بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أظهر لنا من فضله وكرمه ووهبنا من آلائه ونعمه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فما زلنا نرتع في رياض الجنة وأعظم مقامات الدنيا كما قال أهل العلم وهو مقام التدبر في كتاب الله جل وعلا والسورة التي نحن بصددها هي سورة النور، وكنا قد وقفنا عند قول الله جل وعلا: لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور:46].
وأحب قبل أن أشرع وأبدأ بها أن أعود قليلاً إلى الآيات التي سلفت، وكنا قد جعلنا لذلك الدرس حظاً كبيراً من قضية الوعظ، وهذا الأصل في القرآن، فإن الله جل وعلا جعله موعظة كما بينه في كتابه، وقد سبق معنا قول الله جل وعلا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43]، والذي أريد أن أقوله هنا هو أن هذه الآية من أعظم الآيات الدالة على قدرة الله جل وعلا، فالله جل وعلا ذكر فيها مخلوقاً واحداً، هو السحاب، وضمنه أربعة أضداد لا يمكن أن تجتمع في مخلوق واحد، ولا يقدر على ذلك إلا الله، فالسحاب يكون منه الودق، أي: المطر والغيث، وهو ماء، ويكون منه في نفس الوقت الصواعق التي تحرق، وهي في الجملة النار، والماء والنار ضدان لا يجتمعان، فجمعهما الرب في مخلوق واحد، وفي نفس الوقت يقول الله جل وعلا: ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا [النور:43]، والسحاب إذا تراكم بعضه على بعض حجب نور القمر وضوء الكواكب وأصبحت الدنيا ظلمة، ومع ذلك قرنه الله جل وعلا بالبرق، فقال سبحانه: يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43]، والبرق نور وضياء، والنور والظلمة لا يجتمعان، فينجم عن السحاب أربعة أضداد، الماء والنار، وهما ضدان، والنور والظلمة وهما ضدان.
وهذا من دلائل قدرة الله تبارك وتعالى، والمؤمن -إن كان موفقاً- ينظر إلى القرآن مثل هذه الرؤية، وإن كننا ننهج في التفسير تفسيراً موسوعياً، ونعرج على قضايا نحوية وبلاغية ومعرفية، فذلك من باب أن يستفيد المرء مما نقول، ولتستقيم الطريق العلمية والمعرفية، ولكن قبل أن يؤصل الإنسان نفسه معرفياً ليبز أقرانه ويصل إلى مقصوده، عليه أن يعلم أن المقصود الأسمى أن تثبت القدم يوم العرض على الله، ولن تثبت القدم يوم العرض على الله إلا إذا ملئت بموعظة وضياء القرآن، فينظر إلى القرآن نظر تدبر وإيمان يستدل به من خلال تدبر الآيات على عظمة الواحد القهار جل جلاله.
فهذه الآية من أعظم الآيات الدالة على عظيم قدرة الرب جل وعلا.
قال ربنا وهو أصدق القائلين: لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور:46].
ولا يلحظ هنا التتابع في الآيتين، حيث يقول الله: لقد أنزلنا آيات مبينات ظاهرة جلية تخبر عن عظمتنا، وتدل على وحدانيتنا، وترشد إلى عبادتنا. ولكي لا يتعلق الناس بها قال الرب بعدها: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور:46]، فليس النظر في الآيات المبينات والتدبر فيها كافياً للهداية، بل لا بد مع التدبر والنظر في هذه الآيات التي أنزلت من أن يصاحب ذلك توفيق من الرب جل وعلا ولهذا قال الله: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213]، وقد مر معنا تحرير ذلك في أكثر من موضع.
ثم قال الله جل وعلا: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47]. بقدر الله جل وعلا أراد أن تكون المدينة المجتمع الإسلامي الأول، وأراد الله لها أن تجمع أخلاطاً عدة، فلينظر في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفاعله مع تلك الأخلاط، حتى لا يكونن مجتمع بعد ذلك بمعزل عن مجتمع المدينة الأول، فيحق لكل أحد أن يتأسى بهديه عليه الصلاة والسلام.
فالمدينة كانت زاخرة بالمهاجرين والأنصار أعظم الناس إيماناً، وكان هناك من هم دونهم في الإيمان وليسو منافقين، من الأعراب وبعض الصحابة.
وكان هناك منافقون يظهرون ما لا يبطنون، وكان هناك يهود، وكان هناك نصارى يؤوون إليها، كما حصل من نصارى نجران، وكان هناك أعراب جفاة ينظرون إلى مصالحهم، وكان هناك دول تحيط بها، كفارس والروم، وقد حصل لهم بعض المنازعات مع الروم كما هو معلوم.
فقراءة هذا المجتمع قراءة صحيحة من الكتاب والسنة والسيرة الصحيحة تعين الإنسان في أي منصب على أن يصل إلى أن يعرف حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في الحدث.
وهنا يخبر الله جل وعلا عن طائفة من المنافقين، ولكن الخبر هنا جزئي يتعلق بالحكومات، والناس تحتكم في ثلاثة أمور: في الفروج والدماء والأموال، ولا يوجد حكم في غير هذا، فأي تنازع بين الناس يكون إما في أموالهم وإما في فروجهم، وإما في دمائهم.
يقول بعض أهل التفسير: إن منافقاً يقال له بشر اختصم مع يهودي، فطلب منه اليهودي أن يحتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى بشر هذا الذي يدعي الإيمان، الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرشد إلى كعب بن الأشرف ؛ لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقضي بالحق وهو يعلم أنه على الباطل، فقال الله عنهم: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا [النور:47] أي: بألسنتهم، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47].
قال العلماء: نفي الإيمان عنهم يدل على أن الإيمان لا يقبل من غير عمل؛ لأن الله أثبت لهم أنهم قالوا الإيمان بألسنتهم، ونفى عنهم العمل بقوله جل وعلا: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فقال بعد ذلك معقباً وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47]، فالإيمان إيمان بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان.
فهذه الطائفة من المنافقين كانت تسكن المدينة، والله جل وعلا من سننه التمحيص، فتأتي الطوارق والحوادث تتابع، فمرة على هيئة أفراد، كما حصل في قضية بشر ، ومرة على مستوى الأمة، كما يحدث التكليف بالجهاد، أو يحدث أمر عام يميز طائفة من الطوائف، وأحياناً تحدث أحداث جزئية تميز أفراداً عن أفراد، ومع ذلك لم يأتِ في القرآن اسم منافق واحد؛ لأن القرآن أكبر من أن يتحدث عن أفراد، وإنما يتحدث عنهم في بعض المواضع لمصلحة أرجح من إخفائهم، فمريم هي المرأة الوحيدة التي ذكرت في القرآن؛ حتى لا يقول قائل: ليس عيسى ابن مريم، وإنما شخص آخر، فذكره الله -أي: عيسى- وذكر اسم أمه حتى لا يبقى تأويل ولا احتمال يفزع إليه من يريد أن ينجو بالآية عما تقصد.
يقول تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47] (ما) هي الحجازية، تعمل عمل (ليس)، (ليس) و(ما) كلتاهما أداة نفي، ولكن الاختلاف في العمل، فالحرف أو الفعل له معنى وله عمل، وكل الحروف لها معنى إلا الحروف الأبجدية الجزئية، فلا تعرف إلا إذا ركبت، والخلاف هنا كائن في (ما) هل هي عاملة أو مهملة لا تعمل؟
فالحجازيون يعملونها عمل ليس، فترفع المبتدأ ويسمى اسمها، وتنصب الخبر ويسمى خبرها، ومن آية عملها أن يكون خبرها مقترناً بالباء، كما هو هنا: وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47].
ثم قال ربنا: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور:48] في هذه الآية ذكرت (إذا) مرتين، فالأولى هي (إذا) الشرطية، والأخرى (إذا) الفجائية، (إذا الفجائية) يأتي ما بعدها فجأة، ولهذا سميت (إذا الفجائية) والمعنى: أن هؤلاء القوم إذا دعوا إلى أن يحكم الله ورسوله بينهم لا يقبلون هذا العرض قبول متريث، بل لما انطوت عليه سرائرهم من بغض الله وبغض رسوله، وعدم قبول قول الله وعدم قبول قول رسوله يفاجئونك مباشرة بالجواب قبل أن تكمل عرضك، فهذا هو المنزع البلاغي المقصود من الإتيان بـ(إذا) الفجائية في هذا الموقف.
وقوله تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ [النور:48]، قال بعض العلماء: (ليحكم) جاءت بصيغة الإفراد، وقد دعوا إلى الله ورسوله، ومعلوم أن الدعوة إلى الله دعوة إلى كتابه، والدعوة إلى الرسول دعوة إلى سنته، فقالوا: إن المقصود هنا هو الدعوة إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الميداني العملي، وإنما ذكر اسم الله قبل اسم رسوله تشريفاً وتبركاً.
قال الله تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور:48]، ثم قال سبحانه: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور:49]، والإذعان: الانقياد، فلماذا يأتون عندما يكون لهم الحق؟!
إنهم يأتون لعلمهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي بالحق، فإذا علموا أزلاً أنهم على الحق لم يجدوا بداً من أن يذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا اتباع هوى لا اتباع دين، وقد يتلبس به بعض الناس من حيث لا يشعر، فيأتي إلى العالم ليسأله يبتغي جواباً قد بيته قبل أن يعرض سؤاله، فهو يريد أن يسمع جواباً يرتضيه، ولا يريد الحق، وهذا يحدث في مسائل الحكومات كما هو في العادة.
ومن طرائف ما يروى في هذا الباب أن رجلاً اختصم مع زوجه إلى الشعبي ، والشعبي هو أحد رجال الصحيح، متفق عند جمهرة الناس على جلالته وتقواه وورعه، وكان يقضي بين الناس.
فلما عرض الرجل وزوجته خبرهما حكم الشعبي للمرأة دون الرجل، فلما وجد الرجل أن الشعبي لم يحكم له جعل ذلك مثلبة في حق الشعبي فقال:
فتن الشعبي لما رفع الطرف إليها
سحرته ببنان وخضاب في يديها
كيف لو أبصر منها نحرها أو ساعديها
لا جفا حتى تراه راكعاً بين يديها
نشرت هذه العبارات في الناس، والناس يفرحون بمثل هذه الأراجيز؛ لأنها سهلة الحفظ وتغطي فراغاً اجتماعياً لديهم، فانتشرت بين الناس، فلما انتشرت قال الشعبي : والله ما حكمت إلا بالحق، وما رفعت إلي بناناً ولا خضاباً. والبنان: رءوس الأصابع، والخضاب: كالحناء ونحوه، والرجل لما شعر أنه مغلوب جعلها في القاضي.
فهذه صورة قبيحة في الناس، ولكنها صورة متأصلة في المنافقين، حيث قال الله جل وعلا: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور:49] ومهم جداً أن تعرف القيد، وهو أنهم يأتون إليه لعلمهم أنهم على الحق، لا ليقينهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالحق.
ثم قال الله جل وعلا بعد ذلك من باب التدرج في ذكر أخلاقهم: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ [النور:50]، فهذه الثلاث مجتمعة فيهم، وليس المقصود التساؤل: هل فيهم مرض؟ هل فيهم ارتياب؟ هل فيهم خوف من الله؟ فهذا غير مقصود وإنما هذه الصفات الثلاث كلها موجودة بينهم، ففي قلوبهم علل وأمراض شك، وأعظم علتهم أنهم غير موقنين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله، ونجم عن هذا ريب، ونجم عن هذا الريب خوفهم من أن يجور النبي صلى الله عليه وسلم عليهم؛ لأنهم إذا كانوا غير مقتنعين بنبوته فبدهي أن يرموه عليه الصلاة والسلام بالجور والظلم؛ لأن القول بأنه عدل عليه الصلاة والسلام تبع للقول بأنه نبي، وهم لا يقولون بنبوته أصلاً، فلذلك لم يقولوا بعدله عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم إذا كانوا مقتنعين بأنه كذب على الله، فمن باب أولى أن يكذب على الناس.
فالمهم أن الآية ليس المقصود منها إلا التدرج في وصف أخلاقهم، حيث قال تعالى بعد ذلك: بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور:50]، والمعنى: أن هذه الأخلاق كلها فيهم، وبيان ذلك بصورة ميسرة أنه قد يكون إنسان يحسدك، وبينك وبينه عداوة، وهو كاذب، فعندما يحيف عليك في أمر فإنك لا تدري لأي شيء صنع بك ذلك الأمر، هل حسداً، أم للعداوة المتأججة، أم لكذبه الذي اعتاد عليه، ولا يعني هذا نفي إحدى تلك الصفات، ولكن السؤال: أين الباعث على هذا الأمر، فجاء الجواب القرآني: بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور:50].
و(أم) شبيهة العمل بـ(أو)، ويقول أهل النحو: إن بينهما منزعاً دقيقاً، وبيان ذلك أنه إذا كان بينك وبين أحد فورة، وحصل لك فرج بشيء، فإنك تؤمل أن يبعث لك أحداً من طرفه يشاركك في فرحتك، فإن بعث لك أخاه زيداً أو أخاه عمراً، فإن كل الذي يهمك هو أن يأتي أحدهما، فعندما يتأخر وتغيب أنت عن الحفل لحظات وتعود فإنك تسأل فتقول: أجاء زيد أو عمرو؟ فأنت لا تريد أن تسأل عن الذي جاء، وإنما تريد أن تسأل عن المجيء نفسه، فيكون الجواب هنا بـ (نعم) في حالة الإثبات، وبـ (لا) في حالة النفي.
أما في استخدام (أم) فإنك على يقين من أن أحدهما جاء، ولكنك لا تدري من الذي جاء، فتقول: أجاء زيد أم عمرو؟ فيكون الجواب بحسب من جاء، فيذكر زيد في حالة إتيانه، وعمرو إن كان هو الذي أتى، فهذا هو الفارق بين (أم) و(أو).
ثم جاء بعد (أم) ذكر (بل) في الآية الثانية، و(بل) عند النحويين للإضراب، والإضراب الانتقال، والانتقال أحياناً يكون لاستئناف كلام جديد، وأحياناً تجمع (بل) بين الإضراب والإبطال.
فالإضراب متأصل فيها، أما الإبطال فقد يقع وقد لا يقع، ومعنى الإبطال: أن تأتي فتنقل الجملة على أنها تستوعب إبطال الذي سبق، كما قال تعالى عن كفار قريش: وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ * أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [ص:6-8]، فكل الذي مضى حكاية كلام صناديد قريش، ثم قال الله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي [ص:8] فهذا انتقال وإبطال لما قد سلف من قولهم، ولكنها لا تأتي على كل حال للإبطال، بل تأتي على كل حال للانتقال.
قال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51]. نلحظ هنا أن كلمة (قول) منصوبة، وقد تستدرك فتقول: كيف ينصب اسم كان؟ والجواب أنها ليست اسم كان، بل هي خبرها، فإذا قررنا أن (قول) هنا خبر كان مقدم، كان لابد من الإجابة عن اسم (كان)، إذ من قواعد العلم أنك إذا دفعت شيئاً أتيت ببدله، وإذا أخرت شيئاً وضعت آخر عوضاً عنه حتى تستقيم الأمور، أما الترك والغفلة فلا يصنعان منك عالماً.
فـ(قول) خبر (كان) مقدم، ولذلك نصبت، وأما اسم (كان) فالمصدر المؤول من (أن) وما دخلت عليه في قول الله جل وعلا: أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51]، فهذا من ناحية الصناعة النحوية.
أما من حيث التفسير فإن الله لما ذكر حال أهل النفاق ذكر حال أهل الإيمان، وهذا من أسلوب القرآن المتكرر في أكثر من موضع، فقال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51].
والفلاح: تحقق المرغوب ودفع المرهوب، فالإنسان إذا حصل له ما يؤمل وزال عنه الذي يخشاه ويكرهه فقد تحقق له الفلاح، فالله جل وعلا ربط الفلاح وقيده بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال بعد ذلك تذييلاً: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:52].
وهنا نفصل: فهناك حق لله، وهناك حق للرسول، وهناك حق مشترك بين الله ورسوله، فالإيمان والطاعة حق مشترك لله والرسول، والخشية والتقوى حق لله، والتوقير حق للرسول صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى لا يقال في حقه: (توقير)، بل يقال أعظم من ذلك، فيقال: عرف فلان قدر ربه، أما كلمة (توقير) فتستخدم في أسلوب التعامل مع المخلوقين، كما قال تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح:9].
فالله جل وعلا هنا قال: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النور:52] وهذا حق مشترك، ثم بعد أن ذكر الحق المشترك ذكر الحق الخاص له جل وعلا الذي لا يصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ [النور:52]، والتقوى من حيث الجملة: فعل المأمور وترك المحذور، ولكن هذا الإطلاق ليس على حاله دائماً، فالتقوى أحياناً يكون معناها ترك المحذور وتوقي عذاب الله، وذلك إذا جاءت مقرونة بالبر والإحسان والطاعة، فإذا جاءت مقرونة بالبر والإحسان والطاعة تنصرف إلى ترك المحذور، كما في هذه الآية: وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ [النور:52]، وهذا تخريج بعض العلماء.
وبعض العلماء يقول: إن المقصود: بـ(يخش الله ويتقه) أنه يخشى مما سلف، بمعنى الخوف من التقصير فيما مضى، والتقوى: الخوف من التقصير فيما يستقبل.
ثم قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:52].
وبعد أن ذكر الله جل وعلا نماذج إيمانية عظيمة، عاد الحديث إلى المنافقين، فقال سبحانه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [النور:53]، فالذي أقسم هم المنافقون، وقوله: (جهد أيمانهم) أي: منتهى ما يبلغونه من الحلف والأيمان (لئن أمرتهم) أيها النبي (ليخرجن) أي: إذا نصصت عليهم وخصصتهم أو دعوتهم إلى قتال عام فإنهم سينفذون، فأجابهم الله بخطاب للنبي، وهذا يسمى تلقيناً، فهو تلقين إلهي للنبي، وهذا أول التلقين في هذا الموقف، وسيأتي تلقين آخر، فقال تعالى: قُلْ لا تُقْسِمُوا [النور:53] ولا خلاف في أن (لا) ناهية، ولكن ما المقصود بقوله جل وعلا: لا تُقْسِمُوا [النور:53]؟
لقد قال الله بعد ذلك: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ [النور:53]، فإذا حرر معنى هذه الجملة يتحرر معنى قول الله جل وعلا: لا تُقْسِمُوا [النور:53].
قال بعض العلماء -وهذا الذي عليه الجمهور وهو الأظهر-: (طاعة معروفة) أي: نعلم من حالكم ونعرف من أخباركم ومن صنيعكم بنبينا صلى الله عليه وسلم، نعلم من خلال ما سبق منكم على مقتضى علم الله الأزلي أن طاعتكم معروفة، فليس منكم إلا الخذلان والترك، وعدم الاستجابة لأمر الله ورسوله، فيصبح بعد هذا معنى قول الله جل وعلا: لا تُقْسِمُوا [النور:53] أي: لا حرمة لقسمكم، ولا داعي له؛ لأن طاعتكم معروفة من قبل، هذا التحرير الأول للمسألة.
التحرير الثاني: أن قوله تعالى: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ [النور:53] مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير: طاعة معروفة أولى من الأيمان، أي: لا حاجة لي إلى أن تقسموا يصير اللفظ تهكماً مثل الأول؛ إذ الأول يجري مجرى التهكم، ولا يصح مجرى التهكم إذا قلنا بهذا المعنى الثاني، فيصير المعنى: لا داعي للأيمان، فلا نريد منكم أيماناً مغلظة ولا جهد أيمان، بل نريد منكم أن تظهروا ما يثبت صدق اتباع نبيكم صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى يبنى عليه معنى آخر، وهو اشتقاق كلمة (معروفة) أهي من العلم أم من العرف؟
فإذا قلنا: من العلم، أصبح المعنى: طاعة معلومة ظاهرة بينة تثبت لنا صدق توجهكم.
وأما إذا قلنا: من العرف، فالمعنى: أن الله جل وعلا لا يريد منكم إلا شيئاً معروفاً تعارف الناس عليه، أي: أمراً يسيراً هيناً، ولا يريد منكم أيماناً مغلظة، ومنه قول الله جل وعلا: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12].
ونرجح أن المقصود هو الأول مما ذكرناه.
ثم قال سبحانه: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور:54] وهذا هو التلقين الثاني من الله لنبيه، فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]، وهذه صفة شرط، فربط الله الهداية بالطاعة، وإن السيادة لأهل الملة مرتبطة باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فـأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وصلاح وغيرهم كانوا مجاهيل في الأصل، وإنما سادوا لما منّ الله عليهم باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم:
فمن أبو بكر قبل الوحي من عمر ومن علي ومن عثمان ذو الرحم
من خالد من صلاح الدين قبلك من أنت الإمام لأهل الفضل كلهم
أي: فالسيادة الدينية مقرونة باتباع هديه صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وكمال شرع الله دين محمد صلى عليه منزل القرآن
ثم قال: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وأكبر دليل أنه ليس على الرسول إلا البلاغ المبين أن الله قال له: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران:32]، فهو عليه الصلاة والسلام مبلغ، ولما كان عليه الصلاة والسلام يعلم أنه مبلغ وشعر بدنو الأجل وقرب الرحيل كان لا هم له إلا أن يتأكد من كونه أدى الأمانة وبلغ أو لم يؤدها ولم يبلغ، فاستشهد الناس أيام عرفة قائلاً: (ألا هل بلغت؟ فقالوا: نشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة).
قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55] قبل أن أشرع في القضايا التاريخية أحرر بعض المسائل العلمية، فما المقصود بالأرض في قوله تعالى: (ليستخلفنهم في الأرض)؟
قال بعض العلماء: إن المقصود بالأرض هنا: مكة؛ لأن المهاجرين أخرجوا منها، فكانوا يسألون الله إياها، وقد تم فتح مكة، فتحقق الوعد الرباني.
(كما استخلف الذين من قبلهم) أي: بنو إسرائيل، ولا خلاف في أن الذين من قبلهم هم بنو إسرائيل، ولكن الخلاف في المراد بالأرض.
وذهب جمهور العلماء إلى أن المقصود بالأرض هنا عموم الأرض، أرض العرب وأرض العجم، بل قالوا: إنه تبعد إرادة مكة؛ لأن الله منع المهاجرين أن يعودوا إلى مكة، والدليل من السنة أن الله جل وعلا منع المهاجرين أن يعودوا إلى مكة أن سعد بن أبي وقاص لما مرض في عام الفتح زاره النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يخشى سعد أن يموت في مكة وقد هاجر منها، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم امض لأصحابي هجرتهم) ثم قال: (لكن البائس
فهذا دليل على أن الأرض ليست مكة، وهذا القول رجحه ابن العربي ، ومال إليه القرطبي رحمه الله في تفسيره.
وأما الموعود بالآية فقد ذهب بعض العلماء إلى أنهم هم المهاجرون الأولون، وقالوا: إن الآية أول ما تنطبق على الخلفاء الراشدين: الصديق والفاروق وعثمان وعلي ؛ لأن هؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا مغلوبين فأصبحوا غالبين، وكانوا مقهورين فأصبحوا قاهرين، وكانوا مطلوبين فأصبحوا طالبين، وحقق الله لهم الوعد، ويوم نزلت هذه الآية المباركة لم يكن أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي خليفة، وإنما كانوا من المهاجرين الأولين يخافون، فلما منّ الله عليهم بعد ذلك نال هؤلاء الأربعة الراشدون الخلافة، ومكن الله جل وعلا لهم في الأرض، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الخلافة بعده ثلاثون عاماً، ثم تكون ملكاً عضوضاً، ومعاوية رضي الله عنه وأرضاه أول ملوك المسلمين، أما الأربعة الراشدون فالمتفق عليه هو أنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي .
ولكننا نقول: إن الآية -وإن دخل فيها هؤلاء الأربعة دخولاً أولياً كما تحرر في التأصيل العلمي في دخول ذوات الأسباب- المخاطب بها كل مؤمن، وإذا نزلنا على أصلها فإنه يجب أن نعلم أن الله ربط العزة والقوة والعلو والظهور بالإيمان وعمل الصالحات، ولم يربطها بزوال الأعداء، فبعض الناس اليوم يتمنى أن يهلك الله أعداءنا، وهذا من حيث الجملة لا حرج فيه، ولكنه ليست رفعة شأننا مردها إلى ضعف عدونا، إذ ليس ضعفنا اليوم مرده إلى قوة عدونا، ولكن لبعدنا عن الإيمان والعمل الصالح.
ومن الطرائف السياسية أن أحد رؤساء أمريكا الجنوبية سئل: لماذا أنتم متخلفون؟
قال: لسببين: لقربنا من أمريكا ولبعدنا عن الله. أي: وفق المنظور المسيحي.
والذي يعنينا أنه ليس الهم أن يذهب جهدنا في الدعاء على الأعداء بالهلاك، وإنما الهم يجب أن ينصرف إلى أن نبني الأمة بناءً صحيحاً، فإذا بنيت الأمة بناء صحيحاً فإنه مهما بلغت قوة العدو فإن الله وعدنا بالنصر والتمكين والاستخلاف، ولكنه قرنه جل وعلا بقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55].
فالصحابة الأولون السابقون المهاجرون لما آمنوا وعملوا الصالحات مكن الله جل وعلا لهم في الأرض.
قال تعالى: يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55] فإقامة التوحيد أعظم مقاصد الدين، ثم قرنها الله جل وعلا بالآيات الأخرى فقال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56].
وأعظم أسباب الرحمة دل عليها القرآن، ومنها الاستغفار كما في سورة النمل، ومنها التوحيد، وهو أعظمها، ومنها العمل الصالح، كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
قال الله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [النور:57]، وهذا استدراك رباني عظيم، فإن الإنسان وهو يقرأ الآيات يقلب الطرف فيما يراه من علو بعض الأمم، فالله جل وعلا يطمئنك ويخبرك ويقول لك: لا يصيبنك جزع ولا شك ولا ارتياب في دينه أن ترى علو أهل الكفر، وحصول أيام لهم ودول، فهم -مهما علو وقهروا- ليسو بمعجزين للرب تبارك وتعالى، ويكفيهم بأساً أن مصيرهم إلى جنهم، قال الله تعالى: وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [النور:57].
وينبغي للمؤمن -خاصة من يتصدر لطلب العلم- أن يدرك التاريخ العام لأمته، وأن يكون لديه إلمام شامل بهذا الوعد الرباني.
فالناس اليوم بين حاضر مشهود ووعد منشود، وعد منشود يفتقدونه، وهو علو المسلمين، وواقع مشهود، وهو ما في الأمة من ضعف.
وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف، فاتفقت كلمة المهاجرين والأنصار على الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فساس الأمة عامين وأشهراً، واستخلف بعده عمر ، فساس عمر الأمة، وفي عهده تم الكثير من الفتوحات، ثم مات رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأوصى أن تجعل الخلافة في ستة، وأشرك معهم عبد الله بن عمر على أن لا يكون له في الأمر شيء؛ لأنه كان أكبر أبنائه، فاختير عثمان ، ثم قتل عثمان غدراً، فاستخلف أهل الحل والعقد في المدينة علياً ، ثم قتل علي رضي الله تعالى عنه على يد الخوارج، وتنازل الحسن بن علي رضي الله عنه بعد ذلك عن الخلافة لـمعاوية ، فاجتمعت كلمة المسلمين على إمام واحد هو معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وأسس معاوية الملك الأموي، وهو أول ملوك المسلمين في عهده تم كثير من الفتوحات، وجاء بعده يزيد بن معاوية ثم معاوية بن يزيد ، ولم تكن له رغبة في الخلافة، ثم استخلف مروان بن الحكم ، وقتل بعد ذلك على يد زوجته، فتفرق البيت الأموي بعده وآل الأمر إلى ابنه عبد الملك ، والساسة والمؤرخون يعدونه المؤسس الثاني لدولة بني أمية.
وفي ولاية عبد الملك انتقلت الخلافة من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني، وذلك لأن يزيد ومعاوية بن يزيد ينتسبان إلى معاوية رضي الله تعالى عنه، ابن أبي سفيان الذي هو من بني أمية، وأما مروان بن الحكم فليس من ذرية أبي سفيان ، ولكنه من ذرية أمية بن عبد شمس .
وقد كان عبد الملك رأى أنه يبول في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض رؤياه على سعيد بن المسيب ، فأولها بأن أربعة من أبنائه يحكمون، فحكمهم بعده الوليد وسليمان ، ثم انقطعت خلافتهم بولاية عمر بن عبد العزيز ابن أخيه، ثم عادت الخلافة إلى أبنائه يزيد ثم هشام ، ثم تتابعت دولة بني أمية في تلك الفترة، واضطهد الأميون الموالي، واضطهدوا آل البيت كثيراً، فنشأ حنق في الناس عليهم، خاصة الموالي الذين دخلوا في الدين، وكان منهم علماء، وكان أكثرهم يسكن في خراسان.
فقامت الدعوة إلى ما يسمى من غير تحديد بالرضى من آل البيت، فقويت الدولة في خراسان، وخرج أبو مسلم الخراساني داعية لبني العباس في عهد مروان بن محمد الملقب بالحمار لصبره، وكان آخر خلفاء بني أمية، فسقطت دولة بني أمية.
وقامت بعدها دولة بني العباس، وأول خلفائهم أبو العباس السفاح ، ثم كانت خلافة أبي جعفر المنصور ، والعباسيون يتفاءلون بهذه الكنية، فأكثر خلفاء بني العباس كانوا يسمون الابن الأكبر جعفراً، والمهم أن أبا جعفر كان له صولة وجولة في خلافة بني العباس.
ثم تولى الهادي ، وثم المهدي ، ثم نشأ هارون ، ثم كان من ذرية هارون من الخلفاء: الأمين والمأمون والمعتصم ، ثم انحصرت الخلافة في ذرية المعتصم، ثم سقطت دولة بني العباس في أواسط القرن السابع.
ثم بعد ذلك ظهرت دول، فدولة المماليك كانت معاصرة لدولة بني العباس في آخرها في مصر، وكان المماليك أرقاء، ثم أعتقوا ثم سادوا، ولهم قضايا عديدة مع العز بن عبد السلام ، ولهذا سمي العز بن عبد السلام بسلطان العلماء، لوقوفه في بعض القضايا الفقهية المتعلقة بحكم المماليك.
ثم كانت دولة آل عثمان التي بقيت قروناً، وفي الجانب الآخر في الأندلس خرج عبد الرحمن بن معاوية المعروف بـعبد الرحمن الداخل ، وهو من بني أمية، فر هارباً من الاضطهاد الذي أصاب بني أمية على يد بني العباس، وهناك أسس دولة إسلامية في الأندلس، ومكثت هذه الدولة قروناً طويلة، ثم انتقلت من حكم الأمويين إلى حكم ملوك الطوائف.
ثم ضعفت دولة بني عثمان وظهر الغرب، حصلت حروب عدة، منها الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، ثم تسلط النصارى على دول الإسلام بعد أن أسقطت الخلافة على يد كمال أتاتورك ، الملقب بـأبي الأتراك ، ثم حصلت معاهدة تسمى معاهدة (سايسبيكو) وهي عبارة عن اسمين لوزيرين للدول الكبرى، فتقاسموا العالم الإسلامي، ثم منّ الله جل وعلا على هذه الجزيرة بظهور الملك عبد العزيز رحمة الله تعالى عليه، فعاد ملكاً سابقاً لأجداده دعوة الإمامين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود .
وأما فلسطين فكانت تحت الاحتلال البريطاني، ثم خرجت كلمة من فم وزير الخارجية البريطاني بلفور وعد فيها بأن يمكن لليهود في فلسطين، فحصل ما حصل من قيام دولة إسرائيل، فأقيمت دولة إسرائيل عام (1948)، ثم دخلت الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس عام (1967م) في الاحتلال الإسرائيلي.
والأحوال المعاصرة لا يحتاج الكلام عنها؛ لأنها مشهودة معروفة، فهذا هو تاريخ الإسلام والدولة الإسلامية من حيث الجملة.
والاستخلاف الرباني مربوط بالإيمان والعمل الصالح، وليس مربوطاً بتقوى عامة، وإنما هو مربوط بتقوى الجملة، أن تعود الأمة من حيث الجمة إلى دينها، فهذا هو الأصل والسبب الأول في نصرتها وعزتها.
وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بظهور المهدي، فالضعفاء من الناس ركنوا إلى ظهور المهدي وتركوا العمل ينتظرون أن يخرج المهدي، والمهدي لن يكون أقوى شكيمة ولا أشد علماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بنى الرسول الأمة في ثلاثة وعشرين عاماً، فلا يعقل أن يبنيها المهدي في ليلة.
فالسعي والعمل والحث في سبيل نصرة الأمة أمر دل عليه القرآن ودل عليه السنة، وبين أيدينا آية فيها وعد رباني بالاستخلاف، ولا يدعونا ذلك إلى أن نركن إلى الخمول، بل الوعد يجب أن يحث على العمل، كالحال في الآخرة، فقد وعدنا الله بالجنة، ويحثنا على العمل من أجل أن نصل إلى الجنة.
نسأل الله أن يقر أعيينا وأعينكم بالاثنتين: تحقيق وعد الاستخلاف في الأرض ووعد دخول الجنة، والله تعالى أعز وأعلى وأعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر