إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة النور [2]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من جملة أحكام الشريعة الواردة في سورة النور ما يتعلق بحكم قذف المؤمنين والمؤمنات، فقد أوجب الله تعالى في ذلك على القاذف الإتيان بأربعة شهود، وأوجب عليه عند العجز عن ذلك حداً في ظهره، فيجلد ثمانين جلدة تطهيراً للمجتمع وصيانة لأعراض المؤمنين عن المساس، ولما كان القذف -وهو تهمة المقذوف بالزنا- كان على الزوج إقامة البينة على قذفه امرأته أو الحد في ظهره، وفي ذلك مشقة عظيمة وحرج كبير على الأزواج، فشرع الله تبارك وتعالى حكم الملاعنة استثناء لقذف الزوج من الحكم العام في القذف.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء)

    ذكر ما يترتب على القذف من أحكام

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اعترافاً بفضله وإذعاناً لأمره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

    فغني عن القول أن يقال: إن هذا الدرس له ارتباط وثيق بالذي سبق، وقد شرعنا في الدرس الأول في تفسير فواتح سورة النور، وأخذنا الثلاث الآيات الأول منهن، وبينا أن الله جل وعلا قال: وَفَرَضْنَاهَا [النور:1] إشارة إلى الأحكام، وتكلم الله جل وعلا فيها عن حد الزنا.

    ثم ينتقل بنا القرآن إلى حد آخر، وهو حد القذف، حيث يقول الله جل وعلا: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ... [النور:4]، وذكر تعالى أنه طلب منهم أربعة شهداء، فقال: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4] وهذا الحد يسمى حد القذف.

    وإذا تلبس المرء بجريمة الزنا فإنها تثبت عليه بواحد من ثلاثة: إما باعترافه بنفسه، وهذا هو الذي ثبت به الزنا في عهد النبوة، كقصة ماعز والمرأة التي من غامد.

    وإما بشهود أربعة، وهذا لم يقع في عهد النبوة.

    وإما بأن تحمل المرأة وليس لها زوج معروف، فهذا ما يتعلق بحد الزنا.

    أما الآية التي بين أيدينا فتتحدث عن حد القذف، والله جل وعلا قد أمر من قذف بأن يأتي بأربعة شهداء، فإن لم تقع تلك الشهادة على الوجه الذي أمر الله جل وعلا به ترتب على هذا الأمر ثلاثة أحكام:

    الأول: أن يجلد القاذف ثمانين جلدة.

    الثاني: ألا تقبل له شهادة أبداً.

    الثالث: أن يعتبر فاسقاً.

    ثم جاء الاستثناء بقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا [آل عمران:89].

    أثر الاعتراف في إقامة الحدود

    وقبل أن نشرع في الآية أقول: ذكرنا أن الزنا يثبت بواحدة من ثلاث، ومنها اعتراف المرء، وهذا الاعتراف يحكم به على إطلاقه، إلا فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بأنه ارتكب ما يوجب عليه الحد، فأكثر العلماء من أهل التحقيق على أن الشاعر إذا اعترف في شعره بما يوجب الحد عليه لا يقام عليه الحد؛ لأن الله جل وعلا برأهم بقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:225-226].

    ومما يستأنس به أن عمر رضي الله تعالى عنه ولى رجلاً يقال له: النعمان بن عدي نيسان من أرض البصرة، وذات يوم خلا النعمان بنفسه وكان يحب الشعر ويقوله، فطفح به الكيل وفق تعبيره فقال يتغنى شعراً:

    ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بميسان يسقى من زجاج وحنتم

    فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم

    لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم

    فبلغ عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه ما قاله النعمان فقال: والله إنه ليسوؤني، ومن لقيه فليخبره أنني عزلته، ثم كتب إليه: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ. حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:1-3].

    أما بعد:

    فلقد بلغني قولك:

    لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم

    والله إنه ليسوؤني، وقد عزلتك.

    فقدم النعمان من أرض ميسان من أرض البصرة إلى المدينة فواجهه عمر بالشعر الذي بلغه، فقال: يا أمير المؤمنين! يعلم الله أنني ما شربتها قط، ولكنه شيء طفح به شعري. فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: وأنا أظن ذلك -أي: أعتقد صحة قولك في أنك لم تشرب- ولكنك لن تلي لي عملاً؛ لأنك تحدثت في شعرك عن الخمر.

