الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد كنا بدأنا بسورة الفاتحة، ثم بدأنا بسورة البقرة، وبعد أن أخذنا مقاطع من آيات منها انتقلنا إلى الجزء الثالث في قول الله تعالى: ( تلك الرسل ).
والسبب في هذا الانتقاء هو المرور بأهم ما في السورة حتى نخرج جميعا بفائدة جمة، فيكون القارئ قد مر على شيء من سورة البقرة، وعلى شيء من سورة آل عمران، وعلى شيء من النساء، وهكذا.
وبعد أن اتضح المنهج نقول: إن الآيات المختارة في هذا الدرس من سورة آل عمران هي من قول الله عز وجل: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [آل عمران:60] إلى قول الله عز وجل: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68].
قال العلماء: إن من أعظم علوم القرآن أن يعلم أن القرآن نزل لدفع شبه الظالمين، وإبطال عناد المعاندين، وإثبات البراهين العقلية الموافقة للأدلة النقلية، فهذا من أعظم علوم القرآن.
وقالوا: إن هذا الفن لا يدركه إلا الجهابذة العلماء المستبصرون الذين من الله جل وعلا عليهم بإدراك مغازي كتابه، جعلنا الله وإياكم منهم وألحقنا بهم وإن لم نكن لذلك بأهل.
وأما مناسبة الآيات لما قبلها فهي أن الله جل وعلا ذكر قبلها قصة عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فذكر جل وعلا قصة الصديقة مريم، وكيف أنها حملت بعيسى، وكيف وضعت، وما كان له من آيات وبراهين، وكيف أنه دعا قومه، وكيف أن الله جل وعلا آتاه المعجزات الظاهرة والبراهين التي تدل على نبوته حتى رفعه الله جل وعلا إليه، وسينزل في آخر الزمان.
وبعد أن ذكر ذلك جل وعلا ذكر قوله: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران:59]، فهذه مناسبة الآيات لما قبلها.
أما سبب نزول الآيات فالمشهور عند العلماء أنه في العام التاسع للهجرة -عام الوفود- بعد أن فتح الله لنبينا صلى الله عليه وسلم مكة أسلمت ثقيف، وانتهت غزوة تبوك، فأتى الناس على هيئة وفود من كل شق إلى نبينا صلى الله عليه وسلم.
ومن جملة الوفود التي حضرت وفد نجران، وكانوا على الديانة المسيحية، ومنهم السيد والعاقب وهما من رءوسهم، فهؤلاء النفر لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: ما لك تشتم صاحبنا؟ فقال: وما ذاك؟ قالوا: تقول: إن عيسى عبد الله ورسوله. قال: نعم هو عبد الله ورسوله، فجادلته النصارى بأن عيسى لا أب له فقالوا: فقل لنا من هو أبو عيسى؟ فاستمهلهم حتى ينزل القرآن عليه في شأن عيسى، فأنزل الله جل وعلا على نبينا قوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] ، فأنزل الله جل وعلا عليه هذا العلم البين ليرد به على غيره.
قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:59]، ليس كلمة (مثل) هنا مقصود بها المثل المعروف الذي يضرب للأشياء، وإنما كلمة (مثل) هنا بمعنى (حالة) أو (صفة)، فيصبح معنى الكلام أن حال وصفة عيسى عند الله كحال آدم، فما حال آدم عليه السلام؟ قال الله: خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59].
فالنصارى تقول: إن من أدلة أن عيسى ابن الله أنه لا أب له باتفاق بأهل الأرض، ومن علوم القرآن الرد على شبه الظالمين، فرد الله عليهم بأن آدم عليه الصلاة والسلام لا أب له ولا أم، زيادة على عيسى، فإذا كان عيسى لا أب له فآدم لا أب له ولا أم، وإذا كان عيسى خلق بكلمة (كن) بعد أن نفخ جبرائيل في رحم الصديقة مريم وكان بأمر الله، فإن آدم كذلك قال الله له: (كن)، فكان كما أخبر الله به في كتابه.
فمقارنة عيسى بآدم ضربها الله جل وعلا دليلا على بطلان حجج النصارى؛ لأنه لو صح قولهم: إن كون عيسى لا أب له دليل على أنه ابن الله وكان آدم أولى بالبنوة؛ لأنه لا أب له ولا أم، والنصارى وغير النصارى وكل أهل الأرض لا يقولون: إن آدم ابن الله، فدمغت حجة النصارى.
فالنصارى تقول: إن عيسى ابن الله، بدليل أنه لا أب له، فالله يقول لهم: لئن كان الذي تقولونه حقا فإن آدم أولى بهذه البنوة التي تزعمونها ولا أصل لها؛ لأن آدم لا أب له ولا أم، وخلق بكلمة (كن) كما خلق عيسى عليه الصلاة والسلام، فلما اعترفتم بأن آدم ليس ابن الله وجب عليكم أن تعترفوا بأن عيسى ليس ابنا لله، وأن الله جل وعلا لم يلد ولم يولد.
قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [آل عمران:59] والهاء في (خلقه) عائدة على آدم، خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ [آل عمران:59] أي قال لآدم كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] أي كن فكان.
واختلف العلماء: لماذا عبر الله بالمضارع بدلا من الماضي؟ إذ كان الأولى أن يقال: خلقه من تراب ثم قال له كن فكان.
فقال بعضهم: إن العرب تجري المضارع مقام الماضي إذا عرف معنى الحال، وهذا جواب فيه شيء من الركاكة.
وقال بعضهم -ولعل هذا أظهر-: إن الله أراد أن يبين تمثل المعنى لمن يسمع، بمعنى أن عيسى عليه الصلاة والسلام حتى عندما نفخ جبرائيل روحه في رحم مريم لم يخرج مباشرة يمشي على قدميه، وإنما تكون لحما وعظاما وحملت به تسعة أشهر على الصحيح ثم ولدته صبيا رضيعا، ثم كان عيسى ابن مريم، فلم يقل الله كن فكان مباشرة، وإنما قال: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] ليبين التدرج الذي مر به خلق عيسى ابن مريم.
قال الله تبارك وتعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [البقرة:147] يعني: هذا هو الحق الذي أتاك من ربك، وإضافة الرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشريف له صلوات الله وسلامه عليه، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [البقرة:147] أي: لا تكن من الشاكين.
وينبغي أن يعلم أنه ليس المقصود من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ممترياً أو شاكاً، فهذا منتف أبدا، وإنما المقصود من هذا الأسلوب إثارة الأريحية فيه صلى الله عليه وسلم لأن يقبل الحق من ربه، ويعض عليه بالنواجذ، وهذا تخريج.
وقال بعض العلماء تخريجاً آخر؛ وهو أن المخاطب الحق هو أمته -وإن كان المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم- وكل من يسمع القرآن، ولا تعارض بين هذين التخريجين.
قال تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ [آل عمران:60-61] الهاء عائدة على عيسى وخلقه مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران:61] أي: البيان الذي أظهره الله لك في شأن عيسى ابن مريم فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61].
ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران بالأمر لم يقبلوا وقالوا: نحن مسلمون من قبل، فقال صلى الله عليه وسلم: (يمنعكم من الإسلام ثلاث: أكلكم الخنزير، وسجودكم للصليب، وزعمكم أن لله ولداً)، فهذه الثلاث منعت ما يزعمونه من أنهم مسلمون، فلما طال الأمر بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم احتكم إلى المباهلة، والمباهلة مأخوذة من الابتهال، وهو الدعاء، وتكون غالباً لإظهار الحجة، وقد تخصص -كما في الآية- لنزول اللعنة.
وأصل المسألة أنه لما طال الجدال، فلا هم اقتنعوا، ولا هم قادرون على أن يقنعوا؛ لأنهم على باطل؛ احتكم صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال قائلا لهم كما أمر الله: تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ [آل عمران:61] أي ندعو فنقول: اللهم العن الكاذب منا في شأن عيسى ابن مريم، فلما كان من الغد قدم صلى الله عليه وسلم ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين وقال لـعلي وفاطمة والحسن والحسين : (إذا أنا دعوت فأمنوا).
وقبل أن يكمل اعترض النصارى وخافوا من المباهلة، وخوفهم من المباهلة دليل على أنهم يعلمون أنه رسول الله حقا؛ لأنهم لو كانوا على يقين لقبلوا المباهلة، وكون النبي عليه الصلاة والسلام يأتي بابنته وعلي والحسن والحسين دليل على ثقته فيما يدعو إليه؛ لأنه كان بالإمكان أن يباهلهم لوحده، ويقول: أنا وأنتم ندعو فأهلك أنا أو تهلكون أنتم، فلما أتى بابنته وأحب بناته إليه، وزوجها علي والحسن والحسين ليدعو على الجميع؛ كان ذلك دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان واثقا من حفظ الله له، وكان على برهان ويقين بأن ما عند الله هو الحق.
وآية المباهلة تدل على أمور عدة:
أولها: فضل آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين ، وهؤلاء الأربعة مع النبي عليه الصلاة والسلام يسمون أصحاب الكساء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام جللهم -أي: غطاهم- ذات مرة بكساء وقال: (اللهم هؤلاء بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) فهؤلاء آل بيته صلى الله عليه وسلم، وعلي ابن عمه نسبا، وهو زوج ابنته فاطمة ، تزوجها بعد منقلب النبي صلى الله عليه وسلم من معركة بدر، في السنة الثانية من الهجرة، قيل: تزوجها في شوال وقيل: تزوجها في أول ذي القعدة، وتعيين التاريخ هنا تحديدا لا يهم، وأنجب منها الحسن والحسين ، وأراد علي أن يسمي ابنه الأول حرباً فقال صلى الله عليه وسلم: بل هو الحسن ، ولما ولد الحسين أرادوا أن يسموه حربا فقال عليه الصلاة والسلام: بل هو الحسين . فالذي سمى الحسن والحسين رسولنا صلى الله عليه وسلم، وقد عاش الحسن حتى صار خليفة بعد أبيه، فتنازل عنها لـمعاوية ليحقن دماء المسلمين، ثم سكن المدينة ومات فيها أيام معاوية .
أما الحسين فامتد به العمر حتى مات معاوية رضي الله عنه وولي من بعده ابنه يزيد، فخرج من مكة إلى العراق حتى وصل إلى كربلاء المدينة العراقية المشهورة، فلما وصل إليها سأل عنها فقيل له: كربلاء، فقال: بل كرب وبلاء، فأخذ ذلك من اسمها، فكان ما كان، فقتل رضي الله تعالى عنه في يوم عاشوراء في العاشر من محرم؛ ولذلك يحيي الشيعة هذا اليوم كما هو معلوم.
وإحياؤهم لهذا اليوم: باطل بالنقل وباطل بالعقل، فهو باطل بالنقل لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يشرعه، ولا يقوم دين إلا إذا شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أعلم الخلق بشرع الله وباطل بالعقل لأنهم لو كانوا صادقين لكانوا أقاموا مأتما على مقتل علي أبي الحسين، وهم يقولون: إن علياً أول أئمتهم، والحسين الثالث، فلو كانوا صادقين لأقاموا مأتما على قتل علي ، فكما قتل الحسين فقد قتل من قبله علي ، فهم يمرون على مناسبة علي دون ذكر، مع أنه مات مقتولاً كما قتل ابنه الحسين ، ثم يأتون عند مقتل الحسين فيقيمون ما يقيمونه، وهذا من الدلائل العقلية، والأول دليل نقلي على بطلان ما يصنعه الشيعة في يوم عاشوراء.
والذي يعنينا أن الحسين رضي الله تعالى عنه قتل في يوم عاشوراء، قتل ومعه أكثر من ثمانين من آل بيته، ولم ينجُ إلا النساء وابنه علي الملقب بـزين العابدين ، فقتل ابنه علي الأكبر، وقتل ابنه عبد الله معه وإخوانه الأربعة وبعض آل بيته، وبقي ابنه علي، وكان مريضاً فلم يستطع أن يحارب مع أبيه، فأبقى الله جل وعلا ذرية الحسين بنجاة علي هذا الصغير المريض، فكل من ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الحسين فهو من ولد علي زين العابدين ، فكل الحسينيين ينتسبون إلى علي الملقب بـزين العابدين بن الحسين بن علي ابن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء -كما قلت- آله صلى الله عليه وسلم، ولهم في الشرع حق عظيم، فلا إفراط فيه ولا تفريط قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23].
وقال عليه الصلاة والسلام لما شكا إليه العباس أن بعض قريش يجفو بني هاشم: (والله لا يؤمنوا حتى يحبوكم لله ثم لقرابتي).
ولذلك يروى أن المعتصم الخليفة العباسي -أي: من نسل العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وليس من نسل النبي- يروى عنه أنه سجن العالم السني المشهور الإمام أحمد بن حنبل ، ثم أخرج أحمد بعد موت المعتصم ، فكان أحمد بعد خروجه يجتهد في الدعاء للمعتصم ، ويسأل الله أن يعفو عنه، فلما كلمه الناس قال رضي الله عنه ورحمه: لا أحب أن أقف بين يدي الله وبيني وبين أحد من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة. وهذا من فقه الدين، وهو أن الإنسان يتجنب أن يكون بينه وبين قرابة النبي صلى الله عليه وسلم خصومة، كما في قصة الإمام أحمد .
الفائدة الثانية في الآية: أن الله جل وعلا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61]ومعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن له بعد هجرته ابن من صلبه، أي: ليس ابن ذكر من صلبه، ومع ذلك قدم الحسن والحسين .
فاستدل بها فريق من العلماء على أن أولاد البنات في منزلة أولاد الأبناء.
ومثال ذلك لو أن رجلا اسمه محمد، وله بنت اسمها سلمى، وله ولد اسمه خالد، فأولاد خالد أولاده باتفاق الناس، لم يخالف في هذا أحد، لكن الخلاف في أولاد البنت، هل يعتبرون أبناء أو لا يعتبرون؟
إن المسألة خلافية، إلا أن من أدلة القائلين بأن أولاد البنت يعتبرون أبناء هذه الآية، فإن الله قال: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ [آل عمران:61] والنبي صلى الله عليه وسلم دعا الحسن والحسين ، وقال في حديث آخر: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين دعواهما واحدة) يقصد الحسن رضي الله عنه وأرضاه.
وهذه المسألة بالنسبة لطالب العلم تظهر في الميراث وتظهر في الوقف، فمن يقول: إن ابن البنت ابن يعتبر الجد كالأب، وعندما يوقف الإنسان حديقة أو مزرعة أو بيتا فيقول: هذه لأبنائي وأبناء أبنائي ولا يحدد؛ فإنه بمقتضى الآية يدخل في ذلك أولاد الأبناء وأولاد البنات، وهذه مسائل تنظر في المحاكم، ولكن أردت أن أبين كيف يستنبط طالب العلم الأدلة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61] أي: نقول: اللهم العن الكاذب منا في أمر عيسى ابن مريم.
والذي حصل هو أن النصارى خافوا من المباهلة، فتشاوروا ثم تراجعوا، فقال قائلهم: والله إنكم لتعلمون أنه نبي، ولو باهلتموه لاضطرم عليكم الوادي نارا، فقالوا: ما الأمر بيننا وبينك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (واحدة من ثلاث: الإسلام) أي: أن تدخلوا في الإسلام، (أو الحرب أو الجزية) فاختاروا الجزية، فصالحوا النبي عليه الصلاة والسلام على ألف حلة تقدم له في صفر، وألف حلة تقدم له في رجب، فقالوا: ابعث لنا رجلا أمينا من أصحابك، فقال عليه الصلاة والسلام: (لأبعثن معكم أمينا حق أمين) فاستشرف لها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (قم يا
ولذلك ورد أن عمر رضي الله عنه لما طعن وطلب منه أن يستخلف قال: لو كان أبو عبيدة حيا لوليته هذا الأمر، فإذا سألني الله عن ذلك قلت له: سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة
ثم قال الله عز وجل بعدها: فَإِنْ تَوَلَّوْا -أي فإن لم يقبلوا قولك، وأعرضوا عن الدخول في الإسلام- فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [آل عمران:63]، وقوله جل وعلا: فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [آل عمران:63] يجري مجرى التهديد؛ لأنه إذا كان الله عليما بهم -وهو قطعا عليم بهم-، فإنه سيعاقبهم جل وعلا، وهذا معنى قول الله: فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [آل عمران:63].
ثم قال الله عز وجل: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]، هذه الآية يتعلق بها فائدتان:
الأولى منهما: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكتبها في كتبه التي يبعثها إلى ملوك العرب والعجم وهو يدعوهم إلى الإسلام، كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم.
والفائدة الثانية في حياتنا العملية جميعا، وهي أن النبي عليه الصلاة والسلام -كما أخرج مسلم في الصحيح- كان يقرأ بهذه الآية في ركعة الصبح الأخيرة من سنة الفجر، ومعلوم أن لصلاة الفجر سنة قبلية، والسنة فيها أن تخفف، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وبقول الله جل وعلا في سورة البقرة: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136] ويقرأ في الثانية بهذه الآية قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].
فيتحرر من هذا من الناحية العملية أن هذه الآية كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ بها في الركعة الأخيرة من سنة الفجر ويقرأ بغيرها، ولو قرأ أي مسلم بأي سوره من القرآن أو آية من آياته جاز، ولكن الوفاق للسنة أن تقرأ هاتان الآيتان.
يقول تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [آل عمران:64] وأهل الكتاب يندرج فيهم اليهود والنصارى؛ لأنه أنزل على اليهود التوراة المنزلة على موسى، وعلى النصارى الإنجيل المنزل على عيسى.
قال تعالى: تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ [آل عمران:64]سواء هنا بمعنى: عدل وإنصاف تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] وهذا إجمال، وهذا الإجمال فسره ما بعده، وهو قوله تعالى: تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ [آل عمران:64]، فما الكلمة السواء هي أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران:64]، فقول ربنا جل وعلا: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64] هي الكلمة السواء التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى إليها.
فاليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى تقول: المسيح ابن الله، وكلا الفريقين على خطأ معلوم، فدعاهم نبينا صلى الله عليه وسلم إلى كلمة يتفق الجميع عليها، وهذه الكلمة لا بد من أن تكون كلمة عدل، وهي (لا إله إلا الله).
وقوله تعالى: وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران:64]، تأكيد لقوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ [آل عمران:64] لأن المعنى واحد، فقوله: (ألا نعبد إلا الله) أسلوب حصر، فيه نفي واستثناء، فـ (لا نعبد) نفي، و(إلا الله) استثناء، وقوله: (ولا نشرك به شيئا) تأكيد لما قبله.
وقوله تعالى: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64]هذا من بديع أسلوب القرآن؛ لأنه قوله: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا [آل عمران:64] دلالة على أننا كلنا من جنس واحد، فكيف يعقل -ونحن متفقون على أننا من جنس واحد- أن يصبح بعضنا آلهة خالقة وبعضنا مخلوقي،نف هذا لا يستقيم بالعقل ولا بالنقل.
ولم يقع أنهم كان يعبد بعضهم بعضا بالسجود والركوع والصلاة، وإنما كان يعبد بعضهم بعضا بطريقة أخرى، وهي أن أحبارهم ورهبانهم يحرمون ما أحل الله فيحرمه الأتباع، ويحلون ما حرمه الله فيحله الأتباع، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فتلك عبادتهم) قال سبحانه: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـعدي بن حاتم (أليسوا يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟! قال: بلى، قال: أو ليسوا يحلون ما حرم الله فتحلونه؟! قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم)، فهذا معنى قول الله: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64].
ومن هنا نعلم أن التشريع لله تعالى وحده، وأنه صلوات الله وسلامه عليه إنما هو مجرد مبلغ، فمن الله التشريع وعلى الرسول البلاغ، وعلينا السمع والطاعة؛ لأننا عبيد مخلوقون لله تبارك وتعالى.
قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا [آل عمران:64] أي: فإن لم يقبلوا هذا الذي عرضته عليهم فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64] أي: نحن باقون على ما نحن عليه من الإسلام واتخاذ الله جل وعلا إلها واحدا، لا رب غيره ولا إله سواه.
ثم قال الله جل وعلا: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [آل عمران:65-66]، مناسبة الآيات عموما هي أن الإنسان إذا كان متقنا لشيء ما فإن الجميع ينتسبون إليه، وكلٌ ينسبه إلى نفسه، فإذا كان الشخص محسناً متقناً في أمره فإن كل من حوله يتبناه وينتسب إليه ويقول إنه مني وأنا منه؛ لأنه مصدر فخر.
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام كان أمة كما أخبر الله جل وعلا، فاليهود تقول: إن إبراهيم منا، والنصارى تقول: إن إبراهيم على ملتنا، بل إن كفار قريش كانوا يقولون: إنه منا، والمسلمون يقولون: هو منا.
ففي أول الآية الله حين اختصمت اليهود والنصارى في إبراهيم قال الله لليهود وللنصارى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ أي: لم تجادلون وتخاصمون- فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:65]، فبين إبراهيم وموسى مئات السنين، وبين إبراهيم وعيسى أكثر؛ لأن عيسى بعد موسى، وكان عند اليهود والنصارى خبر من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مذكور في التوراة ومذكور في الإنجيل فكون اليهود والنصارى عندهم خبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم هو حق، والحق أيضا أنه ليس عندهم علم بإبراهيم؛ لأنهم جاءوا بعده، وما أسست اليهودية -وهي محرفة من شريعة موسى- ولا أسست النصرانية -وهي محرفة من شريعة عيسى- إلا بعد إبراهيم، فكيف يكون عندهم علم عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟! فهذا لا يمكن عقلا، ولذلك قال الله: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [آل عمران:66] أي: يعلم حال إبراهيم وأنتم لا تعلمون عن إبراهيم شيئاً.
وفي هذا دليل على أن الإنسان ينبغي عليه أن يستخدم عقله، وقد يقول قائل: إن العقل ليس له علاقة بالنقل!
والجواب: أنه يجب أن تفهم ملحظاً دقيقاً يميز من يتبع منهج العقل عن غيره، فالمسلمون من أهل السنة يدركون أنه لا يمكن للعقل أن ينشئ دليلا، إذ الدليل في النقل، ولكن العقل يكتشف الدليل، فالعقل لا ينشئ دليلاً ولكنه يكتشف الدليل، بمعنى أن تأتي بالمصحف إلى رجل ذي باع في العلم، وأعطاه الله عقلاً، فهو إذا قرأ في المصحف يستنبط الأدلة من المصحف، ولا يأتي بدليل من عقله، ولكن قدرته العقلية تمكنه من أن يستنبط الأدلة من القرآن.
وتأتي إلى إنسان آخر ليس له حظ في العقل فتجده إذا نظر في المصحف لا يستطيع أن يأتي بأدلة من المصحف.
فالوحي هو الذي يسير الناس، ولكن العقل يكتشف الدليل الموجود الذي في الوحي، ولذلك قال الله للنصارى ولليهود: (أفلا تعقلون) أي: لو عرضتم هذا الأمر على عقولكم الحقة لما قبلته، ولكن ليس لديكم عقول تقول بغير هذا.
ويروى الشافعي رحمه الله تعالى وهو صبي في السادسة عشرة -وكان من أذكى الناس- مر في السوق، فوجد رجلين يختصمان فدخل بينهما لثقته برأيه، فقال: ما بلكما؟ قال أحدهما: هذا كان يبيع طير ببغاء، ويقول وهو يبيعه: هذا الطائر لا يسكت، بل يتكلم الليل والنهار، فاشتريته بناء على هذا الشرط، فلما ذهبت به إلى المنزل إذا هو يتكلم أكثر الوقت، ولكنه يسكت أحياناً، فأنا أريد أن أرده، وكان الذي باع يقول: لن أرده، فأنا لم أقصد أنه يتكلم الليل والنهار ولا يسكت، فقال الإمام الشافعي للمشتري: ليس لك حجة عليه، فاستصغره، فقال: من أين لك هذا؟! قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لإحدى نساء المؤمنين لما أخبرته أن فلاناً خطبها: (أما
فـالشافعي هنا لم يأت بدليل من عقله، ولكن عقله مكنه من أن ينظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه طالب العلم؛ لأنه إن لم تكن لديه آلة عقلية في النظر في كتاب الله لا يمكن أن يكون قادرا على أن يفقه أو يفهم أو يستنبط من كتاب الله عز وجل شيئاً كثيرا.
قال سبحانه: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67] إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان إماما، وإليه تنسب الملة، وهو أعظم النبيين بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، فاليهود تقول: إننا على ملة إبراهيم، وقالوا لنبينا صلى الله عليه وسلم: إنك تعلم أن اليهود أولى بإبراهيم، ولكن الحسد منعك أن تجهر بهذا، والنصارى تقول نفس العبارة، حتى عباد الأوثان وعباد النار يقولون: إن إبراهيم منا؛ لأن إبراهيم يشرف كل إنسان حين ينتسب إليه، والمسلمون يقولون: إبراهيم منا، ولذلك لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فنظر إلى الكعبة قبل أن يدخلها وجد كفار قريش على كفرهم قد وضعوا صورة لإبراهيم وهو يستقسم بالأزلام صنعوها من عقولهم، وهي الطريقة التي كانوا يفعلونها مع آلهتهم إذا خرج أحدهم لسفر أو لغيره، فلما رآها عليه الصلاة والسلام (قاتلهم الله؛ والله ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام) وفي رواية أنه قال: (ما لشيخنا وللاستقسام بالأزلام؟).
والمقصود أن عباد الوثن نسبوا إبراهيم إلى أنفسهم، فلما كانت المسألة كذلك نزل الحكم من الله، والله عليم، فقال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا [آل عمران:67]كما تزعم اليهود وَلا نَصْرَانِيًّا [آل عمران:67] كما تزعم النصارى وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67] كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67] كما يزعم عبدة الأوثان.
ثم بعد أن بين الله جل وعلا منهج إبراهيم بين من الذي هو أولى بإبراهيم فقال: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68]، فذكر ثلاث فئات بحسب الترتيب الزمني؛ لأن الذين اتبعوا إبراهيم من قومه كان ظهورهم قبل النبي عليه الصلاة والسلام، فالله يقول: إن أحق الناس بإبراهيم حسب تسلسلهم الزمني الذين آمنوا به وقت نبوته ورسالته صلوات الله وسلامه عليه، (وهذا النبي) ذكره مفرداً، قال العلماء: هذا تعظيم وتشريف لنبينا صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:68] من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الصحيح من أقوال العلماء.
فإبراهيم عليه الصلاة والسلام يتولاه ثلاثة:
المؤمنون الذين معه، ونبينا صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون من هذه الأمة، ولكن أفرد النبي تعظيماً له، ولأنه عليه الصلاة والسلام أولى بإبراهيم من جهتين:
الأولى: لأنه من ذريته، والثانية: لأنه موافق له في شريعته، وموافق له في ملته.
ومن إكرام الله لإبراهيم عليه السلام لم يبعث نبياً بعده إلا وهو من ذريته، كما قال الله في آية حصر: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت:27]، فما بُعث نبي ولا رسول بعده صلوات الله وسلامه عليه إلا وهو من ذريته.
وفي قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68] قال العلماء: دلت الآية أيضا على أن المؤمنين مهما تباينت أقطارهم المكانية، وتفاوت ظهورهم الزمني، فإن بعضهم أولياء لبعض؛ لأنهم جميعا يفيئون إلى ملة واحدة هي ملة إبراهيم القائمة على توحيد الله تبارك وتعالى.
واليوم لا يحاول أعداء المسلمين أن يثيروا شيئاً بين المسلمين أكثر من تفريق الكلمة وإثارة النعرات القائم على عرق أو على مذهب أو على مكان أو على ظهور زمني حتى يتشتت شمل الأمة، فإذا تشتت شملها انشغل بعضها ببعض وأرادت كل فئة منها أن تقيم لواءها، فاقتتلوا وكفوا غيرهم مهمة القتال، فأصبح غيرهم قادراً على أن يحتلهم بيسر وسهولة.
وفي مواضع الفتن العظمى كما هي في عصرنا هذا، وفي الأحداث الأخيرة في العراق يكون جمع الكلمة وتوحيد الصف وغض الطرف عن كثير من الخلافات مقدماً على أكثر الأمور؛ لأن الدين قائم على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولكل مرحلة من مراحل عمر الأمة ما يتفق مع أوامر ونواه وتطبيقات وأحكام شرعية تختلف من حال إلى حال، ومن زمان إلى زمان، والمعيار في ذلك كله مصلحة الأمة، وعدم تمكين عدوها منها.
قال تعالى: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69] الطائفة تطلق على الجماعة من الناس، والود هنا بمعنى: الرغبة.
فقوله تعالى: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ [آل عمران:69] يعني: كان مراد بعض اليهود وبعض النصارى أن يردوكم عن إسلامكم؛ لأنهم يعلمون أن الإسلام حق، ولكن الإنسان إذا حسد غيره لا يتمنى له الخير، فقد جرت سنة الله في خلقه أن الهالك يتمنى أن يهلك الناس معه، فالواقع في سلك المخدرات، والواقع في سلك النساء، والواقع في سلك كذا وكذا من المعاصي والجرائم لا يريدك أن تكون معه حبا فيك، ولكن يدفعه إلى ذلك أن كثرة الناس في الشر تهون الشر على نفسه، ومثال ذلك أنه لو أخبرك ابنك بأن نتيجته في الامتحان غير موفقة للمته كثيرا، ولكن لو أن هذا الابن أخبرك بأن الفصل كله على هذا النحو لخف لومك على ابنك، وهذه من سنة الله في خلقه، ولذلك لما ضل إبليس وتمت عليه اللعنة هم بأن يعصي بني آدم كلهم، حتى لا يقع في الهلاك لوحده، وأهل الإشراك أهل الكفر من أهل الكتاب لما وقعوا فيما وقعوا فيه ومنعهم الحسد أن يتبعوا نبينا صلى الله عليه وسلم رغبوا في أن يضلوا المؤمنين، والله جل وعلا يقول وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69]؛ لأن الله تبارك وتعالى يحمي أولياءه، وينصرهم ويمنع عنهم كيد الأعداء.
ثم قال الله جل وعلا: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70] و(تشهدون) مفعولها هنا محذوف، والمعنى أنكم تشهدون البراهين العقلية والنقلية التي تدل على أن الله جل وعلا حق، وكفركم مع كونكم تشهدون الآيات من أعظم الدلالات على العناد والمرض المستقر في قلوبكم، لأن كون الإنسان يكفر ولما تظهر له الأدلة بعد أمر هين، ولكن إذا ظهرت له الأدلة وتتابعت وتظاهرت ومع ذلك أصر على كفره فذلك دلالة على الران الذي في قلبه، وعلى أنه أقرب إلى الحق منه إلى الباطل.
نسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر