الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فما زلنا نتفيأ ظلال سورة الأنعام، والآيات التي سنتحدث عنها في هذا الدرس هي قول الله جل وعلا: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:83-86].
هذه الآيات من سورة الأنعام جاءت بعد قول الله جل وعلا: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74].
والسورة تتحدث عن التوحيد، وإبراهيم هو أعظم الموحدين، فالله تعالى نسب الملة إليه فقال: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78]، فكان بدهياً أن تتحدث السورة كثيراً عن إبراهيم.
وقد ذكرت الآيات قضية محاجة إبراهيم لأبيه آزر، ثم محاجته لقومه، وقوله: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا [الأنعام:81]، إلى أن قال إبراهيم عليه السلام وهو يحاج قومه ويثبت لهم التوحيد: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81].
وهنا نأتي إلى قضية أساسية، وهي أن إبراهيم لم يقل: فأينا أحق بالأمن بل قال: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ [الأنعام:81]، قال العلماء في بيان هذا: أراد إبراهيم أن يبين أن المقابلة مقابلة عامة تشمل كل موحد ومشرك، وليست محصورة في والذي فصل وحكم في أحق الفريقين بالأمن هو الله تعالى، حيث أنزل قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أي: بشرك أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
وهذا ما دفع القرطبي رحمه الله إلى أن يقول: إن هذه الآية أرجى آية في كلام الله؛ لأن الله أثبت فيها أن من مات على التوحيد ولم يشرك بالله شيئاً تكفل الله له بالأمن يوم القيامة، وبالهداية في الدنيا فقال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
معنى: (وتلك حجتنا) أي: هذه الحجة الدامغة المظهرة للحق المضيعة للباطل إنما آتاها الله جل وعلا إبراهيم.
ثم ذكر تعالى ما وهبه لإبراهيم من الأنبياء من ذريته، والمذكورون هنا ثمانية عشر نبياً، وفي القرآن خمسة وعشرون نبياً، منهم سبعة في غير هذه الآية نظمهم الشاعر فقال:
في تلك حجتنا منهم ثمانية من بعد عشر ويبقى سبعة وهم
إدريس هود شعيب صالح وكذا ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ففي القرآن خمسة وعشرون نبياً ورسولاً، منهم ثمانية عشر مذكورون في سورة الأنعام في آية: (تلك حجتنا)، وسبعة في مواطن متفرقة، كما أن هؤلاء الثمانية عشر ذكروا كذلك في آيات أخر.
وأحياناً تفتخر القبيلة كلها بواحد، يقول ابن الرومي -وهو شاعر عاش في عصر بني العباس- وكان رجلاً يتقلد الشؤم ويتطير-:
كما علت برسول الله عدنان
فعدنان عزها هو كون النبي صلى الله عليه وسلم منها، ولذلك يقال: النبي الهاشمي العدناني.
والذين قالوا: إن الضمير يعود على نوح قالوا: دليل ذلك الصناعة النحوية، وذلك أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو نوح، واحتجوا كذلك بأن الله جل وعلا ذكر لوطاً، ولوط ليس من ذرية إبراهيم؛ لأنه ابن أخيه.
فأجاب الأولون فقالوا: إن كون لوط ابن أخ له لا يمنع أنه ابن له، فإن الله سمى في كتابه العم أباً، قال الله جل وعلا: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133]، ومعلوم أن القائلين هنا هم أبناء يعقوب، وإسماعيل عم ليعقوب؛ لأن أباه إسحاق، فسمى الله العم أبا في كتابه العظيم، وهذه حجة من قال: إن الضمير يعود على إبراهيم.
ولا يوجد مرجح نجزم به في الآية، فالآية تحتمل هذا وتحتمل هذا، وإن كان أكثر العلماء على أنها عائدة على إبراهيم باعتبار أن السياق يتحدث عن إبراهيم.
إذاً: لم تعن الآيات بالترتيب التاريخي، ولم تعن الآيات بترتيب الفضل ومنازلهم؛ لأن الله جل وعلا ذكر داود وسليمان ثم ذكر عيسى، وعيسى أفضل من داود وسليمان؛ لأنه من أولي العزم من الرسل، فإما أن يقال: إن الآية لم يكن يقصد منها التصنيف، وإما أن يقال: يقصد منها تصنيف تاريخي، وقد نفيناه، أو تصنيف حسب الفضل، وقد نفيناه.
فإن قال قائل: يقصد منها التصنيف فلابد من أن يقول لنا: على أي شيء صنفت.
والأظهر -والعلم عند الله- أنها صنفت على القياس التالي:
فالله يقول عن المجموعة الأولى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [الأنعام:84]، فهؤلاء الخمسة يجمعهم شيء واحد، وهو أن الله أعطاهم سيادة في الدنيا، فداود وسليمان كانا حاكمين، وموسى وهارون كانا حاكمين لبني إسرائيل، وأيوب كان مريضاً مبتلى ثم أصبح غنياً مطاعاً، قال الله: وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الأنبياء:84]، انتهى به الأمر إلى الثراء، وجاء في الحديث: أن الله أنزل عليه رجل جراد من ذهب، فهؤلاء أعطوا حظاً كبيراً من الدنيا.
ثم قال الله بعدها: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ [الأنعام:85]، وهؤلاء يجمعهم الزهد وترك الدنيا، والانقطاع التام إلى الله، والانقطاع التام إلى الله حاصل في كل الأنبياء، ولكن هؤلاء لا يعرف عنهم ثراء، ولا يعرف عنهم جاه باعتبار الأمر والنهي والقضاء بين الناس.
ثم قال الله: وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:86]، فهؤلاء ليسو معدودين فيمن أوتي حكماً وسلطاناً وليسو معدودين في الزهاد من الأنبياء الذين انقطعوا، فجاءوا في المرحلة الوسطى، ولهذا أفرد الله ذكرهم فقال: وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:86].
إذاً: أصبح التقسيم بحسب ما أفاء الله جل وعلا به عليهم وما خصهم به، وليس بقضية الفضل ولا بقضية التأريخ، وهذا التقسيم ارتضاه المراغي في تفسيره، وهو تقسيم جيد، والعلم عند الله.
وعلى هذا تتحرر مسألة، وهي هل ابن البنت يعد ابناً أو لا يعد ابنا؟
أما كونه يعد ابناً من حيث العموم فهذا ظاهر دلت عليه الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن بن علي : (إن ابني هذا سيد).
وتظهر فائدة الخلاف في مسائل الوقف، فلو أوقف موص مالاً على أبنائه، فهل يدخل ابن البنت أو لا؟ والفصل هنا عند القضاء، فطائفة من العلماء قالت بدخوله، وطائفة من العلماء لم تقل بدخوله، وقد قيل:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
هذا كلام العرب، يقول أحدهم: الابن الحقيقي هو ابن ابني، أما ابن بنتي فليس ابناً لي، بل هو ابن رجل بعيد، فأبناؤنا الحقيقيون هم بنو أبنائنا، وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد.
ليسوا أبنائي واضح؟ مع أن المرأة تقرب -كما هو معلوم- لكن من حيث العموم هؤلاء قوم يقولون: إن ابن البنت لا يسمى ابناً، وفصل الخطاب في هذه القضايا في المحاكم الشرعية بحسب ما تختار من فتوى، ولكننا نحرر هنا أن الآية لما ذكر فيها ابن مريم عليه السلام ذكر فيها قول الله جل وعلا: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ [الأنعام:84]، فهو من ذرية إبراهيم رغم أنه ابن بنت.
ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه كان له ابن اسمه عبيد الله بن عمر ، فجاءته ذات يوم امرأة تقول له: إن زوجي لا يطعمني ولا يكسوني، فقال: ومن زوجك؟ قالت: أبو عيسى ، فقال مازحاً: سبحان اللهَ! وهل لعيسى أب؟! ثم قال لها: من زوجك؟ قالت: ابنك عبيد الله . فغضب، وأرسل أسلم غلامه، وقال: اذهب إليه وقل له: إن أباك يريدك، فذهب أسلم إلى عبيد الله بن عمر فوجده يتغدى على دجاجة وديك هندي، فقال له: إن أباك يريدك، وكان عمر إذا بعث أحداً إلى أحد أبنائه يقول له: لا تقل له ما يريدك له أبوك حتى لا يلقنه الشيطان كذبه، فإذا عرف ما يريد منه أبوه بيت ما يجيب، ولكنه إذا قدم بين يدي أبيه وسأله أبوه فجأة لا يستطيع أن يحتال لنفسه، ولكن عبيد الله فطن لها، فقال لـأسلم أخبرني، فقال: إن أمير المؤمنين منعني. فقال: أعطيك الدجاجة والديك. فطمع أسلم وهو يومئذٍ غلام فيهم، فقال: على ألا تخبر أمير المؤمنين. فقال: على ألا أخبر أمير المؤمنين. فأخبره بالقصة، وهي أن زوجته جاءت تشتكي إلى عمر ، فعاد أسلم إلى عمر ، فسأله عمر : أوجدته؟ قال: نعم، ففطن عمر لكون أسلم أخبر عبيد الله ، فقال: أخبرته؟ فمن هيبة عمر لم يستطع أسلم أن ينفي، فقال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: أرشاك؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين، فضربه بالدرة، ثم لما قدم إليه ابنه عبيد الله عاتبه عمر وقال له: تتكنى بـأبي عيسى ، وهل لعيسى أب؟! وذلك لأن الله سماه عيسى ابن مريم، فالكنية هنا غير ملائمة.
فأنبياء الله جل وعلا هم في الذروة من الخلق، وأفضل من الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ومن ذرية إسحاق جاء يعقوب عليه الصلاة والسلام، ويعقوب هو المسمى في القرآن إسرائيل، وبنو إسرائيل أبناء ليعقوب، وهم أبناء لإسحاق، وإسحاق أخ لإسماعيل، والعرب من ذرية إسماعيل، وفي الحديث: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً).
وبذا أصبح اليهود والعرب أبناء عمومة؛ لأن إسحاق عليه السلام كان أخاً لإسماعيل على الخلاف في أيهما الذبيح، وهذا لا يعنينا هنا.
وذكر تعالى أيوب ويوسف وموسى وهارون، ويوسف عليه الصلاة والسلام وصل إلى مرتبة الوزارة، ولكنه وصل بخلاف وصول داود وسليمان، فقد وصل إليها بعد ابتلاء، وحلقات دامية من العناء، حتى أجلسه الله جل وعلا على الكرسي فاشتاق إلى ربه فقال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [يوسف:101].
وبقي أن نختم بفائدة، وهي أن إخوة يوسف صنعوا بيوسف ما صنعوا ثم استعطفوه فقالوا: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91]، ومع ما صنعوه معه عفا عنهم، فإذا كانت هذه رحمة يوسف بمن صنع معه ذلك، فكيف برحمة من خلق يوسف؟!
فالذل والانكسار والاعتراف لله بالتوحيد والإذعان لله جل وعلا مع الاستغفار باب عظيم لنيل رحمته تبارك وتعالى، قال الله جل وعلا عن نبيه الصالح: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]، فنستغفر الله ونتوب إليه.
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعاننا الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر