إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة الإسراء [65-72]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يتكلم الله تبارك وتعالى في هذه الآيات عن حال الكفار إذا ضاقت بهم السبل، وجاءتهم الأعاصير، واضطربت بهم الدنيا، وكيف أنهم يلجئون إلى القهار وحده جل جلاله، ويكفرون بما كانوا بهم يشركون، وهو عز وجل حليم عليهم، يمهل الظالم، ولا يدري هذا المسكين أنه إذا أخذه لم يفلته، فإنه قوي شديد العقاب، ثم يذكر سبحانه أنه كرم هذا الإنسان، وسخر له من شواهد ربوبيته ما يدل عليه، وما يجعل القلب يصبو بحبه عز وجل، ثم يذكر حال الإنسان يوم القيامة، وكيف أن الناس يوم القيامة فريقان، فريق فرح مستبشر، وفريق منكسر مفضوح متحسر، وشتان بين الفريقين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    ففي هذا اللقاء المتجدد من هذا البرنامج المبارك: محاسن التأويل، كنا قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا في اللقاء الماضي: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:65].

    وهذه الآية جاءت بعد أن ذكر الله جل وعلا قصة إبليس وامتناعه عن السجود، ثم بين الله جل وعلا تلك القصة بقوله: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [الإسراء:64]، وهذا كله وضحناه في موضعه.

    ثم قال الله: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:65]، المقصود بالسلطان هنا أي: ليس لك عليهم سلطان في أن يقترفوا ذنباً يكون سبباً في خلودهم في النار على أن هذا لا يعلمه كل أحد بعينه، فالذين سبقت لهم من الله الحسنى إنما يعملون لما يسرهم الله جل وعلا أن يعملوا له، ولا يعلم أحد إن كان ممن سبقت له من الله الحسنى أم لا، إلا ما دل الشرع الحنيف عليه في كلام الله، أو على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم.

    ثم قال الله: وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:65]، من حيث صناعة المعنى: هذه الآية تحتمل في المخاطب ثلاث جهات: إما أن يكون المخاطب إبليس، وإما أن يكون المخاطب عموم الإنسان، وإما أن يكون المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم.

    فعلى الوجه الأول -أن المخاطب بالآية إبليس- يؤيده: أن السياق يتحدث عن المحاورة بين الرب جل وعلا وبين إبليس: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الإسراء:65]، فنحن متفقون على أن المخاطب إبليس.

    قال تعالى: وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:65]، وإذا أبقينا الآية في سياقها أصبح المخاطب إبليس، لكن الإشكال القائم في أن الله قال: وَكَفَى بِرَبِّكَ [الإسراء:65]، وهذا يشعر بالقرب وهو ما يتنافى مع خطاب الله مع إبليس.

    وهذا الإشكال يدفع بشيء آخر، فالذين أثبتوه دفعوا هذا الإشكال بشيء آخر وهو قولهم: إن المقصود من ذكر الربوبية هنا: بيان أن إبليس وإن خرج بكفره من طاعة الله، إلا أنه لم يخرج عن سلطان الله، أي: بكفره ومعصيته خرج من رحمة الله لكنه لم يخرج عن سلطان الله، فلهذا قالوا: إن لفظ الربوبية هنا ليس المقصود منه: التشريف، ولكن المقصود منه: بيان أن إبليس تحت سلطان الله جل وعلا وقهره. هذا الأمر الأول.

    الأمر الثاني: قول بعضهم: في الآية التفات، ومعنى الالتفات: أن يتحول الخطاب وهو منحى بلاغي.

    فقولنا في الأول: إن المخاطب إبليس لا يسمى التفاتاً؛ لأنه كان مخاطباً من قبل، لكن لما أدخل مخاطب آخر سميت القضية: قضية التفات عند البلاغيين، وقالوا: إن الملتفت إليه هو الإنسان عموماً، فيصبح المخاطب بقول الله جل وعلا: وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:65]، وكأن الآية نقلت القضية إلى المسئولية الفردية في أن على كل إنسان أن يتعظ ويعتبر ويعلم أن الله جل وعلا وكيل وكفيل على كل شيء.

    الوجه الثالث: أن يكون المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يثبته أصل عام، وهو أن الأصل في المخاطب بالقرآن أولاً: نبينا صلوات الله وسلامه عليه. وهذا الذي يبدو ظاهراً لي من الآية؛ لأن لفظ: وَكَفَى بِرَبِّكَ )[الإسراء:65]، يشعر بالقرب، والنبي صلى الله عليه وسلم أولى الناس بهذا القرب، هذا من حيث صناعة المعنى.

    أما من حيث الصناعة النحوية: فإن الفعل (كفى) يجيء في القرآن وفي العربية على ضربين:

    متعدياً ولازماً، فمن تعديه ما ذكره الله جل وعلا مثلاً في سورة الأحزاب: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [الأحزاب:25]، فكفى: فعل، ولفظ الجلالة: فاعل، والمؤمنين: مفعول به أول، والقتال: مفعول به ثاني، وهذا معنى التعدية: أن الفعل يتجاوز الفاعل إلى مفعول به.

    أما عندما نقول في الاصطلاح النحوي: فعل لازم؛ فإنه لا يتعدى الفاعل إلى مفعول به، وإنما يكتفي بفاعله فقط، وهو هنا كقول الله جل وعلا: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:65]، فكفى هنا: فعل لازم، ورب: هو فاعلها، لكن الباء التي جرت لفظ رب جيء بها لزيادة التوكيد، وعلماء العربية يقولون: إنها تكثر في فاعل كفى، وبعضهم يقول: إنها لازمة في كل فاعل، وقد وجد في الشعر العربي ما يرد القول بلزومها في كل فاعل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ربكم الذي يزجي لكم الفلك...)

    قال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا * رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ [الإسراء:65-66]، بعد أن بين جل وعلا أنه الوكيل الكافي ذكر شواهد ربوبيته، فالآية مناسبتها لما قبلها: أنها جاءت لتبين شواهد تلك الربوبية التي أشار الله إليها بقوله: وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء:65]، فقال الله: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي [الإسراء:66]، ويزجي من حيث المفردات بمعنى: يسوق، لكن ينبغي أن يعلم أن تفسير القرآن ليس معاني مفردات، لكن هناك غايات مراده لله جل وعلا في طيات كتابه، والمفسر الحق من يوصل مراد الله إلى من يستمع إليه، وهذا أمر يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار.

    قال تعالى: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الإسراء:66]، وهنا تأمل عظمة الله، في حياتك الدنيا والدك يعطيك مصروفاً ثم يبعث بك إلى المدرسة لتتلقى علماً غير المصروف الذي هو منه، فالمصروف من الوالد، والعلم من المعلم، وتأخذ مالاً لتذهب إلى تاجر، فالمال منك أو من سيدك أو ممن يقوم على إعالتك، لكن ما تقتنيه وتشتريه فمن التاجر، وهذا في حياة المخلوقين بعضهم، وهذه هي قضايا القرآن التي يجب إخراجها للناس، لكن الله يقول هنا: إنه نفسه جل وعلا سخر لكم الفلك لتذهبوا في البحر، لكن في البحر لا تطعمون طعاماً من أحد غيره، فالمبتغى في البحر هو رزقه تبارك وتعالى.

    فأنت بما سخره لك تذهب إلى ما هيأه لك، وهذا من أعظم الشواهد وأجل القرائن على عظمة الرب تبارك وتعالى، وأنه القائم على كل نفس.

    قال: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الإسراء:66]، والفلك معروف أنها: السفينة، ثم علل ذلك بما يناسبه فقال: إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [الإسراء:66]، وهذه الرحمة من الرحمة العامة التي يندرج فيها البر والفاجر، والمؤمن والكافر، وليست خاصة بأهل الإيمان، فإن الله يرزق من يطيعه ومن يعصيه، قال: لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [الإسراء:66].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه.... ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً)

    ثم انتقلت الآيات إلى شيء أخص وإلى موضوع أقصر، قال تبارك وتعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [الإسراء:67-69].

    من حيث الإجمال العام ربنا يقول: إن الضر كلمة عامة وهي في البحر أخوف منها في البر، وقد مر معنا أن عمراً بن العاص رضي الله تعالى عنه لما وصف البحر لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر لم ير البحر ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يركب البحر ولم يره، فلما وصفه له قال عمر رضي الله تعالى عنه: لا يسألني الله أنني حملت عليه مسلم. فرفض أن يغزو المسلمون وأن يركب البحر في عهده.

    هنا يقول الله لعباده: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:67]، وقد مر معنا أن ضل تحتمل معاني كثيرة، لكن ضل هنا بمعنى: غاب واضمحل، لكنه لم يغب واقعاً بحيث أن هذا الإله الذي تعبدون عجز أن يصل إلى البحر، المسألة أعظم من ذلك، بل المقصود: أنه ضل حتى عندكم، فأنتم العاكفون على أصنامكم والمعظمون لها إذا رأيتم الضر في البحر كنتم أول من ينساها.

    قال: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:67]، فيخلصون الدعاء لله كما قال الله في سورة أخرى: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65]، وتبرءوا من كل آلهة يعبدونها من غير الله، وخلفوها وراء ظهرهم في معابدهم جثثاً هامدة، وأصناماً ثابتة لا تنفع ولا تضر.

    قال تعالى: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء:67]، أي: من حيث أصل الإنسان، لكن هناك من عصمه الله من الكفر.

    ثم قال الله لهم مخاطباً أكباداً غليظة وعقولاً سقيمة: أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ [الإسراء:68]، أي: إنكم إن ظننتم أنكم صادقون في أنكم خرجتم من الخوف إلى الأمن، من جانب الرهبة إلى جانب الأمان، فخروجكم من البحر إلى البر لن يخرجكم من سلطانه سبحانه وتعالى، قال: أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنتُمْ [الإسراء:68-69]، وهذه لا يقولها إلا الله سبحانه.

    قال: أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى [الإسراء:69]، وهذا يكون بأن يبعث في نفسك بعد نجاتك الطمأنينة فتعود إلى البحر، فيسوقك إلى هلاكك، ويزجيك إلى قدرك، وهذا لا يقدر عليه إلا الله.

    أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [الإسراء:69]، المعنى الحرفي أي: لا تجدوا أحداً يطالب الله بما صنعه بكم.

    لكن الآن تأمل فيما تشاهده في نشرات الأخبار، يأتي في التلفاز -مثلاً- نموذج يتسلط اليهود فيه على الفلسطينيين، فيحصل قتل، وسفك دماء، وأسر، فإذا بقيت الكاميرا ثابتة نقلت لك أصوات نساء أو صبيان أو غيرهم، يحاولون أن يخرجوا شيئاً من أضغانهم يتبعون بها ذلك المحتل، فإما أن المرأة تلعن، أو الصبي يصرخ، أو أحدهم يقذف بالحجارة، بل إن بهيمة الأنعام إذا ذكيتها وذبحتها تريد أن يكون فيها شيء من التبيع فتحرك أعضاءها، وكأن تلك الأعضاء تلومك على ما صنعت، وهذا التبيع يستطيع كل أحد أن يمتلكه إذا كان خصمه بشراً؛ مثلاً: رجل دخلوا عليه في بيته فقتلوا أبناءه وزوجته، وأخذوا كل شيء وتركوه، هو لن يخسر شيئاً إذا أتبعهم بلعنة أو قال بعدهم صرخة، فهذا هو التبيع.

    لكن إذا كان المنتقم والله فإن هذا التبيع ينتفي، وهذا معنى قول الله جل وعلا: ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [الإسراء:69]، هذا تحرير الآية من حيث الإجمال.

    أما من حيث ما فيهن من فوائد؛ فإن الله يقول: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ [الإسراء:67]، ولم يقل: وإذا أمسكم الضر لسببين:

    السبب الأول: يعلمنا الله جل وعلا التأدب في الخطاب معه، فلا ننسب الشر إليه مع يقيننا أن الله خالق كل شيء.

    والسبب الثاني -وهو سبب جلي-: أن هناك معنىً خفياً يعلمنا فيه الله التبرؤ من الشر، وأن ننأى بأنفسنا عن مواطن الأذى، فهذا هو المقصود من عدم نسبة الشر إليه سبحانه.

    قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ [الإسراء:67-68]، الخسف: الهلاك من الأسفل.

    أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا [الإسراء:68]، أي: ريحاً محملة بالحصباء وهي: الحجارة الصغيرة.

    ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ [الإسراء:68-96]، والريح إذا كانت في البحر سميت: قاصفاً، وإذا كانت في البر سميت: عاصفاً، وبعض العلماء يقول: إنها تطلق على الاثنين.

    قال الله جل وعلا: فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ [الإسراء:69]، وهذا بيان لسبب الإغراق، لكن هذا في حالة الانتقام، وإلا فقد يغرق المؤمن في البحر ولا يكون المقصود منه النكال به، لكن يجري هذا بقدر الله: ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [الإسراء:69].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم.... ممن خلقنا تفضيلاً)

    ثم قال الله بعدها: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء:70].

    يدل منطوق الآية على أمرين:

    الأول وهو ظاهر: أن الله جل وعلا فضل بني آدم على كثير من خلقه.

    ويدل منطوق الآية في نفس الوقت: أن هناك خلائق لا يفضلها بنو آدم. وفي المسألة نزاع، لكن تحرير الأمر فيها على وجه الإجمال ما يأتي:

    بنو آدم أفضل من الجن ومن سائر المخلوقات سوى الملائكة.

    الأمر الثاني: عامة الملائكة أفضل من عموم بني آدم.

    الثالث: صالحوا بني آدم قد يرقون إلى منزلة الملائكة.

    الرابع: والأنبياء والمرسلون إلى بني آدم أفضل من عموم الملائكة، لكن هل هم أفضل من خواص الملائكة؟ وعندما نقول: خواص الملائكة ينصرف الأمر إلى جبريل، وإسرافيل، وميكائيل، فهل هم أفضل من خواص الملائكة؟ الأفضل: التوقف في المسألة لغياب الدليل الصريح الصحيح.

    وقد أثبت الله هنا الكرامة لبني آدم، وهذه الكرامة لا يجوز حصرها في شيء واحد، ولكن أعظم ما كرم الله به بني آدم: العقل؛ لأنه مناط التكليف، ومن ذلك: العلم وإنزال الكتب وإرسال الرسل، هذا كله مما كرم الله جل وعلا به بني آدم.

    وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ [الإسراء:70]، على بهيمة الأنعام وأمثالها مما أفاء الله على أهل زماننا.

    وَالْبَحْرِ [الإسراء:70]، بأن سخر الله جل وعلا لهم الفلك.

    وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [الإسراء:70]، دلالة على فضل الله جل وعلا، والآية ظاهرة واحدة.

    وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء:70]، لغوياً ننيخ المطايا عن كلمة (كثير) باحثين عن معناها؛ فبعض العلماء يراها على ظاهرها، وهو الذي حررناه وأخذنا المفهوم منه وقلنا: إن ظاهر الآية: أن هناك خلائق لا يفضلها بنو آدم.

    وبعض العلماء يقول: كثير هنا بمعنى: كل، ومن زعم قولاً لزمه الدليل، ودليلهم، هو أن كلمة قليل جاءت بمعنى العدم، فكذلك كلمة كثير تأتي بمعنى الكل، يقول الله جل وعلا: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88]، قالوا: إن المقصود انعدام إيمانهم بالكلية.

    وأصحاب هذا القول يقولون: كما جاءت كلمة قليل بمعنى العدم، فكلمة كثير هنا تعني الكل. وعلى هذا القول لا حاجة لما حررناه آنفاً من قضايا التفضيل، لكن هذا القول بعيد وإنما ذكرناه لوجوده في طيات الكتب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم... فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً)

    ثم قال الله بعدها: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71]، والسؤال هنا: ما هي المناسبة بين الآيتين؟

    عندما يقول الله: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء:70] هذا يشعر بوجود التفضيل لكن هذا التفضيل هو في الدنيا، فانتقل الله في الآية بعدها إلى تفضيل أعظم يكون يوم القيامة بالأعمال، فقال: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71]، اختلف الناس في معنى (إمامهم) على أقوال تحريرها ما يلي:

    قال بعض العلماء: إن الإمام هنا بمعنى: الكتاب، ودليلهم: آية يس: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12]، وهذا القول قال به ابن كثير ، واختاره الإمام الشنقيطي رحمه الله في تفسيره.

    وقال آخرون: إن الإمام هنا بمعنى: النبي، وحجتهم: وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، وأمثالها من الآيات.

    وقيل: إمام بمعنى: الكتاب الذي أنزل على تلك الأمة، ليس الكتاب الذي دونت فيه أعمالهم، وإنما الكتاب الذي أنزل على نبي تلك الأمة، وهذا القول قال به ابن زيد -وهو أحد التابعين- واختاره ابن جرير .

    وبقي قول رابع ينسب إلى محمد بن كعب القرظي أحد أئمة التفسير، فقد قال: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71]، أي: بأمهاتهم. وذهب رحمه الله - وهذا القول بعيد - إلى أن السبب في ذلك: صوناً لأولاد الطرائق غير الشرعية، وإكراماً للحسن والحسين في أنهم ينادون باسم أمهم فاطمة ، وهذا كله فيه نوع من التكلف، وإن كان مقام الحسن والحسين لا يحتاج إلى دليل، لكن هذا القول فيه شيء من التكلف، وقد قلنا: إن القائل هو: محمد بن كعب القرظي ، وهذا يرد عليه حديث صحيح صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال: هذه غدرة فلان بن فلان)، على أن الرجل ينسب إلى أبيه، لكننا حررنا الأقوال الأربعة.

    قال تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ [الإسراء:71]، وهذه قرينة ظاهرة لمن ذهب إلى أن الإمام هنا بمعنى: الكتاب الذي يستنسخ فيه العمل، على أنك ينبغي أن تعلم أن الإمام في اللغة: المقدم، وهي كلمة لا تحمل مدحاً ولا ذماً إلا بقرينة لصاحبها.

    (فرحين بما آتاهم الله من فضله)

    قال الله: فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ [الإسراء:71]، ولاحظ الآن الانتقال من الإفراد إلى الجمع، قال في الأول: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الإسراء:71] ثم قال: فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ [الإسراء:71]، والصورة تتضح في أن أهل اليمين -جعلنا الله وإياكم منهم- يأخذ أحدهم كتابه بيمينه، وبمجرد أن يأخذه بيمينه يعرف أنه على خير.

    فإذا عرف أنه رزق خيراً أحب أن يطلع الناس عليه، ليس كمن تلبس بالعار، فيأتون جماعات بعضهم إلى بعض، ولهذا جمع الله بعدها فقال: فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ [الإسراء:71]؛ لأنهم فرحون بما يقرءون، فيصبح تلقيهم للكتاب فردياً، وقراءتهم للكتاب جماعية، ولم يذكر الله هنا أصحاب الشمال، قال بعض العلماء: إنهم لا يستطيعون قراءته. وبعضهم يقول: ولو قرأه فلن يستطيع أن يظهره لأحد؛ ولهذا قال الله جل وعلا: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاقة:25-26].

    قال الله: فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [الإسراء:71]، والفتيل هو: النتوء الظاهر في شق النواة، والمقصود منه: لا ينقص من أجورهم شيئاً.

    ثم قال الله بعدها: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى [الإسراء:72]، أي: في الدنيا.

    فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء:72]، مبدئياً: فإن العمى المقصود به هنا: عمى القلوب، لكن النحويين عند هذه الآية يظهر لهم إشكال، يقولون: إن الصناعة النحوية تأبى أن يصاغ فعل التعجب أو التفضيل على وزنه من غير فعل مساعد مؤنث، وصفة الفعل على وزن أفعل فعلاء، مثلاً يقال: رجل أعمى وامرأة عمياء، يقولون: في مثل هذه الحالة لا يصاغ منه تعجب، ولا يصاغ منه تفضيل.

    وهذه الآية: هي قول الله جل وعلا بعدها: وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء:72]، فهناك قرينة على أن القضية قضية تفضيل، أي: أشد عمىً، ولهم في ذلك مخارج أسلمها أن يقال: إن هذا من باب السماع الذي لا يقاس عليه، وأنت تعلم أن الأصل في اللغة: هو السماع، وهذه قاعدة مهمة جداً في طلب النحو وفي طلب اللغة عموماً، فقالوا: مثل هذا سمع من العرب، وهو موجود في القرآن أصلاً، ولا يمكن أن يقاس عليه.

    وبعضهم يخرجها تخريجاً أجمل من ذلك فيقول: إن المقصود هنا ليس عمى البصر، وهو الذي يمتنع فيه التفاضل، أما عمى القلب فيصح فيه التفاضل، لكن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب، ولا أعلم له شاهداً.

    يوم القيامة يوم الخزي والندامة

    قال الله تعالى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ [الإسراء:72]، أي: يوم القيامة.

    أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء:72]، وهنا اختلف الناس في ما هو أعمى عنه؛ فبعض العلماء يقول: إذا قسناها على ما قبلها فإنه لا يستطيع أن يقرأ كتابه، فجعل القرينة الأولى دافعة لهذا القول.

    وبعضهم يقول: من كان أعمى عن طريق الطاعات فسيكون أعمى عن طريق الجنة، ولا ريب أن المقصود من حيث الإجمال: أن من لم يوفق للطاعة ولم يحسن العمل في الدنيا فهو في يوم القيامة أشد ضلالة وبعداً، وأعظم فسقاً وجرماً، وهو بعيد عن رحمة الله تعالى وجنته، وقريب جداً من غضبه وسخطه ونيرانه، هذا مجمل ما دلت عليه الآية: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء:71-72].

    إذاً تحرر من هذا: أن الآيات تأتي في مقام التفضيل، فذكر الله جل وعلا تفضيل بني آدم، ثم انتقل إلى التفضيل الأعم والأشمل والأكمل وهو ما يكون في عرصات يوم القيامة، وبين جل وعلا أن الحالة الأخروية إنما هي صورة للحالة الدنيوية، فمن تلمس طرائق الطاعات ولم يعمَ قلبه عن طرائق الهدى وفق يوم القيامة، وكان الاحتفاء به احتفاء جماعياً كحال الناس في الدنيا.

    وأما من تلبس بالخزي والعار فإنه يتوارى ويحاول أن يستر فضيحته ويغطي جرمه، وهذا ما يقع من أهل المعاصي في الآخرة فلا يأتون لأحد بكتاب ولا يفرحون به، بل يكون منهم الويل والثبور، كما ذكره الله جل وعلا في أكثر من آية.

    هذا مجمل ما تهيأ إيراده، وأعان الله جل وعلا على قوله حول هذه الآيات المباركات من سورة الإسراء، ثم إننا إن شاء الله تعالى نزدلف في اللقاء القادم إلى قول الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ [الإسراء:73].

    فلما كانت هذه الآية وأضرابها تدخل فيما يسمى بعتاب النبي صلى الله عليه وسلم في -القرآن إن صح التعبير- فإنا نفردها في حلقة تامة لوحدها، فما مضى كان مترابط الأجزاء حررناه في مجلس واحد، والله المستعان، وعليه البلاغ، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768278908