إسلام ويب

رسالة من الفقراءللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الفقر منتشر في أوساط المجتمعات, وبالمقابل هناك الغنى المفرط عند بعض الناس, وهناك من لا يدرون كيف يصرفون أموالهم, وفي هذا الدرس حث وترغيب في الصدقة وفي البذل والعطاء, وبيان أسباب وجود الفقر, ثم ذكر الحلول لهذه المشكلة الموجودة في المجتمعات للتقليل من آثارها.
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    إخوة الإيمان! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    عنوان هذا الدرس "رسالة من الفقراء"، وهذه الرسالة مرفوعة من الفقراء الذين يلبسون الثياب الممزقة، والأحذية المرقعة، ولا يجدون كسرة الخبز اليابسة، يجوعون إذا شبع الناس, ويسهرون إذا نام الناس, ويبكون إذا ضحك الناس، أرسلوها إلى المترفين الذين ينامون في القصور المنيفة؛ المذهبة الملمعة المزخرفة, ويدوسون الفرش الوثيرة بالأحذية الناعمة, لا يعرفون البرد ولا الجوع ولا الضمأ ولا العري.

    وهذه الرسالة سوف نبحث فيها مسائل مهمة، وسوف نخبر من لم يكن عنده علم أن عندنا فقراء, وأن هنا أسراً فقيرة تعيش الفقر المضني، والديون الباهضة، واليتم والبؤس، أقولها تبرئة للذمة، ولا ينكر هذا إلا رجل لا يعرف المجتمع, ولم يسبر أغواره، ولم يداخل أسراره، يعرف هذا الوضع إمام المسجد والخطيب والداعية الذي يخالط الناس، فكان لزاماً على الدعاة وطلبة العلم أن يقفوا في صف هؤلاء الفقراء, يرفعون حوائجهم، ويتكلمون عن معاناتهم، ويقدمون ويقضون طلباتهم؛ ليرحم الله عز وجل هؤلاء برحمته الواسعة، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن).

    لا بد للعبد أن يكون رحيماً بعباد الله عز وجل، وأن يتقرب إلى الله بالشفاعة لهم، جاء عند البخاري ومسلم من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اشفعوا تؤجروا, وليقض الله على لسان نبيه ما شاء) فالواجب على المسلم أن يرفع حاجات هؤلاء, وأن يتفقد أمورهم, وأن يقف معهم وأن يشفع لهم، وأن يسعى بكل ما أوتي من قوة وبسالة من أجل إسعادهم.

    ولا يصح -أيها الإخوة- أن تعيش طبقة منا مترفة غنية؛ تلعب بالأموال في بذخ لا يعلمه إلا الله، وطبقة أخرى تنام على التراب، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس أنه قال: (يقول الله عز وجل يوم القيامة وهو يحاسب الإنسان: يابن آدم, جعت فلم تطعمني، قال: كيف أطمعك وأنت رب العالمين؟ قال: أما تعلم أن عبدي فلان بن فلان جاع فما أطعمته، أما إنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي، يابن آدم, ظمئت ولم تسقني. قال: كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان ظمئ فما أسقيته, أما إنك لو أسقيته وجدت ذلك عندي. يابن آدم, مرضت فلم تعدني. قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما تعلم أن عبدي فلان بن فلان مرض فما عدته, أما إنك لو عدته وجدت ذلك عندي).

    أحب الناس إلى الله

    وفي بعض الآثار يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الناس عيال الله, أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله} فأحبهم إلى الله عز وجل الذي يسعى في نفع الناس، وبعض الناس أناني ذاتي, لا يعيش إلا لبطنه ولبيته ولمصالحه الشخصية، فلا ينظر في هموم الناس ولا مشكلاتهم ولا ديونهم ولا معاناتهم, ولا يقف على المستضعفين، ولا يشفع لهم، ولا يجمع التبرعات لهم، ولا يدخل الإسعاد عليهم، وهذا خطأ, فقد يوجد من الأغنياء من يسكن في حي وبجانبه فقراء, وأبناء هذا الغني مترفون بذخون, وأبناء الفقير لا يجدون كسرة الخبز.

    يروى أن ابن المبارك -رحمه الله- أمير المؤمنين في الحديث -كان إذا اشترى فاكهة بدأ بأبناء جاره اليهودي فيوزع الفاكهة عليهم، وإذا اشترى لحماً بدأ بأبناء اليهودي فوزع عليهم اللحم, وبعدها أسلم اليهودي؛ لأن ديناً أخرج مثل ابن المبارك دين صحيح وثابت، ومعقول، أما أن تكون المشاركة بالكلمات والخطب الرنانة فقط, ثم نترك هؤلاء، فلمن نتركهم؟

    أقول هذا من تجربة، أيها الإخوة! وما يمر يوم إلا وعشرات من المديونين ومن اليتامى ومن المساكين, ومن الذين لا يستطيعون الزواج يقدمون أوراقهم، وقد أحرج مثلي وأمثالي من هذه المسائل والقضايا، ماذا يفعل بها؟ أيبقى دائماً يجمع تبرعات؟ أم يذهب فيشفع دائماً عدة مرات، حتى سال ماء الوجه عند كثير من الناس، فالحل أن نتبنى قضية المستضعفين والفقراء والمساكين جميعاً.

    فضل تفريج الكربات بالصدقات

    قال عليه الصلاة والسلام: {والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة}.

    أيها الإخوة! إن تفريج الكرب أعظم -عند علماء السنة- من بعض النوافل اللازمة، فأنا أرى أن من يذهب للشفاعة عند مسئول لفقير أو مسكين أو محتاج أفضل ممن يصلي ركعتي الضحى في المسجد، وأحسن ممن يصوم النوافل.

    فإنك إن تفرج عن مكروب، أو تقف مع يتيم، أو تكفله، أو تنظر إلى معاق فترفع حاجته، أو تقضي الدين عن مدين، أو تساعد من يريد الزواج أو تجمع له المال, أو تنشئ صندوقاً في قريتك أو في حيك, وتساعد هؤلاء جميعاً خير لك من كثير من النوافل.

    قال صلى الله عليه وسلم في فضل الصدقات وفي عظم أجرها وعظم الباذلين, كما صح عنه عليه الصلاة والسلام: {كل امرئٍ في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضى بين الناس}.

    فالمعلوم أن العبد سوف يستظل بصدقته، فمنهم من تكون صدقته كالجبل, ومنهم من تكون كالرابية أو كالنخلة أو كالكف، ومنهم من لا ظل له، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {إذا تصدق المرء المسلم أو العبد المسلم من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا، فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون كـجبل أحد} وفي الصحيح -أيضاً- أنه عليه الصلاة والسلام قال: {إن لله ملكين يناديان كل صباح، يقول أحدهما: اللهم أعط ممسكاً تلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط منفقاً خلفا} قال الله تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261] وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {صدقة السر تطفئ غضب الرب} وفي الترمذي: {والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار} فمن ارتكب خطايا أو مخالفات فليطفئها بالصدقة، فإنه لا يسترضى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بمثل الصدقة.

    نماذج للمتصدقين

    كان علي بن الحسين زين العابدين يخرج في الليالي الظلماء, يحمل الزبيب والدقيق والتمر ويوزعها على فقراء المدينة، فلما مات وجاءوا ليغسلوه وجدوا أثر الخيوط التي كان يحملها على جسمه، وهو الذي يقول فيه الفرزدق:

    يغضي حياءً ويغضى من مهابته      فما يكلم إلا حين يبتسم

    هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله      بجده أنبياء الله قد ختموا

    هذا الذي تعرف البطحاء وطأته       هذا التقي النقي الطاهر العلم

    ودخل رجل على علي رضي الله عنه, والرجل فقير وعلي كان يملك ميزانية الأمة الإسلامية في الكوفة، ومع ذلك كان أفقر الناس، يلبس المرقع ولا يجد حفنة من الزبيب, ويوزع بيت المال ويصلي ركعتين ويقول: [[اللهم اشهد أني ما أمسكت لأهلي حبة ولا تمرة ولا زبيبة]] فأتى الفقير فخجل أن يتكلم بحاجته أمام أمير المؤمنين علي فكتب حاجته على التراب بأصبعه، يقول أريد منك شيئاً، فما وجد علي إلا حلة جميلة غالية من بيت المال؛ فأعطاها لهذا الفقير, وهي تساوي آلاف الدنانير, فقال الفقير:

    كسوتني حلة تبلى محاسنها      لأكسونك من حسن الثنا حللا

    يقول: حلتك سوف تبلى، لكن والله لأكسونك ثناءً يبقى أبد الدهر، ولذلك بقي هذا الثناء إلى اليوم، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبناء هرم بن سنان لما قدموا عليه: ماذا فعل بكم زهير بن أبي سلمى الشاعر؟ قالوا: مدحنا وأعطيناه. قال: ذهب والله ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم.

    يقول زهير في مدح هرم بالكرم والصدقة والإنفاق:

    وأبيض فياضٌ يداه غمامةٌ      على معتفيه ما تغب فواضله

    تراه إذا ما جئته متهللاً      كأنك معطيه الذي أنت سائله

    هو البحر من أي النواحي أتيته فدرته المعروف والجود ساحله

    معاناة الفقراء

    واعلموا أيها الإخوة! أن المعاناة العظيمة التي يعيشها الفقراء معاناة لا يعيشها إلا من ذاق الفقر، فهم يحسون بها ولا يحس بها غيرهم، وبعض الناس يستبعد هذا الكلام ويقول: أين الفقراء؟ أنت تتكلم من فراغ. وأقول: مثل هؤلاء كمثل ملكة بريطانيا , يروى عنها في التاريخ أن قومها فقدوا الخبز وما وجدوه, لا في الأفران ولا في البلد ولا في الدكاكين ولا في غيرها، فخرجوا متظاهرين، فخرجت لهم من نافذة القصر وقالت: ما لهؤلاء؟ قالوا: يريدون خبزاً، قالت: يأكلون بسكويتاً حتى يأتي الخبز، هم لو وجدوا البسكويت لما خرجوا متظاهرين أصلاً! لكن الشبعان والمثخن بالنعم وبالترف لا يشعر بهذه المعاناة، كما قال الشاعر:

    لا يعرف الشوق إلا من يكابده      ولا الصبابة إلا من يعانيها

    وقال المتنبي:

    القلب أعلم ياعذول بدائه      وأحق منك بجفنه وبمائه

    لا تعذل المشتاق في أشواقه      حتى يكون حشاك في أحشائه

    يقول: لا تعذل الجائع في جوعه حتى تجوع كما يجوع، ولا الضمآن حتى تضمأ، ولذلك فرض الله الصيام على الملايين كلها؛ ليذوق الملك والوزير والأمير والغني الجوع، وليعلموا أن الناس يجوعون، وبعض الناس يعيش اثنى عشر شهراً وهو جائع دائماً.

    ولذلك تعوذ النبي عليه الصلاة والسلام من الفقر وقال: {اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر} وفي بعض الآثار يقول: {كاد الفقر أن يكون كفراً} أحياناً يصل بالإنسان إلى أن يتسخط على الله عز وجل، فقد يصبح الإنسان فقيراً وإذا لم يكن عنده إيمان ولا يقين ولا علم راسخ؛ يتسخط على الله ويرفض القضاء والقدر، فهذا ابن الراوندي الزنديق الفيلسوف الكلب المعفر كان فقيراً مملقاً وكان من أذكياء الناس, لكنه فقير ومع ذلك مظلم القلب، ما يجد كسرة الخبز، وفي الأخير بحث فوجد -بحفظ الله ورعايته- كسرة خبز، فوقف على نهر دجلة يبلها في الماء ويأكلها، فمرت صفوف من الخيول عليها الذهب، فقال: لمن هذه الخيول؟ قالوا: لفلان العبد, عبد من الناس.

    قال يخاطب الله: أنا ابن الراوندي فيلسوف الدنيا ما أعطيتني إلا كسرة من خبز الشعير، وهذا البليد الغبي تعطيه الخيول من الذهب، ثم رمى بالكسرة في النهر وقال: هذه قسمة ضيزى، ثم ألف كتاب الدامغ على القرآن يدمغ به القرآن دمغ الله رأسه في النار.

    فتجد أن بعض المعاناة تشتد بالإنسان إلى أن يكفر -والعياذ بالله- بسبب الفقر, وتجده إذا تكلمت أنت في العدالة والتآخي والمواساة قال: أين العدالة؟ أين الإسلام؟ أين القرآن والسنة؟ ونحن جوعى ونأكل التراب!!

    ويقول آخر:

    يمشي الفقير وكل شيء ضده     والناس تغلق دونه أبوابها

    وترى الكلاب إذا رأت رجل الغنى      حنت إليه وحركت أذنابها

    وإذا رأت يوماً فقيراً بائساً      نبحت عليه وكشرت أنيابها

    وبعض الناس يتسخط على القضاء والقدر، فلو قيل له: راجع في وظيفة. لقال: الأبواب مغلقة, ولو كان هناك ألف وظيفة لمنعوني، ولو قيل له: اذهب واعمل. قال: لو أبيع الذهب ما يمكن أن يباع وغيري لو باع التراب لبيع له.

    فتقول له: حاول. فيقول: حاولت فأصبت بحالة من الإحباط من كثرة المعاناة. إلى أن ييأس من روح الله, ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

    لطائف الله وإن طال المدى     كلمحة الطرف إذا الطرف سجى

    كم فرج بعد إياس قد أتى     وكم سرور قد أتى بعد الأسى

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089312536

    عدد مرات الحفظ

    783558720