إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة الإسراء [49-61]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أنكر المشركون البعث بعد الموت زاعمين بعقولهم المريضة استمالة عودة الأجسام حية بعد أن أصبحت عظاماً ورفاتاً، فكان ذلك أحد أسباب كفرهم، وما عرف هؤلاء أن الخالق على غير مثال سابق من السهل عليه أن يعيد ما خلقه مرة أخرى، كما أخبر بذلك سبحانه في أكثر من آية، ولقد أخبر الله كذلك في هذه الآيات عن مشهد يوم القيامة والبعث بعد الموت، ثم حذر المؤمنين عباده من اتباع طرائق الشيطان، وبين أنه فضل بعض الأنبياء على بعض، ثم بين عناد الكافرين واستكبارهم، وأن تكذيبهم مانع من إرسال بعض الآيات الدالة على صدق رسله فيما يبلغونه عنه سبحانه، ثم ختم هذه الآيات ببيان أن الشيطان لا سبيل له على المؤمنين، وإنما سلطانه على مواليه وأتباعه فقط، والله أعلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً... إلى قوله: قل عسى أن يكون قريباً)

    إن الحمد لله نحمده ونستينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذا اللقاء الخامس حول سورة الإسراء، وكنا قد انتهينا إلى قول ربنا جل وعلا: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء:49-51].

    نقول مستعينين بالله جل وعلا: إنكار البعث مسألة تأصلت عند المشركين الأوائل، ولهذا قال الله عنهم: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن:7]، وفي هذه الآية يقول الله جل وعلا عنهم أنهم قالوا: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء:49]، يتساءلون تعجباً واستنكاراً، وإلا فهم لا يؤمنون بالبعث أصلاً، أي: كيف يعقل أن تدب فينا الحياة ونبعث وقد أضحينا عظاماً ورفاتاً؟! قال الله: قُلْ كُونُوا [الإسراء:50]، وقل هنا: مزيد اختصاص، والآية تتكلم عن البعث والإيمان بالبعث واليوم الآخر أحد أركان الإيمان: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا [الإسراء:50] قد يقول قائل: ما علاقة الحجارة والحديد بالعظام والرفات؟

    عقلياً: هذه العظام وهذا الرفات أصلاً كان خلقاً تدب فيه الحياة، ثم ماتوا ثم أصبحوا عظاماً ورفاتاً، أما الحجارة والحديد فلم تكن أصلاً أحياء، فالله يريد أن يقول لهم: إن الأمر ليس بمعجز لله تعالى، فلو فرضنا جدلاً: أنكم كنتم حجارة ليست فيها حياة أصلاً من قبل، أو كنتم حديداً ليس فيه حياة من قبل لاستطاع الله جل وعلا أن يحييكم ويبعثكم، فكيف وقد كنتم أصلاً أحياءً؛ لأن هذا العظام أصلاً خارج عن حي.

    إذاً: ليست القضية قضية أنكم كنتم أمواتاً فأحياكم الله، بل القضية قضية قدرة إلهية لا يعجزها شيء، أي: أن قدرة الله لا يستعصي عليها شيء، والله جل وعلا لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فكونكم كنتم عظاماً أو رفاتاً أو كنتم حجارة أو حديداً أو ما يخطر ببالكم ويقع في أفئدتكم: أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ [الإسراء:51]، أي: يعظم فِي صُدُورِكُمْ [الإسراء:51]، فكل ذلك بالنسبة لله جل وعلا لا يعجزه، ومع ذلك فإن دلائل العقل بالنسبة إلى عقولكم: أن من قدر على الخلق الأول على غير مثال سبق قادر على الإحياء مرة أخرى من باب أولى، قال: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ [الإسراء:49-51] ليس فقط عظاماً ورفاتاً، بل كونوا أي شيء فإن الله قادر على أن يبعثكم.

