وفي هذا الدرس بيان بعض عقبات الطريق الذي يسير عليه الداعية، وكيف تجتاز هذه العقبات، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من السلف كانت أمامهم عقبات في طريقهم في الدعوة لكنهم استعانوا بالله فأعانهم عليها.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله، حتى أتاه اليقين، فصلِّ اللهم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
تمنيت الحجاز أعيش فيه فأعطى الله قلبي ما تمنى |
سقى الله الحجاز وساكنيه وروى كل رابية ومغنى |
عنوان هذه المحاضرة عقبات في طريق الدعوة، ولها عناصر:
- ما هي العقبات التي تعرض للدعاة؟
- ما هي الحجب التي تغشى أبصار المدعوين؟
- ما هي الأزمات التي يتعرض لها من ينصح ومن يدعو ومن يوجه ومن يوعي الناس؟
هذا ما سوف نجيب عنه إن شاء الله، والموفق الله، والهادي الله.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده |
أول العقبات: اتباع الهوى الذي يصد عن منهج الله.
العقبة الثانية: الكبر من المدعو فلا يقبل الحق.
العقبة الثالثة: كثرة أهل الباطل وقلة أهل الحق.
العقبة الرابعة: جلساء السوء الذين يصدون عن منهج الله وهم أعداء الأنبياء والرسل.
العقبة الخامسة: فتور الدعاة وضعف الدافع.
العقبة السادسة: انصراف الناس إلى الدنيا على حساب الدين.
وقبل أن أبدأ وقبل أن أتكلم، أقف مع أكبر داعية في العالم، فهو المصلح العظيم، أقف مع الذي هدى الله به البشرية، وأنار به أفكار الإنسانية، وزلزل به كيان الوثنية، أقف مع الرحمة المهداة، الذي قال الله له من فوق سبع سموات: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67].
فبلغ أتم البلاغ والله، وهدى أتم الهداية، إي والله، وجاهد أتم الجهاد، وايم الله، والله ما تركنا إلا على مثل البيضاء ليلها كنهارها، ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه، نصح ووجه ودعا، وجاهد وخاطب وأفتى، وقدم دمه، ودموعه، وقدم وقته وماله وجهده.
المصلحون أصابع جمعت يـداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء |
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه |
نشأ يتيماً، الناس عندهم أبوان، يدلل كل أب طفله وتدلل كل أم طفلها، أما محمد عليه الصلاة والسلام فيتيم.
أنت اليتيم ولكن فيك معجزة يذوب في ساحها مليون جبار |
الشمس والبدر في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار |
نشأ يتيماً يصارع الحياة، فما عرف حنان الأب، ولا رقة الوالدة، ونشأ عليه الصلاة والسلام مرة مع عمه، ومرة مع جده، ومرة مع قريبة، ما خان في جاهليته، فكيف يخون في الإسلام؟! وما كذب في حياته كذبة، فكيف يكذب بعد أن نزل عليه الوحي؟! قال عنه ربه: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [لنجم:1-4].
يا من ألقى محاضرة، محمد عليه الصلاة والسلام ألقى آلاف المحاضرات، يا من دمعت عينه في مجلس دعوة، محمد عليه الصلاة والسلام سالت دماؤه في كل معركة في سبيل الله، إصبعه تسيل في حنين، وهو يقول:
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت |
بيته من طين وقد سكن الدعاة القصور، يسير في شدة الحر وقد تكيفوا بالمكيفات، ويركب على الحمار وقد استقلوا السيارات الفاخرة، فهو عليه الصلاة والسلام كما قال الأول:
كفاك عن كل قصر شاهق عمد بيت من الطين أو كهف من العلم |
وصل إلى الأربعين فدعا إلى الله، فأخرجه قومه، القريب قبل البعيد، ذهب إلى أهل الطائف، فطردوه أين يذهب؟!
قتل أصحابه بين يديه، فبكى حزناً عليهم، لكنه عاد أقوى مما كان.
ضربت بنانه عليه الصلاة والسلام فما انهار، أصبح أقوى من ذي قبل، أتاه الخبر أن سبعين من القراء ذبحوا مرة واحدة، فسالت دموعه على لحيته الشريفة، وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، جاءه الخبر وهو في المدينة، قالوا: أبو سفيان أقبل هو والمشركون مع اليهود، والمنافقين، فقام وأخذ اللامة والسيف، وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
تأتيه الأخبار المدلهمة، فيتقوى، قالوا: شاعر، وثبت، قالوا: ساحر، وثبت، قالوا: كاهن، وثبت، قالوا: مجنون، وثبت، وانتصر في آخر المطاف.
وصفه الله بأوصاف عجيبة، وصفه باللين، فقال له: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] وصفه بالصدق فقال: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33] وصفه سُبحَانَهُ وَتَعَالى أنه على خلق عظيم، فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
فيا دعاة الإسلام! ويا طلبة العلم! قدوتكم محمد عليه الصلاة والسلام، الذي ما مات حتى بلغ الدعوة مشرق الأرض ومغربها، وقال وهو يلفظ أنفاسه: (والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار).
قامت العرب بالسيوف في وجهه، فقام بالسيف، قاتلوه فقاتلهم، حاربوه فحاربهم، قاطعوه فقاطعهم، حتى نصر الله دينه، ورفع كلمته، ودخل يوم الفتح وراية لا إله إلا الله محمد رسول الله ترفرف في السماء.
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم |
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم |
إن الهوى إله يعبد من دون الله، وما ترك الطريق المستقيم من تركه إلا لأنه اتبع هواه، وهواه إما أن يبقى ضالاً، أو شقياً أو تعيساً، أو يبقى مصاحباً لفاجر، أو عبداً لأغنية، أو متعلقاً بصورة، أو متلذذاً بفجور، أو منتكساً على عقبه، لا يعرف المسجد، ولا القرآن ولا الهداية، ولا طريق الجنة، قال سبحانه: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26] والهوى يغلب العقل، نعوذ بالله من اتباع الهوى.
وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد علا |
وبعضهم يقول:
وآفة العقل الهوى ومن علا هواهُ عقلَهُ هواه فقد هوى |
أي: إذا علا هواك على عقلك؛ فقد هويت على رأسك في نار جهنم -والعياذ بالله- وقال سبحانه: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].
وسبب نزول الآية عند المفسرين: أن الرسول عليه الصلاة والسلام جاءه قوم من الكفار من عبدة الأوثان وشربة الخمر والزناة، أهل الدعارة والكبر، لابسي الذهب والحرير، قالوا: يا محمد، إن كنت تريد أن تدعونا، فأخرج هؤلاء المساكين والعبيد والفقراء من عندك، فإنا من علية القوم ولن نجلس مع هؤلاء، فهمَّ عليه الصلاة والسلام أن يخرجهم وكان منهم بلال وابن مسعود، وأمثالهم وأضرابهم.
هَمّ أن يخرجهم من المجلس؛ فأنزل الله قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28] يقول أحد العلماء معلقاً: اصبر مع المساكين، اجلس مع الفقراء، فالخير معهم، والنصر معهم؛ لأنهم صادقون، قبلوا الإسلام بلا طلاء، وقبلوا الإسلام بلا رشوة، وقبلوا الإسلام بلا تأليف، وهم الذين سوف تقوم عليهم الدعوة غداً.
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28] فقال عليه الصلاة والسلام: بل أجلس معكم، فجلس معهم عليه الصلاة والسلام.
وصح أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يكسب ود كبار وسادات قريش المترفين، وكان ابن أم مكتوم يريد أن يسأله مسألة، وكان مسلماً قد نور الله قلبه، ومع أنه أعمى البصر فقد كان منور البصيرة، وسماه الله في القرآن أعمى، ولكن في سورة الرعد قال سبحانه: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد:19].
الأعمى هو من عميت بصيرته، وعمي قلبه، ولم يعرف طريق الاستقامة، ولا طريق المسجد، ولم يحمل القرآن، ولم يعش الدعوة والذكر.
جاء ابن أم مكتوم فأجلسه عليه الصلاة والسلام، فجاء كبراء مكة فصد عنه عليه الصلاة والسلام واستقبلهم واحتفى بهم؛ لأنه يريد أن يكسبهم، وأتى العتاب من الواحد الأحد: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1] عبس محمد وتولى عليه الصلاة والسلام.. لماذا تعبس وتتولى؟أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [عبس:2].. لأنه فقير مسكين تعرض عنه؟! ألا تدري أنه يحمل قلباً سليماً يقول سيد رحمه الله في الظلال: أما تعرف أن هذا الرجل الأعمى سوف يكون منارة من منارات الأرض تستقبل نور السماء، وبالفعل أصبح هذا الأعمى منارة من منارات الأرض تستقبل نور السماء، حياً على الهواء مباشرة، وحضر معركة القادسية وقال: احملوني أقاتل، وقالوا: أنت معذور لأنك أعمى، قال: والله الذي لا إله إلا هو لا أسمع قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41] وأتخلف! فحملوه وحمل الراية، وقتل في سبيل الله.
هذا هو الأعمى.
أما الكبراء، فقتلوا في بدر إلى نار جهنم، إلى نار تلظى، وقدمهم عليه الصلاة والسلام هدية وقرباناً إلى الواحد الأحد، قتلهم وقطع رءوسهم؛ لأنهم ما عرفوا الهداية والنور.
قال سبحانه: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:16] هذا الخطاب لموسى حتى عرفه الله على نفسه أكبر تعريف، والداعية عليه أن يعرف الله عز وجل، إذا سئل عنه أن يقول: هو الله الذي لا إله إلا هو، قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19].
قال الله سبحانه لموسى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14] وهذا تعريف لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
ذُكر أن سيبويه صاحب الكتاب في النحو رئي في المنام بعد موته، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ذنبي قالوا: بماذا؟ قال: كتبت في كتابي الكتاب لما وصلت إلى لفظ الجلالة: الله أعرف المعارف غني عن التعريف.
فلقد استحيا سيبويه أن يعرف الله عز وجل، وآياته شاهدة بألوهيته.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد |
فهنا يقول: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [طه:16] والهوى قد يكون في زوجة تصدك عن منهج الله، وقد يكون في أغنية، وقد يكون في مسرحية، وقد يكون في سيجارة، وقد يكون في لعبة، وقد يكون في معصية هائلة تصدك عن منهج الله.
وقال سبحانه: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:14] ولذلك دعي كثير من الناس، فأبطأ بهم الهوى وصدهم عن منهج الله، وقال سبحانه مبرأً رسوله عليه الصلاة والسلام من الهوى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:3-5].
لا يعرف الهوى، ولا يمر به الهوى، بل هو مقيد بالكتاب والسنة عليه الصلاة والسلام، قال سبحانه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43] أي: جعل معبوده هواه، يطيع الهوى: يقول له الهوى: تعال إلى الفراش ولا تصلِ فيجيب، ويقول له: اترك القرآن وتعال إلى الأغنية، أو لا تصاحب أولئك الصالحين، واصحب هؤلاء المعرضين الفاجرين، فيقول له الهوى: لا تسبِّح فيجيب.
متى يهديك قلبك وهو غافٍ إذا الحسنات قد أضحت خطايا |
متى يهديك عقلك؟ متى تهتدي إذا لم تعلم أن داءك في هذا الإعراض -والعياذ بالله- وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ثلاث مهلكات: اتباع الهوى، وإعجاب المرء برأيه، وشح مطاع). فأما اتباع الهوى وأن يقودك عقلك إلى كل مكان، فتسقط فيه، أي أن هواك يغلب عقلك، فتقع في شرك الهوى -والعياذ بالله من الهوى- والهوى يردي، وهو منتشر عند الناس، فأعظم عقبة في وجه الدعاة تصادفهم هي: اتباع المدعوين لهواهم، تقول للرجل: تب، فيريد ولكن يقول له هواه: لا تفعل.
تريد الناس أن يتوجهوا إلى المسجد، فيقول هواهم: لا تفعلوا.
أتظن أن أبا جهل لا يعرف أن محمداً عليه الصلاة والسلام صادق، بل يعرف أبو جهل ذلك، يقول أبو جهل: إني لأدري أن محمداً صادق، ولكن قال بنو هاشم: فينا السقاية، فقلنا: فينا كذا، فإذا قالوا: فينا النبوة فماذا نقول؟ قال سبحانه: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] يعرف نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وأنه صادق، لكنه ركب رأسه واتبع هواه.
فأتى بلال يؤذن من الحبشة، وأتى سلمان من أرض فارس يقول: لبيك اللهم لبيك، وأحرم صهيب من أرض الروم، وتولى أبو جهل وأمية والعاص بن وائل فكبكبوا على وجوههم في النار.
جاء العاص بن وائل بعظم يحته -لأن مشكلة الجاهليين عدم الإيمان باليوم الآخر، أدمغتهم كأدمغة الحمير!لم تهضم هذه القضية، كل قضية يهضمونها إلا قضية البعث بعد الموت- أتى بعظم فحته، ثم نفخه أمام الرسول عليه الصلاة والسلام ثم قال: يا محمد، أتزعم أن ربك يحيي هذا بعد أن يميته؟ قال: {نعم ويدخلك النار} وأنزل الله جواباً له ولأمثاله: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78-79].
ذكر أهل الترجمة كـالحكيم الترمذي وغيره، أن مجنون ليلى ركبه هوى ليلى -وبعض الناس يضيع ستين سنة مع أغنية أو امرأة أو كأس- فغنى بحبها حتى صار مجنوناً، يقول في بيتين له:
أتوب إليك يا رحمان مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوب |
وأما عن هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوب |
نعوذ بالله من الخذلان، لماذا لا يتوب؟ هكذا ركبه الهوى!
اللهم لا تمكر بنا، بل نتوب إليك من جميع الذنوب والخطايا، وكان عليه الصلاة والسلام يبكي في قيام الليل وهو يقول: {اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، أوله وآخره، وعلانيته وسره} ما أحسن الدعاء! ليس كمن يقول:
وأما عن هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوب |
أغواك شيطانك وأعرضت عن منهج الله، ولو عرفت طريق الهداية لما قلت هذا الكلام.
وحكوا قصة رجل ركبه هواه آخر يوم في حياته وقد حضرته سكرات الموت، والوعد الحق يوم ينسى الإنسان زوجته وولده وأهله أتدرون ماذا يقول في سكرات الموت؟ يقول وهو يوصي أحد أبنائه:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد دفني عروقها |
الكرمة العنب، وهي التي يتخذ منها الخمر، فيقول: إذا مت فابحثوا لي عن عنبة؛ لأني لا أعيش إلا على العنب والخمر في الدنيا، عسى قبري أن يكون بجانب عروقها تروي عظامي.
قال أهل العلم: اللهم لا تمكر بنا وثبتنا على الخاتمة الحسنة.
إذا علم هذا فأمثال ذلك كثير، أن صاحب المغني الفقيه الحنبلي، يشاركنا في الهوى المضل وهو يتكلم عن الفقه، ثم يضرب مثالاً على آمين يقول أحدهم:
يا رب لا تسلبني حبها أبداً ويرحم الله عبداً قال آمينا |
وممن اتبع هواه وركبه شيطانه: القروي وهو شاعر مجرم، استقبل في دمشق على الأكتاف، سبحوا بحمده وأنزلوه من الطائرة، فوقف يحيي الجماهير، وركبه هواه، ونسي الواحد الأحد فقال في قصيدة له:
ألا مرحباً كفراً يؤلف بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم |
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم |
وتولاه الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله بسبعمائة بيت، فأخسأه وحقره،وقال: ركبك شيطانك وغلبك هواك.
الفقير لا يعذر، والغني قد يعذر؛ لأن عنده مالاً وملايين، وبنوكاً وقصوراً وبساتين، لكن قل لي بالله في رجل لا يجد كسرة الخبز، وينام على الرصيف، ويتكبر عليك (أعمى ويناقر).
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان |
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني |
قال الترمذي بسند صحيح وأصله في الصحيحين عن عبد الله بن سلام، قال: {دخل عليه الصلاة والسلام المدينة فانجفل الناس} الجفلى عند العرب الدعوة العامة، إذا دعوت في زواج دعوة عامة فهذه تسمى عند العرب الجفلى، قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر |
نحن ندعو الناس جميعاً، قال: عبد الله بن سلام: {انجفل الناس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكنت فيمن انجفل، فزاحمت حتى رأيت وجهه؛ فعلمت أنه ليس بوجه كذاب}.
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر |
قال: {فتكلم فإذا هو يقول} كلاماً ما سمع الناس بمثله، كلاماً مرتباً، كلاماً عميقاً أصيلاً يقول: {يا أيها الناس، أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام}.
قال راوي الحديث عبد الله بن سلام: {فأتيت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقلت: يا رسول الله، إني أسألك عن ثلاث لا يعلمها إلا نبي} هذه محاورة ساخنة حارة؛ لأن عبد الله بن سلام كان يقرأ التوراة، { قال: سل، قال: يا رسول الله، ما أول ما يأكل أهل الجنة؟ وما هي أول علامات الساعة؟ وكيف يشبه الولد أباه أو يشبه أمه؟} ما تفكر عليه الصلاة والسلام ولا تأمل، وإنما اندفع إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى *عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:4-5].
فأدخله عليه الصلاة والسلام وأتى المتكبرون الجبابرة فأجلسهم أمامه.
ثم قال: {كيف
وخرج عليه الصلاة والسلام يعرض دعوته على أهل الطائف فما منعهم إلا الكبر، قال أحدهم: ما وجد الله إلا أنت يرسلك، وقال الثاني: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال الثالث: إن كنت نبياً فأنت أعلا من أن نكلمك، وإن كنت لست بنبي أو كذاب فإنا لا نكلم الكذابين، فما أجابوه، هذا الكبر من المدعوين.
وقال سبحانه عن المتكبرين من المدعوين: أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ [القمر:24] ولذلك بعض الناس أحرمهم الكبر دخول الجنة والسعادة والاستقامة في الدنيا والآخرة، يتكبر لماذا؟
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد |
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد |
مر أحد الأمراء بـالحسن البصري وعليه ديباج وحرير، ومعه موكب، فقام الناس لهذا الأمير إلا عالم التابعين الحسن البصري ما قام، قال الوزير: ما عرفتني؟ قال: بل عرفتك، قال: من أنا؟ قال: أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذيتك تحمل العذرة، فسكت وخجل ثم أدبر.
هذه هي الحياة، العز عز التقوى وعز الاستقامة، لا كبير على الله عز وجل يقول سبحانه: {الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري؛ من نازعني فيهما قصمته} وفي رواية: {عذبته} حديث صحيح ولذلك يقول أحدهم في المتكبرين:
وجوههم من سواد الكبر عابسة كأنما أوردوا غصباً إلى النار |
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار |
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً أهدوك من نورهم ما يتحف الساري |
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري |
إن الذي منع قوم شعيب أن يتبعوه أنه ضعيف، لما قرأ ابن عباس قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ [هود:91] قال ابن عباس: ضعيفاً: أعمى، فقالوا: أنت ضعيف وفقير فلا نتبعك، لماذا لم يبعث الله غيرك؟ وقد قال سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53] وقال سبحانه: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124] فالله أعلم من يصلح للخير ممن لا يصلح.
ولذلك بعض الأسر لا تستجيب لبعض الدعاة، يقول أحدهم: يأتي فلان يدعوني وهو أقل مني طبقة في المجتمع، يدعوني وهو فقير، يدعوني ولا منصب له، وما علم أن الدعوة ملك للجميع، ولذلك ما صد عن منهج الله شيء كالكبر.
أتى عامر بن الطفيل فأعرض عن منهج الله وكفر بالدعوة، وزيادة على ذلك صمم على اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن:
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطم |
أخذ رجلاً اسمه أربد بن قيس، وقال: يا أربد بن قيس، تريد شرف الدهر؟! قال: ما هو شرف الدهر؟ قال: نقتل محمداً فنرتاح وترتاح العرب منه، قال: كيف نقتله؟ قال: أنا سوف أشغله بالحديث وأخرج به من المدينة، فإذا خرجت به وأشغلته فاضرب الرجل، وما علموا أن الحافظ هو الله وأن الله قد قال: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67] بعدها وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] لن يقتلك أحد، أنت في حفظ الله، فلما وصل إلى المدينة، قال: يا محمد، نريدك أنا وصاحبي في كلمة، فخرج بلا سيف ولا سلاح، ولا رمح ولا حربةٍ، خرج بثيابه عليه الصلاة والسلام فلما خرج إلى الصحراء، أتى عامر بن الطفيل يتحدث له ويغمز للرجل بعينه، أن اضرب، فإذا رفع السيف رأى بارقاً أمام عينيه، وإذا بـعامر بن الطفيل صاحبه بينه وبين الرسول يريد أن يضربه، ثم حاول وحاول، فلما طال النهار ودعه عامر بن الطفيل وذهب، فقال لـأربد: لا تتبعني ولا تكلمني فأنت أجبن العرب قال: ولم؟ قال: ما قتلت الرجل منذ اليوم قال: والله ما رفعت سيفي إلا رأيت بارقة ورأيتك بيني وبينه، أفأقتلك؟ فلما ولوا عرف صلى الله عليه وسلم فيهم الغدر، فالتفت وقال: {اللهم اكفنيهم بما شئت}.
فأما عامر فأصابته غدة كغدة البعير، حتى وصلت إلى بطنه، فأخذ يقول: أموت في بيت سلولية؟ أركبوني على الفرس، فأركبوه قال: غدة كغدة البعير في بيت سلولية، ثم مات.
وأما أربد بن قيس فأتته صاعقة من السماء على جمله وهو في السوق فأحرقته وأحرقت الجمل.
لقد ذهب الحمار بأم عمـرو فلا رجعت ولا رجع الحمار |
فهؤلاء متكبرون أعرضوا عن الدعوة فما اهتدوا.
يقول صفوان: يا عمير، أما ترى ماذا فعل بنا محمد؟ قتل أبناءنا في بدر، وقتل أرحامنا وأقاربنا، أتكفيني إياه؟ قال: أريد قتله لكن من يقوم بأهلي وأطفالي ومالي؟ قال: الهدم هدمي والدم دمي، أذهب وأنا أكفيك أهلك، فأخذ سيفه فسمه شهراً حتى أصبح السيف أزرق، ثم ذهب إلى المدينة، وقد سبقه الخبر إلى المدينة.
وأتى وهو متوشح سيفه، فرآه عمر وهو في الطريق -وتعرفون عمر - فعرف الشر في وجه عمير، فتقدم عمر إلى عمير، فأخذه بتلابيب ثوبه وبمحامل سيفه، ثم اقتاده بيده وكان عملاقاً رضي الله عنه.
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها |
رمى بك الله ركنيها فهدمها ولو رمى بك غير الله لم يُصِبِ |
فالله رمى بـعمر أهل الشرك فهدمهم، وأخذ عمير بن وهب يصيح: يا محمد، انظر ماذا فعل بي عمر؟ قال: يا رسول الله، هذا الشيطان ماذا أتى به؟ فأجلسه عند الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: ما الذي أتى بك يا عمير؟ قال: أتيت في الأسارى أفاديهم، أي: الأسارى المحابيس من بدر، قال عليه الصلاة والسلام: بل جلست أنت وصفوان تحت ميزاب الكعبة، قبل أيام وقال لك صفوان كذا وكذا، وقلت له كذا وكذا، فقال 1000992>عمير
: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.هؤلاء منهم من اهتدى بمعجزة، ومنهم من أعرض، وأكبر ما يعرض المعرض لكبره وعتوه، ولذلك تجد الدعوة تسري في المتواضعين أكثر مما تسري في المتكبرين.
يعيرنا أنا قليل وجارنا كثير وجار الأكثرين ذليل |
الطيب دائماً قليل قال تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيث ) [المائدة:100].
يقول ابن تيمية: أهل الإسلام قليل في أهل العالم، وأهل السنة قليل في أهل الإسلام، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
نزل عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى السوق، فسمع أعرابياً مسلماً يقول: اللهم اجعلني من عبادك القليل، فأخذ عمر بمنكبه وقال: ما هذا الدعاء؟ قال: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] فدعوت الله أن أكون من هذا القليل، قال عمر: [[كل الناس أفقه منك يا
فالقليل دائماً هو الخير، ولذلك ليفهم الدعاة وطلبة العلم قضيتين اثنتين، ومن أكبر القضايا:
قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[اللهم إني أعوذ بك من عجز المؤمن وجلد الفاجر]] ترى الفاجر قوياً ذكياً داهية، وترى المؤمن عاجزاً كسلان.
ولذلك انظر إلى أهل الباطل كيف يتفانون مثل شعراء الحداثة، أما ترى عناوينهم البراقة؟! أما ترى بعض الأساليب التي يعرضونها لاستغواء الناس، أما ترى جمال العبارة؟! إنهم يسحرون به الناس، وبعض الدعاة إذا أتى عقّد كلمته وعقّد قصيدته، وأغلظ في خطابه، مع العلم أن الناس لا يأتي بهم إلا البسمة الحانية، والكلمة الرائعة، والأدب الفياض، والسحر الحلال الذي ليس بحرام.
قال سبحانه: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100] فكثرة أهل الباطل من عقبات هذه الدعوة، وقد سبق قول بعض العلماء: أهل الإسلام قليل في العالم، وأهل السنة قليل في أهل الإسلام، فلا عليك من قلة أصحابك، فإن الخير في القليل.
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال |
ويقول الأول:
وقد كنا نعدهم قليلاً فقد صاروا أقلَّ من القليل |
قال بعض التابعين: [[ لا تستوحش طرق الهدى لقلة أهلها، ولا تغتر بكثرة الهالكين]].
وأهل السنة قد يكون واحداً أو جماعة قليلة، فعليك بالجودة ولا تتبع الكثرة.
يحتج بعض الناس لتركه الهداية، فيقول: كل الناس يفعلون هذا، وانظر إليهم، إذاً فأنا مع الناس.
وعند الترمذي بسند فيه كلام: {لا يكن أحدكم إمعة، إن أحسن الناس أحسن، وإن أساءوا أساء، ولكن وطنوا أنفسكم إذا أحسنوا فأحسنوا، وإذا أساءوا فتجنبوا إساءتهم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
إن الجليس السيئ شؤم!
جليس كالهواء دائماً معك، لا تمله وهو طالب العلم وهو الذي تحبه في الله، وهو الذي تأنس بحديثه، وهو الذي يدعوك إلى الذكر، ويحبب إليك الرسالة، ويدعوك إلى الجنة، وإلى التوبة والاستغفار، وجليسٌ كالغذاء تحتاجه أحياناً ولا تحتاجه أحياناً. وجليسٌ كالدواء تحتاج إليه نادراً، وهؤلاء مثل صاحب المغسلة، تذهب بثوبك إليه، وكاوي الثوب، وصاحب المكتبة، وأمثالهم كثير.
