إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة النور [1]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تضمنت سورة النور بيان جملة من الأحكام الشرعية العظيمة، وبيان جملة أخرى من آيات الله تعالى ودلائل قدرته والتعريف به سبحانه، وقد صدر الله تعالى أحكامها بذكر حد جريمة الزنا الصادرة من الزاني غير المحصن، وما يجب على المؤمنين فعله في حقه، كما صدرها تعالى ببيان أن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، وكذلك الزانية، وذلك حرام على المؤمنين.

    1.   

    بين يدي تفسير سورة النور

    الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله وحده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

    فهذا الدرس قد يكون فيه نقلة نوعية؛ إذ قد اعتدنا على الحديث عن السور المكية، وكنا قد ذكرنا في أول هذه الدروس أننا سنعنى به بترتيب السور حسب نزولها على ما حرره أهل العلم في ذلك، لكننا عد لنا عن ذلك إلى أن نعرض السور المدنية، رغبة في أن يشمل الحديث الأحكام كما شمل العقائد.

    وبناءً على هذا فإن السورة التي سنعنى بها في هذا الدرس هي سورة النور، وهذا الاسم توقيفي لا يعرف للسورة اسم غيره، وقد نقل عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه قال: علموا نساءكم سورة النور.

    ونقل عين هذا القول أو قريب منه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها.

    والسورة مدنية بإجماع علماء المسلمين ممن يعنون بعلم التأويل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها ...)

    وهذه السورة صدرها الحق جل وعلا بقوله: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1]، وهو افتتاح غير مألوف في القرآن، فلا يعلم أن سورة من القرآن افتتحت بمثل هذا الافتتاح.

    والسورة في اللغة: المنزلة الشريفة العالية، وحق لسور القرآن أن يقال لها ذلك؛ فقد شرفت وعظمت تنزيلاً ولفظاً ومعنى، والعرب تطلق ذلك على ما عظم وشرف، قال قائلهم:

    ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب

    فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

    والقرآن كله منزل من عند الله، ولكن الله قال هنا: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا [النور:1]، وقد أجاب العلماء عن هذا بقولهم: إن هذا للفت الانتباه وإرشاد العناية إلى ما تتضمنه هذه السورة المباركة من عظيم الأحكام الشرعية.

    ثم قال الله جل وعلا: وَفَرَضْنَاهَا [النور:1] وقد قرئ هذا اللفظ بالتخفيف (فرضناها)، وقرئ بتشديد الراء (فرَّضاها).

    والقراءة الأخرى المقصود منها أن أحكامها نزلت منجمة، أي أن السورة لم تنزل كاملة، وأياً كان المعنى فإن الأفضل أن يقال جواباً عن هذا كله: إن هذه السورة عنيت بالأحكام وعنيت بتعريف العباد بربهم، فما يتعلق بالأحكام عبر الله جل وعلا عنه بقوله: وَفَرَضْنَاهَا [النور:1]، وما يتعلق بالعقائد والتعريف بالرب عبر الله جل وعلا عنه بقوله: وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1].

    والقرينة التي تدل على صحة هذا المنحى في التفسير قول الله جل وعلا: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1]؛ فإن الدعوة إلى تذكر الشيء يلزم منها أن يكون الشيء مستقراً من قبل، ومعلوم أن الأحكام لم يكن للمسلمين علم بها من قبل، فلا ينطبق عليها قول الله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1] وإنما ينطبق على الآيات التي عنيت بالتعريف بالرب والإرشاد إليه، ومنها في هذه السورة قول الله جل وعلا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ [النور:43]، وقول الله جل وعلا: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ [النور:45]، والآية التي من أجلها سميت السورة بسورة النور، وهي قول الله جل وعلا: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35].

    فهذه الثلاث الآيات لا تحمل أحكاماً، فلا ينطبق عليها قول الله: َفَرَضْنَاهَا [النور:1]، وإنما ينطبق عليها قول الله: وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1] وقلنا: إن قرينة لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1] تؤيد هذا المنحى، فقد جاءت عقب الآيات البينات ولم تأت عقب قوله تعالى: (فرضناها).

    وهذه الآية التي صدر الله جل وعلا بها هذه السورة هي توطئة وتمهيد، فبدأ الله بالأحكام فقال: وَفَرَضْنَاهَا [النور:1]، وأجل الحديث عن الآيات، ولهذا جاء ما بعدها مناسباً للتمهيد، فبدأ الله بالأحكام قبل أن يبدأ بأمور العقائد في هذه السورة، لا أن العقائد ليست أهم من الأحكام، بل الحديث هنا عن سورة مدنية نزلت بعد أن استقرت العقائد في أنفس المسلمين، ولا غنى للخلق عنها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)

    قال سبحانه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

    إن من الأمور المطلوبة تصور الأشياء تصوراً كلياً يعين على فهمها، فهذه الآية تتحدث عن حد الزنا.

    وقبل أن أشرع في الحديث عن تفسير الآية أؤصل للمسألة فأقول: إن الإسلام جاء بحفظ الضرورات الخمس: الدين والعقل والمال والنفس والعرض.

    ثم شرع حدوداً تحفظ هذه الضرورات الخمس، فبحد السرقة يحفظ المال، وبالقصاص تحفظ الأنفس، وبحد الزنا والقذف تحفظ الأعراض، وبحد السكر يحفظ العقل، وبإقامة هذه الأربع جميعاً يحفظ الدين، هذا التحرير الأول.

    والحد: عقوبة مقررة شرعاً في معصية استيفاءً لحق الله جل وعلا، ويجري معه في ذلك القصاص، ولكن ثمة فارق بين القصاص وبين الحد، فالقصاص ترك الله جل وعلا أمره لأولياء الدم أو الجناية، فلا يصبح وضع ولي الأمر إلا التنفيذ، فلو أن رجلاً قتل رجلاً فإنه يتعلق بقتل ذلك الرجل ثلاثة حقوق:

    حق لله العلي الكبير، وهذا الحق يسقط بالتوبة.

    وحق للمقتول عينه، وهذا الحق لا يسقط أبداً، ويستوفى يوم القيامة.

    وحق لأولياء الدم، وهذا هو الذي يدور كلام الفقهاء في فلكه.

    فأولياء الدم مخيرون بين القصاص والقبول بالدية زادت أو نقصت بحسب التراضي، أو العفو، فيصبح دور ولي الأمر هو تنفيذ القصاص، أو إجراء آلية قبول الدية.

    وأما الحدود فتختلف عن القصاص في هذا المعنى، ونحن أن الحدود حق لله لا تسقط بعوض ولا بدون عوض، ولا تجوز الشفاعة فيها، بينما تجوز الشفاعة في القصاص، ونحن نسمع أنه قد يأتي ثري أو وجيه إلى أولياء الدم فيرضيهم بأموال تزيد على الدية رغبة في حفظ دم آخر، فهذا يجوز شرعاً؛ إذ يقول ربنا جل جلاله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178].

    وأما الحدود فهي في منأى عن هذا، فلا حد الزنا ولا حد القذف ولا حد السكر ولا حد السرقة يدخل في شيء من ذلك، بل يجب استيفاء تلك الحدود إذا رفع الأمر إلى السلطان، ولا تجوز الشفاعة فيها.

    فهذا التمهيد موطأ ممهد مهم قبل أن نشرع في فهم الحدود.

    والحد المذكور في هذه السورة هو حد الزنا، والزنا أمر معروف، وإن من أكبر المعضلات توضيح الواضحات. والله تعالى لم يعرف الزنا؛ لأن الزنا معروف، ولم يعرف القتل؛ لأن القتل معروف من قبل أن ينزل القرآن.

    تكييف أنواع قضاء الوطر

    وقبل أن نشرع في الفهم الفقهي أريد أن أبين مسألة مهمة، وهي أن الرجل له وطر يقضيه من المرأة، والمرأة لها وطر تقضيه من الرجل، وهذا الوطر -وهو الجماع والوطء- إذا تحقق عن طريق إيجاب وقبول ومهر وولي وشاهدين وأعلن سمي نكاحاً شرعياً، وكان من سنن الأنبياء والمرسلين، والغاية منه الوطء وقضاء الوطر.

    وإذا تحقق عن طريق إرغام الرجل المرأة تحت تهديد السلاح فإن الرجل يسمى مغتصباً زانياً يقام عليه الحد، والمرأة لا يلحقها شيء في الشرع؛ لأنها مجبرة مكرهة لا خيار لها.

    وإذا تحقق عن طريق التراضي بين رجل وامرأة سراً فإنه يسمى زنا، وفيه الحد عليهما.

    وإذا تم عن طريق التراضي من غير طريق النكاح واشترطت المرأة مالاً فإنه يسمى بغاء، فتعتبر المرأة التي تصنع هذا الصنيع بغياً، أما الأولى فتعتبر زانية.

    فالزانية من لا تطلب أجراً؛ لأنها تستفيد من قضاء وطرها، وأما من تشترط الأجر وتتخذه مهنة فإنها تسمى بغياً، والمقصود في الأحوال الأربعة هو المتعة الجنسية في المقام الأول، ومع ذلك فإن أحدها من أعظم السنن، وأحدها لا يلحق المرأة به شيء، وأحدها زنا يجلب الحد، والرابع زنا كذلك يجلب الحد، ولكن المرأة تسمى فيه بغياً.

    والمقصود من هذا أن الإنسان قبل أن يحكم على الشيء عليه أن يعرف واديه في الشرع، ومجراه في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يصح أن يعمل بنص ويهمل آخر، أو أن ينظر إلى نصوص الشرع نظرة جزئية فيجعل بعض النصوص مهيمناً على النصوص كلها، فهذا خطأ منهجي، بل قبل أن يتفوه الإنسان بالحكم الشرعي يجلب كل النصوص التي في الباب، وينظر إلى الشريعة إجمالاً، فيتبين له بعد ذلك الحق من غيره، والله تعالى يقول: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة:115].

    حد الزاني

    والحد هنا هو حد الزنا الذي يتعلق بالزاني أو الزانية البكرين غير المحصنين، وإنما أخرجنا المحصن من هذه الآية لأن حد الزاني أو الزانية المحصن إنما هو الرجم بالسنة المتواترة التي لا تقبل الدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواها أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وخالد وجابر ، وغيرهم من الصحابة.

    فهي سنة لا تقبل الدفع، خلافاً لمذهب الخوارج الذين لا يرون إقامة الرجم، ويحتجون بأنه لم يذكر في كلام الله، ونحن لا نريد أن ننحو بالتفسير منحىً فقهياً تاماً، فهذا خطأ منهجي في النظر إلى الآيات، ولكننا نعرج على ما نحتاج إليه من كلام الفقهاء، فنقول بداية: إن الحد المقصود به هنا هو حد الزاني أو الزانية البكرين غير المحصنين.

    وهذا الحد حدده الله نصاً ولم يترك لأحد تحديده، فقال ربنا تبارك وتعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، وهذا أعلى حدود الجلد في الإسلام، وبعده حد القذف وقدره ثمانون جلدة.

    جلد الزاني وكيفيته الشرعية

    قال ربنا تبارك وتعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور:2] بدأ الله بالمرأة هنا؛ لأن الزنا لا يتم لو لم توافق المرأة، ولذا يفرق بين الزنا والاغتصاب، فالاغتصاب زناً في حق الرجل وليس زناً في حق المرأة، فلا يقام عليها حد، ولكن الزنا الذي يكون بالتراضي لا يمكن أن يقام ويقع بدون رضاً من المرأة، فهي المطاوعة، ولهذا قدمها الله تعالى في الذكر فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2].

    والجلد يكون بسوط لا جديد ولا خلق؛ لأن المقصود التأديب وليس المقصود الإهلاك، فلا يكون السوط جديداً حتى لا يكون سبباً في هلاك المجلود، ولا يكون خلقاً فلا يتضرر منه، ومن ثم لا يبقى هناك معنى لإقامة الجلد، ثم إن من يقوم بعملية الجلد لا يرفع يده عالياً ولا يرخيها وإنما يفعل الوسط بينهما.

    وأما الذي يجلد فالأصل أنه الظهر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أو حد في ظهرك)، ولكن قال أهل العلم: يتجنب مواطن المقاتل، ويتجنب الرأس والعورة وما يخشى أن يؤدى إلى إهلاكه، فيضرب في البطن مثلاً، أو يضرب في أعلى الظهر وأسفله وأوسطه وما أشبه ذلك، وفي أسفل رجليه، فهذه كلها مواطن يتم فيها الجلد.

    حكم الرأفة بالحدود في دين الله تعالى

    قال الله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] الرأفة مصدر (رأف)، وهي حالة تنتاب الشخص إذا رأى ما يحزنه في المرءوف به، والمعنى أن إقامة حد الله جل وعلا وما ينجم عن ذلك من مصالح أعظم من المصلحة الناجمة عن الرفق بذلك الذي سيحد.

    قال الله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور:2]، وهذا قيد المقصود منه إثارة ما في القلب من نصرة للدين، ولكنه لا يطبق حرفياً، بمعنى أنه يأتي أحد فيقول لمن أصابته رأفة على مجلود: إنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فيخرجه من الملة. فلا يمكن أن يقول عاقل بهذا، وهذه مسألة يقع فيها كثير من الفضلاء، حيث يأتون إلى القيد فيقلبونه فيحتجون به على مسائل عديدة، ولو استقام القلب لاستقام كل شيء، ولكنه لا يستقيم، فلا بد من أن ينظر في قرائن أخرى حول النص.

    فالآية هنا لا يمكن أن يقال بمفهوم مخالفتها، وهو أنه إذا أخذتنا رأفة بذلك المجلود فمعنى ذلك أننا لا نؤمن بالله واليوم الآخر، فهذا محال، ولكن نقول: إن كمال الإيمان هنا منتف؛ لوجود قرائن أخرى تمنع أن نقول بكفر من يصنع ذلك.

    والمقصود من هذا هو التريث قبل إطلاق الحكم، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

    بيان المقصود بإقامة حد الزنى

    قال الله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

    المقصود بإقامة الحدود زجر الناس وإيجاد مجتمع مسلم يمتثل أفراده لشرع الله، فإن كانت الحدود تطبق في السر وفي الخفاء فلا معنى لإقامتها؛ لأن المقصود من إقامتها لن يتحقق بذلك، ولهذا نص الله أمراً، حيث قال تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

    واختلف في مقدار هذه الطائفة، فقيل: يكفي الواحد، وقيل: اثنان، وأعدل الأقوال -والعلم عند الله- أن أقل شيء عشرة، وأحسب -والعلم عند الله- أن هذا يختلف باختلاف البلدة التي يقام فيها الحد، فما يقام في المدن غير الذي يقام في المحافظات، وغير الذي يقام في القرى القليلة السكان، فالكثرة قد تعتبر كثرة في مكان وتعتبر قلة في مكان آخر.

    تغريب الزاني

    ولم يذكر الله هنا إلا الجلد، وجمهور أهل العلم والخلفاء الراشدون على أنه يضاف إليه تغريب عام، لنطقه صلى الله عليه وسلم بهذا في قصة الأجير الذي زنى بامرأة مستأجرة، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (على ابنك جلد مائة وتغريب عام) أي: النفي.

    وهذا قول جمهور أهل العلم.

    وقال بعض الفقهاء: إن التغريب يرجع إلى الإمام، وهذا قول أبي حنيفة . والسبب في ذلك أصل مذهب أبي حنيفة ، وذلك أن أصله أن الزيادة في النص تعني النسخ، وهذا الأصل حاكم للمذهب.

    ثم إنهم اختلفوا بعد ذلك في تغريب المرأة، فذهب مالك رحمه الله إلى أن التغريب لا يقع على المرأة، وحجته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مع غير ذي محرم، أو بدون محرم) وغير ذلك من النصوص الحاكمة في هذا الباب.

    وقد يقول قائل: يجبر المحرم على السفر معها، وهذا لا دليل عليه، والأظهر -والعلم عند الله- أن التغريب يقع على الرجال دون النساء؛ لأنه يخشى من تغريب النساء مفسدة أكبر من الأمر الذي تغرب من أجله، لكن إن ثبت أن أبا بكر أو عمر فعله فلا ريب في أن رأيهما أو رأي أحدهما مقدم على رأي من بعدهما.

    وهذه المسألة إحدى مسائل الأصول، أعني اتفاق الشيخين أبي بكر وعمر على مسألة، فهل يعد قولهما حجة أم لا؟ والجواب أنه لا يعد قولهما حجة، ولكن نقول: من ذا الذي يقدر على أن يعارض قولاً اتفق عليه الشيخان؟!

    قال جرير يسخر من الأخطل :

    ما كان يرضى رسول الله فعلهم والطيبان أبو بكر ولا عمر

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ...)

    ذكر قول من حمل النكاح على الوطء وقول من رده

    ثم قال ربنا جل وعلا بعد ذلك: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3].

    هذه الآية هي من جملة آيات معدودات اضطربت فيها أقوال أهل العلم اضطراباً شديداً، بل هي من أعظم آيات القرآن إشكالاً باتفاق المفسرين، وكل من نحا في تفسيرها لا يستقيم كلامه على إطلاقه.

    والإشكال الوارد عندهم -أي: الأكابر الذين نظروا في كتاب الله من قبلنا- هو أنهم اختلف عليهم فهم كلمة (ينكح) في قول الله جل وعلا: الزَّانِي لا يَنكِحُ [النور:3] فهل المقصود بها عقد النكاح أو المقصود بها الجماع والوطء؟

    بمعنى: هل المعنى أن الزاني لا يجوز له أن يتزوج إلا زانية أو مشركة، أو المقصود أن الزاني لا يجامع ولا يطأ إلا زانية أو مشركة من غير زواج، أي: لا يزني إلا بزانية أو مشركة.

    قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما -كما صح عنه في نقل صحيح-: المقصود بالنكاح هنا الوطء.

    وقال ابن القيم رحمه الله: وينبغي أن ينزه كلام الله عن مثل هذا. فانظر إلى التعارض بين القولين.

    وقال الزجاج : إن القول بأن النكاح هنا بمعنى الوطء مخالف لكلام الله، بمعنى أنه لا يعرف في القرآن.

    ولكن الآخرين الذين لم يرتضوا هذا دافعوا عن قول ابن عباس بحجج عدة:

    أولها أنهم قالوا رداً على الزجاج : ثبت في كلام الله أن النكاح يراد به الوطء في قول الله تعالى: حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، فقد فسرتها السنة بقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تذوقي عسيلته) فعبر عن الوطء بالنكاح.

    وأجابوا عن قول ابن القيم رحمه الله: إن هذا القول يجب أن ينزه عنه كلام الله -كما قال الشنقيطي رحمه الله وغيره من قبل- فقالوا: إن القائل بهذا القول هو ترجمان القرآن وحبر الأمة، وهو من أعلم الناس بكلام العرب.

    والذي دفع ابن القيم رحمه الله إلى أن يقول: إنه يجب أن ينزه كلام الله عن مثل هذا هو أنه يرى -كما رأى غيره- أنه لا تتأتى على هذا التأويل أي فائدة من الآية؛ لأنه يصبح معنى الآية: الزاني لا يزني ولا يطأ إلا زانية أو مشركة، والزانية لا يطأها أصلاً إلا زان مثلها أو مشرك، فقالوا: أين الجديد في المعنى؟! فهذا شيء مألوف معروف.

    والذي دفع ابن عباس وأمثاله إلى منعهم القول بأنه النكاح هو الاتفاق على أنه لا يجوز للمؤمن أن يتزوج مشركة، ولا يجوز للمرأة الزانية المسلمة أن تتزوج مشركاً، فهذا هو الذي دفعهم إلى القول بعدم كون المراد به عقد النكاح المعروف.

    ذكر قول من حمل الآية على معنى الرغبة الغالبة

    وبعض أهل الفضل من العلماء يقول: إن الآية مسوقة فيما يجري مجرى الغالب، والمعنى من الآية: أن الله أراد أن الزاني لا يرغب في نكاحه إلا الزانية مثله أو المشركة، والزانية لا يرغب في نكاحها إلا زان مثلها أو رجل مشرك لا يؤمن بالله واليوم الآخر.

    فقالوا: هذا يجري مجرى الغالب؛ لأنهم يحاجون بأنه يوجد في الزناة من يرغب في الحرائر العفيفات، ويوجد في النساء الزواني من ترغب في الرجل العفيف.

    ونقول: إن الذين يكثر فيهم الشك في بيوتهم هم الذين كانوا على طرائق محرمة من قبل، فقول هؤلاء الأفاضل بهذا المعنى ينافي الواقع.

    ذكر قول من حمل المشترك على معنييه

    ولا بد من حل هذا الإشكال، ولذا قال ابن تيمية رحمه الله: إن النكاح هنا مشترك لفظي، أي: أن اللفظ إذا كان يحتمل معنيين فإننا نقبلهما جميعاً، فنحمل أحدهما على أمر والآخر على أمر آخر.

    فالنكاح هنا جاء بمعنى العقد وبمعنى الوطء، فالوطء نحمله على المشركات والمشركين؛ لأن النكاح لا يجوز بين مسلم وكافرة أو مسلمة وكافر، والنكاح نحمله على المؤمنين والمؤمنات.

    وهذا القول قال الشنقيطي معقباً عليه: ولا أعلم مزجاً واضحاً من الإشكال في هذه الآية إلا مع بعض تعسف. ثم ذكره.

    وحمل المشترك على معانيه جائز في العربية، حيث يجوز أن تقول: عدا اللصوص البارحة على عين زيد، تقصد أن اللصوص عدوا على إحدى عينيه فعوروها، وعدوا على عين مائة فغوروها، وسلبوه الذهب والفضة، أي: عين ماله.

    والحق أن هذا القول بعيد جداً؛ لأن الله تعالى يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].

    وحمل المشترك اللفظي بهذه الأمثلة على كلام الله بعيد جداً، خاصة أن القرآن مخاطب به عموم الناس، والله يتكلم عن مسألة اجتماعية يحتاج إليها البر والفاجر وسائر الناس، ولا يتكلم عن مسألة عظيمة التعقيد، وإنما يتكلم عن مسألة اجتماعية يهذب بها المجتمع رجالاً ونساءً، فيبعد أن يكون هذا هو الحل.

    ذكر القول بنسخ حكم الآية الكريمة

    وبقي هناك قول يبدو لنا أنه أقرب الأقوال إلى الصواب، ولكن الذين ردوه لم يتأنوا -والله- في الرد، ولو تأنوا لأبصروه جيداً.

    وهذا القول هو قول سعيد بن المسيب رحمه الله وأخذه عنه الشافعي وأيده، وهو أن الآية منسوخة، فالله يقول: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3] فالذين لم يرضوا بأنها منسوخة قالوا: الآية في الخاص؛ لأن وصف الزنا في المرأة والرجل وصف خاص، وقول الله جل وعلا: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى [النور:32] عام، وقد اتفق الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة على أن العام لا ينقض الخاص ولا ينسخه، فقالوا: قوله تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32] لا يُنسخ آية الزاني؛ لأن آية الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3] آية خاصة، والعام لا ينسخ الخاص. هذا هو قولهم، إلا أن هناك قرائن أخرى تدل على ما ذكرته تحتاج إلى تريث، وسأحاول بقدر الإمكان أن أبينها لك.

    فينبغي أن يفهم أن هذه السورة نزلت في العام الخامس، والعام الخامس كانت فيه حادثة الإفك في غزوة المريسيع، فسورة النور تحدثت عن الإفك، وإذا عرفت زمن نزول السورة عرفت أن نكاح المشركات من المؤمنين وقتها كان قائماً، ونكاح المؤمنات من المشركين كذلك كان قائماً، والدليل على ذلك أن الآية التي نسخت نكاح المؤمنات من المشركين في سورة الممتحنة، وسورة الممتحنة نزلت بالاتفاق بعد الحديبية، والآية هي قوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10].

    فالله عندما تكلم في سورة النور لم يكن في ذلك الوقت قد حرم جل وعلا نكاح المؤمنات من المشركات.

    وأما نكاح المؤمن من المشركة فإننا نقول: حرمه آية البقرة: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221].

    فأوجه الأقوال أن نقول: إنها نزلت بعد سورة النور، فعلى هذا نقول: إن النكاح هنا بمعنى العقد، وهو الكثير المستعمل في القرآن، فيصبح معنى الآية: أنه لا يليق بالمؤمن ولا يجوز له أن ينكح زانية، ولا يجوز للمؤمنة أن تنكح زانياً، فالزاني لا ينكح إلا زانية مثله أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان مثلها أو مشرك، ثم نسخ هذا الأمر جملة، أي: نسخ نكاح المؤمنات من المشركين بآية الممتحنة، ونسخ نكاح المؤمنين من المشركات بآية البقرة.

    وأما نكاح الزواني فالدليل على أنه جائز عموم قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، وقوله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، وقوله جل وعلا: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32] واضح؟

    وهذا القول في ظني -والعلم عند الله- أظهر من غيره؛ لأن غيره يحتاج إلى تعسف قد يكون صعباً قبوله، وقد قلت: إن هذا هو مذهب الشافعي وسعيد بن المسيب ، ويؤيده عقلاً أننا نقول: إنه ينبغي أن ينظر في حال القائل، فإن لحال القائل دوراً في القول لا يصح إلغاؤه بالجملة.

    و سعيد بن المسيب أحد أجلاء التابعين، وكان يحفظ كثيراً من الآثار المنقولة عن عمر، بل احتج بمراسيله الشافعي وبعض العلماء خاصة إذا حدث عن عمر ، فـسعيد بن المسيب يقبل قوله، ونقول: إن الذي دفع سعيداً إلى القول بأنها منسوخة علمه بالآثار، وقد تكون هذه الآثار ليست موجودة لدينا، ولكن نقول: إن غالب الظن أن لا يتجرأ سعيد رحمه الله على القول بأنها منسوخة دون أن يعضده أثر قد سمعه؛ لما علم من تقوى الرجل.

    ثم إن الآخرين من الفضلاء الذين ردوا هذا النسخ ردوه بالقاعدة التي سبق أن بيناها وهي أن العام لا ينسخ الخاص، وقد حررنا أن العام ليس آية واحدة، بل هو عدة آيات تعاضدت فأخذنا بها وقلنا: إنها تنسخ الخاص.

    وبينا أنه ينبغي النظر في زمن نزول السورة بقدر الإمكان، ففهمنا من سورة الممتحنة أن نسخ نكاح المؤمنات من المشركين كان بعد الحديبية، وصحيح أننا في آية البقرة لا نعرف زمناً، ولكن نستطيع أن نقول بذلك من حيث الإجمال العام الذي يتفق مع تفسير هذه الآية.

    فهذا هو ما يمكن أن يحرر في قول الله جل وعلا: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3].

    التغليظ في شأن الفواحش

    وقال بعضهم: إنما هذا خبر أريد به تشنيع الأمر وبيان فظاعة الزنا عند الله، وهذا كله يسوقنا إلى أن نقول: إن ما تكلمنا عنه سابقاً يعنى بتدوين المسألة فقهياً، والقرآن لا يخاطب العقل فقط، بل يخاطب العقل والقلب؛ فإن الله جل وعلا لم يتعبدنا بالمعرفة فقط، وإنما تعبدنا بالعلم بالمعرفة، فكل الناس يعلمون أن الخمرة تسكر، والإنسان لا يثاب على علمه بأن الخمر تسكر، ولا يعاقب على علمه بأن الخمر تسكر، ولكنه إذا تركها من أجل الله يثاب، وإذا فرط فيها وشرب منها ولم يعظم تحريم الله لها يعاقب، فالله لا يتعبد أحداً بالمعرفة.

    فما قلناه هو معارف، ولا بد من مخاطبة القلوب، بأن تفهم من سياق الآية أن الله يبدأ بسورة يَنزل بها ملكٌ عظيم مثل جبريل من السماوات السبع ويقول في التمهيد لها: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا [النور:1] ويمهد للقول بها.

    ثم يشنع على أصحاب هذه المعاصي فيقول: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور:2] وهو أرأف بنا من أنفسنا، ويقول: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3]، ويقول في خاتمتها: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، كل ذلك يبصر المؤمن -إذا جمعه مع غيره من الآيات- بعظيم هذه الفاحشة، وقد قال الله في الإسراء: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32].

    وقد قال أهل العلم: إن هناك ثلاث معاصٍ حرمها الله جل وعلا في جميع الشرائع والأديان: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، والزنا، وجمعها الله في سورة الفرقان فقال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68].

    وعلى النقيض من قضية تعظيم الزنا تأتي نصوص شرعية ترغب في العفاف وتبين عظيم أجره ومآل أهله عند الله ترغيباً لهم في ترك هذه الفاحشة، حيث يقول صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -: (سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.. -وذكر منهم:- ورجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).

    ويقول الله جل وعلا عن نبيه يوسف بن يعقوب عليه السلام: وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:23-24].

    قال الله تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] .

    وقد اشتهر عند العلماء أن الزنا أشبه بالدين، وأن الإنسان إذا صنعه في أهل بيت رد ذلك في أهل بيته، وينسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قوله:

    إن الزنا دين فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم

    والحق أنا لا نؤمن بقول الشافعي هذا على عظيم إجلالنا له وحبنا إياه؛ لأن الله يقول: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].

    ثم إن هذا القول يدفع الناس إلى باب شر عظيم، فقد يكون لأحد الناس سابقة في الزنا وفي الفواحش عياذاً بالله، ثم يمن الله جل وعلا عليه بالتوبة بعد أن ستره، فإذا قررنا ما قاله الشافعي رحمه الله -إن صحت نسبة الأبيات إليه- أضحى ذلك الرجل شاكاً مرتاباً في زوجته أو بناته، وهذا غير حق وغير عدل، ولكن نقول من حيث الجملة: إن الزنا -والعياذ بالله- من أعظم الفواحش وأجل الكبائر، وقد حرمه الله وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم.

    ومما جاء في التغليظ فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى الزواني والزناة عراة في تنور ضيق من أسفله واسع من أعلاه توقد من تحته نار.

    قال بعض العلماء -كالحافظ ابن كثير وغيره-: هذا من جنس صنيعهم، فكما هتكوا ستر الله عليهم في الدنيا هتك الله عنهم الستر في حياة البرزخ.

    1.   

    أهمية سد الذرائع

    والزنا له طرائق، وأسباب تؤدي له، ومن أعظمها: كثرة رؤية الرجل للمرأة، وكثرة مخالطة المرأة للرجال.

    وسد الذرائع أمر مقرر شرعاً، ولكن بقدر، فلا يفتح باب سد الذرائع على إطلاقه، ولا يغلق أبداً، ولكن الأمور تختلف من بيئة إلى بيئة، ومن مكان إلى مكان، وتقيد بقيود الشرع، ولكن قد قالوا:

    إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر على سلمى وواديها

    فما تبثه الفضائيات والقنوات والشاشات من صور خليعة وأفلام ماجنة وغيرها لا ريب في أنه من أعظم أسباب انتشار الفاحشة بين الناس عياذاً بالله.

    فالذي يكثر من النظر إليها يكون أقرب إلى الوقوع في الحرام، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وهذا حق ولا ريب؛ لأنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن الواقع يشهد له شهادة عظيمة.

    1.   

    درء الحدود بالشبهات

    فهذه الثلاث الآيات ذكرت حد الزنا في فواتح سورة النور كما بيناها، وذكرنا في أولها الفرق بين الحد والقصاص.

    ومن الفوارق بينهما كذلك أن الله جل وعلا جعل الحد لا يسقط ولا تجوز فيه الشفاعة، ولكن يسر الله على لسان رسوله دفع الحد بالشبهات، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات).

    ومن جملة ذلك ما يروى عن جماعة من الناس أتوا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه يستعدونه شاعراً يقال له: النجاشي ، فاسقاً في لسانه، فهجا قوماً يتهمهم بما ليس فيهم، فكان عمر يدرأ الحد عنه بالشبهة، فكان يقصد بالبيت شيئاً فيحمله عمر على معنى آخر مع أنه ضليع في لغة العرب، حيث قال يهجو بني العجلان:

    قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل

    فقال عمر : ليت آل الخطاب كذلك.

    فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنه يقول:

    ولا يردون الماء إلا عشية إذا صدر الوراد عن كل منهل

    فقال عمر : ذلك أخف للزحام وأصفى للماء. مع أنه أراد ضعفهم وعجزهم، وأراد عمر أن يغير المعنى، فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنه يقول:

    تعاف الكلاب الضاريات لحومهم وتأكل من كعب بن عوف ونهشل

    فقال عمر : أجن القوم موتاهم. يعني: هؤلاء قوم طيبون يدفنون موتاهم فلا تصل الكلاب إليهم.

    فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنه يقول:

    وما سمي العجلان إلا لقولهم خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل

    فقال عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه: كلنا عبد، وخير القوم خادمهم. وكلما ذكروا بيتاً خرج به عمر مخرجاً آخر، وهو يعلم مقصده، لكن هذا من باب: (ادرءوا الحدود بالشبهات) حتى وصلوا معه إلى أبيات لا يمكن دفعها، فجلده تعزيراً.

    والذي يعنينا أن الإنسان يدرأ الحدود بالشبهات بقدر الإمكان، ومن أجل هذا أيضاً علق عمر حد السرقة في عام الرمادة؛ لأن شبهة الجوع والفقر وحاجة الناس كانت طاغية عامة من البلاء العام، فلم يقم الحد في ذلك العام، ولا يقال: ألغى عمر الحد، فهذا ليس لعمر ولا لغيره، ولكن علقه رضي الله عنه وأرضاه اجتهاداً لحاجة الناس آنذاك من باب قوله صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات).

    فهذا -أيها الأخ- ما تيسر قوله حول الثلاث الآيات الأول من سورة النور.

    وفي الدرس القادم سنعرج على قضيتين أخريين، وهما قضية حد القاذف وقضية الملاعنة، ونكتفي بهما بإذن الله تبارك وتعالى.

    وهذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله وأعان الله على أن نمليه، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768252443