    قال: أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا [الإسراء:51]، طبعاً سؤالهم سؤال تهكم، لكن كلما تهكموا وحادوا عن المجادلة ردهم الله إلى المجادلة الحق، هم يقولون ذلك تهكماً: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا [الإسراء:51] فلم يقل: قل الله، لكن حتى يذكرهم بمبدئهم قال: قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء:51] والمعنى واحد.

    فَسَيُنْغِضُونَ [الإسراء:51] أي: يحركون رءوسهم استهزاءً: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ [الإسراء:51] وكل ذلك سخرية، لكن الخطاب القرآني معهم يبقى جاداً كلما حادوا ردهم إلى الجادة فلا يجعل لهم مفراً، قال الله جل وعلا: وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء:51] وعسى من الله واجبة، والبعث قريب آت، فلذلك عبر الله عنه بقوله: قَرِيبًا [الإسراء:51].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده... إلى قوله: إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً)

    ثم قال ربنا: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ [الإسراء:52] للبعث، فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:52]، أي: يوم يدعوكم عن طريق ملائكته، ينفخ إسرافيل في الصور ويدعوهم الرب للبعث والنشور.

    قال الله جل وعلا: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [الإسراء:52] الباء هنا للإلصاق، قال سعيد بن جبير : إنهم ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لكنها لا تنفعهم يومئذ، وقال بعض العلماء ولعله أظهر: إنهم إذا بعثوا علموا أن الله هو الحق وتبين لهم ما كانوا يردونه من قبل فيقولون: الحمد لله، كما قال الله جل وعلا في خاتمة الزمر: وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]، ولا ريب أن في يوم القيامة ثمة كلمات تخرج من أهل الكفر لا يقصد منها التعبد ولا يثابون عليها، لكنهم يقولون ذلك لما رأوه من حقائق، ولما انكشف عندهم من غطاء.

    قال: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:52]، وهذا اللبث القليل ذكره الله جل وعلا في أكثر من آية: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [المؤمنون:112-113] والمقصود: أن أيام الدنيا تطوى حتى يراها الناس عشية أو ضحاها، قال: وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:52].

    قال الله بعدها: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53]، العلماء في هذه الآية مختلفين؛ لأن السورة مكية، فاستصحبها البعض على القول بأن الخطاب للمؤمنين وأنتم في مجتمع قرشي كافر، فاختاروا الخطاب الجميل معهم وإن أغلظوا عليكم؛ حتى لا تهيجوا الشر في أنفسهم، وحتى يكون ذلك أدعى لأن يدخلوا في دينكم، وهؤلاء قالوه مستصحبين قضية أن الآيات مكية في مجتمع قرشي، ولا يبدو لي أن هناك قرينة تدعو إلى هذا القول.

    والأظهر: أن الآية مخاطب بها المجتمع المؤمن، أما كيف تحمل على المجتمع المكي: فإن المؤمنين في مكة كانوا قلة، فهم أحوج إلى التكاتف والترابط، فالله جل وعلا يدعوهم في هذه الآيات إلى أن يبتعدوا عن الأقوال التي لا طائل من ورائها، والتي تحتمل الشر فينجم بعد القول فعل، فيكون خطاب المؤمن للمؤمن متحل بالصدق والاستعطاف، حتى لا يكون سبيلاً للشيطان في أن ينزغ بين المؤمنين فيضعفهم وهم أصلاً قلة في مجتمع الإشراك، ويمكن تطبيق هذه الآية حتى على المجتمع الأكثر.

    وَقُلْ لِعِبَادِي [الإسراء:53] والإضافة إضافة تشريف، وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53]، يختاروا الجميل من الخطاب، وقد أيدت السنة هذا المنحى، فجاء في السنة: المنع عن أن يشير الإنسان بالسلاح إلى أخيه المؤمن خوفاً أن ينزغ الشيطان فيه: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53] وأصل النزغ في اللغة: الطعن بسرعة، إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم... إلى قوله: وما أرسلناك عليهم وكيلاً)

    ثم قال ربنا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ [الإسراء:54]، وهذا تأديب للجماعة المسلمة في زمن الإشراك وفي كل آن وحين على ألا تتعجل بالحكم على أحد، قال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [الإسراء:54] والجملتان شرطيتان، والمعنى: إن يشأ يرحمكم بتوفيقكم للطاعة، وإن يشأ يعذبكم بخذلانكم عن الوصول للإيمان والطاعة والعمل الصالح.

    والمقصود من الآية: أن المؤمن لا يتعجل في الحكم على أحد؛ لأن العبرة بالخواتيم: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [الإسراء:54]، فليست مهمة الرسل إلا البلاغ، فأنت لا تستطيع أن تجبر الناس قسراً على أن يدخلوا في الدين، وعليك وأنت في طريق دعوتك -أيها المبارك المتبع لآثار الأنبياء- ألا تعجل على الحكم على أحد، وثمة شواهد في هذا العصر قد لا يحسن فتح صفحاتها دلالة على أن العبرة بالخواتيم، وعلى أن الإنسان قد ينصرف قلبه إلى الطاعة ولو في أخريات حياته، قال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [الإسراء:54] .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض... إن عذاب ربكم كان محذوراً)

    ثم قال جل وعلا: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [الإسراء:55]، وتفضيل الله جل وعلا النبيين بعضهم على بعض ثابت بالكتاب والسنة، لكن دائماً الإشكال يكون في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على الأنبياء)، وما ورد من آثار في النهي عن التفاضل حمله بعض العلماء على أن هذا قبل علمه صلى الله عليه وسلم، لكن للعلماء فيه أقوال تصل إلى أربعة أظهرها: أن التفضيل في أصل النبوة غير موجود، فكلهم أنبياء، لكن ما أعطاهم الله من خصائص بعد ذلك وكرامات هذا الذي يوجد فيه التفضيل، ولهذا قال الله جل وعلا: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:253] والمشهور الذي عليه أكثر الناس: أن أفضل الأنبياء الخمسة من أولي العزم من الرسل: محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إبراهيم، ثم اختلف في الثالث فقيل: نوح، وقيل: موسى، وقيل: عيسى، ويدور الأمر بين هؤلاء الثلاثة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

    ثم قال الله: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [الإسراء:55] والإشكال: هو لماذا أقحم داود هنا؟ والأجوبة في هذا تختلف كلاً بحسب رؤيته، لكن خذ سورة مكية أخرى وهي سورة الأنبياء، فقد قال الله فيها: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، والزبور أنزل على داود، فكأن الله يقول للمؤمنين تأييداً وللمشركين توبيخاً: إنني عندما ذكرت داود هنا لأنبأكم أنني أنزلت على داود أن من القدر المحكم الذي سيبرم: أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، والعباد الصالحون الآن هم: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فاضطهادكم -أيها الكفار- لهؤلاء المؤمنين لن يغير من الواقع شيئاً فهم الذين سيرثون الأرض.

    هذا ما قاله البعض في سبب ذكر داود، وقال آخرون: إن الأمر غير ذلك، وجوابه عندهم: أن من علم سيرة داود علم أن أصله كان شاباً يرعى الغنم ثم ما لبث أن انخرط في جيش طالوت ثم آل الملك إليه ثم أعطاه النبوة والكتاب، كما قال الله: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [البقرة:251]، فتفضلنا على داود الذي كان مجرد راع غنم، ثم جند في جيش حتى آل به الأمر إلى أن أصبح نبياً والداً لنبي، وملكاً يتبعه ملك، هذا المقصود منه، أصبح المقصود منه: أن الله تعالى تفضل على محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت قريش تستكبر أن يكون يتيم أبي طالب نبياً رسولاً، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] هذان الوجهان اللذان ذكرهما أكثر العلماء حول مناسبة ذكر داود دون غيره من الأنبياء في قوله جل وعلا: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [الإسراء:55].

    ثم قال الله: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا *أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:56-57] هناك كشف، وهناك تحويل، والكشف: إزالة الضر بالكلية، أما التحويل: نقله من أحد إلى أحد، أو النقل من حالة إلى حالة، من غنى إلى فقر، من صحة إلى مرض، أو من مرض إلى صحة، الله جل وعلا يقول لهؤلاء القرشيين ناعياً على بعضهم ممن يعبد الصالحين أن الطريق الذي رسمتموه لأنفسكم طريق ضلال؛ لأن الذين أنتم تتوسلون إليهم هم في أنفسهم يطلبون الوسيلة من الله: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57]، وهذه الآية أحياناً بعض العلماء يطنب في تفسيرها، حتى قال بعضهم كما ذكره الطاهر بن عاشور في التحرير يقول: لم أجد فيها ما يشبع النهم، ويشفي الغليل. يعني: من أقوال المفسرين، لكن الحق: أنها ظاهرة المعنى، وأن الله جل وعلا يتعجب من صنيعهم هذا، وهذا نظير قول الله جل وعلا قبل قليل: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ [الإسراء:42] هذه قريبة بعضها من بعض.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها... وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً)

    ثم قال الله:وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الإسراء:58] هناك قيد لا بد من وجوده دلت عليه قرينة، فقوله: وإن من قرية أي: (كافرة) فلا بد من هذا القيد الذي فهمناه من سياق القرآن، والقيد أحياناً نأتي به إما لقرينة قريبة أو قرينة بعيدة، نأتي بمثال على القرينة القريبة:

    الله جل وعلا يقول في سورة الكهف: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79] فقيد لازم: أن نقول في كل سفينة (صالحة)، والقرينة: أنه قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] وإلا فلا فائدة من أخذه لكل سفينة.

    وهنا القيد غير موجود في الآية، لكنه بعيد نسبي، يعني: في آيات أخرى ليس في نفس السورة، قال الله جل وعلا: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا [الإسراء:58] وقد دل القرآن على أن الإهلاك بمعناه الشديد أو العذاب النازل لا يكون إلا على أهل الظلم، قال ربنا: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59]، وقال جل وعلا: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117] فكلها دلائل وقرائن على أن الإهلاك لا يقع إلا على قرية ظالمة كافرة، فإن سئلنا: لماذا أتينا بهذا القيد؟ قلنا قرائن القرآن تدعو إليه وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الإسراء:58] أي: أن من أرسلنا له آيات -كما سيأتي- واختبرناه وبلوناه وبقي على ظلمه وكفره أهلكناه، إما بالإهلاك العام، أو بالإهلاك الجنسي: كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الإسراء:58] .

    ثم قال الله: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ [الإسراء:59] والتقدير: فأهلكناهم، وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [ الإسراء:59] والمعنى العام: أن قريشاً طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم آية وقالت: أنت تزعم وتقرأ علينا في كتابك أن الأنبياء من قبلك يأتون بالآيات فنحن نطلب آية: وهي أن تجعل لنا الصفا ذهباً، وأزح عنا الجبال حتى تكون أرضنا أرض زرع، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه ذلك، فجاءه جبريل يخيره بين أن يجعل لهم الصفا ذهباً ويحقق لهم أمانيهم، لكنهم إن لم يؤمنوا أهلكهم عن بكرة أبيهم.

    وقد علم الله جل وعلا أن هذه الأصلاب الكافرة سيخرج منها أقوام يدعون إلى الله، فـالوليد بن المغيرة والقرآن يذمه ليل نهار خرج منه: خالد بن الوليد ، وأبو جهل نظيره خرج منه عكرمة بن أبي جهل، والخطاب كان كافراً وخرج منه عمر ، وأكثر الصحابة كان آباؤهم مشركين، فاستمهل صلى الله عليه وسلم وانتظر ورضي أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً؛ لأن النبي بما أنه خاتم الأنبياء فلا بد أن يكون له أتباع يحيون بعده ويحملون دينهم، وحفظ النوع من البشر والناس يكون بالتوالد والبقاء، فإهلاكهم عن بكرة أبيهم ضياع لجيل سيأتي بعدهم يحمل تلك الراية، فأبقاهم الله جل وعلا لسببين: إما لفئام ستؤمن منهم كما وقع لأكثر الصحابة كـأبي سفيان وغيره، وإما من مات منهم سيدرك ابنه الكبير فيؤمن بالله جل وعلا فيصبح ناصراً للدين، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنحى، وهذا ما فطر عليه -عليه الصلاة والسلام- من شفقة ورحمة على المؤمنين

    وأهلك قومه في الأرض نوح بدعوة لا تذر أحداً فأفنى

    ودعوة أحمد ربي اهد قومي فهم لا يعلمون كما علمنا

    نعود لما نحن فيه: الله يقول جل وعلا: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء:59]، هو لا يريد أن يقول: إن هذه الناقة تبصر، لكن معنى الآية: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء:59] أي: ذات دلالة واضحة، لكنهم -كما هو معلوم- كفروا بها كما حرره القرآن في مواضع أخرى: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59] .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا لك إن ربك... فما يزيدهم إلا ظغياناً كبيراً)

    ثم قال الله جل وعلا: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ [الإسراء:60] فجميع الخلق تحت مشيئته لا يخرجون عن قدرته تبارك وتعالى، ومادام الخلق في قبضته فلن يسلطهم عليك، ولهذا قال بعض العلماء: إن الآية فيها إخبار عن عصمة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا [الإسراء:60]، رد هذه الآية إلى صدر السورة: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] تكلمنا عن حديث الإسراء تفصيلاً، ومر النبي صلى الله عليه وسلم على المسجد الأقصى ورأى في الملكوت الأعلى ما أعطاه الله جل وعلا له، وهو في جميع أحواله ملتزم بالأدب، يقول الله: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]، فلما أصبح أخذ ناحية من نواحي البيت -والعرب في الجاهلية تجعل البيت موئلاً، والبيت مكاناً لاجتماع الناس؛ ولهذا قال أبو جهل : إني لأكثر أهل هذا الوادي نادياً، يعني: مجيباً النبي عليه الصلاة والسلام في صبيحة الإسراء والمعراج- ولم تكن الصلوات الخمس قد بدأت، فكان يصلي ركعتين قبل طلوع الشمس وركعتين قبل غروبها، فجاء وتنحى لوحده، فجاءه أبو جهل وكأنه رأى أن النبي على غير عادته فسأله فأخبره النبي بما وقع له عليه الصلاة والسلام، وهذا الرجل لما جبل عليه من الإشراك كان يملك جبروتاً عجيباً، وكان نحيلاً دقيق الشارب حاد النظر قلما يثبت أحد أمام ناظريه من قوة شخصيته، أدخلته قريشاً دار الندوة -وفي قوانين الجاهلية السابقة: أن دار الندوة لا يدخلها رجل دون الأربعين- وأدخل أبو جهل دار الندوة بعد سن المراهقة بقليل في العشرينيات؛ لأنفته وتوسمهم فيه قوة الشخصية.

    فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه لمح أن النبي على غير عادته -وقد كان ذاك- فأخبره النبي بما وقع، فقال اللئيم: يا محمد! أرأيت إن دعوت لك قومك تخبرهم بما أخبرتني به، والنبي عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على أن يبلغ دعوة ربه، قال: نعم، فأضحى ينادي الناس ليستمعوا لمحمد صلوات الله وسلامه عليه على خلاف عادته في أنه يطرد الناس عنه، كل ذلك يريد المكر برسول الله، والله قد علم أن المجتمع المكي سينتقل إلى المجتمع المدني فالجيل الذي سيهاجر إلى المدينة لا بد أن يمحص فلا بد من اختبار عظيم يمحص هذا الجيل الذي سيرحل إلى المدينة؛ لأن الإسراء كان قبيل الهجرة بفترة قريبة، فوقف ينادي: يا بني قصي! يا بني كعب بن لؤي! يا بني عبد مناف! هلموا إلي فاجتمعوا، فقال أبو جهل : استمعوا إلى أخيكم فحدثهم النبي صلى الله عليه وسلم فكان قوله فتنة عظيمة لهم.

    ولهذا قال الله: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ [الإسراء:60] أي: ما رأيته بعينيك في رحلة الإسراء والمعراج من عظائم الأمور التي قل ما يثبت لها قلب إلا من ثبتناه، وما أخبرت الناس به كافرهم ومؤمنهم كان فتنة لهم، ولهذا لما كان الصديق رضي الله عنه أعظم من ثبت في تلك الفتنة قلد القلادة العظمى فسمي بـالصديق ؛ لأنه تجاوز أعظم امتحان وأكبر فتنة وهي: فتنة الإخبار عن الإسراء والمعراج، قال: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء:60] .

    ثم قال الله: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [الإسراء:60] والشجرة الملعونة في القرآن: هي شجرة الزقوم، قال الله جل وعلا: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [الصافات:64]، جاء أبو جهل وأمثاله من كفار قريش وقالوا: قد وقع محمد في شر كذبه يقول لنا: إن النار التي يتوعدنا ويتهددنا بها تحرق الحجارة ثم يزعم أن بها شجرة يخرج منها طعام، والنار لا يثبت أمامها الشجر، فأخذوا يتهكمون وتناسوا أن الله قادر على ذلك؛ لأن خاصية الحرق عند النار يسلبها الله تبارك وتعالى من هذه الشجرة.

    ومن يعرف الله جل وعلا يعلم أنه يملك الأسباب ومسبباتها، وقد مر معنا أن التحريم قسمان: تحريم منع، وتحريم شرع، فتحريم الشرع ما أمرنا به: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3]، إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]، أما تحريم المنع: فما أذن الله فيه لسبب أن يقع فيمنعه الله جل وعلا، مثاله: الأصل في الأرض: أنها تأكل أجساد بني آدم، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (فإن صلاتكم تبلغني) تعجبوا وقالوا: كيف نصلي عليك وقد أرمت؟ فقال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) وهذا ليس تحريم شرع، بل تحريم منع، والأصل في شفتي الطفل أن تقبل ثدي المرضع: لكن الله قال في حق كليمه موسى :وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12] أي: منعنا شفتيه أن تقبل أثداء النساء.

    والنار يدخلها العصاة الموحدون فيحرم الله على النار أن تأكل من بني آدم مواضع السجود، فهذا كله داخل في تحريم المنع، وهذه الحادثة مثلها: فقد تناسوا أن الله جل وعلا له القدرة المتناهية، وانشغلوا بحدود تفكيرهم التي لا تعترف بقدرة ربهم ولا بعظمته.

    ولهذا من أخطاء الناس في التعليم: أنهم يقولون عند الحاجة أحياناً لا تبقى ملحة في توحيد الربوبية. والحق: أن قريشاً وإن كانت تعلم أن الله هو الخالق الرازق كما نطق بذلك القرآن، لكنها تقف عند هذا الحد فقط، ولا تعرف لله جل وعلا صفات الجبروت والملكوت والعظمة فلم يؤثر فيها هذا العلم، يعني: لا يكفي فقط أن نقول للناس: إن الله جل وعلا هو الخالق الرازق المنعم المتفضل، لكن ينبغي الحديث عن صفات الله جل وعلا، والإغراق في الحديث عن صفات الله تبارك وتعالى وآثارها في الخلق، حتى يعرف الناس حقيقة عظمة ربهم.

    فالجاهليون القرشيون الأوائل لما جهلوا هذا تهكموا بتلك الشجرة، قال الله: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [الإسراء:60] أي: جعلنا ذكر الشجرة فتنة للناس ليقولوا هذا الجواب متناسين أن الله جل وعلا خالق الأسباب والمسببات، وخالق كل شيء، ولما نظر المشركون في بابل بنفس الطريقة أتوا بإبراهيم فقيدوه بحبال ورموه في النار؛ لأن الأصل أن النار تأكل الأجساد فتلك الخاصية التي في النار سلبها الله منها وقال: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فكانت النار برداً وسلاماً وانقلبت خصيصتها من كونها تحرق إلى كونها تحمي، وهذا لا يقدر عليه إلا الله، والنار مخلوق استجاب لأمر خالقه، فلما استجابت النار لأمر خالقها لم تضر إبراهيم ولم تحرق منه شيئاً، والله قال: (على إبراهيم) ولم يقل: على غيره، فحرقت القيد الذي هو مقيد به، وكان قد ألقي في النار عرياناً، فلم يخرج بقيده، بل خرج يمشي على رجليه فانقلب الضرر نفعاً، والنفع ضرراً عليهم؛ لأن الأمور كلها يدبرها العلي الكبير في الملكوت الأعلى، وتلك حقائق قلما يجهلها مؤمن، لكن القليل من يحاول أن يستذكرها مرة بعد مرة، وهي ما يبني الإيمان بحق في القلوب.

    قال تعالى: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا [الإسراء:60]، وقد قلنا: إنه مر معنا قبل قليل أن الله جل وعلا أراد أن يستبقيهم فأبقى على التخويف ولم ينتقل معهم إلى مرحلة الإهلاك استبقاء لأصلهم؛ حتى يكون بعد ذلك منهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً كما وقع من كثير من أبناء الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم... وكفى بربك وكيلاً)

    ثم قال الله جل وعلا: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61] ذكر الله جل وعلا هنا قضية سجود الملائكة لآدم وامتناع إبليس، وهذه القصة مرت معنا كثيراً نأخذها هنا بما يناسب واقعها في سورة الإسراء: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء:62]، ومر معنا: أن الله جل وعلا كرم آدم بأمور أربعة: أولها: أنه خلقه بيده، والأمر الثاني: نفخ فيه من روحه، والأمر الثالث: أسجد له ملائكته، والأمر الرابع: أنه علمه أسماء كل شيء.

    فلا نقول إن الله جل وعلا كرم آدم بدخوله الجنة، وإن كان هذا تكريم، لكن كل مؤمن سيدخل الجنة، ولكن لن يقع لأحد من الخلق أنه خلقه الله بيده من بني آدم إلا آدم؛ فلهذا قلنا: إن يوسف على الشطر من جمال آدم: وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ [السجدة:9] ونسب الروح هنا إلى الله من باب إضافة التشريف، وأسجد له ملائكته والسجود هنا: سجود تحية لا سجود عبادة، وعلمه أسماء كل شيء، وهذا لا يعلم أن الله جل وعلا أعطاه أحداً من الخلق: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا [الإسراء:62-63] وهذا مر معنا كثيراً: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [الإسراء:64].

    ثم بين الله فضيلة التوحيد فقال: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:65]، يفهم منها أن المقصود أي: ليس له سلطان عام، بمعنى: ليس له أي نزغات على بني آدم، وهذا خلاف الصحيح حتى تظهر القضية؛ لأن هذه قضية قل الحديث عنها.

    النبي صلى الله عليه وسلم علم أمته حديثاً وذكراً يقال عند الجماع، وأخبر أنه إذا قدر في تلك الليلة ولد فإن الشيطان لا يضره، وليس المعنى: أنه لا يضره ألبته؛ لأنه لو قلنا: إن الشيطان لا يضره ألبتة فالمعنى: أن هذا المولود لن يعصي الله قط، وهذا محال، لكن المقصود هنا: أنه لا يصل به إلى الشرك.

    والله جل وعلا لم يعط أصلاً سلطان قوة للشياطين، فما قاله بعض القراء من نفوذ أمر الجن على بين آدم بهذا التوسع الذي نشاهده غير صحيح؛ لأن الله قال حكاية عن إبليس: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22]، فليس لإبليس ولا للجن سلطان ظاهر قوي على بني آدم كما يزعم وعاظ القراء.

    وإنما هي أمور مقدرة بقدر وحدود لا يمكن للجن أن يتجاوزوها وإلا لاضطرب ميزان الكون وناموس الدنيا، قال الله هنا: إِنَّ عِبَادِي [الإسراء:65] إضافة تشريف لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الإسراء:65] أي: لا سبيل لك ممن كتبت لهم النجاة أن تجعلهم مشركين بي؛ لأن كونهم إذا أشركوا لن ينجوا فلن يكونوا عباداً لله.

    فالله جل وعلا حافظهم ألا يقعوا في الشرك، أما ما دون ذلك فقد يقع منهم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم)، وحتى البدريون وهم أعلى الأمة مقاماً وقعت منهم معاص، لكنهم ماتوا على التوحيد وهم أجلاء الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، لكن لا مانع من وقوع المعاصي منهم، كما وقع من قدامة بن مظعون عندما شرب الخمر متأولاً، والذي يعنينا: الفهم الجيد للآية؛ فأحياناً الإنسان يبالغ في تزكية الناس، فإذا زكى أحداً قال له: هذا لا يقربه الشيطان، والدين ليس بالألفاظ العامية، ولا بالمدح، ولا بالقناعات، قال جل وعلا: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا [الإسراء:63] والآية هنا في مقام التخليد؛ لأن الخطاب لشيطان وأتباعه، والشيطان مخلد في النار، فهو يتكلم عن أهل الكفر ولا يتلكم عن أهل المعاصي.

    ولهذا فبعض العلماء عندما جاءت قضية يوسف عليه الصلاة والسلام قال: إن يوسف لن يقع منه الهم، ونحن نؤمن أن يوسف لن يقع منه الهم يقيناً، لكنها العبرة بالدليل يعني: عندنا أدلة تكفي بأن يوسف لن يقع به الهم فلا يحتاج إلى أدلة ضعيفة؛ لأنك إذا سقت أدلة ضعيفة مع وجود دليل قوي ضعفت الدليل القوي، فمثلاً: بعض من ينتسب للدين يبالغ في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه ما ورد من آثار صحيحة في الكتاب والسنة عن حب الله لنبيه كافٍ في حقه صلى الله عليه وسلم، فلا نحتاج لأن نجلب أشياء موضوعة نمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا يضعف تلك القوة، فقالوا: إن إبليس شهد أن يوسف لم يهم بالزنى، قالوا: إن الله قال في حق يوسف: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] وقال في مناظرته لإبليس: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الإسراء:65] إذاً: إبليس ليس له سلطان على يوسف في أن يبتليه، ولو كان للشيطان على يوسف سلطان لدفعه للمعصية، فإذا لم تكن في قلبه نوازع خير وشر فليست له منقبة في أنه امتنع؛ لأن المنقبة في التزام التكليف؛ ولهذا قال الله جل وعلا على لسان امرأة العزيز: فَاسْتَعْصَمَ [يوسف:32] واستعصم: تظهر أن هناك مغالبة من يوسف ليدفع الشر عن نفسه والأذى والفجور، ولما دافع عن نفسه الفجور ودافع عن نفسه الهم وحاربها وبعد عن نزغات الشيطان علي مقامه، وارتفع ذكره، وخلد الله جل وعلا عفافه عليه الصلاة والسلام.

    نعود للذي نريد أن أن نحرره: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الإسراء:65] ليس المعنى: لا سلطان لك عليهم ألبتة، وإنما المقصود: سلطان الإشراك، وإلا فكل أحد تقع منه المعصية إلا الخلاف حول الأنبياء، والذي يرجح أن الأنبياء معصومون من الصغائر والكبائر على السواء قوله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:65] وقد يندرج تحت الآية: أن من تقع منهم المعاصي من عبادي الذين كتبت لهم الخير والفضل والمآل الحسن تقع منهم بعد ذلك توبة، فينجم عن تلك التوبة قبولهم وبعدهم عن الشيطان، قال الله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201] .

    ثم جاءت الآيات بعد ذلك تعرف بالله جل وعلا، وهذا سنلتقي به في اللقاء السادس إن شاء الله.

    هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله جل وعلا على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد الله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768278907