    قال أهل العلم: إن عمر رضي الله عنه وأرضاه لم يقم الحد عليه رغم أن هذا الوالي في شعره كان صريحاً في أنه شرب الخمر، فهذا الاستثناء يخرج من قولنا: إن الزاني إذا اعترف بزناه يقام عليه الحد، فإذا اعترف في شعره لا يقام عليه الحد.

    وثمت رواية أخرى تؤيد هذا المنحى للفرزدق مع سليمان بن عبد الملك ، ولكن الذي قاله الفرزدق ظاهر الفحش عظيم البذاءة.

    فهذا تحرير قضية استثناء الشعراء من الاعتراف.

    فضيلة ستر معايب الناس

    إن الله جل وعلا يتكلم عما يحفظه المجتمع المسلم، فقد جعل لنا أعيناً وألسناً، وبمقدار ستر المرء لمعائب الناس يكون ستر الله جل وعلا لمعايبه، وقد نص أهل العلم -كما قال سعيد بن المسيب وغيره- على أنه لا يخلو أحد من أهل الفضل -مهما بلغت درجته- من معايب فيه، ولكن لا يحسن إشهارها للناس، وعلى هذا يجب أن تفهم أن كثيراً ممن أعلى الله قدرهم إنما أوقعهم الله على معايب لغيرهم، فلما ستروها وقد وقعوا عليها ورأوها قدراً ستر الله جل وعلا عليهم معايبهم.

    وكثير ممن تسلطوا على أخطاء الناس وعوراتهم سلط الله جل وعلا عليهم غيرهم.

    وهذا كائن في النهج العلمي، فـابن حزم رحمة الله تعالى عليه كان يقال عنه: إن لسان ابن حزم وسيف الحجاج صنوان، فـابن حزم في (المحلى) أجلب بخيله ورجله على الأئمة الأربعة وعلى مالك على وجه الخصوص، ولذا يقال: إن السبب في إعراض الناس عن مذهب الظاهرية من حيث الجملة، وكتب ابن حزم على وجه الخصوص ما جعل فيها من جلب على غيره من الأئمة، ولو كان منصفاً -رحمه الله- مع أولئك لجعل الله له إنصافاً عند الناس، وهذه سنة لله جل وعلا ماضية، وإلا فإنه لا يختلف اثنان ممن ذاقوا رحيق العلم في أن ابن حزم كان إماماً عظيماً جليلاً، ولكن غلبت عليه هذه الصفة فنجم عنها نفرة الناس عن كتبه، وهذه سنن لله جل وعلا لو تأملتها بتؤدة وتريث لوجدت أموراً عظيمة وخبايا عديدة يمن الله علينا وعليك بفقهها.

    شمول حد القذف للرجال والنساء

    يقول تعالى في حد القذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، ولا يمكن أن يغير هذا الحد الشرعي، فجعل الله حد القذف ثمانين جلدة، وجعل حد الزنا مائة جلدة.

    والمحصنات: العفيفات، وليس ذكر النساء هنا المقصود منه الحصر، فقذف الرجال كقذف النساء، وقذف المحصنين كقذف المحصنات، ولكن لما كان الغالب أن القذف يقال في حق النساء ذكرهن الله تعالى هنا دون الرجال، فإن حاجك أحد في أن الرجال لم يذكروا فقل له: أجمعت الأمة على أن الرجال داخلون في ذلك، وإذا أجمعت الأمة فلا سبيل إلى نقض ذلك الإجماع.

    ولهذا فإن من العلم إذا أردت أن تبحث ألا تبحث في مسألة أجمع الناس عليها، ولكن انظر في مسائل الخلاف فلعلك تجد دليلاً ترجح به قولاً تختاره، أما ما اتفق الناس عليه فليس بمجال بحث أبداً؛ إذ لا تجتمع الأمة على ضلالة، خاصة إذا كان الإجماع مشتهراً معروفاً مقرراً.

    فالإجماع منعقد على أن القذف يقع في حق الرجل كما يقع في حق المرأة، وإن لم يسم الله الرجل.

    على أن بعض أهل التأويل يقول: (المحصنات) هنا ليس المقصود بها النساء، وإنما المراد المحصنات من الأنفس رجالاً ونساء. وهذا تخريج جيد، ولو فرضنا بعدم قبوله فإننا محكومون بالإجماع الذي حررناه من قبل.

    أحكام القذف وما ترفعه التوبة منها

    يقول الله تعالى في حكم القاذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، وقد حررنا مسألة الجلد من قبل.

    ثم ذكر الله تعالى الحكم الآخر فقال: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4]، و(أبداً) تأتي في نفي المستقبل، ويقابلها في نفي الماضي (قط)، تقول: لن أفعله أبداً، وتقول عن شيء محكي: ما فعلته قط. و(قط) أحياناً تزاد بفاء التزيين فيقال: (فقط).

    قال تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، ثم قال ربنا: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:89].

    وقد وقع الإشكال بين العلماء في هذا الاستثناء، حيث مرت ثلاثة أحكام، فأيها يرفع الاستثناء إذا تاب الإنسان؟ وقد اتفقوا على أنه لا يرفع الجلد؛ ولأن الجلد حق للمقذوف، فإذا رفعناه لا يستفيد المقذوف من توبة القاذف.

    قذف رجل رجلاً بالزنا فإن كونه يتوب إلى الله لا ينتفع منه المقذوف بشيء، فلا بد من إقامة الحد. واتفقوا كذلك على أن الفسق ينتفي إذا تاب، ووقع الإشكال في قول الله جل وعلا: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4]، فإذا تاب هذا الذي قذف بعد أن أقيم الحد عليه فهل إقامة الحد عليه ثم توبته بعد إقامة الحد تجعلنا نقبل شهادته بعد ذلك أم لا؟ للعلماء في ذلك قولان: فمذهب الجمهور أنه تقبل شهادته، ومذهب أبي حنيفة رحمه الله أن شهادته لا تقبل، وجعل الاستثناء مخرجاً له من دائرة الفسق فقط.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم ...)

    المخرج الشرعي للأزواج من حد القذف العام

    ثم قال الله جل وعلا بعدها: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [النور:6] ، هذه الآية الثانية جعلها الله مخرجاً للأزواج؛ لأن الإنسان إذا رأى امرأة غير زوجته مع رجل فإنه قد يصيبه شيء من الغيظ، ولكن لا يصل إلى درجة رؤيته مع زوجته، وحينئذٍ فإنه إذا أراد أن يقام الحد لزمه الإتيان بأربعة شهود، وقد يتعذر عليه ذلك، فيقول: أنا لا استطيع أن آتي بشهود، وهذا أمر لا يخصني.

    فهذه مسألة ظاهرة، والأمر فيها ليس بالكبير على الرائي، ولكن الحرج -عافانا الله وإياكم- أن يرى الرجل رجلاً مع زوجته، فإن قتل قُتِل، وإن تكلم طولب بأربعة شهداء، وإن سكت سكت على أمر عظيم، فجعل الله تعالى له المخرج بقوله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [النور:6] وهذا تخصيص بعد العموم السابق، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ [النور:6]، أما إذا كان لهم شهود فالمسألة قد حلت من قبل في آية القذف، وهذه آية الملاعنة وليست آية القذف.

    فجعل الله جل وعلا آية الملاعنة فك خناق عن الأزواج؛ إذ لما نزلت آية القذف طولبوا بأربعة شهداء، فإذ لم يأتوا بهؤلاء الأربعة طبقت عليهم تلك الأحكام الثلاثة، فضيق ذلك على الناس.

    ويقال: إن عويمراً العجلاني

    أرسل رجلاً يقال له: عاصم بن عدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله بعد نزول آية القذف: كيف يصنع الإنسان لو رأى رجلاً مع امرأته؟

    فذهب عاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأغلظ له النبي عليه السلام في الجواب، فلما رجع عاصم إلى عويمر سأله عويمر : ما الخبر؟ فأخبره عاصم بأنه لم يلق خيراً من سؤاله هذا، ولكن عويمراً لم يصبر، وكأنه كأن يرتاب في زوجته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: (البينة أو حد في ظهرك).

    فلما رجع وجد الذي كان يخشاه، فعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية المعروفة بآية الملاعنة، وفيها نصرة لـعويمر ؛ لأنه لما قذف عويمر زوجته ولم تنزل الآية في نفس الليلة باتت الأنصار تقول: ليقامن غداً حد القذف على عويمر . بناء على الآية التي قبلها في حد القذف، فلما نزلت هذه الآية فك خناق، فقال الحق سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النور:6-7].

    فجيء بـعويمر وجيء بزوجته بعد أن نزلت الآية، فأقسم عويمر قائلاً: أشهد بالله إنني لمن الصادقين فيما رميتها به، وفي الخامسة -وهي الموجبة- قال: أشهد أن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به.

    وجيء بالمرأة فقالت: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به، وقالت في الخامسة: أشهد بالله أن غضب الله علي إن كان من الصادقين فيما رماني به.

    ونقل أنها قبل أن تقول الخامسة خوفت؛ لأنها هي الموجبة، فتلكأت ثم قالت: والله لا أفضح قومي سائر اليوم، ومضت في يمينها، فقال صلى الله عليه وسلم -كما روى أنس -: إن جاءت به كذا وكذا، -ذكر أوصافاً لـعويمر - فقد ظلمها، وإن جاءت به سابق الإليتين، خذلج الساقين، أكحل العينين فهو لما رماها به؛ لأن شريك بن سحماء الذي رماها عويمر به كانت هذه صفاته، ثم إنها وضعت حملها، فجاء الولد شبيهاً بمن رماها به، فقال صلى الله عليه وسلم: (لولا كتاب من الله كان لكان لي معها شأن)، ومعنى هذا أن الحدود إذا أقيمت والقضاء إذا تم فإنه يفرغ من الأمر، والمقصود هو إقامة حد الله، أما إصابة عين الحق فليست بواجبة على البشر.

    صور الفراق بين الزوجين وما يترتب عليها

    هذه الآية تسمى آية الملاعنة، وينجم عنها أن الإنسان إذا فارق زوجته فإن الفراق قد يكون بطلاق وقد يكون بلعان، والطلاق يقع في ثلاث صور فإما أن يقع طلاقاً رجعياً، وإما أن يقع طلاقاً بائناً بينونة صغرى، وإما أن يقع طلاقاً بائناً بينونة كبرى.

    فأما إذا طلقها طلاقاً رجعياً فإن له أن يراجعها ما دامت في العدة، وهو أولى بها، وهذا لا خلاف فيه.

    فإن طلاقها طلقة أو طلقتين وقضت العدة ولم يراجعها فقد بانت منه، ولكن هذه البينونة تسمى بينونة صغرى، بمعنى أن له أن يعود إليها، ولكن بعقد جديد ومهر جديد.

    وأما إذا طلقها ثلاثاً فإنها تبين منه بينونة كبرى، وهذه الحالة قال الرب فيها: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].

    فلا بد من أن تتزوج غيره لتحل له.

    وأما الملاعنة فإنها إذا وقعت لا تحل المرأة للزوج بعدها أبداً ولا يحل لها، ولا يمكن أن يجتمعا مرة أخرى، ولو تزوجت عشرات الأزواج بعده؛ لأنه إذا وصل الأمر بهما إلى أن يتهم الرجل زوجته أو ينتفي الرجل من ابنه فإن هذا معناه أنه محال أن تعود المياه بعد ذلك إلى مجراها بينهما.

    وأما الصغير الذي تم التلاعن من أجله فإنه يلحق بأمه ولا ينسب إلى الزوج.

    توجيه ذكر اللعن في حق الرجل والغضب في حق المرأة

    وبعض الفضلاء من أهل العلم يستعجل في فهم قضية اللعن والغضب، وكذلك بعض المعاصرين ممن هم إلى الثقافة أقرب منهم إلى التأصيل، فيقولون: إن الإسلام يشدد على المرأة؛ فالله تعالى قال في حق الرجل: وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النور:7]، وقال في حق المرأة: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا [النور:8-9]، فذكر في حق المرأة الغضب، وهو السخط، وهو أشد من اللعن، وهم يفقهون بادي الرأي أن المسألة فيها ميل إلى الرجل ضد المرأة.

    وليس الأمر كذلك لو تأملته، فالرجل إذا قذف امرأته فلو قدرنا أنه كان كاذباً فإن غاية ما يمكن أن يوصف به الرجل أنه كاذب قاذف فإن الحد في حقه هو حد القذف، فكذبه موازن لحد القذف، ولكن لو قدرنا أن الرجل كان صادقاً فيما رماها به وكانت المرأة كاذبة في البراءة فإنها تكون زانية، وأيهما أعظم: القذف أم الزنا؟

    والجواب: الزنا، فاللعن مناسب للقذف ويلزم الرجل، والغضب مناسب للزنا، فليست القضية قضية تفريق بين رجل وامرأة، وإنما القضية أن الرجل إذا كان كاذباً في دعواه فغاية الأمر أنه قذف زوجته بما ليس فيها، فيصل إلى مرحلة القذف، وهذا حقه اللعن، ولكن المرأة إذا كانت كاذبة في دعواها البراءة فهي لا تصبح قاذفة كزوجها، بل تصبح زانية يقيناً.

    فإذا أصبحت زانية فإن الزنا أشد من القذف، إذ الزنا حده في المحصن الرجم، والقذف حده الجلد ثمانين، فاللعن يوافق حد القذف، والغضب يوافق حد الزنا.

    فليست القضية قضية ممالأة رجل ضد امرأة، وإنما القضية هي أن الغضب يوافق الزنا واللعن يوافق القذف، وهذا أمر يحسن تحريره.

    فائدة نحوية

    ومن القضايا التي يتكلم عنها في هذه الآية المباركة جملة من القضايا النحوية، حيث يقول الله: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، فـ (جلدة) تمييز؛ لأنها تزيل الإبهام المتصل بالعدد، ويسمى عند النحويين: تمييزاً ملفوظاً، والتمييز الآخر يسمى بالتمييز الملحوظ.

    فالتمييز الملفوظ: يزيل إبهاماً في عدداً، أو مساحة، أو كيل، أو وزن.

    وأما الثاني فإنه يدخل في باب المعاني غالباً، فتقول: ازدانت المدينة مدخلاً، وطاب محمد نفساً.

    وهذا التمييز الملحوظ يصح فيه القلب، فتقول: طابت نفس محمد، وازدان مدخل المدينة.

    فهذه قضايا نحوية نراها مهمة في فهم كلام الله تبارك وتعالى.

    1.   

    حكم قذف الوالد ولده

    قلنا: إن الله جل وعلا تكلم في الآية الأولى عن حد القذف، وتكلم في الآية الثانية عن الملاعنة، وقلنا: إن الملاعنة إنما هي تخصيص عن حد القذف.

    وهنا مسألة تتعلق بالقضية، وهي ما لو قذف الوالد ولده، فحق الوالد على الولد عظيم، وفي الحديث: (أنت ومالك لأبيك)، ولما ذكر الله تعالى البيوت في آخر السورة ذكر بيوت الآباء وغيرهم من القرابة، ولم يذكر بيوت الأبناء؛ لأن بيت أبيك حق مشاع بالنسبة لك، فلم يذكره الله جل وعلا، فحق الأب شيء عظيم.

    فإذا قذف الوالد ولده فهل للولد أن يطالب بالحد أم ليس له ذلك؟

    اختلف العلماء على قولين: فمنهم من قال: إنه يطالب أخذاً بعموم الآيات، ومنهم قال: إنه لا يطالب، أخذاً بالآيات الدالة على وجوب الإحسان إلى الوالدين، ولا شك في أن إقامة حد على والد بسبب ولده يعارض الإحسان.

    وإنك لتعجب من بعض الأقوال في هذه المسألة حين تقرؤها، ولكن العجب ينتفي إذا علمت أن الله كتب النقص على عباده.

    فقد قال بعض المالكية: إن له أن يطالب بحد القذف، ثم إذا أقيم الحد على الوالد يعتبر الولد عاقاً والعقوق كبيرة، فهل يعقل أن يقول قائل: إن حدود الله إذا نفذت تقود إلى الكبائر؟! هذا محال، فالقول هنا لا يستقيم.

    وعليه فإن على الإنسان إذا أراد أن يملي قولاً أو أن يظهر رأياً أو أن يحرر مسألة عليه قبل أن يعرض المسألة على الناس أن يعرضها على نفسه، فيدخل عليها الخوارم، ويحاكم نفسه بنفسه، وينصب العداء لنفسه في هذه المسألة، ويأتيها من كل شق، ويرميها بكل نبل، فإن ثبتت وتحررت وبقيت أخرجها للناس، وذلك خير له من أن ترمى.

    والناس يصنعون هذا جبلة من غير أن يشعروا، فقل أن يشتري أحداً دابة، أو يشتري قلماً إلا وقد حرره أو جربه قبل ذلك، وما يقال في الأمور المحسوسة ينبغي أن يقال في الأمور العلمية.

    1.   

    حكم تنصيف حد العبد القاذف

    وهنا قضية أخرى في قضية القذف، وهي أن العلماء ذكروا أن العبد إذا زنا يقام عليه الحد إذا كان بكراً نصف الجلد، أي: خمسون جلدة، فإذا قذف العبد أحداً فهل ينصف حد القذف أم لا؟

    فذهب الجمهور إلى الأخذ بالقياس على حد الزنا، ونقل عن عمر بن عبد العزيز -واختاره الإمام الشنقيطي في تفسيره- أن القياس هنا غير صحيح، وأنه لا يقاس حد القذف على حد الزنا، وقالوا: إن الله تعالى قال في الإماء: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، فهذا أصل في حد الزنا فقسنا عليه الرجال، وأما حد القذف فهو غير حد الزنا، وهذا هو رأي عمر بن عبد العزيز ، فلا يرى أن حد القذف ينصف، وإنما يرى أن يجلد العبد إذا وقع منه القذف ثمانين جلدة كما يقع على الحر.

    1.   

    النظرة الشرعية إلى ولد الزنا

    وهنا مسألة أخرى، وهي الوليد الذي ينشأ من الزنا، وهذه مسألة تكثر في كل زمان ومكان، وقد ساد أقوام من هذا الصنف، ومن أشهرهم تاريخياً زياد بن أبيه أحد أمراء العرب في عصر بني أمية، وقد استعمله علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكان جباراً فتاكاً، فلما آل الأمر إلى معاوية طلبه وألحقه بهم وقال: إن أبا سفيان هو الذي كان سبباً في ولادته من امرأة كان يأتيها في الطائف، فكان يعرف بـزياد بن أبيه؛ لأنه لا يعرف له أب، ثم عرف بـزياد بن أبي سفيان .

    وقد ولي زياد العراق في أيام بني أمية، وهو صحاب الخطبة المشهورة بالبتراء، والبتراء هي المقطوعة، حيث صعد المنبر وقال دون أن يحمد الله أو أن يثني عليه أو أن يصلي على رسوله:

    أما بعد: فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء ما عليه سفهاؤكم، واشتمل عليه علماؤكم .. وأخذ يهدد ويوعد.

    وتسمى هذه الخطبة عند اللغويين بالموقف اللغوي الكامل، وذلك أن المواقف اللغوية تتكون من ثلاثة عناصر مرسل ورسالة ومستقبل، فإذا استطاع المرسل أن يتقن الرسالة وصلت الرسالة إلى المرسل إليه.

    فالرجل صعد على المنبر في قوم ذوي ثورة وتمرد على ولاتهم، فلا يحسن معهم الشفقة، فالموقف القوي يطلب منه أن يقدم رسالة يظهر فيها حزمه، فلهذا بدأها بغير حمد الله والثناء عليه.

    وإنما فعل ذلك لمناسبة الموقف، وهذا مثل ذبح الأضحية يوم العيد، فإنه لا يقال معه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأننا لو قلنا: (الرحمن الرحيم) لما نحرنا ما بين أيدينا من الضأن.

    و لكن نقول: (باسم الله، الله أكبر) لمناسبة الموقف.

    وقد زعموا أن أبا عمرو بن العلاء كان راكباً على دابته، فمر بسوق النخاسين، وجملة من في السوق قوم لا يفقهون من اللغة إلا اليسير، وكان قد اختلط العرب بالعجم، وهو ضليع في النحو مغرق في مسائل الألفاظ العويصة، فسقط من فوق دابته فاجتمع الناس عليه خوفاً من أن يكون قد أصابه مكروه، فقال لهم: ما لكم تكأكأتم كتكأكؤكم على ذي جنة، افرنقعوا.

    فلم يقم أحد؛ لأن الموقف اللغوي هنا ناقص؛ إذ النحاة العالمين بـ (عسى) ولـ (عل) يفهمون مراده، فكيف يفهمه العامة؟!

    وقد أراد أن يقول: ما لكم تجمعتم علي كتجمعكم على رجل مجنون، انصرفوا. ولكن الناس لم ينصرفوا، ولم يتحركوا عنه؛ لأنهم لم يفقهوا شيئاً مما يقول.

    وغاية ما أردت بيانه هو شأن أمثال زياد ، فهذا الصبي الذي حصلت فيه الملاعنة جاء في المسند بسند فيه ضعف ولكنه يقبل في مسائل الأخبار أنه رؤي أميراً على إحدى الولايات في مصر.

    وبعض العلماء وهو يفسر القرآن نجده يلحظ هذه القضية، وذلك في قول الله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71]، والمراد: بكتابهم؛ لأن الإمام ورد في اللغة بمعنى: الكتاب، وفي القرآن وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12].

    فقال بعض المفسرين -وأظنه محمد بن كعب القرظي -: (بإمامهم) يعني: بأمهاتهم. فقيل له: لماذا لا يدعون بآبائهم؟! فقال: ستراً على أبناء الزنا؛ لأنه لا يعرف لهم آباء، وإظهاراً لشرف الحسن والحسين في نسبتهما إلى فاطمة ؛ لأن فاطمة بنت نبينا صلى الله عليه وسلم.

    والمقصود أن هذه الاستحضارات يستحضرها الناس أحياناً في الكلام عن القضايا، والتفسير علم مفتوح تلتقط أوراقه من هنا وهناك، وهذا كله يدخل في باب المعرفة.

    1.   

    فضيلة الكف عن معايب الناس

    وبقي الآن ذكر ما أراده الله من تحريك القلوب بذكر القذف وإيجاب الحد فيه، وذكر الملاعنة، فنقول: إن الإنسان كلما من الله جل وعلا عليه بحفظ لسانه من الخوض في أعراض الناس كان أقرب إلى ربه وأدنى إلى شرف المعالي.

    ولا يليق برجل يأمل يوماً أن يكون ذا شأن أن يشغل نفسه بالآخرين، وليس زعيم القوم من يحمل الحقد، والذين يحملون الحقد والحسد هم أكثر الناس حديثاً عن غيرهم؛ لأنه يضيرهم ما يرون من نعم الله جل وعلا على غيرهم، فيدفعهم ذلك الحسد الذي في قلوبهم إلى أن يلفقوا الأخبار ويصطنعوا الأحاديث على سواهم، فينجم عن ذلك انتقاص الناس، فيسلط الله جل وعلا عليهم من يكشف عيوبهم.

    ولكن العظيم الشأن الذي أرجو الله أن نكون مثله يترفع عن مثل هذه الأمور ولا يعبأ بها ولا ينظر إليها، وإنك لن تغيظ عدوك بأكثر من أن تظهر عدم مبالاتك به، يقول المتنبي :

    أفي كل يوم تحت إبطي شويعر ضعيف يقاويني قصير يطاول

    لساني بنطقي صامت عنه عادل وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل

    وأتعب من ناداك من لا تجيبه وأغيظ من عاداك من لا تشاكل

    فالإنسان إذا أراد أن يقهر عدوه فلن يجد شيئاً يقهره به مثل ترفعه عن مجاراته، وقد قال أبو تمام :

    إذا جاريت في خلق دنيئة فأنت ومن تجاريه سواء

    رأيت الحر يجتنب المخازي ويحميه عن الغدر الوفاء

    فهذه جملة من الآداب واللافتات المعرفية والعلمية حول هاتين الآيتين المباركتين من سورة النور يسر الله جل وعلا أن نقوله ونمليها، والله المستعان وعليه البلاغ.

    وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768277520