وقسم داء عضال وسم زعاف، وموت، وهم أهل البدع والكفر، والعياذ بالله.
ويقول من ضمن مزحه: إذا صليت بجانب ثقيل على ميسرتك فسلم تسليمة تجزئك، وقال الشافعي: ما وفد إلي ثقيل فجلس في مجلسي إلا ظننت أن الأرض تميل في جهته، وقال ابن القيم في مدارج السالكين وهو يتحدث عن الثقلاء: ورأيت رجلاً جلس بجانب ابن تيمية من الثقلاء -أي أهل المعاصي- فرأيت ابن تيمية يتحامل ويتصبر ولكن انتهى الصبر، فالتفت ابن تيمية إلى ابن القيم وقال: الجلوس مع هؤلاء حمى الرِبْع، حمى الرِبع: حمى تهامة، تقتل الإنسان وتفرفره وتجعله عظاماً تستطر، والثقلاء هم المعرضون عن منهج الله، ومن أعظم عقبات الدعوة التي تحول بين الداعية وبين الناس جلساء السوء.
أرى ألف بانٍ لم يقوموا لهادمٍ فكيف ببانٍ خلفه ألف هادمِ |
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم |
حتى يقول بعض الأساتذة والعلماء قبل أن تأخذ الطوبة يأخذها الهدامون من يدك، فلا يدعونك تبني شيئاً؛ لأن ما يبنى في شهر يهدم في ساعة، فكيف تقدم موعظة أو درساً أو نصيحة، ووراءك آلاف الأغنيات والمسرحيات والمسلسلات والمعاصي والفواحش والمغريات والنزوات والجهالات؟! فكيف يُبْنَى الإيمان في القلب؟! قال تعالى:الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي}.
يقول أحد العرب: نزل فلان عند فلان، أي أضاف فلان فلاناً، قال: تعارفوا فتشابهوا فسكت بعضهم عن بعض، ثم قال:
وفي السماء طيور إسمها البجعُ إن الطيور على أشباهها تقع |
لا يقع الفاجر إلا على فاجر، ولا يحب الفاسق إلا فاسقاً، ولا يحب المجرمين إلا مجرمٌ، بينما الأتقياء يحبهم الأتقياء، يقول ابن المبارك بسند صحيح وبكلمة نثرية: أحب الصالحين ولست منهم؛ وأكره الفساق وأنا شر منهم. كما أوردها أهل الترجمة، نظمها مثل الشافعي فقال:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة |
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة |
وفي القرآن في موضعين من القرآن أخبر الله أن لأهل الجاهلية جلساء، وأنهم هم السبب في إعراض هؤلاء الجلساء عن منهج الله، قال سبحانه: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:114-116] فأخبر الله في الآية أن لهم جلساء يجلسون معهم إذا خرجوا من عند المؤمنين، ولذلك إذا دعوت رجلاً ولم يتأثر بقولك منك ورأيته دائماً في المعاصي؛ فاعرف أن له قريناً وشيطاناً من شياطين الإنس يجلس معه ويخلو به، وهذا الذي يدمر عليك دعوتك؛ لأنك تبني في الصباح وهم يهدمون في المساء.
وقال سبحانه في الجليس في موضع آخر: وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة:76] فأخبر سبحانه أن لهم بعضاً وأن لهم جزءاً.
ولذلك قال سبحانه: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التوبة:67] فهم أجزاء مترابطة، يجلس الواحد منهم معك ولكن وراءه عشرات يصدونه ويأخذونه، ويسحبونه.
ابن المبارك المحدث الكبير أحبه وأنتم تحبونه، قال الذهبي في سيرته لما ترجم له في تذكرة الحفاظ: والله الذي لا إله إلا هو إني أحبه وأسأل الله الخير بحبه، ولم لا وهو مجاهد وزاهد، وعابد، وعالم ومنفق وقائم ليل، وخاشع لله عز وجل، وهو شاعر جميل الشعر، نحب شعره؛ لأنه يصدر من القلب، يقول في بيتين يخبرك بالجليس يقول:
من كان ملتمساً جليساً صالحاً فليأت حلقة مسعر بن كدام |
فيها السكينة والوقار وأهلها أهل الصلاح وعليهُ الأقوام |
يقول: إذا أردت جليساً صالحاً فتعال إلى المسجد في البصرة وابحث عن مسعر بن كدام، مسعر بن كدام راوية الصحيحين بكى حتى ذهبت عينه اليمنى من خشية الله، يقولون: ما نظر أربعين سنة إلى السماء ممايطأطئ رأسه من الخوف، قالوا: ما نراك تضحك؟ قال: أضحك وأنا ما مررت على الصراط وما أدري هل يؤمر بي إلى سقر أم إلى الجنة، كيف أضحك؟!!
كان يجلس في اليوم ويتوضأ ويستقبل القبلة عليه ثياب بيض ويفوح الطيب من فمه ومن ثيابه، فإذا استقبل القبلة، رؤى كأن الملائكة حوله، ثم يبدأ يحدث ودموعه تتسابق مع الحديث، فيقول ابن المبارك لتلاميذه، يدعوهم إلى جلسة روحية تصلهم بالجنة، يقول:
من كان ملتمساً جليساً صالحاً فليأت حلقة مسعر بن كدام |
يقول اسألوا عنه وادخلوا المسجد واجلسوا معه؛ ليقول لكم الله في آخر الجلسة: قوموا مغفوراً لكم، قد رضيت عنكم وأرضيتموني.
وعمرو بن عبيد كان زاهداً مقطع الثياب لكن مبتدع، ونحن لانقبل الزاهد حتى يكون على السنة، ولا نقبل الباكي وقائم الليل، حتى يكون على السنة، ولا نقبل صائم النهار، حتى يكون على السنة، ولا نقبل المجاهد حتى يكون على السنة، ولا نقبل الداعية حتى يكون على السنة، كان عمرو بن عبيد شيء عجيب في الزهد والخشية من الله، لكنه مبتدع، يقول بالقدر، دخل على الخليفة أبي جعفر المنصور فرآه الخليفة فقال للعلماء:
كلكم يطلب صيد |
كلكم يمشي رويد |
غير عمرو بن عبيد |
يقول كلكم فيكم شيء إلا عمرو بن عبيد فهو يطلب وجه الله.
قال الذهبي: أثنى على ظاهره وما عرف بدعته، واكتشفها الذهبي والعلماء، يقول فيه ابن المبارك:
أيها الطالب علماً إيت حماد بن زيد |
فاستفد فهماً وعلماً ثم قيده بقيد |
ودع البدعة من آثار عمرو بن عبيد |
وحماد بن زيد من أقران مالك، ومن رجال البخاري فجلساء السوء هم الجرب، وهم أعداء الأنبياء والرسل، وهم الذين أخذوا شبابنا وصدوا بفتياننا عن منهج الله.
وهم قسمين:
قسم منهم كفر بالله العظيم أو فجر وترك الصلاة وأعرض تماماً.
وقسم يصلي ولكنه منغمس في المباحات وفي الترهات والسفاهات ولا يحرص على الوقت، ولا يطلب العلم، ولا يحضر مجالس الخير، ولا يستفيد من عمره، فهو لاهٍ لاغٍ مشغول سقط من أعين الصالحين، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[إني لأرى الرجل ليس في شيء من أمور الدنيا ولا في شيء من أمور الدين فيسقط من عيني]].
يسقط من عينيه إذا رآه ساهياً لاهياً، تجد بعض الشباب يقيسون مساحات الأرض ذاهبين آيبين في السكك والشوارع، لا في كسب ولا في عبادة، ولا في دعوة، ولا في خدمة إسلامية، ولا سعي على أهل، وهؤلاء ممن ينصحون قبل أن يُجْتنبوا.
أنت كنز الدر والياقوت في لجة الدنيا وإن لم يعرفوك |
محفل الأجيال محتاج إلى صوتك العالي وإن لم يسمعوك |
ففتور الدعاة خطر جسيم.
وقال عن السلب وهو الإنكار على من كتم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160] وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من كتم علماً، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة}.
ما فائدة العلم إلا أن تنصح وتعظ وتتحدث، ولا تقل أكثرت، أهل الباطل صباح مساء يطبلون ويرقصون ويغنون، مع أن أهل الحق قليل، وفي بخل عظيم بدعوتهم، وفي انهيار عجيب وفي فتور، ونشكو حالنا إلى الله.
ويقول عليه الصلاة والسلام: {نضر الله امرأً سمع مني مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع} نَضَّر أي: جعل على وجهه بهاءً ونضرة وجمالاً، يقول أحد المحدثين:
أهل الحديث طويلة أعمارهم ووجوههم بدعا النبي منضرة |
وللغماري رسالة اسمها المسك التبتي في شرح حديث نَضَّرَ الله امرأً سمع مني مقالتي.
والتِبْتْ: هضبة في الهند تنبت الطيب، فيريد أن يصف المحدثين بالطيب، فجعل عنوان رسالته: المسك التبتي في شرح حديث نضر الله امرأً سمع مني مقالتي، إذا علم هذا فعند ابن حبان بسند صحيح: {نضر الله امرأً سمع مني مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} يقول الحارث بن مسلم أحد الصحابة الأخفياء الأتقياء، لا يُعرف كثيراً، لكنه تقي خفي حفي عند الواحد الأحد يقول: {خرجنا في غزوة مع الصحابة، فأراد الصحابة أن يبيتوا أهل قرية -أي يمسوهم في الليل- فيأخذوا غنائمهم قال: فوفدت إلى أهل القرية وحدي في الليل، فجمعت أهل القرية وهم مشركون، وقلت: إن أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يأتونكم، فإذا أتوكم فقولوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلما أتى الصباح أتاهم الصحابة فطوقوهم، فقال أهل القرية: نشهد أن لا إله إلا اله وأن محمداً رسول الله، قالوا: من علمكم هذه الكلمة؟ قالوا:
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا |
ولذلك أنقص الناس علماً من لا يدعو ولا يتحرك بالدعوة لأنه ينسى، بل تَكَلَّمْ وعِظْ ووَجِه وانصح، وستجد نفسك تحفظ النصوص والآيات، وتحفظ الأحاديث، ويزيدك الله بصيرة وتوفيقاً وفقهاً في الدين؛ لأن العلم كالماء، أنا أقول:
العلم كالماء إن تحبس سواقيه يأسن وإن يجر يعذب منه سلسال |
تحيا على العلم أرباب القلوب كما تحيا على الماء أرواح وآمال |
الله أعطاك فابذل من عطيته فالعلم عارية والعمر رحال |
فإذا نصحت ووجهت زادتك الدعوة تحصيلاً وعلماً إن شاء الله.
كرر العلم يا جميل المحيا وتدبره فالمكرر أحلى |
قالوا تكرر قلت أحلى علم من الأرواح أغلى |
فإذا ذكرت محمداً قال الملا أهلاً وسهلا |
فكرر ولا عليك، كلمة واحدة، ولو تلقيها ثلاثين وأربعين مرة في أمكنة مختلفة، تزيد عمقاً وينفع الله بها، وكان العلماء يحدثون الحديث الواحد مئات الجلسات.
هذه قضية فتور الدعاة، قال الحسن البصري لرجل: عظنا -أي: تحدث فينا- قال: لست هناك، قال الحسن: أوَّه! ود الشيطان أن يظفر بها.
ولذلك يأتيك الشيطان، يقول: لا تخطب، ولا تتحدث، لا تؤم الناس، الرياء سوف يسعى إليك، كفى بك رياء أنك أعرضت عن الدعوة، وأشهر الناس محمد عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، بل تقدم والله معك.
ولذلك ترى هذا الصنف يعيش على هامش الأحداث، أما الاشتغال بالدنيا فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] وفي حديث: (إن الدنيا يعطيها الله من يحب ومن لا يحب، وإن الدين لا يعطيه الله إلا من يحب) إذا أعطاك الله الدين فقد أحبك لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر:37].
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريباً |
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليباً |
فلذلك يقدم بعض الناس الدنيا في حياته ومهماته، قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش} وأقول: تعس عبد السيارة، تجد بعض الناس يسلخ في هذه السيارة ويغسل، ويطيب فيها، ويغير، دائماً هو في البنشر، وعند صاحب الديزل، يحميها ويعطرها ويزينها وهي سيارة، لن تلد بغالاً ولا حميراً.
يا متعب الجسم كم تسعى لخدمتـه أتعبت نفسك فيما فيه خسران |
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان |
وبعض الناس في العمارات، كل يوم يبني داراً، يوسع في الحدائق والمجالس، وقد تهدم قلبه، فهو خراب لا قرآن ولا حديث ولا نور ولا هداية، لكن تعال إلى البيت وانظر إلى الكنبات والنور، وانظر إلى المداخل والمخارج، وانظر إلى الحدائق الغناء تجد عجباً؛ ولكن القلب خواء.
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر جسم البغال وأحلام العصافير |
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4]
دخل أبو العتاهية على هارون الرشيد، وكان قد زين هارون الرشيد قصره، وأبو العتاهية شاعر زاهد، قال: كيف القصر يا أبا العتاهية؟ قال: جميل لكن فيه عيب، قال: ما هو عيبه؟ قال: يموت صاحبه ويخرب القصر، قال: أما قلت شعراً في قصري؟ قال: قلت شعراً، قال: ماذا قلت؟ قال:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور |
قال: هيه، أي: زد.
قال:
يجري عليك بما أردت مع الرواح وفي البكور |
قال: هيه.
قال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور |
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور |
استعرض المأمون جيشه، وهو في سكرات الموت، في طرسوس، وقيل في طوس، والمدينتان موجودتان، لكن اختلفوا هل مات في طوس أو في طرسوس؟
فلما أتته الوفاة قال: أخرجوني وقد كان المأمون فصيحاً؛ إذا تكلم كأن السحر ينطق على لسانه، قال: أخرجوني، فأخرجوه فرأى القادة والوزراء والأمراء، فالتفت إلى السماء، وبكى وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه.
باتوا على قمم الأجْبال تحرسهم غُلب الرجال فما أغنتهم القلل |
واستنزلوا بعد عز من قصورهم إلى قبورهم يا بئسما نزلوا |
أمر الدنيا سهل، بل إن حاجيات الإنسان الكمالية أمرها سهل، ولذلك تجد كثيراً من المعرضين والمفرطين في تقوى الله، والمفرطين في طلب العلم، والمفرطين في حفظ الوقت، تجد أحدهم يستغرق الساعات الطويلة في لباسه.. ساعة وهو يمشط رأسه، وساعة وهو أمام المرآة، وساعة وهو يلبس اللباس، وساعة وهو يكوي الغترة، وساعة يتطيب، نهاره كذلك!!
ماذا فعلت؟ ماذا قدمت؟ عمر رضي الله عنه يخرج ببردة مقطعة، لكن من مثل عمر؟! يهتز منه كسرى وقيصر وهم في الملك، أبو بكر يخصف نعله، بل محمد عليه الصلاة والسلام يخرج في شملة، وهو رسول رب العالمين، عمروا أرواحهم، ولم يلتفتوا كثيراً إلى ملابسهم، ونحن عمرنا دورنا، وهدمنا قلوبنا، وزينا ملابسنا، وشوهنا أرواحنا، فنشكو حالنا إلى الله:
متى يهديك قلبك وهو غافٍ إذا الحسنات قد أضحت خطايا |
وأكثر ما جعل الناس يعرضون عن المحاضرات والدروس والدعوة والتفقه في القرآن والسنة اشتغالهم بالدنيا، تجد بعضهم يحسن قيادة السيارة، لكن لا يحفظ الفاتحة جيداً، ولا يعرف سجود السهو، بعضهم يبني القصور ويشق الأنفاق، ويمد الجسور، وهو متخصص في علم الآلات، ولكنه لا يعرف من الدعوة ولا من الرسالة ولا من السنة شيئاً، فهو مغبون قال سبحانه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه، فرأى إبل الصدقة في مسارحها، فقال له أحد الناس: صدق الله! هذا فضله ورحمته، قال عمر: [[كذبت، فضله ورحمته: العمل بتقوى الله على نور من الله، وترك معصية الله على نور من الله، قال سبحانه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]]] اسمع إلى أربعة أحاديث صحيحة في الدنيا وفي الآخرة، يقول عليه الصلاة والسلام: {لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء} ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح: {لأن أقول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) أحب إلي مما طلعت عليه الشمس} يقول عليه الصلاة والسلام: {من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة} حديث صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث رواه عبد الله بن بسر قال: جاء رجل فقال: {يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله}.
فأسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية والسداد، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الجواب: ما نظمت فيه قصيدة، بل قلت فيه خطبة، ودعوت الله له، وتلك خير من القصيدة، وأسأل الله أن يجمعنا به في دار الكرامة.
وفي بعض المناسبات استشهدت بقصيدة رائعة رائقة رنانة لـأبي تمام قالها في أحد الشهداء المسلمين وهو محمد بن حميد الطوسي، البطل المجاهد أحد قادات المعتصم الأفذاذ، قاتل الكفار في جبهة من جبهات خراسان من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، وكان كلما ناولوه سيفاً قاتل به حتى يتكسر، ويلتفت إلى أصحابه فأعطوه سيفاً آخر، وبعد صلاة الظهر طوق عليه الكفار فقتلوه مع الأذان: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].
فقال أبو تمام فيه قصيدة يوم سمعها الخليفة قال: والله الذي لا إله إلا هو، لوددت أني المقتول وأنها قيلت فيّ، يقول أبو تمام:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر |
فتى كلما فاضت عيون قبيلة دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر |
تردى ثيابَ الموت حمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندس خضر |
عليكَ سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر |
ثوى طاهر الأردان لم تبقَ بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر |
وما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتلت عليه القنا السمر |
وهي قصيدة طويلة جميلة، من أجمل ما قيل في الرثاء.
وقتل أحد الوزراء وصلب على خشبة فقال فيه أبو الحسن الأنباري وأقولها كذلك لـعزام:
علوٌ في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات |
كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات |
كأنك واقفٌ فيهم خطيباً وهم وقفوا قياماً للصلاة |
مددت يديك نحوهم احتفـاءً كمدهما إليهم بالهبات |
هذه هي العظمة، ومن لم يمت هذه الميتة فسوف يموت ميتة أخرى حبطاً أو إغماءً إن لم يكن مؤمناً مستقيماً.
ومن الشهداء من يموت على فراشه {ومن سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه} نسأل الله لنا ولكم الشهادة في سبيله.
الجواب: السائل وهم في مسألتين:
الأولى: أنا قلت: ابن أم مكتوم ولم أقل: ابن عباس.
والثانية: ما كنت أحسب أنك تظن هذا الظن، فما قصدته وما نويته وما أردته، وليس في كلامي ما يدل على ذلك، فـابن أم مكتوم، وأنت وأنا وكل مسلم نتلقى من محمد عليه الصلاة والسلام، ولن يوحى إلى أحد بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما أوحي إليه لأنه رسول؛ لكن يوحي شياطين الجن إلى شياطين الإنس، كما قال تعالى: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112] واعلم يا أخي أن بعض المبتدعة قالوا: نحن لا نطلب العلم من عبد الرزاق لكن نطلب العلم من الرزاق، وعبد الرزاق محدث صاحب المصنف يقول: " نحن لا نقرأ الحديث في الكتب" وإنما يجلس أحدهم في زاوية، ويأتيه العلم، قال ابن القيم: لولا عبد الرزاق وأمثال عبد الرزاق ما عرفتم الرزاق سبحانه، فإنما العلم يتلقى قال صلى الله عليه وسلم: {العلم بالتعلم} العلم بالسند.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم ألو العرفان |
وإنما معنى كلام هذا المفكر أنه منارة من منارات الأرض استقبلت نور السماء الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام، وهو تعبير عجيب.
دعها سماوية تجري على قـدر لا تفسدنها برأي منك منكوس |
الجواب: انصحهم وعظهم واصبر على أذاهم، وكن ليناً في خطابهم، وحاول أن يهتدوا وادعُ الله لهم، واصدق معهم، وحاول أن تأخذهم إلى أهل الخير، وأن تأتي بهم إلى المحاضرات، وأن تهدي لهم كتاباً أو شريطاً إسلامياً، ولا تيئس من روح الله، فإن استمروا على فسقهم وأعرضوا، فاهجرهم علّ الهجر أن يردعهم.
الجواب: الجلوس مع المدخنين من الجلوس مع أهل السوء، إلا بقصد أن تدعوهم، فإن قصدت الدعوة فيجوز لك هذا بل يجب عليك إذا رأيت قبولاً من الناس، حتى مع الكافر أن تجلس معه لتدعوه، وقد جلس صلى الله عليه وسلم مع شارب الخمر وجلس مع الزاني، وجلس مع المنافق، وجلس مع المشرك ليدعوه إلى سبيل الله، والجلوس مع المدخن في غير وقت التدخين ومزاولة التدخين، لا أرى فيه بأساً، لكن أرى أنك لابد أن تحمل في ذهنك دعوته إلى هذه الجزئية التي قصر فيها.
الجواب: هذا السؤال يتكرر كثيراً لكن أدله على بعض الكتب والكتيبات، كتاب الله عز وجل أولاً، وأحسن تفسير تفسير ابن كثير وزاد المعاد لـابن القيم ورياض الصالحين وبلوغ المرام وفتح المجيد، هذه خمسة كتب أرى أن الإنسان لو أدمن القراءة فيها وفهمها وضبطها كان عنده علم كثير، لكن مشكلتنا التجميع بلا قراءة، أو التجميع بلا ضبط، ترى معه مكتبة مليئة بالكتب ثم لا يقرأ؛ فما الفائدة؟ -حمْلٌ للأسفار بلا معنى، ليس بصحيح، وفي مسند أحمد بسند صحيح قال عليه الصلاة والسلام وقد التفت إلى السماء، وكان جالساً مع الصحابة، وهذا في أول مسند أحمد على ترتيب الساعاتي، وقد ذكر ابن تيمية في الفتاوى في المجلد العاشر، هذا الحديث، وعلق عليه تعليقاً عجيباً قال عليه الصلاة والسلام: {هذا أوان ارتفاع العلم، فقال:
الجواب: أقول لك: أولاً قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] وأقول لك ثانياً: غض بصرك، وطالب هؤلاء النسوة بالحجاب الشرعي وعلمهن السنة، ولا يقتضي هذا منك أن تنظر ولكن فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] ولا تخلُ بامرأة أبداً، فالخلوة بالمرأة في غير ضرورة حرام، وليس هناك فيما أعلم ضرورة في ذهني، لكن قلت هذا احترازاً من بعض النصوص، فهو محرم قال عليه الصلاة والسلام: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} لا تخلُ بامرأة، ولا تنظر إلى وجهها، ولا تصافح ولا تلمس امرأة.
والمرأة تذهب إلى المستشفى للعلاج بثلاثة قيود:-
أن يكون معها محرم، وأن تعالجها امرأة، وأن تتحجب الحجاب الشرعي، وإذا اضطر إلى علاجها رجل، فبشروط ثلاثة:-
الأول: ألا توجد امرأة معالجة، تقوم بهذا العلاج.
الشرط الثاني: ألا يخلو بها، بل يكون محرمها معها.
الشرط الثالث: أن يكون المرض ضرورياً خطيراً فلا تذهب للزكام أو للصداع.
الجواب: نعم هو من العقبات، وأنا ما أتيت إلا بأهم العقبات، وإلا فإن بعضهم يوصلها إلى عشرين عقبة، وثلاثين عقبة، لكن أتيت بما يقارب الست لتدل على غيرها، وما ذكرت كل العقبات.
الجواب: أولاً، احمد الله أن شرفك بأنك عبد له، الناس صنفان: مطوع أو عاص، هذا الذي يدعوك إن كان مستهزئاً، ويقول لك: مطوع فهو عاصٍ، لأنه يستهزئ بالمطوع، ومعناك أنك أطعت الله، فصرت مطوعاً، وقد يطلق عليه هو لكنه للشيطان، فإما أن يتطوع العبد للرحمن أو للشيطان، ولذلك يقول ابن تيمية: لا يسكن القلب إلا بإله، إما الله وإما آخر. فاعلم ذلك وعليك وأنت أمامهم أن تتذكر ثلاث قضايا:
أولها: اعرف أن الله شرفك لأنك تؤذى في سبيله عز وجل، فسلفك في ذلك الأنبياء والرسل وقد قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3].
ثانيها: اعلم أنك مأجور، وأن أجرك على الله، وما يصيب المسلم من كلمة أو استهزاء أو نكد إلا كانت كفارة للسيئات ورفعاً للدرجات.
ثالثها: إذا قالوا لك هذا الكلام؛ فتبسم لهم وقل لهم قولاً حسناً فقد ذكر الله المتقين -عباد الرحمن- فقال في وصفهم: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63] قال عيسى بن مريم عليه السلام لحوارييه: كونوا كالنخلة ترمى بالحجارة فترد بالرطب.
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت |
فإن جاوبته فرجت عنه وإن خليته كمداً يموت |
وقال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] وقال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] هذه القضايا التي أريد أن تفهمها مني.
الجواب: عليك بالدعاء، عليك بالجلسات مع الصالحين، واعلم أن الفتور هذا لا بد منه، وفي حديث صحيح: {لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غيرها فقد هلك} والشرة: الحدة والقوة والنشاط في العمل، ولذلك تجد الشباب إذا اهتدوا تجد الواحد منهم قوياً على العبادة، ويزيد من النوافل فبدلاً من أن يتنفل بعد الظهر اثنتين يتنفل بثمان، تقول: يكفيك ثلاثة أيام في الشهر قال: لا يكفيني إلا الإثنين والخميس وثلاثة أيام، والمحرم وبعدها يقتصر على رمضان، فلذلك (لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة) والفترة هي النكوص، لكنه قال: {فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى} أي أن الحد الأدنى السنة، ألا تنزل عن السنة، حد أدنى لك، فعليك بذلك، واعلم أن الفترة لا بد منها، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[إن للقلوب إقبالاً وإدباراً، فاغتنموها عند إقبالها، وذروها عند إدبارها]] وقال في لفظ آخر: [[إذا أقبلت القلوب فأكثروا من النوافل، وإذا أدبرت فألزموها الفرائض]].
تقبلنا الله وإياكم في من تقبل، وغفر لنا ولكم ورحمنا الله وإياكم، وشكر الله لكم اجتماعكم، ونريد ألا تنسونا من دعوة طيبة؛ لندعو لكم بظهر الغيب.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر