بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي هذا الدرس -يسر الله إتمامه- نواصل تفسير كتاب ربنا جل وعلا واقفين عند قول الله جل وعلا في سورة آل عمران: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75] إلى قوله جل وعلا: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83].
إن سورة آل عمران سورة مدنية، وإن من أساليب تسمية سور القرآن تسمية الشيء باسم بعضه، وهذا أمر كانت العرب تستخدمه في كثير من الأمور، فسميت سورة البقرة بسورة البقرة لأنه جاء ذكر قصة البقرة فيها، وسميت سورة آل عمران بسورة آل عمران لأن الله جل وعلا ذكر فيها عمران وآله.
وعلى هذا يقاس كثير مما في كتاب الله جل وعلا، وهو ظاهر بين، وإنما الخلاف بين العلماء في كون تسمية سور القرآن كانت من النبي صلى الله عليه وسلم أو من أصحابه أو من غيرهم.
والذي يظهر -والله جل وعلا أعلم- أن تسمية سور القرآن تسمية توقيفية، بمعنى أن الصحابة سموها بإشارة وأمر وإرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تكلمت سورة آل عمران كثيراً عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وسبب ذلك أمران:
الأمر الأول: قدوم وفد نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما حصل بينه وبينهم من مجادلة انتهت إلى الإقرار بالصلح بينهما، فكانت تلك الأسئلة التي طرحها وفد نجران سبباً في كثير من آيات سورة آل عمران.
الأمر الثاني: ما كان من أحداث من أهل الكتاب من اليهود المجاورين للنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة فكان القرآن ينزل ليبين كثيراً من أمورهم ومعايبهم وما يكون بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من أحداث فجل ما في السورة من ذكر أهل الكتاب كان هذا سببه.
وفي السورة آيات أخر لا علاقة لها بأهل الكتاب، كذكر أحداث غزوة بدر وغزوة أحد وغيرهما مما هو معروف في مظانه، ولعل الله جل وعلا أن ييسر شرحها.
أما الآية التي بين أيدينا فإن الله يقول: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75].
إن حب المال أمر مفطور في النفوس، قال سبحانه: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، وقال جل وعلا عن بني آدم: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، والأمانة في إنفاذها وفي إعطائها لا علاقة لها بالإيمان والكفر إلا شيئاً يسيراً، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كذب أعداء الله -يقصد اليهود- كل أمور الجاهلية تحت قدمي هاتين إلا الأمانة، فإنها مؤداة إلى البر والفاجر)، فلو قدر أن لأحد من الناس أمانة عندك وكان فاجراً فإن فجوره لا يمنعك من تأدية الأمانة إليه، فكونه كافراً أو فاجراً أو فاسقاً لا علاقة له بأحقية الأمانة التي له عندك.
والآية فيها وقفات عدة، منها: إنصاف الرب تبارك وتعالى، وأن الله جل وعلا حكم عدل، فاليهود قوم بهت نعتوا ربهم بأقبح المعايب تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ومع ذلك يقرر الله في هذه الآية أن اليهود على ما فيهم من معايب منهم من لو أمنته فوضعت عنده قنطاراً -والقنطار: الآلاف من الدنانير- ثم طلبتها منه لردها إليك، رغم أنه يهودي، وإخبار الله بهذا دلالة على إنصاف الرب جل وعلا وأن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة.
فقول الله: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75] أي: إن وضعت عنده قنطاراً أمانة رده إليك تاماً كما هو رغم أنه كتابي، يهودي وإما نصراني، فكفره لم يمنعه من تأدية الأمانة.
ثم قال سبحانه: وَمِنْهُمْ [آل عمران:75]، و(من) في الحالتين تبعيضية، وهنا (من) أخرى بيانية، فلو جاء إنسان فأعطاك فاكهة فاكهة متنوعة ثم غاب عنك، ثم جاء يسألك: من أي الفاكهة أكلت؟ فقلت: من البرتقال، فإن (من) هنا بيانية؛ لأنك بينت أي نوع من الفاكهة أكلت.
أما (من) التي في الآية: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:75]، نهي تبعيضية، أي: بعض من أهل الكتاب وليس الكل.
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ [آل عمران:75] لا يساوي شيئاً: لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا َ [آل عمران:75].
قوله تعالى: مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران:75] كناية عن الإلحاح والمواجهة وشدة الطلب، فأنت تعقبه من مكان إلى آخر حتى يؤدي إليك ماذا؟ الدينار، والذي قبله يؤدي إليك القنطار رغم أنه أكبر من الدينار وأكنز، ولكن الأول أمين، والثاني خائن.
والأمانة تؤدى لكل أحد يستحقها إن كان براً وإن كان فاجراً.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75] هذه جملة تعليلية، فينجم عن الآية أن في اليهود قوماً مؤتمنين وهم قلة، وقوماً خائنين، وهم كثرة، وهؤلاء الخائنون علتهم في الخيانة هي أنه إذا قيل لهم: لماذا لا تؤدون الأمانات؟! قالوا: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75]، و(الأميين): جمع أمي، وهو في اللغة: من لا يقرأ ولا يكتب، وأما المقصود بهم هنا فهم أمة العرب من يقرأ منهم ومن لا يقرأ، قال الله عز وجل: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة:2] فـ(الأميين) هم أمة العرب، فقول اليهود: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75] أي: إن هؤلاء العرب قوم أميون لا دين لهم، ولا يرونهم شيئاً؛ لأن اليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار، ويقسمون الناس غيرهم إلى طبقات، فلا يرون العرب شيئاً، ويقولون: إن المال الذي في أيدي العرب أصله لنا، فإن حصل بيننا وبينهم تقاض وبيع وشراء وأمانة فلا حاجة إلى أن نرد إليهم المال؛ لأن المال لنا، فالمعنى الحرفي لقول الله: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75] أي: ليس علينا إثم ولا حرج ولا وزر في أن نأكل أموال الأميين، فما من طريق تصل إلينا بها المحاسبة.
وقلنا: إن لفظ (الأميين) يطلق على العرب؛ لأن الأصل أن العرب أمة لا تقرأ ولا تكتب، قال صلى الله عليه وسلم: (إننا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر، هكذا)، وأخذ صلى الله عليه وسلم يشير بأصابع يديه ليفهم من حوله.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد نعت في القرآن بأنه نبي أمي، قال شوقي :
يا أيها الأمي حسبك رتبة في العلم أن دانت بك العلماء
وبُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم أمياً ليقطع الله جل وعلا ألسنة المشككين وشبه المعاندين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن من عند ربه بأبلغ وأعظم عبارة وأجل كلام، فلو كان عليه الصلاة والسلام يكتب من قبل لقال عنه الكفار: إن هذا الكتاب الذي جاء به قد أخذه عن غيره؛ لأنه يقرأ ويكتب، فما زال يطالع أربعين سنة ثم بعد أربعين سنة من المطالعة والقراءة والكتابة والاستكتاب خرج إلينا بهذا القرآن، فبعث الله جل وعلا نبيه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وقال الله سبحانه: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا [العنكبوت:48] يعني: لو كنت تقرأ وتكتب لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48]، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وهذا من فضل الله جل وعلا عليه.
فالأمية في حقه صلى الله عليه وسلم منقبة، وفي حق غيره مثلبة، إذ يحسن بالرجل أن يقرأ ويكتب، ولذلك قال الله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، فلا يأتي إنسان ويقول: نحن ننتسب إلى أمة أمية فلا حاجة بنا إلى أن نقرأ وأن نكتب، لا يقال ذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام جعله الله أمياً ليقطع على يديه ألسنة المعاندين، أما نحن ففي حاجة ملحة إلى أن نقرأ ونكتب ونزداد علماً.
وليس الأمية المقصود بها النبي عليه الصلاة والسلام عدم العلم، وإنما هي القراءة والكتابة، وأما العلم فشيء آخر، فقد يكون من العلماء من لا يقرأ ولا يكتب يأخذ علمه بالتحصيل ويعطيه بالتلقين.
ثم قال سبحانه: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75]، أي: يعلمون أنه لهم وعليهم في الأميين سبيل.
ثم قال سبحانه: بَلَى [آل عمران:76]، وهي جواب من الرب سبحانه على دعوى أهل الكتاب، ليصبح المعنى: بلى عليكم في الأميين سبيل، قال سبحانه: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76]، وجملة: مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ [آل عمران:76] جملة استئنافية، و(بلى) منقطعة عنها جواب من الرب سبحانه لما قبلها.
فقول الله: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76] أي: من عاهد إنساناً على الأمانة وردها وأتم العهد فإنه قد أتم الشيء الذي عليه واتقى ربه، وهذا من أسباب حصول محبة الله سبحانه، كما
قال الله جل وعلا: فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76].
وينجم عن الآيات كلها فوائد عدة؛ لأن القرآن إنما أنزل ليكون منهجاً يسير عليه الناس:
الأولى: ينبغي أن تفر في عباراتك وكلامك من ألفاظ العموم؛ لأن ألفاظ العموم تجمع بين البر والفاجر والمخطئ والمصيب، وليس هذا من العدل في شيء، فهؤلاء يهود، ومع ذلك لما تكلم الله عنهم سبحانه فصل، ولم يقل جل وعلا: إن اليهود كلهم لا يؤتمنون، وهذا أسلوب قرآني يعرفه كل من تدبر القرآن، وسيأتي في آل عمران أن الله قال: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [آل عمران:113]، فالإنسان العاقل عندما يتكلم أو يحكم على قوم، أو على جماعة، أو على دار، أو على مدرسة، أو على أي شيء، أو على أمة لا يحكم حكماً عاماً ولا حكماً جماعياً، وإنما يفر من ألفاظ العموم على منهج القرآن الذي بينه الله جل وعلا للناس.
الثانية: أن الحق من قول أو فعل يقبل من أي أحد، دل على هذا هذه الآية عن طريق التلميح عن طريق التصريح، ودلت آيات أخر عليه بطريق التصريح.
فـبلقيس كانت تحكم اليمن، وكانت تعبد الشمس، كما قال الهدهد: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل:24]، فلما حصل ما حصل من بعث سليمان الخطاب لها وأخذت تستشير قومها قالت لهم: قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [النمل:34]، فهذا كلام بلقيس في كتاب الله، وقال الله بعدها: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34]، فالله جل وعلا صدقها على قولها رغم أنها عابدة شمس.
والكفار القرشيون قال الله عنهم: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28]، فذكروا سببين لفعل الفاحشة، وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28]، فلما رد الله عليهم رد على الثاني دون الأول، رغم أنهم عباد وثن يعبدون اللات والعزى، ولكن الله أقر قولهم بأنهم وجدوا عليها آباءهم، فلم يرده عليهم، فجاءت الآية: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف:28]؛ لأنهم كذبوا في قولهم: إن الله أمرهم بها، ولكنهم عندما قالوا: وجدنا عليها آباءنا كانوا صادقين، فلما كانوا صادقين في كونهم ورثوا هذا الشيء عن آبائهم لم يرده الله جل وعلا عليهم.
فالحق -يا أُخي- يقبل بصرف النظر عن قائله، وأما الخطأ فإنه يرد بصرف النظر عن قائله، فالخطأ يرد، ولكن إن كان قائله معروفاً بالعلم والصلاح والتقوى فإنه يعتذر له ولست ملزماً بقبول القول، ولكن لا تقع في عرضه.
الفائدة الثالثة: أنه يجب تأدية الأمانات إلى أهلها، فالدين شأنه عظيم عند الله تبارك وتعالى، ومن يستدن ليأكل أموال الناس فإن الله جل وعلا يضيعه كما يريد هو أن يضيع أموال خلقه، ومن استدان ليسد ثغرة، وإنما منعه العجز عن رد الدين فهذا يسدد الله جل وعلا عنه ولا يأثم.
وكيف نعرف أن فلاناً يستدين من أجل تضييع أموال الناس أو من أجل الرد؟
هذا يظهر من طبيعة المعاملة، فلو أن إنساناً تاجراً احتاج إلى مائة ألف ثم اقترض من رجل ما مائة ألف وقامت تجارته ثم انكسرت، ثم لم يبق في يديه إلا أموال يسيرة كألف أو ألفين أو ثلاثة، فجاء فاشترى بالألف أو الألفين شيئاً لبيته فلا نقول له: يجب عليك أن تسدد المائة الألف؛ لأن هذه الألف والخمسمائة ريال مثلاً لا تنفع صاحبها الأول وإنما تنفع الرجل في بيته؛ لأن المبلغ زائد عن قدرة هذا المستدين.
ولكن إذا كان الإنسان ينفق في شيء زائد عن حاجته بمقدار أكثر أو أقل مما هو مستدين له فإنه يدخل في من لم يف بحق الأمانة بينه وبين الناس.
وأداء الديون من أهم الأمور، فالشهادة يُرفع بها كل إثم إلا الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أخبرني به جبريل آنفا) فهذا يبين أن الأمانات بين الناس شأنها عظيم، ومن حاول وجاهد في تأدية الدين عن نفسه أدى الله جل وعلا عنه وأعانه ربه تبارك وتعالى.
ثم قال الله سبحانه في الآية التي تليها: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78].
المناسبة بين الآيتين السابقة واللاحقة أن الآية السابقة بيان للمعايب المالية في الخيانة عند اليهود، وأما الآية التي بعدها بيان للمعايب الدينية في عقائدهم.
قال الله جل وعلا: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ [آل عمران:78] اللي: هو الميل، تقول: لوى فلان يد فلان، أي: أمالها، فقوله تعالى: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ [آل عمران:78]، أي: يحرفون كلام الله لفظاً ومعنىً، وينطقونه على هيئة من يغررك أنه من كلام الله.
وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ [آل عمران:78] اللام للتعليل، والفعل بعدها منصوب وعلامته نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وأصل الكلام (تحسبونه) بالنون، فحذفت النون لدخول لام التعليل.
قال تعالى: وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ [آل عمران:78] (ما) هنا نافية، قال تعالى: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:78] والمعنى: أنهم لم يكتفوا بأنهم يحرفون في الكلم حتى يلبسوا على الناس في أن ما يقولونه من عند الله، بل زادوا على ذلك إثماً، فلم يكفيهم التلميح وإنما لجئوا إلى التصريح وصرحوا كفراً وكذباً بأن ما يقولونه من عند الله، وهم يعلمون يقيناً بأنه ليس من عند الله.
قال سبحانه: وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78]، أي: يفعلون ما يفعلون من كذب وخداع وتمويه على الناس وهم يعلمون حقيقة أنهم يأتون الباطل بعينه، فلا يرتدعون، وهذه نعت مما نعت الله جل وعلا به اليهود.
فتحصل من الآيتين عيبان: الأول مالي، والثاني ديني.
ثم قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77].
إن الناس يتعاملون بالمال، فحب الدنيا العاجل يدفع البعض -والعياذ بالله- إلى أن يحلف كذباً حتى ينال شيئاً من حطام الدنيا الزائل، وهذا أكثر ما يكون في التجار، وهو -وإن كان في اليهود أظهر- ليس مختصاً بهم وحدهم، وإنما يكون في كل صاحب سلعة في الغالب يريد أن ينفقها، ويكون في غير أصحاب السلع.
والمعنى: أن الحلف بالله شيء عظيم، وإعطاء العهد بالله تبارك وتعالى شيء أعظم، فإذا كان الإنسان يبيع هذين -العهد والحلف بالله- من أجل أن يشتري شيئا من الدنيا يعلم أنه زائل كذباً وميناً وزوراً فقد توعده الله جل وعلا بروادع وزواجر عدة، من أهمها أن الله جل وعلا لا يجعل له في الآخرة حظاً ولا نصيباً، وهذا معنى قول الله: لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ [آل عمران:77]، فالخلاق هنا بمعنى: الحظ والنصيب، فلا حظ لهم ولا نصيب وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [آل عمران:77]، وهذا -والعياذ بالله- منتهى الحرمان وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:77]، وهذا أشد وَلا يُزَكِّيهِمْ [آل عمران:77]، أي: ولا يطهرهم، وتطهير الله لعباده يكون بغفران ذنوبهم وستر معايبهم وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77].
ويتحصل من هذا فقهياً ما يلي:
أن الأيمان ثلاث: يمين لغو تجري على ألسنة الناس لا يتعمدونها ولا يقصدونها، فهذه قال الله جل وعلا عنها: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225]، يقول الرجل: بلى والله، كلا والله، اجلس والله، فهذه تجري على اللسان دون أن يتعمدها العبد، فهذه سماها الله لغواً، وأخبر جل وعلا أنه لا يؤاخذ عليها.
اليمين الثانية: تسمى اليمين المنعقدة، وهي التي قال الله جل وعلا عنها: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225]، وهذه تكون في الأمور المستقبلية، بحيث تقسم على أن تفعل أو لا تفعل، أو تترك أو لا تترك، فهذه إن وقعت على خلاف ما قلت يلزم منها كفارة اليمين، وكفارة اليمين واحدة من ثلاث على التخيير: تحرير رقبة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فإن أعتق رقبة أو أطعم عشرة مساكين أو كسا إنساناً ما يكفيه لأن تقام بلباسه الصلاة فقد كفر يمينه، وهذه الثلاث على التخيير، فإن لم يستطع أن يحرر رقبة، ولم يستطع أن يطعم عشرة مساكين، ولم يستطع أن يكسوهم ينتقل في حالة العجز عن هذه الثلاثة بالتخيير إلى الصيام، والمشهور عند العامة أن الصيام مواز لهذه الثلاث، وهذا خطأ، فإن هذه الثلاث على التخيير، قال الله جل وعلا: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ [المائدة:89] أي: واحداً من هذه الثلاثة فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89]، فلا ينتقل إلى الصيام إلا إذا عجز عن واحدة من هذه الثلاث.
اليمين الثالثة: اليمين التي يحلفها الإنسان على شيء قد مضى، فيحلف على شيء لم يكن على أنه كان، وعلى شيء قد كان على أنه لم يكن، وهذه تسمى يميناً غموساً؛ لأنها من كبائر الذنوب، ولم يجعل الله جل وعلا لها كفارة، فتسمى يميناً غموساً ويميناً فاجرة، ويلزم منها التوبة النصوح والتخلص من المظالم والأوبة إلى الله جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم -كما عند الستة من حديث عبد الله بن مسعود -: (من حلف على يمين فاجرة وهو كاذب ليقتطع مال امرئ مسلم لقي الله جل وعلا وهو عليه غضبان)، عياذاً بالله، وكفى بالمرء إثماً أن يلقى الله جل وعلا وهو عليه غضبان.
وبالاستقراء -أي: بالنظر في أحوال الناس- عبر التاريخ علم أن كل من يحلف على يمين كاذبة يعاقبه الله جل وعلا قبل أن يموت، خاصةً إذا كان في قسمه وأيمانه مضرة على إنسان مسلم، كشهادة الزور التي تودي بأخيه المسلم وتضره به في الدنيا، فهذه اليمين تبقى ملتحقة به وينتقم الله جل وعلا منه -كما عليه دل الاستقراء- قبل أن يموت.
فـسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان أحد العشرة المبشرين، فبعثه عمر رضي الله عنه أميراً على الكوفة، فمكث فيها ما شاء الله ثم جاء وفد من الكوفة فسألهم عمر عن سعد ، فكأن بعضهم ألمح على أنه لا يريده، فبعث عمر رضي الله عنه -وكان حاكماً عادلاً- من يسمى في أيامنا هذه بلجنة تقصي الحقائق، فجاءت هذه اللجنة إلى الكوفة فأخذت تسأل الناس عن سعد في المساجد فيأتون المسجد فيقولون كيف أميركم سعد ؟ فيدلي الناس بإجاباتهم، حتى دخلوا مسجدا لبني عبس الذين سكنوا الكوفة، فلما سألوهم عن سعد قام رجل فقال: أما وقد سألتنا عنه فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية وقال كلمة أخرى يذكر عيوباً في سعد ، وكان سعد حاضراً مع اللجنة، فلما سمعه سعد وكان يعلم أنه كاذب وقد حلف، قال: اللهم إن كان عبدك هذا قد قال ما قال كذباً ورياءً فأطل عمره وعرضه للفتن. فعاش هذا الرجل ما شاء الله له أن يعيش حتى طال عمره وأصبح رجلاً أبيض الحواجب مع بياض الشعر وسقط حاجباه على عينيه من شدة الهرم وكبر السن، وفي هذه السن التي يعقل فيها كل ذي خبل كان يقف في شوارع الكوفة وأحيائها وأسواقها يتعرض للنساء ويغمزهن ويلمزهن، وهو قد تجاوز المائة، فإذا قال له الناس: اتق الله! يقول: شيخ مفتون أصابته دعوة سعد . فلا يجد في نفسه قدرة على أن يمتنع عن هذا.
وموضع الشاهد أن اليمين الفاجرة من أعظم ما حرمه الله ومن كبائر الذنوب، وقد دلت الآية عليها: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77].
ثم قال سبحانه: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].
هذا عود على بدء، فقد قلنا: إن آية المباهلة نزلت بسبب وفد نصارى نجران، وقلنا: إن وفد نصارى نجران كانوا يقولون: إن المسيح ابن الله، فيعبد كما يعبد الله حسب زعمهم.
فهنا يقول الله جل وعلا رداً عليهم: إنه لا يمكن أن يقع ولا ينبغي أن يقع أن الله جل وعلا يعطي بشراً الحكم -أي: الحكمة والكتاب- المنزل ويجعله نبياً ثم يقول هذا العبد للناس: اجعلوني رباً من دون الله. فهذا لا يمكن أن يقع شرعاً ولا قدراً، لسبب يسير، وهو أن الله أعلم حيث يجعل رسالته.
فهؤلاء الأنبياء علم الله جل وعلا قبل أن يبعثهم ما في قلوبهم، ولذلك لا يمكن أن يقع منهم خلاف ما أراد الله جل وعلا أن يكونوا عليه، لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية القدرية، فكل الناس في هذا سواء، ولكن لا يقع ذلك منهم شرعاً ولا قدراً، ولذلك قال الله: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:79]، فإن قيل: فما الذي يقوله؟! والجواب: وَلَكِنْ أي: الذي يقع والذي يقوله النبي: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].
وكلمة (رباني) نسبة إلى الرب، وزعم بعض العرب أنها لفظ غير عربي، وأنها غير مسموعة في لغة العرب، الأكثرون على أنها عربية.
وقد اختلف العلماء في معنى (ربانيين)، وجميع ألفاظ العلماء تدل على معنى متقارب، ومجملها أن يقال: إن الرباني هو العالم الفقيه الذي يستطيع أن يسوس الناس بعقل وحكمة ويربي طلبته على صغار العلم قبل كباره، فإن جمع الإنسان هذا كله قدر له أن يكون من الربانيين في العلم.
والحوادث المعاصرة ميزت كثيراً من الربانيين عن غيرهم، فالربانيون من العلماء لا يلقون الناس في المهالك، وقد بين الشاطبي رحمه الله تعالى في (الاعتصام) وفي (الموافقات) -وهما كتابان في التأصيل العلمي- بين كثيراً في معنى الربانية، وتكلم عما ينبغي أن يكون عليه العالم الحق الذي يسوس الناس في أيام الفتن، فالعالم الذي يسوس الناس في أيام الفتن لا يهمه أن يجيب على السؤال، وإنما يهمه أن ينظر في المآل قبل أن يتكلم، فينظر إلى مآل قوله ومآل فتواه وعاقبتها على عامة الناس قبل أن يتفوه بها، حتى يكون الناس على بينة من أمرهم في دين الله جل وعلا، وتلك منازل الكل يطلبها، وقليل من يحصل عليها، بلغنا الله وإياكم إياها.
قال تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79] الباء في الحالتين سببية، والمعنى: بما أنكم رزقتم الكتاب تعلمونه وتدرسونه وتدرِّسونه فإنه ينبغي عليكم أن تكونوا ربانيين وأنتم تسوسون الناس.
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:80]، الواو هنا عاطفة على الصحيح، والمعنى: أن هذا النبي يقول لقومه: إن الله لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، ذلك أن لب دعوة الرسل هي إقامة التوحيد، فلو جاء نبي وطلب من الناس أن يعبدوا الملائكة ويعبدوا النبيين لخالف هذا جوهر الرسالة التي بعث من أجلها، فما أنزل الله الكتب ولا بعث الله الرسل ولا نصب الله الموازين ولا أقام البراهين إلا ليعبد وحده دون سواه، فهذا كان بدهياً أن الأنبياء والمرسلين يأمرون الناس بأن يفروا من العبودية إلى أن يعبدوا الله جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه.
والناس إذا علموا الكتاب وعلموا الحكمة تحركت الفطرة التي في أنفسهم وأصبحت مقبلة على الله، فكيف يعقل من هذا النبي بعد أن أسلم الناس وأصبحوا مقبلين على ربهم جل وعلا أن يطلب منهم أن يعبدوا الملائكة أو أن يعبدوا النبيين؟! فهذا لا يمكن أن يقع، كما قال الله: مَا كَانَ [آل عمران:79] أي: ما ينبغي ولا يمكن أن يقع مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:79-80].
اختلف العلماء في تفسير هذه الآية فانقسموا إلى فريقين: فريق يرى -وهم الأقل من العلماء- أن هذه الآية شاملة لجميع الأنبياء، والمعنى عندهم أن الله جل وعلا بعث النبيين بغاية واحدة هي عبادته سبحانه، فيأخذ الله جل وعلا من كل نبي أن يبين هذا للناس وأن يُعينه مَنْ بعده على هذا الطريق.
والأكثرون من العلماء -وهو المحفوظ المنقول عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - أن هذه الآية منقبة لنبينا صلى الله عليه وسلم، فيصبح معنى الآية أن هناك ميثاقاً، وهناك من أخذ الميثاق، وهناك من أُخذ عليهم الميثاق.
فأما الذي أخذ الميثاق فهو الرب جل وعلا، وهذا واضح في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ [آل عمران:81]، والذين أخذ منهم الميثاق هم النبيون وأتباعهم، وإنما ذكر الله النبيين؛ لأن الأنبياء رءوس الناس والذي أخذه الله منهم هو متى ظهر نبينا صلى الله عليه وسلم في زمانهم وجب عليهم أن يتبعوه، كما قال تعالى: ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ [آل عمران:81] والمقصود به نبينا صلى الله عليه وسلم مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي [آل عمران:81]، والإصر بمعنى: العهد قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81].
فينجم عن هذا درس أن النبي عليه الصلاة والسلام حظنا من النبيين ونحن حظه من الأمم، ولا نبي بعده ولا أمة بعدنا.
وهذا النبي خصه الله جل وعلا بأمور منها ما يشترك فيه مع إخوانه من النبيين، ومنها ما هو خصيصة له صلوات الله وسلامه عليه، فمما يشترك فيه مع النبيين أنه تنام عينه ولا ينام قلبه، وأنه يخير عند الموت، وأنه يدفن حيث مات، وأنه مؤيد بالوحي، فهذا كله يشترك فيه النبي عليه الصلاة والسلام مع غيره من الأنبياء.
ثم خصه الله جل وعلا بخصائص عدة صلوات الله وسلامه عليه، منها هذه الخصيصة، وهي أن الله جل وعلا أخذ العهد والميثاق من النبيين من قبل أنه متى ظهر صلوات الله وسلامه عليه في زمانهم فعليهم أن يتبعوه، وقد ظهر عليه الصلاة والسلام وليس هناك نبي، وآخر الأنبياء قبله عليه الصلاة والسلام هو عيسى ابن مريم، وبين عيسى ونبينا عليه الصلاة والسلام قرابة ستة قرون.
يقول عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى بن عمران حيا لما وسعه إلا أن يتبعني)، ولذلك فإن الذين قالوا: إن الخضر صاحب موسى المعروف حي نرد عليهم بأن من أعظم الأدلة على أن الخضر غير حي أن النبي عليه الصلاة والسلام وقف في لواء يوم بدر، ويوم بدر جمع الله جل وعلا فيه على أرض بدر خيرة خلقه، وذلك اللواء كان تحته النبي عليه الصلاة والسلام وجبرائيل، فلو أن الإنسان صنع ما صنع من الدين والمناقب والعطايا والإمامة وغير ذلك فإنه لا يمكن أن يصل إلى الدرجة التي أعطاها الله جل وعلا أهل بدر يوم بدر، فإن الله جل وعلا أخرجهم من بيوتهم ليكونوا مع نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد قال حسان بن ثابت مفتخراً في شطر بيت لم تعرف العرب فخرا أعظم منه:
جبريل تحت لوائنا ومحمد
فلو كان الخضر حيا لوجب عليه شرعاً أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يومها في أعظم الحاجة إلى النصرة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام وهو ينظر إلى أهل بدر من أصحابه: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا) وقال عليه الصلاة والسلام لـعمر في قصة حاطب : (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم) فلا يعدل مقام النبي عليه الصلاة والسلام في يوم بدر وأصحابه أي مقام لأي أحد بعدهم من أهل الدنيا، لا من الصحابة ولا من غير الصحابة، فمن باب أولى أن كل ما يصنعه الناس بعد جيل الصحابة لا يمكن أن يرقى إلى صنيع المسلمين الثلاثمائة والأربعة عشر الذين كانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدر.
ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام: أن الرسول يبعث إلى قومه خاصة وهو عليه الصلاة والسلام بعث إلى الناس عامة.
ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام بعث إلى الجن ولما كان عليه الصلاة والسلام في وادي نخلة بعد خروجه من الطائف وأخذ يقرأ القرآن ويقوم الليل يتلو آيات ربه جاء الجن فاجتمعوا عليه، قال الله جل وعلا: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19]، يعني أن نبينا صلى الله عليه وسلم يدعو ربه كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]، واللبد: الشيء إذا تجمع. فالجن لما سمعت قراءته صلى الله عليه وسلم وتوسله إلى ربه في ظلمة الليل في وادي نخلة أقبلت رغم شدة جبروتها فأحاطت به صلى الله عليه وسلم وأخذت تسمع ما يتلوه ويقرؤه صلى الله عليه وسلم في ظلمة الليل رغم أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم ولم ير الجن وهم يستمعون إليه، ولذلك قال الله له: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [الجن:1]، أي: أنا لا أدري قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1]، فاجتمعوا حوله وسمعوا قراءته وتلاوته وتهجده وتعبده لربه ودعاءه لله وهو لا يعلم عنهم شيء فلما مضى صلوات الله وسلامه عليه أخبره ربه بأن الجن كانت تستمع إليه.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم: رحلة الإسراء والمعراج، وهذه أشهر من أن تعرف.
ومن خصائصه صلوات الله وسلامه عليه أن الله يعطيه يوم القيامة مقام الوسيلة، وهو المقام المحمود قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد صالح، وأرجو أن أكون أنا هو)، صلوات الله وسلامه عليه، فالوسيلة حق له صلوات الله وسلامه عليه من ربه، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام.
والمقام يطول، ولكن الذي يعنينا أن يكون الفرد محباً متبعاً لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وفي عصرنا هذا كثر المشاهير من أهل الحق ومن أهل الباطل، وبالغ الناس فيهم، خاصة مبالغات في أهل الباطل، والمؤمن التقي العاقل الذي يعلم ويتلو كتاب الله حقاً لا يقبل أن يعظم في قلبه إلا الله، فالقلب -يا أخي- مثل الكعبة، فالكعبة لا يليق بأن يكون عليها صور؛ لأنها بيت الله، وقلب المؤمن لا ينبغي أن يعلق بأحد إلا بربه جل وعلا أو من أمرنا الله جل وعلا بأن نحبه، كنبينا صلى الله عليه وسلم، فنحن نحبه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن الله جل وعلا أمرنا بحبه، ولا يمكن أن يرقى حبنا له إلى درجة حبنا لربنا تبارك وتعالى، كما أن المبالغة في مدح أهل الحق قد يدخلهم في الفتن، وهذا حاصل في عصرنا، فإن الإنسان من طلبة العلم يحمد له حبه للعلماء وحبه للدعاة، وهذا شيء من فضائل الأمور، ولكن لا تحسن المبالغة في تعظيم الدعاة ولا العلماء ولا المدرسين ولا غيرهم مبالغة يتجاوزون بها عن الحد؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، وربما أعجبت الإنسان نفسه من كثرة مبالغة الناس في تعظيمهم له وثنائهم عليه وتقبيلهم لرأسه يوما بعد يوم ومرحلة بعد مرحلة، فيدخله -والعياذ بالله- ما يدخله مما يكون سبباً في هدم دينه وهدم دين أتباعه.
وقد ذكر بعض العلماء الثقات رحمهم الله تعالى أن رجلاً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يظن نفسه أنه من أولياء الله وهو من أصحاب الطرائق المذمومة، فرآه رجل من العامة كان يجلس بجانب هذا العالم المتوفى الذي كتب هذا بيده، فلما جاء هذا الرجل قام هذا العامي وأجلس هذا الرجل مكانه، فلما فرغت الصلاة -وكان هذا في الحرم النبوي- قال هذا العالم وهو من أساطين العلماء: يا هذا! لا تقم مرة أخرى من مقامك في الحرم لأحد ولو كان القادم أبا بكر وعمر . قالها للعامي والرجل يسمع، فقال العامي هذا أفضل ممن ذكرت! أي: أفضل من أبي بكر وعمر ! وكان ذلك الرجل يسمع ولا ينكر شيئاً عياذا بالله، فهذا الذي قال عامي جاهل، وهذا الذي قبل هذا إنما قبله لمبالغات الناس وثنائهم حتى وصل إلى هذه المرحلة فصدق كذب الناس.
ومن هذا يفهم أنه أحياناً بعد الدرس يقوم بعض الطلاب جزاهم الله خيراً يسلمون ويقبلون رأس العالم، وهذا لا داعي إليه، فإذا كان ولا بد من أن تسلم على الشيخ فصافحه، إلا إذا قدم الإنسان من سفر فلا بأس، لكن أن يقبل كل شيخ بعد كل درس على رأسه أو على غير ذلك فهذا لا يحسن، فهو فتنة للمحاضر وذلة للمتبوع، والعاقل من حرر نفسه وحرر الناس من الرق لأحد سوى الله جل وعلا.
ثم أن محبتنا لنبينا صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تنقلب إلى سلوك، فكما ينبغي أن تستقر في القلب ينبغي أن تنقلب إلى سلوك، وذلك أن الإنسان ينظر أين هديه من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس الدين أن تأخذ من الشرع ما يناسبك وتترك ما لا يناسبك، ولكن الدين أن تعلم أنه مبني على قاعدة واحدة قالها صلى الله عليه وسلم، وهي قوله: (إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإن أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم)، فالقدرات تختلف، وأما النهي الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم فإنه يجب أن تنتهي عنه، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الزنا فعن شرب الخمر وعن إيذاء المؤمنات وعن أمور عدة من المحرمات، فهذه لا مجال للأخذ والعطاء فيها، بل ينتهي المؤمن فيها إلى أمر الشرع.
أما ما أمرنا الله به فالناس يختلفون فيه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فائتوا منه ما استطعتم)، فصيام ثلاثة أيام من كل شهر وصيام يوم وإفطار يوم أمر محمود، ولكن ليس كل الناس يطيق الصيام، والأمر بالإنفاق أمر محمود، ولكن ليس كل الناس يملك المال، وعلى هذا قس أمورك، فما أمرك به النبي عليه الصلاة والسلام افعل منه ما تستطيع أن تفعله، وأما ما نهاك النبي عليه الصلاة والسلام عنه فانته عنه بالكلية حتى يكون اتباعك لنبينا صلى الله عليه وسلم طريقا لك إلى رحمة الله جل وعلا ومغفرته في جناته جنات النعيم.
يقول تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:81-82].
قوله تعالى: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:82] معناه أنه بعد أن بين الله الحجج وأوضح الله تلك الطرائق وأقام الله جل وعلا تلك البراهين إذا جاء من الناس من أعرض وتولى ولم يقبل نداء الله تعالى له فلا ريب في أنه من الفاسقين.
وقد قلنا في درس سابق: إن الفسق ينقسم إلى قسمين: فسق يخرج من الملة، كقول الله: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا [السجدة:18]، وفسق غير مخرج من الملة، كما قال الله جل وعلا: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7]، ومن القواعد العلمية أن العطف يقتضي المغايرة، والله عطف الكفر والفسوق والعصيان بعضها على بعض، فدل على أن الكفر غير الفسوق والفسوق غير العصيان.
ثم قال سبحانه: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83].
قوله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ [آل عمران:83] الهمزة للاستفهام، والاستفهام هنا استفهام إنكاري، والمعنى: كيف يبغون ديناً غير دين الله؟! فمن عرف هذه الحجج وعرف هذه البراهين واستبانت له لا يمكن أن يقبل دينا غير دين الله تبارك وتعالى.
ثم ذكر الله جل وعلا ما يدلهم على أنه ينبغي أن يعبدوا الله فقال: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، اللام هنا للملكية، والملك قسمان: ملك حقيقي وملك صوري، وما يجري في الدنيا اليوم هو ملك صوري، وأما الملك الحقيقي فهو لله، فما تملكه اليوم إما أن تذهب عنه وإما أن يذهب عنك، ولذلك قال الله جل وعلا: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [الفرقان:26]، مع أن الملك يومئذ واليوم لله، وقال الله جل وعلا في آخر الانفطار: وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:19]، ولا شك في أن الأمر كل يوم لله، ولكنه المقصود أن ملك الصورة يغيب ويذهب يومها.
وقوله تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [آل عمران:83]، أي: انقاد وخضع واستسلم لله تبارك وتعالى (طَوْعًا وَكَرْهًا)، هذا من الأضداد، ويسميه البلاغيون طباقاً، فإذا جاءت الكلمتان متضادان سمي البلاغيون ذلك طباقاً، ومنه الليل النهار، وقوله: (طوعاً) معرف، وكذلك كرهاً، ونفرق بين (كَرهاً) بفتح الكاف و(كُرهاً) بضم الكاف بأن الكَره هو المشقة الخارجة عنك التي لا تريدها، أي: الأمر الذي تجبر عليه وأنت لا تريده.
وأما (الكُره) -بضم الكاف- فهو المشقة التي تريدها رغم أن فيها مشقة؛ لأن فيها منفعة رغم مشقتها.
وبالأمثال يتضح الحال، فالكره جاء في مثل قول لله تبارك وتعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [آل عمران:83]، وقول الله تبارك وتعالى: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19]، أي: وهن غير راضيات.
وأما (الكُره) فإن الله كتب الحمل على بنات حواء ، وقال سبحانه وتعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف:15]، فمشقة التي تأتي للمرأة مشقة مرغوبة، فما من امرأة إلا وهي تريد أن تلد وتحمل، فهي مشقة مرغوبة، ولذلك عبر الله جل وعلا عنها بالكُره.
قال الله جل وعلا عن الجهاد في سبيله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، بضم الكاف، والجهاد فيه مشقة؛ لأنه فيه ذهاب أرواح وذهاب أبدان وذهاب أموال، وينال الناس فيه من العناء والمشقة الشيء العظيم، ولكن ما فيه من أجر وما يتعلق به من ثواب وما ينال المسلم به من قربات عند الله يجعله محبوباً إلى النفوس، ولذلك عبر الله جل وعلا عنه بضم الكاف.
ثم بين سبحانه وتعالى دلالة ملكه وعظيم عطائه فقال جل ذكره: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، أي: أن مآبهم ومردهم إلى الله تبارك وتعالى، وهذه آية من مثاني القرآن سيأتي عنها الحديث تفصيلاً.
هذا ما أردنا بيانه، ونسأل الله جل وعلا لنا ولكم التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر