فهذا لقاء متجدد ضمن تأملاتنا في كلام ربنا جل وعلا، وكنا قد انتهينا في اللقاء السابق إلى قول الله جل وعلا: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
واليوم نزدلف إلى قول الرب جل شأنه: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:180-182].
هذه الآيات الثلاث تلوناها جميعاً لارتباط أحكامها ببعضها، وهذه الآية صدرها مما أشكل على كثير من المفسرين، واختلفت فيه كلمة الفقهاء، وربما وصل إليك بعض علم عن هذا كله، وسنشرع في بيان الآية فقهياً ولغوياً، واسترشادياً من حيث الجملة.
أوجب الله جل وعلا الوصية هنا بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180]، والوصية: هي القول المبين لما يراد العمل به، وهي هنا مخصوصة بما بعد الموت؛ فمعنى قولنا: أوصى فلان، أي: ذكر قولاً يبين ما يطلب من غيره أن يفعله بعد موته، هذا معنى الوصية.
والتعبير القرآني باللفظ (كتب) يدل على الفرض، والذين طلب الله أن نوصي لهم بنص القرآن هنا هما الوالدان والأقربون.
والإشكال أن الله جل وعلا ذكر حق الوالدين وحق الأقربين في آيات المواريث، فمن هنا جاء الإشكال عند أهل العلم، وهل هذه الآية محكمة أم منسوخة؟
سلك الشافعي وكثير من العلماء المسلك التالي في فهم الآية: فقالوا: إن الله جل وعلا كتب وفرض الوصية هنا للوالدين والأقربين بآية الوصية، وفرض حقا للوالدين والأقربين في آية المواريث، قالوا: فنحن بين آيتين إما أن نجمع بينهما فنعطي الوالدين ما فرضه الله لهما في آية المواريث، ويحق لنا أن نوصي لهما، بل يجب علينا أن نوصي لهما، أو أن ننسخ المتقدم بالمتأخر، فلما احترنا بينهما عمدنا إلى مرجح خارج عن محل النزاع؛ فوجدنا في السنة حديثاً اتفق الناس على نقله نقلاً متواتراً وإن كان في أصله حديث آحاد، لكنه لا اختلاف حول متنه، فجعلناه هو المرجح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث) فحكمنا به على آية الوصية أنها منسوخة، وهذا القول اختاره جمع من العلماء، ومن أشهرهم من المفسرين ابن كثير رحمه الله.
وسلك آخرون مسلكاً آخر فقالوا: لا نقول: إن آية الوصية منسوخة، ولكن نقول: إن آية الميراث مخصصة لآية الوصية، فنأتي لمن فرض الله لهم في آية المواريث فنخرجهم من الوصية، ونبقي الوصية للقرابة، ولمن لم تخرجهم الوصية، ولمن لم تخرجهم آية المواريث، وآية المواريث لا يمكن أن تخرج الوالدين إلا في حالة واحدة: إذا كان كلاهما أو أحدهما كافراً، فإذا كان أحدهما كافراً أو كلاهما استطعنا أن نجمع ما بين إعمال آية المواريث وإعمال آية الوصية؛ فجعلوها مخصصة لآية الوصية.
و القاسمي -رحمه الله- صاحب كتاب (محاسن التأويل)، نقل ما ذكره العلماء كما صنع غيره من المفسرين، ثم كتب في كتيب عنده خاص أسماه (الموارد والسوانح العلمية)، وهو ما يطرأ عليه بعد التأليف، فكتب رأياً آخر لم يدونه في محاسن التأويل، وقد اطلع عليه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمة الله تعالى عليه وأدخله في متن التفسير عندما أخرج تفسير القاسمي (محاسن التأويل) للناس، وهذا الرأي يقول فيه: إن الوصية هنا للشيء المعهود، ولا تنازع ما بين آية المواريث وآية الوصية، فليست الوصية هنا بمعنى أن الله يلزمنا أن نكتب لفلان كذا، وفلان كذا، وإنما معنى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:180] أي: فليتق الله وليعمل بما أوصى الله به في آية المواريث، فيعطي كل ذي حق حقه، ولا يأتي بطرائق أو سبل يحيد بها عن التقسيم الشرعي الذي نص الله عليه في آية المواريث.
وقال القاسمي رحمه الله -في معرض ما قال-: ولا أدري إن كان أحد قبلي ذكر هذا أم لم يذكره. وأنا على اطلاعي لم أقف على أحد قاله قبل القاسمي ، وقد يكون -كما قال القاسمي- قد قاله غيره، والذي يعنينا أن هذه تخريجات العلماء من حيث الجملة.
وقال آخرون -وهو في ظني رأي بعيد جداً-: يعمل بكلتا الآيتين، وأن كلتيهما محكمة، فجمعوا ما بين آية المواريث وآية الوصية، وهذا وإن اختاره قلة لكنه موجود، وإن كنت أراه بعيداً في الترجيح.
ينبغي أن تعلم أن المخاطب بهذه الآية ثلاثة،وهم أولاً: الشهود، فيكون الخطاب لهم بألا يكتموا الشهادة، وثانياً: الوصي القائم على تنفيذ الوصية، ويكون الخطاب له بألا يغيرها ويجور فيها، ثالثاً: الورثة، ويكون الخطاب لهم بألا يحولوا بين المال وبين وصوله لمن أوصى له به صاحب المال.
الجنف: هو الميل والعدول عن الاستواء، والفرق بين الجنف والإثم: أن الجنف هو الخطأ من غير عمد، وأما الإثم: فهو الجور بعمد.
ومعنى: (خاف) في قوله جل وعلا: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا [البقرة:182] أي: توقع وغلب على ظنه وعلمه، فمثلاً: تريد أن تخرج الساعة الثانية ظهراً والسماء ملبدة بالغيوم، فقررت أن تخرج الساعة الواحدة والنصف، فسألك بعض من يعرف موعدك: لم بكرت؟ فتقول: أخاف أن تمطر السماء، والمعنى: أتوقع أن تمطر السماء، أو يغلب على ظني أن تمطر السماء فتعيقني، فهذا معنى قول الله: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا [البقرة:182] ويصبح المعنى هنا: أن الوصي أو من كان حاضراً إذا غلب على ظنه أو توقع أن الميت -ونسميه ميتاً باعتبار ما سيكون، وإلا فعند ما يوصي الإنسان فإنه يكون في حالة رشد وقدرة- يريد أن يضر بالورثة، فيوصي بأكثر مما ينبغي، أو أن يكون المال قليلاً لا يحتمل أن يوصي منه، فتدخلت بكلام طيب هين لين تخشى فيه من وقوع هذا الميت في الخطأ إما بعمد أو بغير عمد، فهذا ليس كالأولين الذين خوطبوا بقول الله جل وعلا: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ [البقرة:181]، فقد اختلف الوضع، فالأولون يريدون الإفساد؛ فلذلك حذرهم الله وقال: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181]، وأما الآخر في الآية الأخرى فقد أراد الإصلاح والذي أشكل على أهل العلم هو أن المصلح يأتي التذييل على أنه يثاب، فلِمَ قال الرب جل وعلا: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:182]؟ ويمكن توجيه الاسمين الكريمين من أسماء الله الحسنى هنا على الأمرين، فيصبح: أن الموصي -وهو الميت- لو أخطأ أو تعمد الخطأ فحذره أو نبهه من هو عنده فرجع عن خطئه، فكأن الله يقول: فإن الله غفور له ما كان منه في الأول؛ لعودته إلى الحق، ورحيم بمن أرشده ودله على أن يعدل عن الخطأ والإثم، فينصرف (غفور) إلى الذي أخطأ ثم آب، و(رحيم) إلى من أرشده ودله على الخير، وبهذا فيما يبدو لنا يستقيم المعنى.
والخير في القرآن ورد كثيراً بمعنى: المال، ومنه قول الله جل وعلا: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] لكن هنا إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180] فيها إشعار لغوي أنه ليس كل مال يوصى منه، إلا ما اجتمع فيه أمران: الأول: الكثرة، ومرد القلة والكثرة إلى العرف.
والأمر الثاني: أن يكون مكتسباً من وجوه حسنة مباحة، فالمال إذا كان وفيراً مكتسباً من وجوه حسنة فهو الذي يتأتي فيه الأمر القرآني بأن تكون فيه الوصية، وهذا الذي يفهم من السياق اللغوي لقول الله جل وعلا: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180] .
وقد جاء في أثر عند الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: (أن أحد الصحابة جمع أكبر بنيه وقال له: ادع إخوتك، فدعاهم، فقال لهم: إنني أريد أن أوصي وأبدأ بيتيم في حجري، ولما قال: يتيم، معناه: أن هذا اليتيم ليس ابناً لهذا الموصي، فأوصى له بمائة من الإبل والنياق، وكانت تسمى المطيبة عند العرب، فقال الأبناء وهم يتهامسون: إننا وإن رضينا بهذا في حياة أبينا فلن نقبل به بعد وفاته، فذهب الأخ الأكبر وأخبر أباه، فقال الأب: -وما أسعدهم من جيل لأنهم يحتكمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- بيني وبينكم رسول الله، فحمل أبناءه ومعه اليتيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له القضية، فلما قال: مائة غضب صلى الله عليه وسلم وتغير وجهه، وقال: (لا .. لا .. لا) ثم قال: (خمسة، عشرة، خمسة عشر) ويرتفع حتى أوصلها صلى الله عليه وسلم كحد أقصى إلى أربعين فقال: (فإن أبيت فأربعون) وهو أراد أن يعطيه مائة، وهذا من دلالة كمال عقله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا يفضي إلى النزاع، ويفضي إلى سوء ظن الأبناء بأبيهم، وقد يفهم منه أنه أراد الفخر والخيلاء؛ إذ حرم من لهم الحق فوزعه في غير مكانه، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن أبيت فأربعون)، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه أعجب باليتيم؛ إذ معه هراوة يضرب بها الجمال، فقال: (ما أعظمها من هرواة بيد يتيم!).
ثم إن الرجل قبل أن يودع النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا نبي الله إن لي أبناء وإن منهم ذوي لحى -أي: كباراً- وإن أصغرهم هذا وكان اسمه
قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:183] هذا نداء كرامة مر معنا نظائر له من قبل، ومعنى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] أي: فرض.
والصيام في اللغة كما تعلمون: الإمساك، سواء كان عن كلام أو عن غيره، ويقال: صامت الريح إذا ركدت وسكنت، ويقال: صامت الخيل، إذا لم تعلف، ومنه قول رؤبة بن العجاج :
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
وأما في الشرع: فهو الإمساك عن المفطرات من وقت مخصوص إلى مثله؛ يقول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ [البقرة:183] أي: فرض عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
ما وجه الشبه بين صيامنا وصيام من قبلنا؟ هل ذلك في الكيفية؟ أم في الأيام؟ كل ذلك محتمل، لكن لا نستطيع أن نجزم به، بمعنى أن الصيام فرض على الذين من قبلنا لكن هل فرض عليهم رمضان؟ هذا ظاهر القرآن لكن لا نجزم به، فهل كانوا يصومون من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؟ هذا ظاهر القرآن أيضاً لكن لا نستطيع أن نجزم به، وإنما الذي نجزم به أن الصيام عبادة تعبد الله بها من قبلنا.
ثم قال تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184] وقال بعدها بآية: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، وجمهور المفسرين على أن شهر رمضان في الآية المذكورة والمبدوءة بالمبتدأ هو تفصيل وإزالة إبهام من قوله تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، وعندي أن هذا خلاف الصحيح.
والمعنى أن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] أي: في أول الأمر، ثم عقب بقوله: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184] فقد تكون يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم قال سبحانه: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] يقضي فيها صيام الثلاثة أيام، فليست لها علاقة برمضان.
ثم قال سبحانه: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184] أي: يطيقون صيام ثلاثة أيام فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] بمعنى: أنه مخير وليس بواجب عليه، لكنه لو أفطر يعجل إلى الفدية، ثم قال سبحانه: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [البقرة:184] إما أن تكون زيادة في الفدية، أو جمع ما بين الصيام والفدية وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184] والمعنى: أنكم إذا كنتم تقدرون على الفدية، وتقدرون على الصيام فالصيام في حقكم أولى، إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184].
ثم ارتفع الأمر وارتقى إلى تكليف أكبر، فنسخت الثلاثة الأيام، وحل بدلاً منها شهر رمضان، فليس شهر رمضان هو الأيام المعدودات، ويصعب عندي في لغة العرب أن يقال لشهر لا ينقص عن تسعة وعشرين يوماً: إن أيامه أيام معدودات وقول بعض الوعاظ بهذا هو قول جمهور المفسرين، لكنني لا أستحسنه.
فهذا النص أوجب صيام رمضان، وليس قوله جل وعلا: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184]؛ لأن الأولى تتكلم عن الثلاثة الأيام لا عن شهر رمضان.
ثم قال الله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185] أي: من حضره الصيام وهو من أهل رمضان وهو في سفر أو كان مريضاً فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185]، وبهذا يفهم أن التكرار هنا يتكلم عن قضيتين، لكننا لو جعلنا شهر رمضان بدلاً من أيام معدودات يصبح التكرار مرتين، وهذا ينزه عنه كلام الله، لكن الأولى في قول الله جل وعلا: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] أن تحمل على أن المراد الثلاثة الأيام، وأما قول ربنا في الثانية: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185] فهو يتكلم عن شهر رمضان؛ لأن الآية عندنا في الأول منسوخة.
وقوله تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ بتقدير فأفطر، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، ويلاحظ هنا أنه لا ذكر لقضية التخيير، ولا ذكر لقوله جل وعلا: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184] ولا ذكر كذلك للفدية؛ لأنه لا يوجد إلا صيام وقضاء.
ثم قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]، قوله: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ [البقرة:185] تعليل لأمره جل وعلا بالقضاء في قوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، وقوله تبارك وتعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185] هذا عند إكمال العدة.
وقوله: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185] أي: على ما أباحه لكم من الفطر حال السفر، أو حال المرض، وبهذا في ظننا تستقيم الآيات، ويمكن تجنب ظن تكرار مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، وهذا خلاف ما عليه جمهور أهل التفسير، فالجمهور على أن شهر رمضان هو نفسه المقصود بأيام معدودات، ويقولون: إن بعض الآيات منسوخة وبعضها غير منسوخ كما هو محرر في كتب الفقهاء.
القول الأول: أن القرآن نزل كاملاً من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا في شهر رمضان، وهذا قول لـابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
القول الثاني: -وهو الذي أرجحه-: أن المقصود ابتداء نزول القرآن على نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان في شهر رمضان، وقد جاءت آثار تدل على أن كتب الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كالتوراة والإنجيل والزبور كلها أنزلت في شهر رمضان.
ثم جاء تكرار في الآية وهو أن الله جل وعلا قال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وقال بعدها: وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
والجواب عن هذا التكرار أن يقال: إن الهدى الأول هو الهدى الذائع العام الذي يكاد يعرفه كل أحد في القرآن، ولهذا قال: هُدًى لِلنَّاسِ [البقرة:185]، وأما الهدى الثاني فهو من غوامض القرآن الذي لا يدرك إلا بالاستنباط، فلا يعرفه إلا العلماء.
قد أسس الفقه على رفع الضرر وأن ما يشق يجلب الوطر
والوطر: معناه السعة والتخفيف، هذا مما استنبطه العلماء من قول الله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].
وكذلك يمكن القول في هذه الآيات المباركات جملة ما قاله الإمام الذهبي رحمه الله -ويحسن أن يستشهد بها الخطباء إذا خطبوا عن رمضان-: وعند المؤمنين مقرر أن من أفطر يوماً من رمضان عمداً من غير عذر فهو شر من الزاني ومدمن الخمر، ويظنون به الزندقة والانحلال. وهذه العبارة عندما قرأتها للذهبي عددتها من أفضل ما قرأت للعلماء في الاستنباط من أحكام الشرع، وتقنينه بلغة فقهية وعظية راقية.
فالله تبارك وتعالى قريب في علوه، وعلي في دنوه، وهذه العبارة قالها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهي من أجمل ما نقل عنه عند الكلام على باب الأسماء والصفات. فما ذكره جل وعلا من علوه وفوقيته لا يتنافى مع ما ذكره جل وعلا من قربه ومعيته.
وقال الصحابة رضي الله عنهم -فيما ورد عنهم في سبب نزول هذه الآية-: يا نبي الله! أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله جل وعلا قوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186] فأضافهم إليه إضافة تشريف، ولم يقل فقل لهم، وإنما اختصرت الطرائق اللفظية؛ لتبين لك اختصار الطرائق المعنوية، قال الله جل وعلا: فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] ولم يأت في القرآن جواباً بالسؤال هكذا إلا في هذا الموضع.
ثم قال سبحانه: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وهنا لا بد من تحرير وجه الخلاف في المعنى ما بين الاستجابة والإيمان، فنقول: هما متلازمان، فلا استجابة إلا بإيمان، والإيمان يدل على الاستجابة، لكن من حيث التحرير اللفظي الاستجابة تتعلق بالجوارح، والإيمان يتعلق بالقلوب.
ثم قال الله:لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] ولا ريب أن الاستجابة لأمر الله مع الإيمان به جل وعلا ودعائه هو منتهى الرشد، فلا حصول للرشد الحق إلا بالإيمان به جل وعلا، واستجابة الجوارح لأوامره ونواهيه، مع دعائه تبارك وتعالى.
والآية ظاهرة المعنى في فضل الدعاء والثناء على الرب تبارك وتعالى، وهذا قد بسطنا القول فيه كثيراً في أكثر من موضع.
قوله: أُحِلَّ لَكُمْ [البقرة:187] فيه إشعار أنه كان محرماً وإن كنا لا نملك دليلاً صريحاً على ذلك، لكن قال جمهور المفسرين: كان المسلم آنذاك في عهد الصحابة يحق له إذا أفطر أن يأكل ويشرب ويجامع إلى أن ينام، فإذا نام ثم استيقظ لا يحق له بعد ذلك أن يأتي أهله، هذا المشهور عندهم، وخالف فيه بعض العلماء، لكن لا شك أن قول الله جل وعلا: أُحِلَّ لَكُمْ [البقرة:187] فيه دلالة على أنه كان محرماً.
وقوله: الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187] الرفث: في الأصل ما قبح من القول وفحش، وهو هنا مقدمات الجماع.
وقوله: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187] يذكر العلماء هنا لطيفة حسية ولغوية، فقالوا: يفهم منه الالتصاق والقرب، والالتصاق والقرب يصعب معه البعد، فمعنى الآية: إذا كان حالكم مع أزواجكم حال مخالطة والتقاء بشرة ببشرة، فمن الصعب أن تصبروا عنهن، فرحمة بكم أحللنا لكم أن تأتوهن ليلاً في رمضان، فتصبح هذه الآية مبينة لقول الله جل وعلا: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:187] أي: يحصل منكم رغبة في الوصول إلى الزوجات، وربما وقع من بعضكم وصول إلى الزوجة؛ فيكون قد خالف الأمر الشرعي.
وقوله: (تختانون) مأخوذ من الخيانة، كما أن الاكتساب مأخوذ من الكسب، يقال: خان الرجل الرجل، إذا غدر به، وخان الرجل العهد إذا نقضه، وخانني الدهر إذا تغير حاله من خير إلى شر، وخان السيف إذا نبا، ومعنى: نبا السيف، أي: لم يقطع، ويقولون: لكل صديق جفوة، ولكل عالم هفوة، ولكل سيف نبوة، ويقولون: خانتني رجلاي فلم أمش عليها، إما لخوف أو لفزع، والأصل أنك تمشي عليها.
وكان شوقي -رحمه الله- محباً لـمصطفى كامل ، وهو زعيم مصري سياسي، وبينهما علاقة وطيدة، ولكن شوقي كان يمنعه من بره شعراً أن صديقه خارج على حكومته، ومؤسس لحزب معارض للقصر، وشوقي نشأ في قصر، ولقد ولدت بباب إسماعيل .
فلما مات مصطفى كامل توقع شوقي أنه سيرثيه بمرثية قل سماعها؛ لما بينهما من صحبة، ولأنه ينتظر هذا اليوم، ولأن أصحاب القصر لن يعنفوا شوقي على رثاء مصطفى كامل ؛ لأن مصطفى كامل قد أمن شره بموته، فعندما أراد شوقي أن يرثيه لم يرق بمرثيته إلى ما يريد، والمرثية مطلعها:
المشرقان عليك ينتحبان قاصيهما في مأتم والداني
إلى أن قال:
وأنا الذي أرثي الشموس إذا هوت فتعود سيرتها إلى الدورانِ
ماذا دهاني يوم مت فعقني فيك القريض وخانني إمكاني
وموضع الشاهد قوله: وخانني إمكاني، فقلنا: إن الخيانة أن تؤمل شيئاً فلا يقع كما كنت تؤمله.
لو كان في الذكر الحكيم بقية لم تأت بعدُ رُثيت في القرآن
مصر الأسيفة ريفها وصعيدها قبر أبر على عظامك حاني
أقسمتُ أنك في التراب طهارة ملَك يهاب سؤاله الملكان
وهذا فحش من القول وكفر، لكن ما الذي دفع شوقي إليه؟ هو إباء كبره الشعري إلا أن يظهر، وقلت: لا لجام تقوىً حقيقي يمنعه فأطلق لنفسه العناء، وهذا قابل لأن يعترينا جميعاً، ولذلك لا لجام مثل لجام التقوى، ولما مر عمر رضي الله عنه على تلك المرأة فسمعها تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني ألا حبيب ألاعبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره لحرك من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يكفني وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
ففي هذه الأبيات أمور غير مقبولة، لكن لما ذكرت مخافة الله قال عمر رضي الله تعالى عنه: نعم اللجام لجام التقوى.
فأنت عندما تريد أن تنشئ أحداً تحت عينيك: ابنك أو طالبك فإنك لن تسقيه شيئاً أعظم من لجام التقوى، وأما المعلومات والمعارف فسيصل إليها ذات يوم، لكن أعطه المنهج العام والطرائق التي يصل بها إلى مقصوده، ثم عظم الله جل وعلا في قلبه، وليكن خطابك الدعوي والعلمي مبني على أن تعظم الله جل وعلا في القلوب، وأما المعلومات والمعارف، أو نثر الأحكام، أو رفع الصوت في الوعظ فهذا كله لا يقدم ولا يؤخر إن كان الذي تخاطبه محروماً من معرفة الله جل وعلا؛ إذ أن القضية عنده ليست قضية علم، وإنما هي قضية ألا لجام من التقوى يمنعه من أن يصل إلى المعاصي.
وقوله سبحانه: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] هذه ظاهرة، وإن كانت أشكلت على بعض الصحابة، لكن المقصود حتى يتبين الفجر الصادق من الفجر الكاذب.
ثم قال الله: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] فالإسلام يرقى بأتباعه في قاعدة تحتمل الجميع، لكن القواعد -كلما علت المنازل- لا تحتمل إلا القليل، حتى تصبح لا تحتمل واحداً.
فالصيام منزلة جبرية، بمعنى: أنه فرض علينا جميعاً في حالة الصيام ألا نأتي أهالينا إلا ليلاً، وأما المعتكف فليس له أن يأتي أهله ليلاً، وهي منزلة أضيق، فقال: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187] وقبل قليل قال: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]، ومعلوم لديكم أنه ليس كل الناس عاكفين في المساجد.
وظاهر القرآن أن أي مسجد يعتكف فيه، فالاعتكاف من الناحية الفقهية يقع على ثلاثة أوجه: يقع سنة، ويقع مندوباً، ويقع واجباً.
فيقع سنة في العشر الأواخر من رمضان، ويقع مندوباً في كل وقت، إلا العيدين؛ لأنه لا صيام فيهما، ويقع واجباً إذا نذر، فألزم نفسه.
ثم قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187] الحمد لله الذي بين لنا آياته، فنسأل الله كما بين لنا آياته أن يرزقنا التقوى والعمل بها، هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والله المستعان، وعليه البلاغ، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر