إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة النور [4]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من جملة أحكام سورة النور العظيمة إرشاد الله تعالى عباده وتأديبه لهم وذلك ببيان آداب دخول بيوت الآخرين، فقد بين تعالى ما يجب على الداخل فعله، وما يفعله من لم يُجب عند استئذانه، وما يحل دخوله بغير إذن من البيوت. كما أن من جملة أحكامها أمر الله تعالى عباده المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار، وحفظ الفروج، وخص تعالى المؤمنات بنهيه لهن عند إبداء الزينة لغير الزوج والمحارم، ولعلمه تعالى بقصور عباده -وإن امتثلوا- أمرهم بالتوبة صقلاً لقلبوهم وتحصيلاً لمغفرة ربهم.

    1.   

    بيان صلة آداب دخول البيوت بالكلام عن الزنا وأحكام القذف

    الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه.

    وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

    فهذا هو الدرس الرابع من دروسنا في سورة النور، وقد بينا من قبل أنها سورة قد جمعت أحكاماً وآداباً، وكان الصحابة -كما هو المنقول عن عمر وعائشة - يوصون الناس بتلاوتها وتدبرها، وقد مضى الحديث في الدروس الأولى أكثر ما كان يتعلق بقضية فاحشة الزنا، فذكر الله جل وعلا أحكام فاعليها ومآلهم وحد القذف، ثم ذكر الله بعد ذلك براءة الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنها وأرضاها.

    وقد ناسب الكلام عن الزنا والفواحش أن يكون بعده آداب تبين للمؤمنين الطرائق المثلى للنجاة من تلك الفواحش، والقرآن مفزع أهل الملة يلجئون إليه؛ لأن الله جل وعلا جعل فيه خبر الغابرين وأنباء السابقين، وأحكاماً أنزلها على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.

    فلما كان الزنا بريده الخلوات والنظر والاطلاع على العورات، ناسب بعد ذلك أن يبين الله جل وعلا الطرائق المثلى والسبل العليا في غض البصر وحفظ الفرج وسلامة البيوت وستر العورات؛ حتى يكون المؤمنون على بصيرة من أمرهم.

    والرب جل وعلا يقول في كتابه العظيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26]، ومن أراد أن يبين للناس الحق ويدلهم على الرشد فإنه لا يستحيي من أمر دون آخر، وإنما يكشف الأمور بجلاء، وكذلك القرآن تنزيل رب العالمين جل جلاله، فقد يقول قائل: كيف يتكلم الله عن العورات، وكيف يتكلم الله عن البيوت، وكيف يتكلم الله عن المحيض؟!

    والجواب أن هذا الكتاب جعله الله جل وعلا هدى بين فيه للناس ما يهمهم في أمر دينهم ودنياهم.

    ولما كان يوم القيامة يوم حساب ويوماً تعرض الأعمال فيه على الله كان حقاً على الله من قبل ذلك -ولا ملزم لله- أن يبين لخلقه كل أمر؛ حتى يكون الحساب على ذلك، قال الله جل وعلا: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة:115].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم ...)

    كرامة المؤمن على الله

    والآية التي نحن بصددها هنا هي قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27].

    فالياء حرف نداء، والمنادى هم الذين آمنوا، والنداء بـ (الذين آمنوا) يسمى نداء كرامة، في حين أن النداء بقوله: (يا أيها الناس) أو: (يا بني آدم) نداء علامة بحسب ما اتصفوا به، فـ (يا أيها الذين آمنوا) نداء كرامة، والمؤمن كريم على الله.

    ومن أعظم الدلائل على أن المؤمن كريم على الله ما روي من أن خلف بن عمرو قرأ على أحد الصالحين القرآن، فلما وصل إلى قول الله جل وعلا: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7] بكى الرجل الذي كان يقرأ عليه القرآن، فقال له: ما يبكيك؟ فقال: يا خلف ! انظر كرامة المؤمن عند الله، نائم على فراشه وتستغفر له حملة العرش!

    المراد بإضافة البيوت في قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم)

    قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النور:27] الملكية هنا ليست مراده، فقوله تعالى: (غير بيوتكم) أي: غير التي تسكنون، وهذا واقع في هذا العصر، فإضافة البيت هنا ليست إضافة تمليك، والمقصود البيت الذي تسكنه، فالبيت الذي تملكه إذا أجرته من غيرك فسكنه فإنه لا يعتبر في عرف الآية ودلالتها بيتاً لك، فالله يخاطبك فينهاك عن البيوت التي لا تسكنها، بصرف النظر عن تملكها، وكونك في بيت ملك أو في بيت مستأجر، فالعبرة هنا بالسكنى.

    بيان المراد بالاستئناس

    وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27] (حتى) تأتي لابتداء الغاية، وتأتي لانتهاء الغاية، وقد قال أحد النحاة: أموت وفي نفسي شيء من (حتى)، وأظنه أبا عمرو بن العلاء ، فقد درس النحو وتعمق فيه، وكان من الأقدمين من شيعة سيبويه الأولين، يقول: أموت وفي نفسي شيء من (حتى)؛ لأن ما بعدها يصلح له كل شيء، فلم يستبن له الأمر فيها.

    فـ(حتى) هنا لانتهاء الغاية أو لابتدائها، وهذا كله يظهر حسب سياق القرآن.

    فقوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27] هذا أدب رباني يعلم الله فيه المؤمنين، ولكن الإشكال قائم عند العلماء في معنى الاستئناس، فالسلام معروف، واختلفوا في الاستئناس، فقال قوم: الاستئناس هو الاستئذان نفسه. وقال آخرون: إن الاستئناس أن تحدث صوتاً قبل أن تستأذن، كأن تتنحنح أو ترفع من صوت سيارتك إذا قربت، أو تغلق بابها بقوة لتشعر أن هناك رجلاً قادماً.

    والعلماء يقولون: إن الاستئذان ثلاث مرات: فالمرة الأولى حتى لينصت أهل الدار، والمرة الثانية ليستصلحوا، ويغيروا في أثاث البيت، والمرة الثالثة ليأذنوا أو ليقولوا لك: ارجع.

    وبعض العلماء يقول: إن الاستئناس لا هذا ولا ذاك، وإنما هو ضد الاستيحاش، والاستيحاش: الوحشة، والقادم على أي دار يجد في نفسه وحشة وغربة، فهل سيقبله أهلها أم لا، فإذا قبل زالت عنه تلك الوحشة، ولذلك كان حرياً بمن يستقبل أن يقول: مرحباً أهلاً وسهلاً، فغربتك تشفى بكلمة (أهلاً)، أي: وجدت لك أهلاً يذهبون عنك الوحشة، فهذا هو الذي دفع أقواماً إلى أن يقولوا: إن الاستئناس هو من الأنس وإبعاد الوحشة.

    يعني: لابد أن يتبين لك أن أهل الدار راغبون في استقبالك أو غير راغبين، فإن فهمت منهم -ولو أذنوا- أنهم غير راغبين؛ فالأولى والأحرى أن تنصرف. وهذه المعاني لم تتعرض لها الآية، ولكنها استنباطات العلماء، وفرق بين النص وبين تعليق العلماء على النص، فالتقديس يذهب إلى النص، وعدم التقديس يذهب إلى غير النص.

    نقول: ويدل على أن معنى الاستئناس ما ذكره قول الله جل وعلا: آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص:29]؛ فإن موسى عليه السلام كان في حالة وحشة، فلما رأى النار ورأى النور زالت تلك الوحشة، كإنسان غريب ضائع تائه في صحراء مظلمة يخشى ويستوحش، فحين يرى عن بعد شيئاً ما تزول عنه تلك الوحشة تدريجياً.

    قال تعالى: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27] أي: أهل الدار، وقد قلنا: إن الاستئذان قد دلت السنة على أنه ثلاث، كما في حديث عمر لما استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وقد اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في تلك المشربة، فإنه بعث عبداً يستأذن النبي عليه الصلاة والسلام، فرده مرتين فلم يجب وفي الثالثة قبله.

    قال تعالى: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27].

    أي: هذا التشريع الرباني والنص الإلهي والأدب القرآني خير لكم، ولابد من أن يكون فيه خير؛ لأنه من عند الله، والتذكر والتبصر لا يكون إلا بتعاليم الكتاب وتعاليم السنة.

    ذكر قصة عمر في الاستئناس

    وتذكر في هذا الباب قصة عمر رضي الله تعالى عنه في قضية الاستئناس والاستئذان، وذلك عمر رضي الله تعالى عنه مر على حائط فيه فتية من الأنصار يشربون الخمر، فتسور الحائط بعد أن تبين له أن هناك سكارى خلفه، فداهمهم وأنكر عليهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين! قد جئنا بواحدة -وهي شرب الخمر- وجئتنا بثلاث: وهي أنك تجسست، والله قد نهى عنه، وقال الله تعالى: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27] ولم تستأنس، وقال: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189] وأنت تسورت علينا الحائط، فرجع عنهم وهو يقول: كل الناس أفقه منك يا عمر .

    وقد قيل: إن عمر رضي الله تعالى عنه قبل قولهم من باب أنهم استندوا إلى القرآن، ومن علامة التقوى أن يقبل الإنسان الأمر الرباني ولو جاء من أقل منه، وقد قال حافظ رحمه الله تعالى يصور هذا الموقف:

    وفتية أولعوا بالراح فانتبذوا لهم مكاناً وجدوا في تعاطيها

    ظهرت حائطهم لما عَلِمَت بهم والليل معتكر الأرجاء ساجيها

    قالوا مكانك قد جئنا بواحدة وجئتنا بثلاث لا تباليها

    فأتِ البيوت من الأبواب يا عمر فقد يُزَّنُّ من الحيطان آتيها

    ولا تجسس فهذي الآيُ قد نزلت بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها

    فعدت عنهم وقد أكبرت حجتهم لما رأيت كتاب الله يمليها

    وما أنفت وإن كانوا على حرج من أن يحجك بالآيات عاصيها

    فما دام أن من يخاطبك ويجادلك يخاطبك بهذا النور المبين فإنه يجب عليه أن تقبله، ولو كان هو لا يعمل به؛ لأنه قد أقام الحجة إليك ودعاك بهذا القرآن.

    وهذه القصيدة تسمى بالعمرية، وهي موجودة في ديوان حافظ في أكثر من مائتي بيت، كنا نحفظها في زمن الصبا وقد قسمها حافظ باعتبارات جملة أحداث، فقد قال في قصة نصر بن حجاج ، الذي كان وسيماً فنفاه عمر إلى الكوفة أو إلى البصرة:

    جنا الجمال على نصر فغربه عن المدينة تبكيه ويبكيها

    ثم ذكر الأبيات.

    وذكر قضية رسول كسرى حين قدم على عمر فقال في أولها:

    وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها

    ثم لما قال صاحب كسرى : حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر ، قال حافظ :

    أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها

    وفي تاريخ عمر عزله لـخالد ، فقال:

    سل قاهر الفرس والرومان هل شفعت له الفتوح وهل أغنت تواليها

    وذكر عمر وجوعه في عام الرمادة، فقال:

    يا من صدفت عن الدنيا وزينتها فلم يغررك من دنياك مغريها

    وقد استطردنا في هذا وإن كنا في كتاب التفسير، ولكن المنهج في تعليمنا للناس هو أننا نفرع كثيراً؛ حتى نبين أن جماع التفسير هو العلم بشتى الفنون، فذلك يقودك إلى أن تكون إماماً في التفسير، وأما من كان معتمداً على فن واحد دون سواه فقل ما يستطيع أن يجري في مضمار علم التفسير؛ لأنه إذا كان القرآن أم العلوم كلها فلابد من أن يكون القائم به مطلعاً على شتى الفنون، قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: بل السنة كلها في آية واحدة: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

    بيان معنى قوله تعالى (فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها ...)

    قال ربنا جل وعلا: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ [النور:28] يعني: البيوت، ولم يقل الله: (فإن لم يكن) بل قال: (فإن لم تجدوا)، فبين الجملتين فرق، فلو قال جل وعلا لو قال جل وعلا: (فإن لم يكن) فمعنى ذلك: أن البيت لا يوجد أحد فيه، ولكن لما قال: (فإن لم تجدوا) فمعنى ذلك أنه قد يكون فيه أحد، ولكنه لم يتبين لك هل فيه أحد أو لا، فإذا أتيت إلى بيت أحد أصدقائك فطرقت الباب وهم موجودون، فهم إما نائمون وإما منشغلون، وإما سمعوا الطرق ولا يريدوا أن يجيبوا، فلا تدري هل هم موجودون أو لا، فبعد طرقة أو طرقتين أو ثلاث تكاد تقتنع بأنهم غير موجودين.

    ثم قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا [النور:28]، فلو قدر أن رأيناها مفتوحة فإننا لا ندخل؛ لأنها مغلقة بأمر الشرع لا بالمفتاح، وهو قول الله جل وعلا: فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ [النور:28]، فالبيوت عورات، فلا يجوز لأحد أن يقتحمها، وإذا استضافك أحد في قعر البيت فلا تلتفت ميمنة ولا ميسرة ولا تنظر فيما لا يعنيك، بل ادخل مطأطئاً رأسك غاضاً بصرك حتى تصل إلى المكان الذي أدخلك فيه.

    والإنسان إذا كان في سلطان أحد فإن من الأدب الإلهي والنبوي أن يأتمر بأمر ذلك الذي بيده السلطان، بمعنى أن صاحب البيت أدرى أين يضعك، فلو وضعك في صدر المجلس فاجلس فيه، ولو وضعك في ميمنة أو ميسرة فاجلس حيث وضعك؛ لأنه أدرى بالمكان.

    ذكر أحوال الاستئذان ورده

    قال ربنا جل وجلاله: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28].

    قال أحد الصالحين -كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير -: قضيت عمري كله أطرق أبواب الناس، أريد أن يقول لي أحد من أصحابي: ارجع حتى أظفر بقول الله: هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28].

    وبعض الناس اليوم لا يفقه هذه المعاني العظيمة في القرآن، فلو قيل له: ارجع لأخرج جواله مباشرة فبعث عشرات الرسائل لأصدقائه يخبرهم أن فلان بن فلان طرقت بابه فقال لي: ارجع، مع أن رب العزة يقول: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28] فلأن ترجع خير من أن تقف بباب أحد لا يريد منك أن تدخل.

    فالكريم لا يدخل إلا في مجالس له فيها مقام، وأما الأماكن التي لا تليق به أو لا يريد أصحابها أن يدخلها أو يأتيها أو يزورها فهو ينأى بنفسه عنها، وفي الأرض منأىً للكريم عن الأذى.

    وفي بيت لأحد علماء شنقيط يقول فيه:

    وما حر يقيم بأرض هون ولو كانت مقر الوالدين

    لأن الإنسان المتأدب بأدب القرآن لا يقبل أن يدخل مكاناً ليس له فيه مقام، والعامة يقولون في أمثالهم الدارجة المقبولة: من يأتي بلا عزومة يقعد بلا فراش.

    والمقصود بيانه أن الإنسان لا يذهب إلا على بينة، وهذا يختلف باختلاف العادات والتقاليد والأعراف وحالة أصحابك وخلانك.

    قال الله تعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28] الأمر بالرجوع له ثلاث حالات:

    الحالة الأولى: الحالة الصريحة التي نص عليها القرآن، وهي أنه يقول لك: ارجع، بصريح الخطاب.

    الحالة الثانية: ضمنية، وهي أن تستأذن فلا يؤذن لك، فيأتيك من بعثته ويقول: قلت لهم: فلان عند الباب فما ردوا.

    الحالة الثالثة: ضمنية، وهي أن يكونوا موجودين فلا يجيبونك.

    فالحالة الثانية قد يكون فيها غموض، كأن تجد حارساً على باب العمارة، فتبعثه فيعود، ويقول: قلت: فلان عند الباب فما تكلم أحد.

    وفي الحالة الثالثة تطرق الباب ثلاث مرات، ويكون موجودين، ولكنهم لا يردون، فهذا رد ضمني.

    أما الرد الصريح فهو أن يقول لك: ارجع، أو: لا أستطيع أن أستقبلك، فهذه هي التي قال الله فيها: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28].

    قال الله تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:28] أي: أن الله جل وعلا مطلع على كل شيء، فهو يعلم لأي شيء رد هذا وقبل ذاك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة ...)

    ثم قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29].

    قوله تعالى: (ليس عليكم جناح) أي: إثم، (أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم)، ليس المراد بالمتاع المتاع المعروف، المتاع هنا بمعنى: المنفعة، فالمتاع عند الإطلاق يأتي بمعنى المنفعة، كقوله تعالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء:77] أي: منفعة الدنيا قليلة.

    فقوله تعالى: (غير مسكونة) أي: غير مسكونة سكناً أهلياً.

    إذاً فأنت تسافر فتجد دورات مياه وفنادق واستراحات في الطريق، فهذه بيوت غير مسكونة، فلا يلزم فيها الاستئذان.

    وقد كان المسلمون في العصور الأولى يبنون دوراً يرتاح فيها المسافرون، وتقيهم البرد والحر، وكان يبنيها أرباب الأموال، فهذه ليست ملكاً لأحد، فلا تحتاج فيها إلى استئذان.

    ومثلها في عصرنا الفنادق ونحوها، ممن مر على فندق أو على استراحة، فإنه لا يحتاج إلى أن يطرق باب الفندق ليستأذن، إذ الفندق ما بني إلا لهذا، أي: أن تدخل من غير إذن؛ لأن هذا هو المقصود من بنائه.

    ولذلك قلنا: إن المتاع عند الإطلاق يراد به المنفعة، فأي مكان فيه منفعة لك فلا يلزم فيه الاستئذان.

    حكمة التذييل بعلم الله ما يُبدى وما يُكتم

    قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [النور:29].

    قال العلماء في التذييل: قوله: (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) هذا وعيد شديد من الرب تبارك وتعالى لأصحاب النوايا الخبيثة والسرائر البغيضة، المحبين للتطلع على عورات المسلمين.

    فقال ربنا مهدداً لهم ولغيرهم: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [النور:29] يقال: بدا الشيء: بمعنى: ظهر، والكتمان ضد البُدوّ، قال الله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30] والمقصود: الأشياء القلبية والأشياء الظاهرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ...)

    ثم قال ربنا تبارك وتعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].

    انتقل الخطاب في تأديب العباد إلى مرحلة أعلى، فقد منعنا ربنا من دخول البيوت من غير استئذان، ثم حرم النظرة المحرمة، وقد قيل:

    وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر

    رأيت الذي لا أنت كله قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

    والمقصود أن النظرة سهم من سهام إبليس، فأراد الله أن يؤدب عباده فقال: (قل) أي: يا محمد (للمؤمنين) الممتثلين لأمر ربهم (يغضوا من أبصارهم)، وما قال: (ويحفظوا فروجهم).

    فما شرعه الله لك وأباحه أن تراه أكثر مما حرم الله عليك أن تراه، فالمحرم العورات، ولكن النظر إلى غير العورات جائز.

    وأما الفروج فالأصل فيها أنها حرام، فما أباحه الله لنا من الفروج أقل مما حرمه علينا، فلهذا قال: (ويحفظوا فروجهم).

    مفاسد النظرة المحرمة

    وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العين تزني وأن زناها النظر، ولا ريب في أن النظر أولى المهلكات، والإنسان إذا أكثر من النظر أتعب قلبه؛ لأنه لا يملأ فم ابن آدم إلا التراب، فما يزال يتنقل في المناظر ويرى ميمنة وميسرة، ولا ريب في أنه لا توجد امرأة إلا وهناك من هو أجمل منها، وهذا سلسلة لا تنتهي.

    فالعاكفون في زماننا على القنوات في كل حقبة أو مدة أو يوم أو ليلة يظهر لهم شيء آخر، فيبقى الواحد منهم لاهثاً ولن يرتوي، ولهذا منع الشرع العباد من إطلاق العنان للنظر، بل إن الرجل -عياذاً بالله- إذا أكثر من النظر -كالذين يذهبون للسياحة الآثمة، فيذهبون إلى شواطئ العراة وأمثالها- فرأى منظراً تلو منظر فإن فعله هذا ينجم عنه مفسدتان:

    المفسدة الأولى: أنه سيزهد في أهله، وهذا خلاف المقصود شرعاً.

    والأمر الثاني: أنه يجعل في قوته نوعاً من التشتت، فلا يجمع عليه ذهنه؛ لانفكاكه وتفرقه في مجامع ما يراه.

    نسبية الجمال

    وينبغي أن يعلم أنه ينبغي للعقلاء من الرجال أن يعلموا أن القضية الأساسية في جمال المرأة قائمة على حسب ما تكون في عين زوجها، بمعنى أن الإنسان قد لا تكون امرأته ذات جمال يضرب به المثل، ولكن الله جل وعلا يزينها في عينيه، كما أن الله يزينه -ولو لم يكن وسيماً- في عينيها.

    وقد كنت أوصي الشباب عند زواجهم بأن يقول المرء منهم: اللهم زيني في عينيها وزينها في عيني، فإنها إذا زينت في عينك زينك الله في عينيها أفلحتما، بصرف النظر عن الأشياء الجمالية البدنية الخلقية، فالجمال له علاقة كذلك بالجمال الروحي، فإن هذا مما يزين صاحبه، ونحن نعلم قصة قيس بن الملوح الذين فتن بـليلى العامرية وجن بها حتى هام على وجهه في الصحراء، فكل أهل زمانه يقطعون بأن ليلى هذه لن تكون أجمل نساء الدنيا، ولو كانت أجمل نساء الدنيا لما تركها له الأمراء والملوك وأهل الثراء.

    لكن القضية أن الله جل وعلا زين ليلى في عيني قيس ، وقد قال في إحدى قصائده التي تسمى المؤنسة:

    فيا رب إن صيرت ليلى هي المنى فزيني بعينيها كما زينتها ليا

    وقد خبروني أن تيماء منزل لليلى إذا ما الليل ألقى المراسيا

    فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت فما للنوى ترمي بليلى المراميا

    وتيماء ديار معروفة، والليل يلقي مراسيه في الشتاء، إذ يطول فيه، فهو يقول:

    هذه شهور الصيف عنا قد انقضت، فجاء الليل الطويل، ومع ذلك لم تعد ليلى إلى تيماء.

    والمقصود من هذا أن الإنسان بهذه النظرة يفهم الشرع، فلا يأتيك من يأتيك ليزهدك في أهلك أو في فتاة خطبتها أو في قبيلة بعينها، فالقضية هي ما يورثه الله جل وعلا في قلبك من زينة تلك المرأة.

    وهنا قال الله جل وعلا: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] لأن هذا واد مهلك، وأنت ترى من حولك ممن يتيه -والعياذ بالله- فيه ويضيع، وليته يغنم شيئاً محسوساً يعقد عليه أنامله؛ لأن هذا أمر لا ينتهي، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ولا يملأ فم ابن آدم إلا التراب)، فهو بطريقته هذه لن ينتهي ولن يبني قلباً خاشعاً ولا لساناً ذاكراً أبداً.

    وقوله تعالى: (ويحفظوا فروجهم) اختلف العلماء في المعنى، فقال بعضهم: يحفظونها عن النظر إليها، وقال بعضهم: يحفظونها عن الزنا، والصواب أن يقال: يحفظونها عن الأمرين: عن أن ينظروا إليها، وعن الزنا.

    الطريق إلى الطهارة

    قوله تعالى: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30] هذا الطريق الذي رسمه الله جل وعلا لعباده -وهو حفظ الفرج مع غض البصر- هو السبيل إلى نقاء النفس وطهارتها وسموها، بدليل قوله تعالى: (ذلك أزكى لهم) أي: للمؤمنين، (إن الله خبير بما يصنعون).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ...)

    وكما أمر الله الرجال أمر النساء، وهذا خلاف أسلوب القرآن؛ لأن القرآن يجمع، ففي دخول البيوت ما قال الله: (للمؤمنات) لأنهن دخلن في الذين آمنوا، لكن لما كان أمر النظر أمراً عظيماً تبنى عليه مفاسد خاطب الله الرجال والنساء كلاً لوحده، فقال جل وعلا: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31] وهذا قد مضى القول فيه كما قيل في الرجال.

    بيان المراد بالخمار

    قال تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ [النور:31].

    هذا فيه تفصيل على ما سيأتي، والخمار: يجمع على خمر، وهي ما تغطي به المرأة رأسها، ككتاب: يجمع على كتب.

    وأما الجيب فهو الفتحة التي تدخل منها رأسك في الثوب.

    وليس المراد الجيب الذي نضع فيه دراهمنا، فهذا ليس في كلام العرب، وهو صحيح من حيث المعنى، ولكنه ليس مقصود القرآن، وليس من كلام العرب الذين أخذت عنهم اللغة.

    بيان الأمر بضرب الخمار على الجيب والنهي عن إبداء الزينة

    قال الرب تبارك وتعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)، فالمرأة كانت تغطي رأسها فأمرها أن يشمل الغطاء الرأس الجيب، فلا تظهر شعرها ولا صدرها ولا نحرها.

    وقوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن)، قال القرطبي رحمة الله تعالى عليه: الزينة قسمان: خلقية ومكتسبة. فيقول رحمه الله -وتبعه على ذلك بعض الفقهاء-: إن الخلقية أصلها الوجه، والمكتسبة ما يوضع من زينة خارجة عن أصل الخلقة.

    ونقول -والعلم عند الله-: إن اللغة لا تساعد على هذا؛ لأن كلام الله دل على أن الزينة إذا أريدت في القرآن يراد بها غير الشيء المزين، بمعنى أنها منفكة، كما قال الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا [الكهف:7] وما عليها هو النبات، فالنبات لا يقال له: أرض، فالمزين غير الزينة، ومنفك عن الزينة.

    فكلام القرطبي له وجه من النظر، ولكن اللغة لا تساعده.

    بيان المراد بالظاهر من الزينة

    وهذه الآية فيها إشكال في قول الله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]، فقد اختلف العلماء في هذا اختلافاً كثيراً جداً، وسأحرر هنا ما أدين الله جل وعلا به، فأقول ما قاله ابن عطية رحمة الله تعالى عليه، فمعنى كلامه أن ظاهر الآية يدل على أن الله جل وعلا أمر المرأة بإخفاء نفسها بالكلية إلا ما ظهر منها بسبب حركة ضرورية، فذلك المعفو عنه للنساء.

    كشف الوجه وما يرد على المتشبثين بإجازته

    فنحن نعتقد أن وجه المرأة لا يجوز إظهاره وإن قال فضلاء علماء أجلاء من الأمة لهم باع في العلم من السلف والخلف بأن قول الله: (إلا ما ظهر منها) المراد به الوجه.

    ونقول استدراكاً: لا يمكن لنا ولا لغيرنا أن يرفع الخلاف في الأمة، ولكن نعقب بأمور لابد منها؛ لأن الأخيار من العلماء من السلف والخلف الذين قالوا: إنه يجوز كشف الوجه لم يقولوا بما يحدث في هذا العصر، أي: لم يقولوا بأن ستره محرم، ولم يقولوا بأن ستره بدعة، ولم يقولوا بأن كشف الوجه سنة.

    ولم يقولوا: إنه يجوز أن تتزين المرأة في وجهها كما يحصل، بحجة أن وجه المرأة يجوز إظهاره، والأهم من هذا كله -وهذا بيت القصيد- لم أنه يقل أحد ممن يقول بجواز أن تكشف المرأة وجهها: إنه يجوز النظر إليه، وهذا يبطل صنيع كثير مما تراه.

    كامرأة تقرأ الأخبار ولا يظهر منها إلا وجهها، فإذا سئلت عن ذلك قالت: هذا حجاب شرعي على قول طائفة من العلماء، فنقول: نعم، هو حجاب شرعي على قول طائفة من العلماء، ولكن أولئك الأخيار الذين قالوا بهذا إما أن يؤخذ قولهم جملة أو يترك جملة، فلم يقولوا بجواز أن تظهر المرأة بهذا الوجه على الناس جميعاً فيرونه، فهذا لم يقل به أحد، وإلا فلا معنى لقول الله: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم).

    هذا الذي يجب أن ينبه عليه، ولكن الإنسان يغلب عليه هواه، فلا يأخذ الشرع بمأخذ حسن عن أهل العلم.

    وعلى الجانب الآخر نجد أن عدم الفهم الصحيح لشرع الله قد يقابله أحياناً قول أقوام في علماء قالوا بأنه يجوز كشف الوجه، فيقولون فيهم قولاً شنيعاً من غير برهان، وهذا خطأ ليس ببعيد عن خطأ الأولين، فقد قال بالجواز علماء أجلاء لا مطعن في دينهم ولا علمهم ولا عقيدتهم، وإن كنا نرى فقهياً خلاف الذي يقولون، ولكننا لا نتهم مؤمناً في دينه؛ لأنه استبان له من دين الله ومن كتاب الله شيء لم يستبن لنا، على أنه تكاد الكلمة تكون مجتمعة اليوم على أن الفتن التي يعيشها أهل العصر تنبئ أنه من الخطأ العظيم أن يقول أحد اليوم بجواز نقل الأمة من أمر فاضل إلى أمر مفضول.

    فلا شك في أن تغطية الوجه أمر فاضل بالاتفاق، وأن كشف الوجه أمر مفضول، وليس من النصح لله ولا لرسوله ولا للمسلمين أن يحاول أحد أن ينقل الأمة من أمر فاضل إلى أمر مفضول، على القول بأنه يجوز.

    تفاوت المحارم في الزينة المظهرة

    ثم قال ربنا جل وعلا: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ [النور:31].

    هنا مسألة مهمة جداً، وهي فهم القرآن لابد معه من استصحاب أمور عقلية ونقلية، فالتمسك بالأمور الحرفية لا يؤدي إلى علم، بدليل أنه لو جاء إنسان وقال: يجوز للمرأة أن تظهر شبه عارية أمام أبيها، فهل يصح قوله؟!

    والجواب: لا، وإن كان الله تعالى جعل الأب مذكوراً مع الزوج، ولابد من أن نفرق، فما أذن الله به للبعل غير الذي أذن الله به للأب، وما أذن الله به للأب غير الذي أذن الله به للخال والعم وابن الأخ، وما أذن الله به للخال والعم وابن الأخ غير الذي أذن الله به لغير أولي الإربة والطفل.

    فكل بحسبه، وإلا تجرأ على كلام الله من لا يفقه فيه، وعلى الإنسان أن يستصحب أشياء عديدة، ولذلك قلنا: إن الشرع يؤخذ بنظرة كلية تعرف بها مداركه وطرائق العلم فيه قبل أن يتكلم الإنسان في دين الله، فليس القرآن معاني كلمات تقرأ وينتهي الأمر، بل القرآن أجل وأعظم من ذلك، وإلا لغاص في هذا العلم كل أحد، فنقول: هذه قضية يجب استصحابها وفهمها.

    و(البعل) في لغة العرب هو السيد، ويطلق على الزوج، والآباء وغيرهم معروفون، لكن نلحظ أن الله ما ذكر الأعمام والأخوال، وقد قال العلماء: إنهم يجرون مجرى الآباء، وهذا اتفاق الأمة، فقد أجمعت على جواز إبداء الزينة للأعمام والأخوال.

    العورات بين العبيد وسادتهم من الأحرار

    واستثنى الله جل وعلا كذلك فقال: (أو ما ملكت أيمانهن) وأهل العلم يقولون: إنه يجوز للذكر أن يرى أمته، فالأمة أن تبدي زينتها لسيدها، ولكن المرأة الحرة لا تبدي زينتها لعبدها، وإن قال بهذا طائفة، ولكنه بعيد.

    المراد بالتابعين غير أولي الإربة

    وقوله تعالى: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ [النور:31] يظهر من كلمة (التابعين)، أن هؤلاء ناس لا يدرون أين يذهبون، فهم ضعفاء عقلياً أو جسدياً؛ لأن أي تابع فيه ضعف، فإن قال قائل: أنا تابع لله، فهل في ضعف؟ فنقول: فيك ضعف بشري خلقي؛ إذ لولا الله لهلكنا، وتابع النبي صلى الله عليه وسلم ضعيف، فلولا سنته ما عرفنا الدين.

    فهؤلاء يقول الله تعالى عنهم: (أو التابعين غير أولي الإربة)، فهو قوم يتبعونك فيدخلون معك الدار، ضعفاء عقلياً أو جسدياً، ليس لهم رغبة في النساء.

    والإربة: الحاجة، ومنه قوله تعالى: وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:18] أي: حاجات أخر، أي: ليس لهم مطلب في النساء من قريب ولا بعيد، بصرف النظر عن السبب.

    بيان المراد بمن يحل له النظر إلى زينة المرأة من الأطفال

    وقوله تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ [النور:31] الطفل اسم جنس، وقوله: (الذين لم يظهروا على عورات النساء)، قيد لابد منه، فليس المراد أي طفل، فلا يؤتى بصبي قبل بلوغه فتكشف المرأة عنده وتأخذ راحتها في المضي أمامه والغدو، وإذا سألناها قالت: هذا ما بلغ خمسة عشر عاماً.

    وإنما قال الله: (الذين لم يظهروا على عورات النساء)، وهذا تقديره في السابعة وفي الثامنة وفي التاسعة على الأكثر، أما إذا كان الفتى يميز ويفهم ويصف وينقل فلا يجوز للمرأة أن تبدي زينتها أمامه.

    نهي الله عن ضرب النساء بأرجلهن ودلالته على وجوب ستر الوجه

    قال الله تعالى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31] هذا كلام رب العزة، وهو دليل عظيم ظاهر لمن قال بأن تغطية الوجه عورة؛ إذ الساق -وهي ساق- أمر الله بإخفائها، ولم يأمر بإخفائها، فحسب، بل أمر بعدم إحداث صوت ما يوضع في القدم، وهو الخلخال، وما يوضع في اليد يسمى سواراً، ما يوضع في الإصبع يسمى خاتماً، ما يوضع في الرقبة يسمى عقداً.

    فصوت الخلخال لا يجوز أن تظهره المرأة فيكون ذلك سبباً في تحريك شهوة الرجال إليها، والدين لا يفرق بين متماثلين ولا يجمع بين نقيضين، فلا يعقل أن يمنع الله المرأة أن تحدث صوتاً من خلخال قدمها ثم يأذن لها في أن تكشف وجهها.

    الأمر بالتوبة

    قال الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].

    الخطاب هنا للمؤمنين والمؤمنات، والانتقال في الخطاب من المفرد إلى الجمع يسمى عند البلاغيين الالتفات.

    فالله تعالى يقول: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] فالتوبة وظيفة العمر، ولهذا قال الله: (جميعاً) ولم يستثن أحداً، ولما ذكر الله تبارك وتعالى هذه الأحكام علم جل وعلا أن عباده -وإن حرصوا على الامتثال بها- لن يخلوا من أن يقع منهم شيء، فدلهم جل وعلا على ما يجبر ذلك الكسر، وهو التوبة إليه، والتوبة إلى الله جل وعلا وظيفة العمر، وأفضل القربات، وهي مشروعة في كل آن وحين، بها يزدلف إلى الله ويتقرب إليه.

    رزقنا الله وإياكم الاستغفار والتوبة والإنابة إليه أينما كنا وحيث ما ارتحلنا، وأسال الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يلبسنا وإياكم لباسي العافية والتقوى، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768272265