إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ الله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالسورة التي سنشرع إن شاء الله في التعليق على بعض آياتها هي سورة إبراهيم، وهي السورة التي تلي سورة الرعد.
وقد مضى في تعليقنا على سورة الرعد بعض من الفوائد نذكر ببعض منها:
قلنا: إن الله جل وعلا قال: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:12-13].
وقلنا إن السحاب يحمل النقيضين: الماء والنار، وقلنا: إن في الماء الإحياء، وفي النار الإفناء، فالماء فيه غوث الناس إذا أجدبت الأرض، والصواعق -عياذاً بالله- فيها إفناؤهم.
كما ذكرنا أنه لا نعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح ينقل عنه فيما يقول الإنسان إذا رأى الرعد، أو سمع الرعد. والرعد لا يرى بخلاف البرق، والبرق لا يسمع بخلاف الرعد.
لكن قلنا: إن هناك حديث موقوف على عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول إذا سمع صوت الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده.
وقلنا: إن الأثر الموقوف على الصحابي أفضل من رأينا.
إن سورة إبراهيم سميت باسم نبي من الأنبياء، بل سميت باسم شيخ الأنبياء وإمام الحنفاء كما سيأتي:
وهذه السورة سورة مكية، وسنشرع فيها في بعض الوقفات إلا إن هناك وقفة نقولها من باب الاضطرار، ولا يمكن أن نتجاوزها، وهي في أول السورة، وتتعلق بالنحو.
يقول الله جل وعلا: الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1]، وتنتهي الآية ثم يقول الله جل وعلا: اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [إبراهيم:2].
فجاءت لفظ الجلالة مجرورة بالكسر، والناس جبلوا في الحديث أنهم يرفعون أول الكلام على أنه مبتدأ، لكن هذه الآية لفظ الجلالة فيها لا يعد على أنه أول الكلام، وإنما هو متعلق عموماً بما قبله، فيصبح الإعراب النحوي لقوله تعالى: اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [إبراهيم:2].
أن لفظ الجلالة بدلاً من قوله جل وعلا: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1].
والبدل عند النحاة ينقسم إلى أقسام، منها بدل كل وهو هنا بدل كل، مثلاً تقول: قرأت عن سيرة أمير المؤمنين عمر ، فـعمر بدلاً من قولك أمير المؤمنين، فأمير المؤمنين هو عمر في هذا السياق، وعمر هو أمير المؤمنين، بدليل أنك لو حذفت أحدهما لم يتغير المعني، تقول قرأت عن سيرة أمير المؤمنين، أو تقول قرأت عن سيرة عمر .
مثلها هنا تماماً قوله جل شأنه: إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [إبراهيم:1-2].
فلو قلت في غير القرآن إلى صراط الله، صح المعنى، ولو قلت إلى صراط العزيز الحميد الذي له ما في السموات وما في الأرض صح المعنى، فالله هو العزيز الحميد، والعزيز الحميد هما إسمان من أسماء الله.
وهناك نوع آخر يسمى بدل بعض، تقول مثلاً: أكلت الرغيف بعضه، فقولك بعضه تعرب بدلاً عن الرغيف، فالرغيف مفعول به منصوب، وبعضه كذلك بدل منصوب، يأخذ حكم المبدل منه، وإنما قصدت أنك لم تأكل الرغيف كله.
وهناك نوع آخر يسمى بدل اشتمال، والفرق بينهما: أن بدل البعض شيء محسوس يمكن تجزئته، كما قلنا: أكلت الرغيف بعضه، قرأت الكتاب ثلثه، فثلث الكتاب يمكن تحديده. وبدل الاشتمال غالباً لا يمكن تحديده، ونظيره في القرآن قول الله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ [البقرة:217].
هم يسألون عن القتال في الشهر الحرام، فأصل الآية في غير القرآن: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، لأن القرشيين والمؤمنين يعرفون الشهر الحرام وأحكامه.
وهذا يسمى بدل اشتمال، فأضحى البدل ثلاثة:
بدل كل، وبدل بعض ، وبدل اشتمال.
السورة عموماً تتحدث عن التوحيد، كما هو الشأن في السور المكية، كما تتحدث عن الصراع بين الرسل وأممهم، وذكر الله في مقدمتها خبر نبيه موسى، وبعد أن ذكر الله ما دار بين الرسل والأمم جملة دون تفصيل.
قال سبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:13-17].
هذه الآيات تبين أن التهديد الواقع من الأمم لرسلهم كان يأخذ عدة سياقات، من أشهرها: أن الأمم كانت تهدد الرسل بالإخراج من الأرض، والحر الأبي لا يقبل أن يخرج من أرضه، ومن أصعب الأشياء على المرء أن يخرج اضطراراً من أرضه ووطنه، فهذا أمر لا تطيقه النفوس، قال الله جل وعلا: وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246].
فذكر مصيبتين، الخروج من الديار، وترك الأبناء، وقدم مصيبة الخروج من الديار على مصيبة فقد الأبناء، وقال الله جل وعلا: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ [النساء:66].
فجعل جل وعلا أمر الإنسان لغيره بأن يقتل نفسه كمثل أمره بأن يخرج من دياره، فالأمم تتوعد رسلها بأن تخرج من الديار كما قال الله عن قوم لوط أنهم قالوا للوط وآله: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [الأعراف:82].
فالنفي والنبذ أمر قاس على الإنسان الحر: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [إبراهيم:13].
هذا التهديد من الأمم كان لا بد أن يقابله ثبات من الرسل، والثبات من الرسل لا يمكن أن يأتي إلا بتثبيت من الله، فالصلة بينه وبين رسله الوحي، قال الله جل وعلا: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ [إبراهيم:13]، وكلمة ربهم تشعر بالعطف والحنان، وأنه تبارك وتعالى معين لهؤلاء الرسل، وأنه تبارك وتعالى يرعاهم ويتعهدهم، وهم صادقون بالتوكل عليه: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ [إبراهيم:13].
وهذا الوعد العام هنا: جاء مفصلاً في سور كثيرة، فقد ذكر الله قوم صالح، وقوم نوح، وقوم هود، وغيرهم من الأقوام، كيف أن الله جل وعلا نجاهم وأهلك القوم الضالمين: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ [إبراهيم:13].
وهذا وقع، وقع على وجه الإجمال، ووقع على وجه التفصيل: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [إبراهيم:13-14].
ثم بين جل وعلا أن هذا الوعد إنما هو خاص بقوم معينين فقال جل وعلا: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14].
فأعظم ما يتم به النصر في الدنيا والآخرة الخوف من مقام الله، وما فاز من فاز من العباد الصالحين بسعادة الدنيا والآخرة إلا بالخوف من الله، والسعادة التي لا تظهر في مال أو في جاه أو في غير ذلك من متاع الدنيا إنما يشعرون بها في قلوبهم إذا وقفوا بين يدي الله .. في الصلوات وفي السجود وفي التسبيح وفي الذكر، وفي أي مكان وجدوا يشعرون بلذة الإيمان في قلوبهم. هذا الأمر إنما وجدوه لما وقر في قلبهم الخوف من مقام الله تبارك وتعالى.
ورتب الله جلا وعلا على الخوف من مقامه أعظم الهبات، قال الله جل وعلا: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46].
وقال: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41].
وتزكية الإنسان لنفسه ليست التزكية اللفظية التي معناها أن يمدح نفسه، بل معناها أن يعمل من الصالحات التي يشعر بها نفسه أنه يخاف من مقام الله جل وعلا، فإذا ذكر بالله تذكر، وإذا قيل له اتق الله تراجع، وإذا خوف بالله خاف. هذا هو الخوف من مقام الرب تبارك وتعالى، أما أن يقولها الإنسان بلسانه ثم يذكر بالله ويخوف به ويقال له: اتق الله فيصر على معصيته، ويمضي في سلوكه، ولا يعبأ ولا يبالي بشيء من الأمر، هذا لم يهب ولم يخف من مقام الله جل وعلا حق الخوف وحق الخشية: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14].
ثم قال جل وعلا: وَاسْتَفْتَحُوا [إبراهيم:15].
الألف والسين والتاء للطلب، تقول: استطعمتك فأطعمني، أي طلبت منك الطعام فأطعمني.
فقوله: وَاسْتَفْتَحُوا [إبراهيم:15]. هذا يحتمل أمرين: إما أن يكون أن الرسل هم الذين استفتحوا، وهذا أقرب لسياق الآية.
وإما أن تكون الأمم. فالرسل يكون استفتاحهم بأن يطلبوا النصر من الله، كقول نوح عليه الصلاة السلام: رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10] فهذا طلب النصرة من الله، والحالة الثانية -وقد وقعت كثيراً-: أن الأمم أنفسها تضجر بالأنبياء، وتمل وتستخف بمقام الله، فتطلب من الله جل وعلا الفصل، كما قال الله جل وعلا عن قريش: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32].
فالمشهور أن الذي قالها هو أبو جهل قبل معركة بدر، حيث قال: اللهم أينا أقطع للرحم فأحنه الغداة، يستفتح بذلك عذاب الله، ولا يدري أن العذاب سيأتي إليه، وكقول ثمود لصالح: ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:77] إلى غير ذلك.
فالأمم تتعجل العذاب، وهذا استفتاحها، واستفتاح الرسل طلب النصرة من الله: وَاسْتَفْتَحُوا [إبراهيم:15].
قال الله: وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إبراهيم:15] سواء طلب الكفار العذاب، أو طلب الرسل النصرة سيقع أمر الله، فإذا وقع أمر الله، فإنما يخسر أهل الكفر، قال الله تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إبراهيم:15].
جبار عنيد: كل ظالم جائر مكابر، غير متذكر من تذكير الله تبارك وتعالى له، ليس له إلا الخيبة في الدنيا والآخرة، وهذا قد يحصل حتى لأحد أهل المعاصي من الناس إذا أصر على معصيته.
قال الماوردي في أدب الدنيا والدين، وحكاه عنه القرطبي في الجامع، ونسب بعض المفسرين إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، وهو خليفة أموي أنه استفتح القرآن، وهذه عادة إلى اليوم موجودة في بعض البلدان العربية، فإذا أرادوا أن يسموا الولد يأخذ أحدهم المصحف، ويفتحه على غير شيء بين، فتظهر كلمة فيسمون بها الولد، فبعض الناس خاصة في تركيا يسمون بالطريقة هذه، وهذا يسمى نوع من الاستفتاح العملي.
يقولون: إن الوليد لما آلت إليه الخلافة أراد أن يرى حضه، فأخذ المصحف واستفتح، ليرى أين حضه من الخلافة، فلما فتح المصحف جاءته هذه الآية: وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إبراهيم:15].
فيقال -والعهدة على من روى- إنه مزق المصحف، وقال:
أتوعد كل جبار عنيد فها أنذا جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد
هذه القصة وإن اشتهرت، وإن كان في بعض خلفاء بني أمية من الفجور والفسق ما هو معروف لكن نقول يبعد عندنا جداً أن يفعلها مسلم، لكنني ذكرتها هنا عمداً حتى أبين الخطأ، وهذا خير من أن نسكت عنه فتأخذه من غيرنا دون أن تعرف أنه خطأ واضح.
فنحن نستبعد أن يفعلها الوليد ، أو يفعلها أي مسلم؛ لأن تمزيق المصحف كفر لا محالة، وأمة محمد أكرم على الله من أن يولي عليها كافر.
وأن يكون الإمام المسئول عن بيضة المسلمين كافراً هذا لا يمكن أن يقع؛ لأن هذه الأمة كريمة على الله، وقد كانت بنو أمية هم بيضة الإسلام.
قال: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ [إبراهيم:15-16].
من ورائه جهنم يعني: أمامه جهنم، وهذا أمر يقوله العامة اليوم، وهي لغة صحيحة، فمثلاً يأتيك شخص يتسحر عندك في رمضان، وأنت حريص بكرمك على أن تطعمه، فرأيت هذا الضيف لا يأكل كثيراً، فأنت حتى ترغبه في الطعام، تقول له كل فإن وراءك ستة عشر ساعة صيام.
ومعنى وراءك: أمامك. حتى اللغة دلت عليها، يقول لبيد :
أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
إن تراخت منيتي يعني: لم تأتني المنية ورائي.
وقوله: تحنى عليه الأصابع يعني: يحدودب ظهري، وسأستخدم عصى، وأحني عليها أصابعي. فقصد بقوله: أليس ورائي. أن ليس أمامي، وقد جاء في القرآن وراء بمعنى أمام، وذلك في سورة الكهف، قال الله جل وعلا: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79].
أي أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا، فالخضر كان يعلم أن في الطريق سيجدون ملك يأخذ كل سفينة غصباً، المقصود أن وراء تأتي بمعنى أمام، وهذا قول الجمهور.
وقال بعض العلماء: إن وراء هنا بمعنى بعد، وهذا قريب جداً، وقد يكون الاختلاف لفظي.
قال تعالى: مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ [إبراهيم:16].
وجهنم هي النار المعروفة، وهي التي أعدها الله جل وعلا لأهل معصيته، وقد نعتها الله بأن لها سبعة أبواب، وبعضها فوق بعض. وأما الجنة فإن أبوابها أفقية، بجوار بعضها البعض، والله أعلم.
لكن نص القرآن على أن لجهنم سبعة أبواب في سورة الحجر، فالله يقول: مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ [إبراهيم:16].
قال تعالى: يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ [إبراهيم:17].
الإنسان إذا أكره على طعام أو شراب يشربه لا يخلو من أحد حالين:
إما أن يرده قبل أن يشربه، يعني يمتنع أن يصل إلى جوفه، فيكون قد استراح منه.
الحالة الثانية: أن ينتصر عليه، ويغمض عينيه -كما يقول العامة- ويشربه.
ففي كلا الحالتين عذاب.
فلا هو بالذي رده فاستراح منه، ولا هو بالذي شربه بقدرته فلم يؤثر فيه، وإنما كان كما قال الله: يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ [إبراهيم:17].
لما قال الله جل وعلا: وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ [إبراهيم:17] فهمنا أن قوله جل وعلا ويأتيه الموت معناه أسباب الموت، فكل ما جرت العادة عقلاً ونقلاً أنه يقتل، ويهلك ويميت لا يكون مميتاً يوم القيامة، لأنهم لو ماتوا لاستراحوا: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77].
لكن ليس لأهل جهنم راحة، فالله يقول: يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [إبراهيم:17].
كل أسباب الموت العقلية والنقلية حاضرة ولا يحضر الموت، وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:17].
زيادة على هذا أعاذنا الله منها.
هذا المقطع الأول الذي أردنا أن نتكلم عنه.
المقطع الثاني: قال الله جل وعلا: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:35-36] إلى آخر الآيات.
هذه السورة سميت باسم خليل الله إبراهيم، وهنا يذكر الله جل وعلا عن هذا النبي الصالح أنه قال: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [إبراهيم:35].
أي بلد مكة، فالألف واللام هنا والعهد هنا ذهني؛ لأنه ليس قبله شيء، فتصبح في المعهود الذهني أن إبراهيم سكن مكة، فالمعهود بالبلد هنا مكة.
قال بعض العلماء: إن إبراهيم يعتبر الأب الثالث للبشرية، وفي هذا القول نوع من التجاوز. هم يقولون: آدم ثم نوح ثم إبراهيم، لو قيل: إنه الأب الثالث للأنبياء لصح، لكنه الأب الثالث للبشرية وهذا لا يصح.
هذا العبد الصالح أعطاه الله عظيم الهبات من أشهرها منزلة الخلة، قال الله جل وعلا: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125].
وهذه أرفع منزلة، ولا نعلم أن أحد معه فيها إلا نبينا صلى الله عليه وسلم.
فخليل الله إذا أطلق يراد به إبراهيم، هذا أعظم ما وهبه الله جل وعلا خليله إبراهيم.
الأمر الثاني: أن الله أعطاه الإمامة في الدين: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124].
ولهذا نسبت الملة إليه، قال الله جل وعلا: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78].
أعطاه الله جل وعلا الإمامة بعد أن ابتلاه.
الأمر الثالث: أن الله جل وعلا أعطاه رشده وفطرته وكمال عقله من صغره، قال الله جلا وعلا: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51].
الأمر الرابع: وهذا خاص بعلاقته بهذه الأمة، أن الله جل وعلا جعل من مقامه مكاناً لماذا؟ للصلاة، فقال سبحانه: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].
والمشهور عند المفسرين وغيرهم أن هذا الحجر، كان إبراهيم يرقى عليه، حتى يبني البيت، وكان ملتصقاً بالكعبة، ثم أخر في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
النبي عليه الصلاة السلام طاف بالبيت سبعاً .. رمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم لما جاء عند المقام: تلا الآية: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].
وصلى صلوات الله وسلامه عليه عند المقام ركعتين، المسماة بركعتي الطواف.
المقصود من هذا أن مما وهبه الله جل وعلا إبراهيم أن الله جل وعلا جعل من مقامه مكاناً للصلاة.
ومما سيهبه الله في الآخرة أن الله جل وعلا يجعل إبراهيم أول من يكسى يوم القيامة: قال عليه الصلاة السلام: (إنكم ستحشرون حفاة عراة غرلاً، ثم تلا قول الله جل وعلا: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]. ثم قال: وإن أول من يكسى من الخلائق إبراهيم
وجاء أثر عن مجاهد عن ابن عباس : (أن إبراهيم يؤتى له بكرسي على يمين العرش، فيكسى حلة تشرئب إليه أعناق البش).
فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الصادق المصدق أخبرنا أن إبراهيم أول من يكسى يوم القيامة، لكنه عليه الصلاة السلام لم يخبرنا لماذا يكسى إبراهيم أول الناس يوم القيامة؟
فاجتهد العلماء في معرفة: لماذا يكون إبراهيم أول من يكسى؟
وأشهر ما قيل في ذلك أنه يوم ألقي في النار ألقي عرياناً أمام الناس من أجل الله، فعوضه الله بأن كساه أول الخلائق أجمعين يوم القيامة، وهذا تأويل جيد.
وقيل: إنه كان من أعظم الناس خوفاً وفرقاً من الله، والله أعلم بالصواب، وقد يكون كلا الأمرين غير صحيح، لكن الصحيح أنه أول من يكسى يوم القيامة.
كما خص الله جل وعلا إبراهيم باللين، فقد كان عليه السلام لين القلب مع الناس، كما قال الله جل وعلا: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36].
وهذا دلالة على لينه، والنبي عليه الصلاة السلام كما في الصحيح وغيره (لما أسر أسارى بدر استشار وكمثل عيسى قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]. ثم قال: وأنت يا عمر مثلك كمثل نوح إذ قال: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26]. وكمثل موسى إذ قال: وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:88]
فمنهج نوح موافق لمنهج موسى، ومنهج إبراهيم موافق لمنهج عيسى، والصديق رضي الله عنه كان له سلف، وهما إبراهيم وعيسى، وعمر رضي الله تعالى عنه كان له سلف، وهما نوح وموسى.
فنقول: إن إبراهيم كان لين القلب عليه الصلاة السلام، هذه بعض صفات خليل الله إبراهيم.
قال الله عز وجل: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35].
هذه الآية لو تكلم الناس فيها إلى يوم القيامة لن يوفوها حقها، لأن هذا الرجل الذي ذكر الله جل وعلا عنه أنه خليل وأنه إمام وأنه بنى البيت يخاف على نفسه أن ينتكس، فيقول: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35].
قال السلف: من يأمن الفتنة بعد قول إبراهيم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35].
نقول: فلا يأمن أحد يعرف أن القلوب والهداية ليس مردها إلى علم ولا إلى تلاوة، ولا إلى فصاحة ولا إلى بيان، ولا إلى مدح الناس، ولا إلى ذمهم، ولا إلى قبور يراها، ولا إلى أي شيء، إنما مردها إلى الله، فمن يعلم أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يخشى على نفسه، ومن يعلم أنه وصل إلى ما وصل إليه بسلطته وقدرته، وما إلى ذلك فهذا أقرب إلى أن ينتكس.
فهذا خليل الله وأبو الأنبياء، وما من نبي بعده إلا من ذريته ويقول: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35].
الآن من الناس من لو قلت له: الصورة لا تعلقها لأنها حرام، قال: لا يوجد عاقل يعبد صورة في هذا الزمان. فهذا لا يعرف أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن.
لكن خليل الله لما كان يعرف الله ويخشى على نفسه قال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35].
فإذا خاف إبراهيم على نفسه والله جل وعلا قد أعطاه الرشد فكيف لا يخاف أحدنا على نفسه.
لكن نقول كما علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك) والإنسان كلما أكثر من الاستغفار واحتقر نفسه، ولم ينظر إلى من حوله على أنه أعظم هداية منهم كان أقرب إلى أن يثبت على الدين، أما إن ظن الإنسان في نفسه أنه بلغ المنازل العالية، وأن الناس فساق، وهو على خير فهذا والعياذ بالله يخشى عليه، فـمحمد بن المنكدر أحد التابعين تبع جنازة رجل خمار، فقيل: يا إمام أتتبع جنازة هذا؟ قال: إني لأستحيي من الله أن يراني أظن أن رحمته تعجز عن أحد من خلقه، فالله جل وعلا كما بيده الرحمة بيده العذاب.
فهو قادر على أن يضل، وقادر على أن يهدي، يقول تبارك وتعالى: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:27-28].
قال إبراهيم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:35-36].
وهذا فيه دلالة على لين إبراهيم: وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36].
قال تعالى: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37].
أي: واد في مكة، والوادي الذي لا خلاف عليه بين أهل العقل والنقل هو الذي فيه الكعبة.
وقوله تعالى: أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:37] (من) هنا بعضيه، لأن إبراهيم لم يسكن ذريته كلهم، وإنما أسكن هاجر وإسماعيل، وأبقى سارة وإسحاق في مكان آخر.
قال تعالى: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37].
وعندما قال إبراهيم هذا لم يكن قد بنى البيت، فدل على أن الكعبة موجودة قبل إبراهيم، أو أن مكانها كان موجوداً قبل إبراهيم.
وهذا فيه دلالة على أن مكان البيت قد حدد من قبل، ولا نجزم على أن البيت قد بني قبل. وبعض العلماء يقول: أذهبه الطوفان.
قال تعالى: رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:37].
فدل على أنه ما من عمل صالح بعد التوحيد أحب إلى الله من الصلاة، ولذلك قدمها إبراهيم.
قال تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم:37].
أفئدة أي: جماعات، و(من) هنا بعضية، ولو قال: فاجعل الناس لاستجاب الله دعوته، ولسكن أهل الأرض كلهم في ذلك الوادي.
لكن ما لا يريده الله قدراً، لا يجريه شرعاً على لسان أنبيائه، فالله عصم إبراهيم من أن يقول: فاجعل الناس؛ لعلم الله أزلاً أن هذا لن يقع، لأن كرامة إبراهيم عند ربه عظيمة، فقال: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ [إبراهيم:37].
ويشهد كل عاقل ما تساق إلى مكة من الثمرات عبر العصور، رغم أنها ليست للزرع كما قال الله جل وعلا: بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37].
قال الله تعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم:38].
هذا من توسل الخليل، وغلاة الصوفية يقولون: إنه يجوز أن يلقي الإنسان نفسه في المهالك توكلاً على الله، ويحتجون بهذه الآية، وأن إبراهيم وضع زوجته وابنه في واد غير ذي زرع، ومضى عنهما. والجواب عن ذلك أن هذا بأمر الله وليس بعقله، وإلا لو فعلها إنسان اليوم، وأخذ زوجته وابنه ووضعهما في واد وتركهما، وقال أصنع كما صنع إبراهيم، فلو ماتوا يعتبر كالقاتل لهما، لأن هاجر تبعت إبراهيم، وقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فقالت: إن الله لا يضيع أهله.
فهذا كان فيه أمر صريح وليس فيه شيء من القدوة.
إلى أن قال: رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [إبراهيم:38-39].
ورزق إبراهيم إسماعيل وإسحاق عليهما السلام على كبر، وقد بلغ من السن خمساً وتسعين سنة عند بعض العلماء، وبعضهم يقول: إنه قد شارف على المائة عليه الصلاة السلام.
وكان يضع أي يده عليهما ويقول (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة) .
فلما جاء الحسن والحسين لنبينا صلى الله عليه وسلم كان يضع يده الطاهرة الشريفة عليهما ويقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، فإن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق) يعني: إبراهيم.
قال الله تعالى: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41].
الأنبياء عليهم الصلاة السلام حتى في دعائهم يفقهون شيئاً يسمى فقه الأولويات، فنوح يقول: رَبِّ اغْفِرْ لِي [نوح:28].
ولا يقدم أحداً على نفسه: وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا [نوح:28].
فمن يعرفني ليس مثل الذي لا يعرفني: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28].
وهذا خليل الله يقول: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41].
لكن قوله: عليه السلام، ولوالدي، هذا قبل أن يعلم أن أباه سيموت على الكفر.
لأن الله جل وعلا يقول: مَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].
ويفهم من هذا أن أم إبراهيم كانت مسلمة، لأن الله ذكر دعاء إبراهيم للوالدين، لأبيه وأمه، ثم استثنى أباه فبقيت الوالدة، فالأظهر والله أعلم أن أم إبراهيم كانت مسلمة.
اللهم أغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
السؤال: يقول: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم:37] هل يدخل فيها الجن؟
الجواب: في نفس السياق لا يدخلون، لكن قد يدخلون من دعوة أخرى.
السؤال: يقول كيف أضلت الأصنام وهي جمادات؟
الجواب: المراد أنه بسببها وقع الضلال.
السؤال: ما المراد بكلمة الأعراف؟
الجواب: هي جبال أو هضاب أو تلال مطلة على الجنة وعلى النار.
السؤال: أريد أن أحج وعلي دين لشركة الاتصالات، هل أسدده أو أجله؟
الجواب: الدين يختلف، فإن كان يسيراً مثل فواتير الهاتف فسددها، أما الدين بمئات الألوف وما أشبه ذلك فسواء حججت أو لم تحج لا يغير في الأمر شيئاً.
فمن الممكن تأخير الدين، والإشكالية ليست في قضية الدين، الإشكالية أن بعض الشباب عفا الله عنا وعنهم يرون أن بعض الجهات لا يضر الدين منها، كشركة الاتصالات مثلاً.
ويأتي بتأويلات من عنده على عدم وجوب سداد الدين، والحق أنه يجب سداد الدين حتى لو من يهودي، فإذا أخذت مالاً يجب رده سواء من شركة الاتصالات أو غيرها.
السؤال: ما حكم السكتة بين الفاتحة وما تيسر من القرآن، ومتى تكون السكتات في الصلاة؟
الجواب: هذه السكتة التي يصنعها الأئمة بعد الفاتحة لا أعلم لها دليلاً من السنة، اللهم إلا أن تكون في بعض المذاهب، أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان يسكت في أول الصلاة قبل أن يقرأ دعاء الاستفتاح، ويسكت حين ينتهي من القراءة كلها حتى يرتد إليه نفسه، أما أنه يسكت ما بين الفاتحة وقراءة ما تيسر حتى يقرأ الناس الفاتحة، فهذه لا أعلم لها دليلاً.
السؤال: ما رأيكم فيمن يتركون أهليهم ويذهبون للدعوة، يقصد جماعة التبليغ وما إلى ذلك؟
الجواب: نحن نقول: إن كل من يدعو إلى الله موفق، لكن الإنسان على نفسه بصيرة، والناس يختلفون في قدراتهم المالية وفي قدراتهم المعيشية، فإذا كان الإنسان عنده من يخلفه في أهله فلا بأس في ذلك، أما إذا لم يوجد من يخلفه في أهله فينظر بحسب الحال، والنبي عليه الصلاة السلام يقول: (كفي بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت).
السؤال: يقول ما هي قصة موت الخليل عليه السلام؟
الجواب: ذكر ابن كثير رواية لا تصح. لكنه مات كما يقبض الأنبياء من قبله، وهو مدفون في المدينة المشهورة اليوم باسمه، وهي مدينة الخليل، وقديماً كان اسمها حبرون، وفيها قبر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق.
وسلمنا الله وإياكم من كل سوء، وغفر الله لنا وإياكم كل زلل، وصل الله على محمد، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر