بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
ففي هذا الدرس -بعون الله وتوفيقه- سننتقل إلى سورة النساء، بعد أن أنهينا وقفات ثلاث مع سورة آل عمران، والمناسب في الانتقال واختيار الآيات من سورة النساء هو أننا قد تحدثنا في سورة آل عمران عن بعض جرائم اليهود، وتكلمنا عن مسجد الصخرة، وما إلى ذلك.
وهنا ننتقل إلى إتمام الحديث من سورة أخرى هي سورة النساء؛ وللعلم ببعض عقائد النصارى بعد أن بينا شيئا من عقائد اليهود، ثم نعرج على بعض الأحكام الفقهية التي يستلزم الحديث عنها في الآيات.
فنقول مستعينين بالله عز وجل: سورة النساء سورة مدنية جاءت متنوعة الأغراض كأكثر سور القرآن، حيث ذكر الله جل وعلا فيها جملة من العقائد، وجملة من الآداب، وجملة من الأحكام، ولأن السورة من أكثر سور القرآن حديثا عن أحكام النساء نعتت بسورة النساء، وقد سبق أن بينا أن تسمية سور القرآن الراجح فيها أنها توقيفية فعلها الصحابة بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك سورة أخرى تنعت بأنها سورة النساء الصغرى، وهي سورة الطلاق، لأن السورتين تحدثتا كثيراً عن أحكام النساء وما يتعلق بهن.
أما الآيات التي سنتكلم عنها تفصيلا فهي قول الله جل وعلا: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:153] ، إلى قول الله عز وجل: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163] .
فنقول مستعينين بالله عز وجل: سبق أن بينا شيئاً من جرائم اليهود في سورة آل عمران، وفي هذا السياق يخبر الله جل وعلا عن تاريخ اليهود إجمالاً، فلا يختص هذا السياق بمرحلة دون غيرها، فالجرائم التي سيذكرها القرآن الآن وسنفسرها إجمالاً لا تتعلق بمرحلة زمنية معينة، فمنذ بعثة موسى عليه الصلاة والسلام وإنزال التوراة إلى عهد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام مضى أكثر من ألف عام، وخلال ذلك كان اليهود يعيشون، فبعث إليهم بين موسى وعيسى أنبياء، ثم بعث إليهم عيسى عليه الصلاة والسلام وأعطاه الله الإنجيل، ولم يبعث أحد بعد عيسى إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فعبر هذا التاريخ يذكر الله جل وعلا جملة من الخبث الملازم لليهود في تعاملهم مع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فالله يقول لنبيه: هؤلاء المعشر الذين يعاصرونك الآن من اليهود يطلبون منك كتاباً ينزل جملة، حيث قالوا: إن موسى جاءته التوراة جملة واحدة، فنحن -يا محمد- لن نؤمن بك حتى تنزل علينا كتاباً جملة واحدة، كما أنزلت التوراة على موسى جملة، فرد الله جل وعلا عليهم فقال لنبيه من باب التعزية: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ [النساء:153] ، فلا تعجب -يا نبينا- ولا تستغرب من هذا الطلب؛ لأنهم قد طلبوا طلبا أكبر منه، وهو طلبهم من موسى يوم قالوا له: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] ،
وهذا والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فهذا الطلب ذكره الله مفصلاً في سورة البقرة، حيث قال الله جل وعلا: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:55-56] ، فهذا أول وأعظم طلبهم، وفيه من الجرأة على الله جل وعلا ما لا يخفى.
قال تعالى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء:153] ، فلما طلبوا هذا الطلب أهلكهم الله بالموت، ثم رحمهم تبارك وتعالى وأحياهم بعدما أماتهم، كما قال جل وعلا في سورة البقرة: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:56] ، وهذا صريح في أن الله أماتهم ثم أحياهم، وقد قال بعض العلماء من المفسرين: إن إماتتهم وإحياءهم كانا في يوم وليلة.
قال تعالى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [النساء:153]
(اتخذ) تنصب مفعولين، ذكر الله واحداً منهما، ولم يذكر الآخر؛ لدلالة المعنى عليه، حيث قال تعالى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [النساء:153] ، ويظهر من السياق أنهم اتخذوا العجل إلهاً، فـ(إلهاً) هي المفعول الثاني الذي لم يذكره الله، وهذا هو سبب نقمة الله عليهم، وإلا لو أنهم اتخذوا العجل كدابة يركبونها أو ينحرونها ليأكلوها أو لشيء آخر لكان هذا أمراً مشروعاً.
وقد اتخذوا العجل في الفترة التي ذهب فيها موسى عليه الصلاة والسلام ليكلم ربه، وجعل عليهم أخاه هارون، ففي تلك الفترة لما أبطأ عليهم موسى -لأن الله واعده ثلاثين ليلة ثم جعلها الله أربعين- ملوا، فصنع لهم السامري عجلاً من ذهب، وجعل له منفذين يدخل منهما الهواء، فجعلت الريح إذا دخلت من القبل وخرجت من الدبر تحدث صوتا، فخدعهم بقوله: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى [طه:88] كما أخبر الله.
فهذان من جملة ما نقم الله عليهم، فالأول: أنهم سألوا موسى أن يروا الله جهرة، والثاني: أنهم اتخذوا العجل إلها من بعدما جاءتهم البينات.
ثم قال سبحانه: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ [النساء:154] ، فهذه ثلاث مسائل وقعوا فيها.
والطور، يطلق على الجبل الذي به نبات، فإن لم يكن عليه نبات فإنه يسمى جبلاً فقط ولا يطلق عليه أنه طور.
وهل هو الطور الذي كلم الله عنده موسى أم هو جبل آخر؟ كلا الأمرين محتمل.
فلما أعطاهم الله التوراة رفضوا أن يقبلوها، فرفع الله عليهم الجبل تهديدا بأن يلقيه عليهم فقبلوا، قال الله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ [الأعراف:171] ، فهذا من جملة ما اعترضوا عليه، ثم أمرهم أن يدخلوا باب المدينة سجداً معترفين لله بالفضل وطلب المغفرة، فدخلوا يزحفون أعجازهم كما أخبر الله جل وعلا، وهذه هي النقيصة الرابعة.
والنقيصة الخامسة ما ذكره الله في قوله: وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ [النساء:154] ، والسبت المقصود به يوم السبت، وهذه هي قصة القرية التي كانت على الشاطئ، وعبر الله عنها بقوله: حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [الأعراف:163]، وقد ذكرها الله في سورة الأعراف، وبين أنه كانت هناك قرية من قرى بني إسرائيل حاضرة البحر، فأمرهم الله ألا يصطادوا يوم السبت، فكانت الحيتان تأتيهم شرعاً ظاهرة تدعوهم فتنة لهم يوم السبت، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، فكانوا يلقون شباكهم يوم الجمعة، ويأتون يوم الأحد فيجمعون ما وقع فيها، فيحتالون على الله جل وعلا، وبئس ما فعلوا.
وهذا كله حدث في فترات زمنية متفاوتة، وفي أماكن متفرقة، وعبر تاريخ طويل، ولكن المقصود سياق بعض جرائم اليهود بياناً وشفاء لقلب نبينا صلى الله عليه وسلم.
قال الله سبحانه: وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:154].
ثم قال: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [النساء:155-156] ، هنا يبين السياق القرآني ما نجم عن هذه المعاصي، فيذكر القرآن المعصية إجمالاً ثم يأتي بها تفصيلا.
قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ الباء للسببية، أي: بسبب نقضهم للميثاق، وهو ما أخذه الله عليهم عن طريق أنبيائه ورسله من مواثيق وعهود فنقضوها، وهذا دأبهم في كل آن وحين.
قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [النساء:155] ، وهذا يسميه البلاغيون مجازاً مرسلاً، ومعلوم أن اليهود لم يقتلوا الأنبياء كلهم، ولكنهم لما استباحوا دم واحد منهم كانوا كأنهم استباحوا دم الجميع، وأي إنسان يستبيح دم شخص واحد فإنه يستبيح الدماء التي تساويه، فالله عبر عن قتلهم لنبيهم -حيث هم قتلوا يحيى وقتلوا زكريا- بقتل الأنبياء جميعا؛ لأن الأنبياء جميعا يجمعهم دين واحد.
قال تعالى: وَقَوْلِهِمْ أي: لنبينا، قُلُوبُنَا غُلْفٌ [النساء:155] جمع أغلف، وهو الشيء المطبوع المختوم الذي فيه حجاب يحول بينه وبين وصول المعرفة إليه.
قال تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:155] ، وفي تفسير هذه الجملة لها وجهان:
الوجه الأول: أنه أسلوب تستخدمه العرب في كلامها، بمعنى أنهم عديمو الإيمان.
الوجه الثاني: أنهم لم يؤمنوا إلا بقليل من أنبيائهم، فلما لم يؤمنوا بالكل كانوا كأنهم لم يؤمنوا؛ لأن الشرع يوجب الإيمان بالأنبياء جميعاً بلا استثناء، ولعل هذا أظهر.
ثم قال تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [النساء:156] كرر الله الكفر، ثم ذكر شيئا من جرائمهم، والقول الذي قالوه في مريم هو أنهم قالوا: إنها زانية، وقد برأها الله جل وعلا -كما هو معلوم- في كتابه.
والبهتان: الكذب والإفك، والقول بلا علم ولا بينة.
أما مريم فهي سيدة نساء العالمين، ولم يذكر الله جل وعلا في القرآن امرأة باسمها الصريح إلا هي عليها الصلاة والسلام، مع أنها ليست بنبيه؛ لأن الله قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا ، فما بعث الله جل وعلا امرأة قط، ولكنها الوحيدة من النساء عبر التاريخ كله التي ذكرت باسمهما الصريح في القرآن، وهي سيدة نساء العالمين، كما جاء ذلك في صحيح السنة، وهي مريم البتول العذراء، واسمها مريم ، بمعنى: عابدة -أو خادمة- الرب، وقصتها أشهر من أن تذكر، فقد خرجت فانتبذت من أهلها مكاناً شرقي بيت المقدس، فجاءها روح القدس جبرائيل فنفخ في جيب درعها فحملت بعيسى، وبعد أن وضعته أتت به إلى قومها فاختلفوا فيها، فمنهم من صدقها ومنهم من كذبها، وكان مولد المسيح عيسى ابن مريم.
قال الله تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:157-158].
هذه الآية تقودنا إلى الحديث عن النصارى كما تحدثنا عن اليهود، وتفصيل ذلك أن نقول:
ولد عيسى ابن مريم، فحملته أمه وأتت به الملأ من بني إسرائيل فأنكروه قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [مريم:27] ، فأشارت إليه فأنطقه الله في المهد قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30] ، وما اختلف الناس في رجل كما اختلفوا في عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وبعد النبوة أخذ يدعو إلى ربه، فأسلم على يديه أقوام سموا في القرآن بالحواريين، وهم خاصة أصحابه عليه الصلاة والسلام، ثم لما ظهر أمره خاف خصومه وأعداؤه من اليهود فتآمروا على قتله، فبعضهم كان يعرفه بعينه، وبعضهم كان يعرفه باسمه، فلما أجمعوا أمرهم على قتله أخذوا معهم شخصاً يدلهم على مكانه، فلما دخلوا عليه ليقتلوه رفعه الله جل وعلا إليه، وألقى شبهه على غيره، مع اختلاف بين العلماء فيمن ألقي عليه الشبه، فقيل: إنه عبد من الحواريين صالح ألقى الله عليه الشبه، وقيل: إن الرجل الذي دلهم عليه -وهو يهوذا عند بعض المفسرين- هو الذي ألقى الله عليه شبه عيسى، فقتله اليهود ظناً منهم أنه عيسى.
وجملة الأمر أن الله جل وعلا شبه لهم شخصا غير عيسى، ورفع عيسى إلى السماء كما قال ربنا في صريح القرآن: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، واختلف اليهود في هذا الذي شبه، فلما أخذوه قالوا: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟! وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟! فأخذوه وصلبوه وقتلوه اعتقاداً منهم أنهم ينتقمون منه!
وكان هذا في بيت المقدس في المكان المسمى اليوم كنيسة القيامة التي تعظمها النصارى، ثم رفع عيسى إلى السماء.
فالله جل وعلا يقول: إن اليهود تزعم أنها قتلت عيسى، فأنكر الله ورد على اليهود قولهم: إن عيسى قتل أو صلب بأن الله رفعه إليه، فهو حي جسداً وروحاً في السماء الثانية، كما قابله النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وسينزل أمارة وعلامة من علامات الساعة.
وبعد رفعه صدق النصارى اليهود في أن عيسى صلب وقتل، وقالوا: إن الله جل وعلا عدل، ومن عدله ألا يترك الخطيئة بلا عقوبة، فيقولون: إن آدم أكل من الشجرة فارتكب الخطيئة، فلما أكل من الشجرة وارتكب الخطيئة وأهبطه الله ورثت كل ذريته خطيئته.
فقالوا: لا بد من أن تكفر الخطايا عن الذرية، ولما كان الله من صفاته مع العدل الرحمة -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- بعث ابنه الذي هو عيسى، وأنزله إلى الأرض وأحله في الناسوت بدل اللاهوت، أي: في إنسي، وصلب وقتل حتى يكفر عن البشر كلهم خطيئة أبيهم آدم، فمن آمن بأن عيسى ضحى من أجل البشر أصبح مؤمناً وسينجو يوم القيامة، ومن لم يؤمن بأن عيسى ضحى من أجل البشر فإنه لا يعتبر مؤمنا!
وعندهم ما يسمى بالتعميد، والتعميد صفته بأن يأتوا بالطفل -على خلاف في المذاهب عندهم- فيضعوه في مكان فيه ماء كحوض أو يرشوا عليه الماء، ويقولون: باسم الأب والابن وروح القدس! فإذا قالوا هذه الثلاثة اعتقدوا أن هذا الابن عُمد، وإذا عُمد طهر من الذنوب والخطايا، فأصبح قابلا للنجاة يوم القيامة، وعندهم جنة ونار وحساب بناء على هذا الاعتقاد.
وينقسم النصارى إلى ثلاث طوائف رئيسية:
الأولى: الأرثوذكس، وهؤلاء انفصلوا في عام (1054م) عن الكاثوليك، والكاثوليك هي الكنيسة الأم، والبروتستانت الكنيسة الثالثة.
الثانية: الكاثوليك، وهي راعية الكنيسة التي في روما اليوم، التي تتبع البابا يوحنا بولس الثاني المالك وخليفته الباب بنديكيت السادس عشر وجل كنائس العالم تابعة للكاثوليك.
وأما الأرثوذكس فأقل منهم، ومعناها: (مستقيمي المعتقد) - وقد انفصلت عن الكنيسة الأم، ويتبعها بعض الكنائس، كالتي في مصر التابعة للبابا شنودة .
الثالثة: حركة إصلاحية انفصلت عن الكاثوليك في القرن الثامن عشر الميلادي تقريباً على يد مارثن لوثر ، وهي الكنيسة البروتستانتية، وهذه تؤمن بأن لليهود منة على النصارى، والبروتستانتية هي المذهب الذي يدين به الرئيس الأمريكي المعاصر، ورئيس الوزراء البريطاني المعاصر توني بلير ، فالذي يجمع بينهما ارتباطهما حاليا بهذه الكنيسة، وأما الكنيسة التي في روما فهي منفكة عنهما ولا علاقة لها بهما.
فالنصارى فرق شتى، ولكن هذه الفرق الثلاث هي الأم، ويجتمعون في أمور ويختلفون في أمور أقل منها، فيتفقون على أن الأقانيم ثلاثة: الأب والابن وروح القدس، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وقد رد الله على الجميع في كتابه.
النصرانية والأصل أن عيسى بعث إلى بني إسرائيل مثل موسى، وقد قلنا: إن بني إسرائيل يعودون إلى إسرائيل الذي هو يعقوب، ويعقوب عليه السلام له أخ اسمه العيص ، ومن ذرية العيص الروم، وكان العيص فيه صفرة، فلذلك يسمى الروم بني الأصفر، ولذلك فإن أبا سفيان لما رأى هرقل يخشى النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقد أصبح ملك محمد عظيماً، تخافه بني الأصفر.
فالروم في الأصل ليس لهم علاقة بعيسى، والدين النصراني اليوم أكثر أتباعه الروم في أوروبا وفي أمريكا، فهم أكثر من اليهود.
وسبب ذلك أنه بعد ثلاثة قرون من رفع عيسى حدثت حروب بين الرومان وأشياعهم، فآمن ثلة من الرومان بما بقي من دين عيسى عليه الصلاة والسلام.
وكانت اليهود تزعم أنها قتلته، ولذلك يأتون إلى كنيسة القيامة -وهي الموطن الذي زعموا أنهم قتلوا فيه عيسى عليه السلام- فيرمون فيه الزبالات، والقاذورات، والقمامة حتى تجمعت.
فجاء قسطنطين الثالث فآمن بدين عيسى السلام مع التحريف، بعد أن جاء رجل يبحث في تلك القمامات حتى وصل إلى الصليب، حيث يزعمون أنه وصل إلى الخشبة التي صلب فيها من يعتقد اليهود أنه عيسى، فالصلب وقع، ولكنه ما وقع على عيسى، فاليهود صلبوا رجلاً وقتلوه.
فهذا الرجل وجد خشبة على هيئة الصليب المعروفة الآن بعد عيسى بثلاثة قرون، ولما أخذها زعم أنه كان مريضاً، فلما تمسح بها برئ، فلما علم الناس ذلك أخذوا يصنعون الصليب ويتبركون به ويعتقدون فيه ذلك إلى يومنا هذا، فهذا أصل فكرة ظهور الصليب للناس.
فلما علمت أم قسطنطين -واسمها هيلانا بهذا أمرت بمحو القاذورات وبنت عليها كنيسة أسمتها كنيسة القيامة، وذلك أنهم يعتقدون جهلا أن عيسى يبعث منها، فبما أنه مات فسيبعث من هذه الكنيسة، والكنيسة موجودة اليوم في بيت المقدس، وإن لم أنس فإن السادات لما زار إسرائيل تكلم وألقى خطابا في هذه الكنيسة، فهذه الكنيسة قائمة تعظم إلى اليوم.
وتسمى أحياناً كنيسة القمامة بالنسبة لما كان عليها، ثم بعد ذلك كان النصارى يضعون القمامة على الصخرة التي تعظمها اليهود، وكان يصلي إليها موسى عليه السلام.
وهذه الصخرة محا القامة عنها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، ولكنه صلى أمامها وجعلها خلفه.
فأصبح بيت المقدس يضم الكنيسة التي يعظمها النصارى، ويضم الصخرة التي تعظمها اليهود، ويضم المسجد الأقصى الذي يعظمه المسلمون.
فهذا مجمل ما يمكن أن يقال عن عقيدة النصارى، وهي: قائمة على سر التعميد، والإيمان بأن الله كَفّّر عن البشر خطاياهم بقتله ابنه، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
يقول الله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:157-158] أي: عزيزاً عن أن يقتل نبي من أنبيائه وهو جل وعلا غير مريد، حكيماً في سبب رفعه إلى السماء الثانية.
والمحفوظ عندنا في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وفي ظاهر القرآن أن عيسى عليه الصلاة والسلام سينزل في آخر الزمان واضعاً يديه على أجنحة ملك يخرج منه مثل بقايا الوضوء، ويقتل الدجال بحربة تكون معه، قال الله جل وعلا: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزخرف:61] .
ثم قال الله جل وعلا بعدها: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:159] ، هذه الآيات إحدى معضلات القرآن؛ لأن تفسيرها غير واضح، فهذه الآية تحتمل عدة تفاسير، وإلى الآن لم أقف على تفسير مقنع، ولكن نقول جملة ما قاله أهل العلم، فالله تعالى يقول: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:159] والمعنى: لا أحد من أهل الكتاب إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] ، فهنا ضميران، الهاء في (به) والهاء في (موته)، فعلى من يعود كل منهما؟! إن هذا هو موضع الإشكال، فتحتمل الآية أن يكون المعنى: ما من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به -أي: بعيسى- قبل موته، أي: قبل موت الكتابي، فيكون الضمير في (به) عائداً على عيسى، والضمير في (موته) على عائداً على الكتابي.
فيصبح معنى الآية: أنه ما من يهودي ولا نصراني تغرغر روحه إلا وهو يؤمن بأن عيسى عبد الله ورسوله، إلا أنه يؤمن ساعة الاحتضار، فلا يقبل منه، وهذا مروي عن ابن عباس ، وقال به كثير من العلماء، ولكن يصعب تصوره.
ويحتمل أن المعنى: ليس من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل موت عيسى، أي: ينزل مرة أخرى فيؤمنون به، ولكن يأتي الإشكال في قول الله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:159] أي: لا أحد من أهل الكتاب، وقد مات جم غفير من أهل الكتاب قبل أن يروا عيسى، وقد نموت نحن قبل أن ينزل عيسى، فهذا هو الإشكال على التفسير الثاني.
وبقي تفسير لعله أقربها إلى الصواب، وهو أن معنى الآية: ما من كتابي يبقى حياً إلى يوم نزول عيسى إلا ويؤمن به.
وهذا فيه إشكالية أخرى، وهي أن اليهود من أهل الكتاب، ولا يؤمنون بعيسى حتى بعد نزوله، فيبقى تفسير الآية إلى يومنا هذا -في علمنا- غير واضح، وإنما نقلنا ما ذكره أهل التفسير، وإذا أوقفنا الله جل وعلا على شيء آخر سنخبر به في حينه.
ثم قال جل وعلا: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:160-161] ، الكلام في هذه الآيات لوجوه عدة:
أولها: أن المعاصي من أعظم أسباب الحرمان، ولذلك قال الله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] ، فإذا كانت المعاصي من أعظم أسباب الحرمان فإن من أعظم أسباب العطاء الطاعات، قال الله جل وعلا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2-3] ، فالله يخبر أن ما حل على اليهود من تحريم كثير من الطيبات إنما كان بسبب معاصيهم، قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:160-161] ، فالآية تتكلم عن بعض من مظالم اليهود، ومنها الصد عن سبيل الله، ومنها أكل أموال الناس بالباطل، ومنها أكل الربا.
وقول الله جل وعلا: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:161] هذا عطف عام على خاص؛ لأن أكل الناس بالباطل يدخل فيه الربا، والله يقول: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:161] ، فعطف عاماً على خاص.
والربا محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، ومن الفوائد أن يقال: إن هناك معصيتين حرمهما الله على جميع الأمم، ولم يبحهما الله في أي شريعة قط هما: الربا والزنا، فلم يحل الله لأي أمة من الأمم الزنا، ولم يحل لأي أمة من الأمم الربا.
والربا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ربا الفضل.
والقسم الثاني: ربا النسيئة.
والقسم الثالث: ربا القرض.
فالفضل في اللغة: الزيادة، وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم الأصناف الربوية، فقال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين وغيرهما-: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
ومعنى الحديث أن هذه الأصناف الربوية من مكيل وموزون ما كان منها مطعوماً يدخله الربا.
ومثال ذلك أن يأتي إنسان بثلاثة كيلو من التمر, وآخر معه أربعة كيلو من التمر، والتمر صنف ربوي، أي: يدخله الربا، وليس معنى أنه ربوي أنه محرم.
فهذه الأربعة الكيلو زيادة على الثلاثة، فلا يصح التبادل بأن يقول: أعطني هذه وأعطيك هذه، ولو كان أحدهما أفضل من الآخر، فهذا لا يجوز، وإذا وقع فهو ربا فضل، أي: زيادة؛ لأنهما اتفقا في الصنف واختلفا في الزيادة، فهذا معنى ربا الفضل، وهو محرم .
وأما ربا النسيئة، فإن معنى النسيئة: التأجيل والتأخير، قال سبحانه: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37] أي: التأجيل زيادة في الكفر.
ويقع ربا النسيئة بأن يكون هناك صنف ربوي مع صنف ربوي آخر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم) ، ولكنه قال: (يداً بيد)، وفي ربا النسيئة يلغى قوله: (يداً بيد) فيؤخر واحد عن الآخر.
ومثال ذلك في الدولار والريال السعودي، فالمائة الدولار تساوي ثلاثمائة وخمسة وسبعين ريالاً سعودياً.
فالدولار يعتبر صنفاً، والريال يعتبر صنفاً، فلو قايضتهما ببعضهما فإنه يجوز لك الزيادة؛ لأن الصنفين مختلفين، فالدولار غير الريال، ولكن كلاهما صنفان ربوي.
ويدخل ذلك ربا النسيئة حين تأتي إلى الصراف فتقول: سأبيعك خمسمائة ريال سعودي، ولكني أريد أن أسافر، فأعطني مائة دولار أمريكي، فيعطيك مائة دولار، ولا تعطيه الخمسمائة، فهذا ربا النسيئة، وهو محرم.
ولكن إذا أخذت المائة وأعطيته الخمسمائة، أو دونها أو فوقها -كيفما اتفقتما في الحال- يداً بيد فليس هذا رباً؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بي) يعني: كله ناجز ولا يباع ناجز بغائب واضح..
والقسم الثالث: وربا القرض، وهو أصل الربا، وهو الذي كانت تتعامل به العرب في الجاهلية، وهو داخل في ربا الفضل والنسيئة، ولكن ميزناه ليتضح، كأن يأتي إنسان فيقرض إنساناً شيئاً، ثم يشترط عليه منفعة مقابل هذا القرض، وأكثر ما يقع في الأموال، كشخص يأتي إنسان يطلب منه مالاً فيعطيه عشرة آلاف ريال إلى ثلاثة شهور، فتنتهي المدة فيأتي الدائن إلى المدين يطلب دينه فيقول: لا أملك، فيقول: إما أن تأتي بها في الحال، وإما أن أؤخرها إلى شهر على أن تردها لي أكثر من عشرة آلاف ريال ولو ريالاً واحداً، فهذا يسمى ربا قرض، وهو الذي قال الله فيه: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] ، وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) ، وقال (هم سواء) أي: هم في الإثم سواء، أخرجه مسلم من حديث جابر ، وأخرجه البخاري من طريق آخر، ولكن المعنى في الصحيحين.
وينجم عن ربا القرض مسألة تسمى عند العلماء قلب الدين، وهو من كبائر الذنوب، وقلب الدَّين مثاله في إنسان يعطي إنسانا قرضا ألف ريال، ويقول إلى شهر، ثم جاء بعد شهر وليس عند مدينه ألف ريال، وهو رجل مستور الحال، والذي يجده شيء لا ينفك عن قوته تقوم به حياته، كسيارة يذهب بها ويغدو على قدر مستواه الاجتماعي، وبيت صغير يسكنه، في أشياء خاصة لا يمكن أن يستغني عنها فقير ولا غني، فيأتي هذا الذي له المال إليه ويقول له: بعني هذا لشيء خاص عند هذا الرجل يحتاجه، فيأخذ الشيء الخاص، ويعطيه ألفاً، ثم يقول له: الآن رد لي الألف الذي لي عندك.
فهذا يسمى قلب الدين، وهو من كبائر الذنوب كما نص عليه العلماء، ونقل عن العلامة عبد الله بن بسام رحمه الله تعالى عن شيخه عبد الرحمن بن سعدي القول بأنه من كبائر الذنوب.
فهذه أصناف الربا، وكلها محرمة، ولا يوجد أحد - ولله الحمد - فيما نعلم من علماء المسلمين أباح الربا في أي قطر كان، وحين تسمع أن أحداً أباح الربا من علماء المسلمين فلا تصدق، فهذا ليس بعالم، فلا يوجد أحد يتجرأ على أن يبيح الربا، وقد تفهم أنت المسألة خطأ، والربا لا يحتاج إلى أن تقول فيه: مسألة خلافية، بل الربا محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
وينجم عن الآية مسألة لها وضع خاص في عصرنا، وهو أن اليهود أكلة ربا بنص القرآن، قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا [النساء:160-161] ، وهذا كلام رب العالمين، ومع ذلك ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى شعيراً من يهودي وليس عنده مال، فرهن درعه صلوات الله وسلامه عليه عند اليهودي بعد أن اشترى منه.
فالنبي عليه الصلاة والسلام تعامل مع اليهود بيعاً وشراء رغم أنهم أكلة ربا، فينجم عن هذا أنك إذا سئلت: هل يجوز التعامل مع البنوك الربوية بيعاً وشراء؟! فتجيب بأن: نعم؛ لأن اليهود كانوا أكلة ربا، والنبي صلى الله عليه وسلم اشترى منهم وباع منهم وقبل هداياهم، ما لم تعلم أن عين ما تتعامل به محرم، فلو رأيت إنساناً يسرق سيارة أمام عينيك ثم أراد أن يبيعك إياها فلا يجوز لك شراؤها.
ولكن لو أن إنساناً اشترى من أي بنك بماله شراء شرعياً فالبيع جائز باتفاق المسلمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من اليهود، ولأن الله قال في كتابه -وهو يعلم أن اليهود حرفوا والنصارى كذلك- : وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة:5]، ولن يكون طعامهم حل لنا إلا بالشراء؛ لأن طعامهم لا يؤتى به لنا على شكل هدايا، فلا بد من أن تشتريه، فأباح الله لنا أكله، فإذا أباح لنا أكله فمن باب أولى أن يبيح شراءه.
وهذه المسألة نحتاج إليها كثيرا في العصر، وقد عنون الإمام البخاري في الصحيح (باب الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب)، وساق حديثا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم في سفر له اشترى قطيع غنم من رجل مشرك، فهو عليه الصلاة والسلام كان خارج المدينة في حرب مع أهل الشرك.
فلو جئنا إلى ما يسمى اليوم المقاطعة فلا شك في أن المقاطعة -إذا أراد بها الإنسان قطيعة من يعين أهل الباطل وتعبد الله- بها قربة يثاب عليها بلا شك، ونحن لا نتكلم عن القربة، وإنما نتكلم عن صحة البيع وصحة الشراء، والأشياء تنزل على منازلها، ولكن الكلام بالحل أو بالحرمة توقيع عن رب العالمين، قال ابن القيم ، والكلام عن رب العالمين بالحل والحرمة لا بد فيه من أن يكون على بينة، وهدي من الكتاب والسنة، ولا علاقة للعواطف به، ولن تكون أعظم ورعاً من رسولنا صلى الله عليه وسلم، فاليهود يقول الله عنهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] ، ويذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليشتري من يهودي رغم أن أسواق المدينة مليئة بمن يبيعون الشعير، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين للأمة جواز البيع.
وإذا جرنا الكلام إلى قضايا العصر فيحسن تناول قضية الاقتراض من البنوك، فالاقتراض بفائدة لا يحتاج إلى دليل؛ لأنه حرام بإجماع المسلمين، ولكن البنوك أحياناً تقول: إذا اقترضت إلى ثلاثة أشهر ورددت القرض فإنا لا نطلب منك فائدة، فإذا لم تستطع ردها أخذنا منك فائدة، وهذا حكمه كالأول سواء بسواء، فمجرد توقيع العقد -ولو كنت قادراً على السداد قبل نهاية العقد- يعتبر عقداً ربوياً يدخل في اللعن الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه.
فالتعامل مع البنوك بقرض أو إيداع الأموال عندهم لتعود إليك بفائدة هو من الربا الملعون صاحبه على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم، والمحرم في كتاب الله وسنة نبيه وإجماع المسلمين.
قال تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:161] ، أكل أموال الناس بالباطل عام، وقلنا: إن هذا من باب عطف عام على خاص، فكل شيء تتوصل إليه بالباطل محرم، سواء أوصلت إليه بالرشوة أو بالسرقة أو بالاختلاس أو بالنهب، أو بأي طريق من طرائق الباطل، فإنه يعتبر محرماً.
ثم قال سبحانه: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:162] ، (لَكِنِ) -عند النحويين- حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر، ولكنها هنا خففت، والأصل أنها مشددة، فلما خففت جاز فيها عدم الإعمال، فأصبحت تعني الانتقال من جملة إلى جملة، أي: تفيد الإضراب، وهو الانتقال من حال إلى حال، فلا تعمل ولا تؤثر فيما بعدها عملا، فـ(الراسخون) مبتدأ.
وقوله تعالى: (منهم) أي: من أهل الكتاب، وهذا يدخل فيه عبد الله بن سلام ومن آمن من اليهود والنصارى، وَالْمُؤْمِنُونَ المقصود: به المهاجرون والأنصار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ أي: القرآن وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [النساء:162] أي: جميع الكتب وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء:162] المتباد إلى الذهن أن تكون (والمقيمون) مثل (المؤتون) و(المؤمنون) بعدها، ولكنها جاءت وَالْمُقِيمِينَ [النساء:162] ، وفي قراءة (والمقيمون)، ولكن الكلام هنا عن القراءة التي بين أيدينا وَالْمُقِيمِينَ [النساء:162] ، وللعلماء فيها ستة تخريجات، وأحد هذه التخريجات أنها منصوبة على الاختصاص لبيان التعظيم والتفخيم، فيصبح المعنى: وأخص المقيمين الصلاة، ليبين أهميتها في الدين وأنها أمر عظيم، وهذا تخريج إمام النحاة سيبويه وعليه أكثر العلماء.
قال تعالى: أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:162] ، نكر الله كلمة (أجر) هنا لبيان التفخيم؛ لأنه لا يعلم ما لهم من أجر إلا الله، قال سبحانه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] .
هذا ما أردنا الوقوف عنده، وحاصل ما ذكرنا أنا تكلمنا عن اليهود، وتكلمنا عن النصارى في سورتي آل عمران وسورة النساء.
وقلنا إجمالاً: إن اليهود يزعمون أنهم قتلوا المسيح ابن مريم، ويفخرون بذلك، والنصارى وتدعيه، ولكنها تقول: إن هذا خلاص للبشرية، وكلا الفريقين ضال، فإن عيسى ابن مريم لم يقتل ولم يصلب؛ بل رفعه جل وعلا إليه وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:158] ، وسينزل آخر الزمان حكما عدلا مقسطا.
هذا ما انتهى إليه الدرس، والله تعالى أعز وأعلى وأعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر