يسقط معهم في أسفل السافلين، وهي دعوة أوجهها لكل داعية كان في جماعة إسلامية يدعو إلى الله ثم انفصل، لأي سبب من الأسباب فليلق خلفه تلك الأسباب وليعد إلى أمه الجماعة، فإن من برها أن يعود إليها؛ ليعيش أيامه الأولى، أيام الأنس الإيماني، الأنس بذكر الله وحلاوة الإيمان، ونور اليقين، وبركة الدعوة، وإجابة الدعاء.
نعم. أحبتي في الله: دعوة مفتوحة إلى كل داعية هجر جماعته أو ابتعد عن إخوانه أقول له عد سريعاً: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
اللهم إنا نعوذ بك من سبيل المجرمين، واجعلنا على سبيل المؤمنين الصادقين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر