إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة البقرة [218-219]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله تعالى في هذه الآيات أن القتال في الأشهر الحرم منكر كبير، وأن أكبر من ذلك هو الصد عن سبيل الله تعالى، والكفر به سبحانه. وذكر أيضاً أن من كان مسلماً ثم ارتد على عقبيه إلى الفكر فإن أعماله تحبط في الدنيا والآخرة. وذكر سبحانه أن الذين آمنوا وجاهدوا في سبيله وهاجروا يرجون رحمته ورضوانه، وأنهم يتاجرون تجارة لن تبور. ثم ذكر الله تعالى الخمر والميسر وذكر ما فيهما من الإثم والفساد. وقد فُسرت الآيات بأسلوب سهل شيق رائع يشد القلوب، ويأسر الألباب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ...)

    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذا لقاء متجدد من برنامجنا محاسن التأويل، وكنا قد انتهينا في اللقاء الأول إلى قول الله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:217]، إلى آخر الآيات، فنجمل الآن ما حررناه في ذلك الوقت، ثم نزدلف إلى قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:218]، وهي الآية التي سنبدأ بها تفسير حلقة هذا اليوم، والأشهر الحرم أربعة: ثلاثة سرد وهن: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وواحد فرد وهو رجب، والآية جاءت في أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية بإمرة عبد الله بن جحش ولم يأمرهم بقتال، ثم تعرض لهذه السرية قوم من قريش فأقدمت السرية على قتلهم دون أن يدروا أو يعلموا أنهم دخلوا في الشهر الحرام، وكان ذلك في آخر جمادى الذي هو قبل رجب، ورجب شهر حرام، فلما تبين بعد ذلك أن القتال كان في الشهر الحرام جعلت قريش ذلك سبة وعاراً على المؤمنين, وقالوا: كيف يدعو محمد إلى مكارم الأخلاق وقد نقض شيئاً العرب كانت متفقة عليه من قبل وهو عدم الاقتتال في الشهر الحرام!! فهذا هو مجمل سبب النزول، فأنزل الله جل وعلا قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ [البقرة:217]، الذي نريد أن نصل إليه هنا هذا كله تم تفسيره، لكن ما سيأتيك بعد ذلك مصدر بقوله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ [البقرة:217]، أو: وَيَسْأَلُونَكَ [البقرة:219].

    فحتى يتمكن طالب العلم من فهم كلام الله لا بد -كما قلت قديماً- من الإجمال، ثم من الإجمال ندرج إلى التفصيل، والسؤال في القرآن يأتي دائماً بحسب سائله، ولما كان السائلون يختلفون كان لا بد أن يكون الغرض من السؤال يختلف، فلما سألت اليهود عن الروح فهذا سؤال للتعنت، وهذا أول مقاصد السؤال، وهناك سؤال للاحتجاج وهو سؤال أهل الإشراك هنا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [البقرة:217]، فإذا انتهينا من أسئلة اليهود وأسئلة أهل الإشراك لم يبق إلا أسئلة أهل الإيمان، وأهل الإيمان يسألون للاسترشاد؛ حتى يكونوا على بينة من أمرهم عندما يأتيهم الجواب الإلهي.

    إذا تحرر هذا فقول الله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ [البقرة:217] الأصل أنه جاء على لسان كفار قريش، فهو سؤال للاحتجاج، وقول الله تبارك وتعالى في الإسراء: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء:85] هذا للتعنت؛ لأن السائلين هنا هم اليهود، وأما قول الله جل وعلا كما سيأتي عن الخمر والمحيض ماذا ينفقون، فهذه أسئلة المؤمنين الذين كانوا يحيطون بالنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فهذه أسئلة للاسترشاد.

    حكم عمل الإنسان حال إسلامه إذا ارتد بعد ذلك

    انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الرب تبارك وتعالى في نفس آية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ [البقرة:217]، إلى قضية الردة، وقلنا: إن الله جل وعلا قيدها بقوله تبارك وتعالى: فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:217]، وقلنا: إن العلماء اتفقوا في أن الإنسان لو ارتد ومات على الردة كافراً فلا ريب أن أعماله جميعاً قد حبطت؛ لأن هذا نص كلام الله، وقد قلنا في تحرير سابق: إن الآيات المحكمة لا يمكن أن يختلف العلماء فيها؛ لأنها ظاهرة، ولهذا لم يأتينا أحد من أهل العلم يقول: إن الإنسان إذا مات كافراً بعد أن كان مؤمناً أن شيئاً من علمه يبقى؛ لأن هذا أمر قد أوضحه القرآن، فالله جل وعلا يقول: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [البقرة:217]، ويقول في آيات أخر: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65].

    من ارتد ثم آمن فما حكم عمله في حال الإسلام الأول

    لكن الإشكال في أن إنساناً كان مؤمناً ثم ارتد، ثم تاب عن ردته وعاد إلى الإيمان، فهل العمل الذي كان قبل الردة يبقى أم يحبط؟ هذا هو السؤال، فمن أخذ بالقيد قال: إن العمل يبقى؛ لأن الله قيده بقوله: فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ [البقرة:217].

    ومن جعلها مطلقة قال -وهذا الأظهر-: إن الإنسان يكتب له الأجر، لكن لا يسقط ذلك الشيء المفروض عليه، مثال ذلك: لو أن إنساناً حج ثم ارتد ثم تاب وعاد إلى الإسلام فهل حجته الأولى يلزم عليه أن يعيدها أو لا يعيدها؟ هذا التي فيها تنازع بين العلماء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله ...)

    والآن نزدلف إلى قول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218]، بدءاً قال ابن سعدي رحمة الله تعالى عليه: هذه الثلاث هي قطب رحى الدين، وعنوان السعادة، فمن وفقه الله للقيام بالإيمان والهجرة والجهاد فقد وفق لقطب رحى الدين، وعنوان السعادة؛ لأن أي عمل صالح بعد هذه الثلاث أهون منها، ومن قدر على العظيم قدر على اليسير، فأما الإيمان فأكبر دلائل فضله أن الله جعله قسيماً بين أهل الجنة وأهل النار، أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18]، وأما الهجرة فليس المراد بها هجران الذنوب، ولكن المراد هجرة الشيء المألوف المحبوب، كهجرة الوطن، والمال، والخلان، ومن تركن إليهم؛ من أجل الله، وأما الجهاد فإن التلبس به من أعظم ما يدل على أن الإنسان يقمع أعداء الدين، وبوده أن ينتشر الإسلام، فالصورة الأولى لانتشار الإسلام هي الجهاد، وهذا أمر لا ينبغي أن يتغير بالظروف وبالأحوال؛ لأن من تتبع السنة الصحيحة والسيرة العطرة لرسولنا صلى الله عليه وسلم سيجد عياناً بياناً أن السبب الأعظم لانتشار الدين هو الجهاد في سبيل الله، فيقول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [البقرة:218].

    كيفية ظهور التقويم الهجري

    قبل أن أزدلف إلى قوله: أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [البقرة:218]، نحن الآن نسجل هذه الحلقة وفق التقويم الهجري للثامن والعشرين من شهر ذي الحجة، وبقيت ليلتان على نهاية عام هجري وهما ليلة التاسع والعشرين وليلة الثلاثين إذا كان الشهر تاماً، فحسب التقويم وحسب الرؤيا فإن اليوم هو اليوم التاسع والعشرين وهذه ليلة الثلاثين، والهجرة قطعاً كانت في ربيع الأول باتفاق المسلمين، ولكن الصحابة رضي الله عنهم في عهد عمر أرادوا أن يصطلحوا على حدث يؤرخون به، فبعد مشورة منهم عرضوا، ولا يمكن أن يكون هناك تشاور إلا إذا كان هناك عرض، لكن إذا كان هناك خيار واحد فلا يمكن أن يكون هناك تشاور ولا مشورة، فلا بد أن يكون هناك آراء متعددة يختار الناس منها، فوضعوا البعثة والمولد والهجرة والوفاة، يعني: هل يؤرخون بمولده صلى الله عليه وسلم؟ أو يؤرخون ببعثته؟ أو يؤرخون بهجرته؟ أو يؤرخون بوفاته؟ فاستقر أمرهم -وهم أمثل جيل وأكمل رعيل- على أنهم يؤرخون بالهجرة، ولا ريب أن اتفاقهم دليل صوابهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

    ونقول مزيداً على هذا: إن الإسلام ما ظهرت عزته ولا نقول: لم يكن عزيزاً فهو عزيز من أول يوم، لكن ما ظهرت عزته إلا بعد الهجرة، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم استطاع أن يبني مسجد قباء أول مسجد أسس على التقوى، لكنه قبل ذلك لم يستطع أن يبني مسجداً واحد، ثم بنى مسجده صلى الله عليه وسلم بعد أن بنا مسجد قباء، فاختاروا الهجرة، فلما اختاروا الهجرة أرادوا أن يبدءوا، فلم يختاروا شهر ربيع، ووضعت عروض أخر من أي الشهور نبدأ؟ فاستقر أمرهم أن الناس بعد ذي الحجة ينصرفون إلى ديارهم: فيعود أهل الشام إلى شامهم، وأهل العراق إلى عراقهم، وأهل اليمن إلى يمنهم، وأهل نجد إلى نجدهم، ويعود أهل الأقطار، فقالوا: إن شهر محرم يكون فيه استقرار الناس في أوطانهم، فجعلوا من شهر الله المحرم بداية للعام الهجري، إذاً ليس معنا آية ولا حديث يقول: إن العام الهجري يبدأ من محرم، وليس معنا آية ولا حديث تقول: إنه إذا ختم ذو الحجة ختمت صحائف الأعمال، فالدين لا يؤخذ من فقه الوعاظ، وإنما يؤخذ من نصوص الكتاب والسنة المحكمة، فلا يوجد دليل لا من قريب ولا من بعيد، ولا بإشارة ولا بتصريح تدل على أن صحائف الأعمال تطوى مع نهاية هذا العام، فعندما تقرأها قراءة دنيوية سياسية يصح أن تقيم أحداثاً مضت من عام إلى عام، لأن المسألة أصلاً سياسية، فاختيار عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه هذا مندرج في السياسة الشرعية، ومنبثق مما يسمى بالمصالح المرسلة، وهذا ليس له علاقة بقضية أن صحائف الأعمال تطوى، فلا يوجد شيء في الدين يدل على أن صحائف الأعمال تطوى مع نهاية كل عام، هذا أمر يجب أن ننتبه إليه، لكن قول الوعاظ في محاسبة النفس له مدخل؛ لعموم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحشر:18].

    فإن محاسبة النفس مطلوبة في كل آن وحين، ولئن كان التجار أرباب الأموال يحاسبون أنفسهم مع نهاية العام مالياً فليس هناك حرج على المؤمن أن يحاسب نفسه دينياً فيما مضى، لكن لا يقول: لأن صحائف الأعمال تطوى فأنا أحاسب نفسي لا؛ لأنه لا يوجد دليل على أن صحائف الأعمال تطوى مع نهاية العام الهجري، هذا مهم.

    فضل المهاجرين الأولين

    كذلك في قول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا [البقرة:218] دليل صريح على فضل المهاجرين الأولين، والقرآن دل على ذلك في مواطن عدة، قال الله في التوبة: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100].

    وقال في الحشر: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ [الحشر:8]، ثم قال في الآية التي بعدها: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر:9].

    فذكر الطائفتين ولم يذكر إلا طائفة واحدة بعدهم وهي الثالثة، وهم من اتبعوهم بإحسان، فهذا تعبير القرآن في التوبة، وعبر عنه القرآن في الحشر بقوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10].

    الهجرة قرينة البعثة

    والهجرة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قرينة البعثة، لكن الهجرة تأخرت واقعاً وحدثاً، وإلا فقد قال ورقة بن نوفل لنبينا صلى الله عليه وسلم: (يا ليتني أكون جدعاً إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم؟) وهذا كان في أول أيام البعثة.

    فعلم صلى الله عليه وسلم بما أخبره به ورقة بن نوفل أن الهجرة ستكون قائمة واقعة لا محالة، وذلك عندما قال: (أومخرجي هم).

    الفرق بين الهجرة إلى المدينة والهجرة إلى الحبشة

    والهجرة إلى الحبشة كانت هجرة إلى أرض أمن، فهناك ملك صالح يعدل ولا يضام في ملكه، فخرج المسلمون إليه، وأما الهجرة إلى المدينة فكانت هجرة إلى دار إيمان وفق تعبير القرآن، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر:9]، وقصد الأنصار.

    فالمدينة كانت دار إيمان قبل أن يدخلها نبينا صلى الله عليه وسلم، بخلاف الحبشة آنذاك فإنها لم تكن دار إيمان، وإنما كانت دار أمن.

    قال ربنا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [البقرة:218].

    وفي هذا دليل على أن الإنسان مهما زكا عمله، واشتد صلاحه، وتتابعت حسناته إلا أن المعول الأكبر يكون على رحمة الله، وهذا دليل كذلك على أن الإيمان بالعمل لا بالتمني ولا بالتحلي، فإذا قال الله جل وعلا عن هؤلاء الأخيار الذين جمعوا بين الإيمان والهجرة والجهاد قال عنهم: أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [البقرة:218] فما عسى من دونهم، لكن لا يعني ذلك أن يقنط أحد من رحمة الله، أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218]، وهذه ظاهرة وقد مرت معنا كثيراً، والغفور الرحيم اسمان كريمان من أسماء الله الحسنى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ...)

    ثم قال الله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، وهذا قد يحتاج وقتاً طويلاً فسأبدأ فيه تمهيداً في هذا اللقاء وأكمل في اللقاء القادم.

    تعريف الخمر وذكر ضررها

    نبدأ أولاً في معرفة الخمر والميسر، ومنهجنا في التفسير أن الآية هي الحاكمة في طريقة التفسير، فالآيات تختلف فبعضها في العقائد، وبعضها في الأخبار والقصص، وبعضها في التشريع، فلا يعقل أن تتعامل معها جميعاً بطريقة واحدة، وإنما من أوتي حظاً في فهم كلام الله ينبغي أن ينوع الطرائق التي يتناول بها كلام الرب تبارك وتعالى دون أن يخرجه ذلك من علم التفسير، فالبيئة الجاهلية كانت بيئة لا ترجو جنة ولا تخشى ناراً، بل يمشون كما تفرضه العادات والتقاليد والذائع والشائع، والفراغ في الوقت كان أكثر ما يعاني منه الجاهليون، ولهذا انصرفت هممهم إلى اللذات؛ لأن اللذات بها تقضى الأوقات، فكانت الخمر مشروباً ذائعاً عندهم للغني والفقير، ولا يكادون يتركونها في ليل ولا في نهار، وليس أدل على ذلك من أن الصحابة وهم الصحابة مكثوا يشربونها حتى بعد الهجرة، فكان أنس يسقي كبار الصحابة كـعبد الرحمن بن عوف وأبي أيوب الأنصاري قبل أن تنزل آية تحريم الخمر كما سيأتي.

    وهذا يدل على كرامة الله لهذه الأمة، فالله لما علم أن الناس يوم ذاك قد بلغ منهم شرب الخمر مبلغاً عظيماً جاء بالتدرج في تحريمها كما سيأتي.

    والخمر في اللغة: ما خامر العقل، أي: خالطه أو غطاه، فالتغطية من باب قوله صلى الله عليه وسلم: (خمروا آنيتكم) بمعنى غطوها، وتأتي خامر بمعنى خالط، فيخالط السكر العقل فيكاد يغطيه، ولا يكون هناك تغطية إلا بعد مخالطة، قال كثير عزة :

    هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت

    فقوله: هنيئاً مريئاً غير داء مخامر، أي: غير دائن مخالط.

    ولا نحتاج أن نقول في الخمر: هي مشروب يسكر؛ فلا يكاد يجهله أحد، وفي عصرنا هذا أخذ أنواعاً عدة، لكنه سابقاً كان أكثر ما يأخذونه من التمر ومن الأعناب، وهو من العنب أكثر منه من التمر، قال الله جل وعلا: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل:66-67].

    وسيأتي لماذا قال الله: (سَكَراً) وقال: (رزقاً حسناً) بعد قليل، لكن نبقى فيما يؤخذ منه الخمر، وقلنا: إنه يؤخذ من ثمرات النخيل والأعناب.

    فإذا شربوها فإن الفقير منهم يرى نفسه غنياً، والجبان منهم يرى نفسه شجاعاً، قال حسان :

    ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً لا ينهنهنا اللقاء

    وكانت في الشام قصران اسمهما: الخورنق والسدير يضرب بها المثل، كما تقول الآن: البيت الأبيض والكرملن فكانت في أذهان الناس في ثقافتهم أن هذين القصرين لا يدخلهما أحد، فكان الفقير منهم راع الغنم الذي لا يملك شيئاً إلا بضع غنيمات يقول:

    وإذا شربت فإننـي رب الخورنق والسدير

    وإذا صحـوت فإنني رب الشويهة والبعير

    يعني: وأنا في عالم السكر أذهب في خيالات عدة، فأحسب نفسي صاحباً وملكاً على الخورنق والسدير وهما قصران في الشام، وإذا فقت من سكري وعدت إلى حقيقتي فأنا لا أملك إلا بضع شويهات وبضعة من الإبل أو غيرها.

    والمقصود أنهم كانوا يفرون من مشاكلهم وقضاياهم إلى الخمر، ويسمون من يشرب معهم ويحتسي يسمونه: نديماً، ويدار الكأس بينهم، وهذا جل حياتهم، قال الأعشى :

    في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل

    نازعتهم قضب الريحان متكئاً وقهوة مزة راووقها خضل

    فثقافته أنه يريد هؤلاء ألا يعبئوا بشيء، والآن في الثقافة الغربية أكثرهم وإن كان مسيحي الديانة لكن طغت عليهم العلمانية، فزلفت بهم إلى الإلحاد، فلما زلفت بهم إلى الإلحاد ضعف يقينهم بالجنة والنار، فإذا ضعف اليقين بالجنة والنار فإنه لا يبقى إلا التشبث بالدنيا، فهم يعظمون نهاية الأسبوع؛ لأنه إجازة لهم، ويستمتعون بحياتهم على أقصى حد، والذي يدفعه إلى أن يستمتع بحياته إلى أقصى حد إيمانه الخاطئ أنه لا حياة بعد هذه الحياة، فيتشبث بهذه الحياة، فـالأعشى يقول:

    وفتية كسيوف الهند

    يعني: يقصد نحول أجسامهم وتثنيها.

    كسيوف الهند قد علموا

    والمهم عنده:

    أن هالك كل من يحفى وينتعل

    أي: أن الناس موتى لا يبقون، فيقول: ثقافتنا تنطلق من قناعتنا أننا سنموت وسنبلى ولن يبقى أحد لا غني ولا فقير، ولا حافي ولا منتعل، فإن كنت أعلم أنني لا أبقى وأنه لا حياة بعد حياتي -فالقرشيون كانوا لا يؤمنون بالبعث والنشور- فعلامَ أنا أحبس نفسي عن متع الدنيا، فيكون هذا دافعاً قوياً لأن يحتسي الخمر، قال:

    نازعتهم قضب الريحان متكئاً وقهوة مزة راووقها خضل

    والقهوة كانت تطلق عندهم على الخمر.

    تعريف الميسر وصورته وبيان ضرره

    فحديثي هذا كله حول الخمر، وبقينا في الميسر، والميسر مشتق من أحد أمرين: إما مشتق من اليسر وهو السهولة، وهذا بسبب أنهم يحصلون على المال من غير كد ولا تعب، وهي مغامرة يأتي بها فينجم عنها مال.

    وإما مشتق من اليسار وهو الغنى، أي: أنه يغنى بعد فقر، والمعاني متقاربة جداً.

    والقرشيون لهم طرائق عدة في الميسر، وقد نشأت كلمة الميسر كما يلي: الياسر في اللغة هو الجزار الذي يذبح الجزور، فيأتون بالجزور فيذبحونه ويجعلونه ثمانية وعشرين قسماً، والآن سندخل في الرياضيات فمهم أن تفهم ذلك، ثم يأتون بكيس، وهذا الكيس يضعون فيه عشرة أقداح، وهي على هيئة أعواد، وكل قدح من هذه الأقداح له اسم، فسبعة منها تعمل وثلاثة لا تعمل، أي: سبعة فيها حظ، وثلاثة لا يجعلون فيها حظاً، فيسمون التي ليس فيها حظ غفلاً، ويسمونها الوغد والسفيح والمنيح، والسبعة سآتيك بأسمائها، ثم يضعون العشرة في هذا الكيس ويخلطونها، ثم يأتون برجل أمين فيقول مثلاً: هذا حظ عبد الرحمن ويأخذ قدحاً، فإذا طلع يقرؤه فإن كان سفيحاً أو منيحاً أو وغداً فلا يأخذ شيئاً، وليتهم يقفون عند هذا الحد، فإنه لا يأخذ شيئاً وعليه قيمة شراء الجزور، والسبعة الباقون يأخذون نصيبهم.

    والأقداح السبعة يسمون أحدها الفذ، ويأخذ واحداً، والثاني يسمونه التوأم، ويأخذ اثنين، والثالث يسمونه الرقيب ويأخذ ثلاثة، فيصبح قد ذهب ستة، والرابع يسمونه الحلس ويأخذ أربعة، والخامس يسمونه النافس، ويأخذ خمسة، فيصير المجموع خمسة عشر، والسادس يسمونه المسبل، ويأخذ ستة، فيصير المجموع واحداً وعشرين.

    والسابع يسمى القدح المعلى، فالناس إذا مدحوا أحداً يقولون: له القدح المعلى، ويأخذ سبعة، فتصير مع واحد وعشرين ثمانية وعشرين، انتهت كلها، ولهذا تسمع في التعبيرات الأدبية: أن فلاناً له القدح المعلى، أي: أوفر أهل الميسر حظاً، فهذه نشئت فكرة الميسر، وفي اللقاء القادم إن شاء الله تعالى نكمل الارتباط ما بين الخمر والميسر، والحد الذي في الخمر، والتعزير الذي في الميسر بإذن الله تعالى، والله تعالى أعلم.

    وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768279344