وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه أولى الحلقات التي نسجلها في شهر شوال بعد قضاء شهر رمضان بحمد من الله وفضل، وكنا قد تحدثنا في اللقاءات التي سلفت عن سورة الأحزاب، وانتهينا إلى قول ربنا تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الأحزاب:7-8].
الله جل وعلا في هذه الآية عد خمسة من الرسل، رغم أننا نعلم أن الأنبياء والمرسلين جمع غفير، لكن العلماء فهموا من هذه الآية والآية الأخرى التي في سورة الشورى أن هؤلاء الخمسة من الأنبياء الذين نص الله على ذكرهم دون غيرهم جعلوها قرينة على أنهم أولوا العزم من الرسل، فجمهور أهل العلم على أن أولي العزم من الرسل خمسة: نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم حسب ظهورهم الزمني: نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى بن مريم، ثم نبينا صلى الله عليه وسلم.
أما ترتيبهم في القرآن فقد جاء على النحو التالي:
قال الله جل وعلا في السورة التي بين أيدينا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ -هذا إجمال- ومِنْكَ [الأحزاب:7]، فبدأ بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم عددهم فقال: وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى [الأحزاب:7]، حسب ترتيبهم الزمني.
لكنه في آية سورة الشورى قال جل جلاله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى:13]، فبدأ بنوح، فلماذا قدم نوحاً في آية الشورى، وقدم محمداً صلى الله عليه وسلم في آية الأحزاب؟ والعلم أن يوجد إشكال ثم نحاول أن نجيب عن هذا الإشكال، فنقول: قدم نوحاً في آية الشورى؛ لأن الحديث كان عن العقيدة والدين، والعقيدة والدين من حيث الجملة أولى من الأشخاص، فقدم أول من بعث بالدين وأرسل به وهو نوح عليه الصلاة والسلام، والمعتقد والدين باقيان بخلاف من يحمل الدين من الأنبياء والمرسلين والصالحين فإنهم غير باقين؛ ولهذا قال الله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144].
أما آية الأحزاب التي نحن بصدد الحديث عنها فليس فيها حديث عن المعتقد والدين، وإنما فيها ما أخذ الله من ميثاق على النبيين، فبدأ الله جل وعلا بنبينا صلى الله عليه وسلم فقال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7].
كذلك اختلف العلماء في ماهية الميثاق: فبعض أهل الفضل من العلماء يحصره في آية آل عمران، في قول الله تبارك وتعالى لما ذكر أنه أخذ على الأنبياء والمرسلين: لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران:81]، ونحن نعتقد أن هذا الحصر غير صواب؛ لأنه أخرج منه النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يخاطب بنصرة نفسه، لكن المقصود بالميثاق فيما نحسب وعليه أكثر أهل العلم: كل الدين، وجميع ما بعث الله جل وعلا به أنبيائه ورسله من صحة المعتقد وكمال الشرائع، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7]، ووصف الله جل وعلا هذا الميثاق بأنه غليظ؛ لأنه محتوٍ على أعظم ما يتعبد الله جل وعلا به وهو توحيده تبارك وتعالى.
ثم قال الله: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ [الأحزاب:8]، واللام هنا عند النحاة: لام كي؛ أي: لكي يسأل جل وعلا الصادقين عن صدقهم، والصدق مع الله جل وعلا أعظم طرائق القربى منه، قال الله جل وعلا في سورة التوبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وقال الله جل وعلا في خاتمة سورة المائدة: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119]، والصدق مع الله جل وعلا أعظم وسائل القربى منه تبارك وتعالى، ليسأل الصادقين عن صدقهم، ولما كان أهل الكفر ليس لهم مع ربهم إلا التكذيب فليس لهم عنده إلا العذاب الأليم، قال الله جل وعلا: وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الأحزاب:8]، هذا كله يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم، ويبين له المواثيق التي أخذها الله جل وعلا عليه.
قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9]، مهما بلغ تدبرنا للقرآن ويقيننا به وإيماننا به فلن يبلغ مرحلة ما كان عليه الصحابة من استشعار تلك النعمة؛ لأنهم خاضوها عياناً، ورأوا هول الأمر وشدته وكربته وعظيم الخطب، فعندما ينزل القرآن بعد أن كفى الله المؤمنين القتال، وأجلي الكفار إلى ديارهم، قال الله: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [الأحزاب:25] كما سيأتي، يجد المؤمنون الفرحة والغبطة والنعمة، فعندما تأتي الآية تقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا -وهذا نداء كرامة- اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [الأحزاب:9]، يكون تذكيرهم بنعمة الله واقعاً في محله؛ لأنهم عاشوا هذا الكرب، وعاشوا كيف أجلاه الله تبارك وتعالى عنهم.
قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ [الأحزاب:9]، هذه ظرفية لا تحدد بزمن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ [الأحزاب:9]، وهم الأحزاب، قريش ومن وافقها في حرب النبي صلى الله عليه وسلم من الأحابيش ومن غطفان ومن بعض أهل نجد وغيرهم من قبائل العرب مع تآمر اليهود، كل أولئك أرادوا محاربة النبي صلى الله عليه وسلم واستئصال الإسلام في المدينة، فقال الله عز وجل للصالحين من عباده، والصحابة في المقام الأول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا [الأحزاب:9]، والجنود الثانية -أيها المبارك- غير الجنود الأولى، فالجنود الأولى: جنود الأحزاب، أما الجنود التي لم تر فهي منصرفة إلى الملائكة في أكثر أقوال أهل العلم، قال الله تبارك وتعالى: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا [الأحزاب:9].
وقد ذهب مجاهد وهو أحد المفسرين: إلى أن الريح هنا: ريح الصبا، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور)، ومن حيث الصناعة اللغوية -أيها المبارك- فالصبا ريح تقابلها الدبور، لكن الصبا بالكسر مرحلة من مراحل وأطوار العمر، أما الصبا فهي ريح نصر بها النبي صلى الله عليه وسلم.
وأنت لو تصورت الحال آنذاك لوجدت أن الخندق هو الذي كان يفصل بين النبي صلى الله عليه وسلم والأحزاب، ومع ذلك فهذه الريح التي هي الصبا من كونها معجزة له صلى الله عليه وسلم كانت تضر خصومه ولا تضر أصحابه، رغم أنه وأصحابه قريبون منها عليه الصلاة والسلام، فليس بينهم وبين قريش ومن معها إلا عرض الخندق، ومع ذلك كانت تلك الريح فيها من الإفساد لأهل الإشراك وليس فيها من الضرر لأهل الإيمان، فإن قلبت الطرف أو الفكر في سبب هذا فتذكر قول الله جل وعلا: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ [الكهف:17]، فالله جل وعلا على كل شيء قدير.
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9] قلنا: أجلاء أهل التفسير على أنهم: الملائكة، وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب:9]، ثم قال الله: إِذْ جَاءُوكُمْ [الأحزاب:10]، (إن) هذه بدل من إذ الأولى، أو تخصيص لها، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ -أي من فوق الوادي- وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:10] أي: من أسفل الوادي، نجد المدينة من جهة الشرق، ومكة ومن حولها بالنسبة للمدينة يأتونها من الجنوب، لكن يأتونها من جهة الغرب، ففريق الهجرة الآن يتجه غرباً، والذي يعنينا أن قريشاً والأحادبيش ومن معهم كان لهم طريق يأتون منه إلى المدينة، ونجد وعيينة بن حصن وغطفان وغيرهما كان لهم طريق آخر، فاجتمعوا جميعاً في الشمال الغربي للمدينة، لكن قبل ذلك كانت قريش أقرب إلى غرب الوادي، وعيينة بن حصن ومن معه كانوا إلى شمال شرق الوادي أقرب، فلهذا قال الله: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:10]، وهذا كله حول جبل سلع إن كنت قد قدمت المدينة، فالخندق مكانه إلى الشمال الغربي من جبل سلع، والمدينة غنية بالجبال، فجبل سلع لم يرد فيه أثر يحمد فيه أو يذم.
وأما أحد فجبل ورد المدح فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (أحد جبل يحبنا ونحبه)وارتقاه صلى الله عليه وسلم، وجبل عير في جنوب المدينة، حد له واشتهر بين العامة أنه جبل من جبال النار، لكن لم يثبت في هذا حديث، والذي يحفظ المدينة بحفظ الله من الشرق والغرب الحرتان المعروفة: باللابتين، وقد ورد معكم في الحديث: (والله ما بين لابتيها) أي: حرتيها، الشرقية والغربية.
والحرة الشرقية إذا استقبلتها وجعلت الغرب وراءك تستقبل طلوع الشمس، هنا أستطرد قليلاً، موقعة الحرة التي وقعت في زمن يزيد بن معاوية كانت المدينة محصنة، وكان سكان آل المدينة آنذاك تحصنوا حتى لا يقتحم جيش مسلم المري عليهم، فبقيت ثغرة جهة الشرق، فجاء رجل مسلط غير موفق فسلط جيش يزيد جيش مسلم بن عقبة المري على هذه الثغرة من جهة الشرق، وقال له: ائت أهل المدينة مع طلوع الشمس، فإذا بالجيش جاء أهل المدينة من جهة الشرق، فسيصبح على أهل المدينة حتى يواجهوه أن يستقبلوا الشمس، فإذا استقبلوا الشمس حال طلوعها أثرت في أعينهم، فلا يستطيعون أن يروا العدو، وإنما يرون الرماح والسيوف تتلألأ في أيديهم، فيزدادون رعباً وخوفاً؛ لأن الشمس تظهر السيف أشد مما هو فيه، وتظهر الرمح أشد حداً مما هو عليه، وفي نفس الوقت لا يبصرون العدو ولا يميزونه؛ لأن الشمس في أعينهم، كحالك الآن لو جلست في مكاني ونظرت في هذا المصباح، ولو تأملت النظر فيه وأدمنت النظر فيه لتعطلت منافعك بعينيك، فكذلك أهل المدينة في موقعة الحرة كانوا يستقبلون الشمس، في حين أن خصومهم كانت الشمس وراء ظهرهم لا تبغيهم؛ لأنهم ما داموا قد أتوا من جهة المشرق فسيستقبلون المغرب، ومعلوم أنه تكون في المغرب شمس؛ لأنها خلف أظهرهم، هذا المقصود من المكر والخديعة في الحروب.
أما هنا في موقعة الأحزاب فلم يكن للقرشيين ولا من معهم أن يأتوا من جهة اللابتين، فقد كانت محصنة، فما بقيت إلا ثغرة في جهة الشمال الغربي وهي التي حفر النبي صلى الله عليه وسلم فيها الخندق، قال الله تعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10]، فالله جل وعلا هنا يصور هول الأمر، في أن الأبصار أصبحت لا ترى إلا العدو، فقد مالت عن كل شيء إلا عدوها، ومعلوم أن القلب لا يمكن أن يتحرك من مكانه ويصل إلى الحلق، فطبياً هو مكانه جسدياً، لكنها كناية عن شدة الهلع والخوف.
ثم قال الله جل وعلا: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10]، ويتساءل المرء ما هي الظنون التي ظنت؟ الناس -يا بني- حسب إيمانهم يكون ظنهم، فأهل النفاق وضعفاء الإيمان كان ظنهم بالله ظن السوء، وأما أهل الإيمان والتقوى فكان ظنهم بالله ظناً حسناً، لكن لا يمنع أن يأتي إنسان من أهل الإيمان فيخاف على نفسه من معصية كانت فيه أن يخذله الله بتلك المعصية؛ لأن الله لا ملزم عليه، يعني: لا يمانع أن يكون هناك مؤمن ويخشى من معصية أن يخذله الله جل وعلا ويحاسبه بتلك المعصية، هذا ظن زيادة على ظن أهل النفاق بالسوء وظن أهل الإيمان القوي بالتقوى، بنصرة الله لهم، وقد يأتي ظن الرابع: وهو أن المؤمنين الذين على يقين وإيمان ربما ظنوا أن الله جل وعلا أجل نصرهم، وابتلاهم بأن يقتلوا، وليس هذا ببعيد، فإنه ليس لزاماً أن ينصر نفس الجيل، فهذه كلها ظنون مجتمعة، أحياناً بحسب التقسيم العام، وأحياناً بحسب تقسيم الأفراد، فكلها كانت موجودة حال غزوة الأحزاب وتآمرهم على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الله جل وعلا يبين أحوال الناس في تلك الحالة التي أحاطت بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، الواو في قوله جل وعلا: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا [الأحزاب:12]، واو عطف، ومن قواعد اللغة: أن العطف يقتضي المغايرة، بمعنى: أن المعطوف غير المعطوف عليه، فعندما نقول: العطف يقتضي المغايرة بمعنى أن الأصل أن المعطوف غير المعطوف عليه.
الله يقول: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب:12]، السؤال هنا: هل المغايرة هنا في الذوات أم في الصفة؟
إذا قلنا: إن الواو هنا تقتضي المغايرة في الذوات يصبح معنا فريقان: منافقون وفي قلوبهم مرض، فالمنافقون هم من أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، ومن في قلوبهم مرض: هم من في قلوبهم شك وريب وحسد، وغيرها من أمراض القلوب، لكن لم يصلوا إلى مرحلة النفاق، لكنهم مهيئون لأن يصلوا إليه، هذا التغاير تغاير في في الذوات.
الحالة الثانية: أن يكون التغاير في الصفات، فيصبح الله جل وعلا يتكلم عن طائفة واحدة، في هذه الطائفة اجتمعت صفتان، صفة النفاق، وصفة مرض القلوب، فتصبح الواو واو عطف بالاتفاق، والعطف للمغايرة، لكن المقصود هنا: التغاير بالصفات لا التغاير في الذوات، وبكل قال العلماء، والآيات تحتمل الوجهين.
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ -ماذا قولوا:- مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، يقال: إن الذي قال هذا رجل يقال له: أوس بن قيضي ، ومن العجب أن هذا الرجل أنجب ابناً حتى تعلم أن الله يقول: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام:95]، أنجب ابناً بعد ذلك اسمه عرابة ، وعرابة هذا بلغ شأواً بعيداً في المجد والكرم والفضل ونفع الناس، بخلاف أبيه، حتى قال فيه الشاعر:
رأيت عرابة الأوسي يسعى إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
المقصود: أن هذا الرجل الذي قال: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، أنجب ابناً بلغ في المجد شأواً بعيداً، ومن هنا يعلم أنه أحياناً يجتهد الأب والوالد في تربية ابنه فيكون الابن بخلاف ما يريده أبوه، وقد يكون أب لا يعطي ابنه من الرعاية والعناية والتأديب شيئاً فيأتي الولد بخلاف ما ظن أبوه، فيصبح من المسابقين في الخيرات، المنافسين في الطاعات، وقد -وهو الغالب- يحرص الأب على تربية ابنه وتعهده ورعايته فيقر الله عيني الأب بصلاح الابن، وقد يقع أن أباً يهمل ابنه ولا يرعاه ولا يتعهده فيقع الابن ضائعاً؛ لأنه لم يجد أحداً يتعهده، وقد قيل:
وليس النبت ينبت في جنان كمثل النبت ينبت في ثلاث
وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي الناقصات
الآن النبت الذي في الشوارع، أو في الصحاري الذي لا يتعاهده أحد لا يمكن أن يكون كالنبت الذي يعنى به ويهذب ويشذب ويسقى حيناً بعد حين، هذا معنى قول الشاعر :
وليس النبت ينبت في جنان ( أي في حدائق) كمثل النبت ينبت في ثلاث
وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي الناقصات
نقول: نعم يرجى؛ لأن الله جل وعلا أخرج من ظهر آزر وهو من أكفر الكفرة إبراهيم، وأخرج من ظهر نوح وهو شيخ المرسلين ابنه كنعان وهو من أكفر الكافرين، لكن التوفيق بيد الله تبارك وتعالى، قال الله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، الغرور: إظهار المكروه بصورة الشيء المحبوب، والذي دفعهم إلى هذه المقولة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يداهم الكفار المدينة أخذ صخرة فكان صلى الله عليه وسلم بعد أن يضربها ثلاث ضربات يكبر، ويقول: (الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، وأعطيت مفاتيح أبواب صنعاء، وقصور الشام)، فأخبر بها صلى الله عليه وسلم كلها.
فهذا الوعد منه صلى الله عليه وسلم زرع التفاؤل في قلوب أصحابه، فلما داهمهم الأحزاب وضاق عليهم الأمر، ولم يستطع أحدهم أن يذهب ليقضي حاجته قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12].
فإن مما أثبته العلم الحديث حالياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في كثير من الآثار بعث رجلاً إلى اليمن وقال له: (اذهب إلى أصل حديقة غمدان) وأخبره عن القبلة فقال صلى الله عليه وسلم: (فاستقبل بها جبل ضين) سمى له جبلاً، وضع كذا عن يسارك صخرة وصخرة كذا عن يمينك، فذهب الرجل -وهذا في زمن النبوة- ووصل إلى صنعاء وأتى إلى الحديقة التي في أصل جبل غمدان، وجاء إلى الجبل الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم واستقبله وأتى للصخرات من جهة يمينه وشماله وهو واقف يستقبل القبلة وحددها وبنى المسجد، فإلى الآن والأمر لا جديد فيه، في هذا العصر الحديث، في عصر الإعجاز العلمي ظهر ما يعرف بالأقمار الاصطناعية التي تصور، وظهرت شبكات الإنترنت، وظهرت المواقع التي تصور الحدود والأماكن، ومعلوم أن هذه الآلة ليس لها علاقة بالمعتقد، وإنما مبرمج فيها حسب الأقمار الصناعية، وحسب تحريك الأصابع، فلو حركها مؤمن أو حركها ملحد فالنتيجة واحدة؛ لأنه لا علاقة لها بالمعتقد، وجيء إلى هذا المسجد -وهذا صنعه الشيخ عبد المجيد الزنداني - وأخرج سهماً من قبلته ثم حسب البرمجة العالمية وفق خطوط الطول والعرض، ولم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أحد يعرف خطوط الطول والعرض، أخرج هذا السهم ليبرر علمياً أين ينتهي السهم؟ فخرج السهم مستقيماً من ذلك المسجد الذي بني في عهد النبوة حتى اخترق الجبل هذا الذي استقبله الصحابي بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: مر من بينه حتى وصل إلى مكة، ثم مضى بالسهم والناس تنظر في حفل أقيم في الكويت، والسهم هذا تلقائي، ثم أتى المسجد الحرام فاخترقه، ثم أتى الكعبة وانتهى السهم إلى ما بين الركنين، ما بين الحجر الأسود والركن اليماني، وهذه معجزة نصر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في هذا الزمان، ونحن نعلم يقيناً أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، لكن بلا شك أن مثل هذا وظهوره في هذا الزمن يزيدنا إيماناً ويقيناً على الإيمان بنبينا صلى الله عليه وسلم، فنقول: كما قال الله كما سيأتي: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، فنحن لو كنا نتأمل حق اليقين فيما حولنا كل يوم ازددنا إيماناً، وكل ما حولنا يزيدنا قناعة وإيماناً، سواء كانت أحداثاً تجري، أو معالم ورواسي ثابتة أو قرآناً نتلوه، أو سنة نقرؤها، كل ذلك يدل على أن لا رب غير الله، ولا إله سواه، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم صادق فيما يقول، مصدوق فيما يقال له صلوات الله وسلامه عليه، هؤلاء المنافقون الذين ذكرهم الله جل وعلا هنا وقعوا في أول ابتلاء وامتحان فارتدوا عن دينهم؛ لأن الإيمان أصلاً لم يدخل قلوبهم، قال الله جل وعلا: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، وقلنا: إن الذي دفعهم إلى هذا القول: أن النبي صلى الله عليه وسلم مناهم بفتح فارس أو الشام واليمن، ثم عجز أحدهم أن يذهب ليقضي حاجته؛ لأنهم كانوا ينظرون إلى أن المسألة مسألة وقتية، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم: إني في معركتي هذه، أو في أيامي هذه ستفتح لكم الشام وفارس وصنعاء، بل هو أمر تركه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحدده، ثم ما لبث الله جل وعلا أن أفاء عليهم في خلافة الصديق وخلافة الفاروق بأن دخلوا أكثر مدن فارس وأكثر مدن الروم، بل صارت اليمن كلها في حوزة المسلمين وفي خلافتهم، كما وعد الله ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر