الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن السورة التي سنشرع في تفسيرها -بإذن الله تعالى- هي سورة الحجر، وهي سورة مكية عدد آياتها تسع وتسعون آية، والسور المكية تعنى بجانب العقيدة، كما أنها تكون في غالبها ذات آيات قصيرة؛ وقد سميت سورة الحجر بهذا الاسم لقول الله جل وعلا فيها: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ [الحجر:80]، وهم قوم صالح عليه السلام.
والحجر في اللغة يطلق على كل ممنوع، ويطلق الحجر أحياناً ويراد به الجزء المتبقي من الكعبة الذي لم يبن بمال قريش، وهو المسمى عند العامة اليوم بحجر إسماعيل، وسمي حجراً لأن الجدار الشامي الذي هو داخله لا يستطيع الطائف أن يلمسه، فالحجر يحول بينه وبين الجدار الشامي.
وهذا الحجر أصله أن العرب في جاهليتها لما هدم الكعبة السيل وأرادت أن تبنيها أرادت أن تبنيها من حر مالها، فضاقت بهم النفقة من طيب مالهم، فبقي هذا الجزء قاصراً على تلك الحال، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـعائشة : (لولا أن قومك حديثوا عهد بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم وجعلت لها بابين).
ثم لما كانت خلافة عبد الله بن الزبير أعاد بناء الكعبة وأدخل الحجر هذا فيها، فلما تم الأمر للأمويين من بعده على يد الحجاج بن يوسف هدمت الكعبة وأخرج الحجر عن الكعبة على ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الهيئة التي يراه اليوم كل من يطوف بالبيت، فمن صلى داخل الحجر فكأنما صلى داخل الكعبة، ولا يجوز الطواف بين جدار الحجر وجدار الكعبة.
ويطلق الحجر كذلك على العقل؛ لأنه يحجر على صاحبه، ويمنعه من ارتكاب ما لا يليق، قال الله جل وعلا: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:1-5] أي: هل في ذلك قسم ونفع لذي عقل ولب يمتنع عما لا يليق به؟!
فالحجر هنا بمعنى العقل.
ويطلق الحجر على الأمر الممنوع المحرم الذي لا يمكن أن يقع، ومنه قول الله جل وعلا عن الكفار: وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا [الفرقان:22] أي: أمراً ممنوعاً محرماً لا يمكن أن يقع.
وهذه الثلاثة المعاني كلها غير داخلة في السورة.
والمقصود بالحجر في تسمية سورة الحجر: الديار التي كانت تسكنها قبيلة ثمود قوم صالح عليه الصلاة والسلام، فهذه القبيلة كانت تسكن في ديار يقال لها الحجر، وهي المعروفة الآن بجوار محافظة العلا في بلادنا، وقد مر عليها النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك، وكان الصحابة قد سبقوه إلى عين تبوك -أي: عين الحجر- وأخذوا من مائها وخلطوا به عجينهم، فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بأن يهرقوا الماء وأن يعلفوا العجين للدواب، وأمرهم أن يشربوا من العين التي كانت تشرب منها الناقة.
فالإنسان إذا مر على ديار قوم معذبين يجب عليه أن يسرع ويخشى من البقاء فيها، فالنبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع لما مر على وادي محسر بين مزدلفة ومنى أسرع صلى الله عليه وسلم في مشيته؛ لأن الفيل حبس في ذلك المكان، عياذاً بالله.
فالسبب الذي من أجله سميت سورة هود ورود كلمة الحجر فيها.
قال الله جل وعلا: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ * رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:1-2].
المبحث اللغوي هنا أن هذه الآية تقرأ فيها (ربما) بالتخفيف وبالتشديد، فتقرأ بالتخفيف على (رُبَ) كما هو بين يديك في المصحف، وتقرأ بالتشديد (رُبَمَا) وكلتا القراءتين صحيحة، وكل منهما لها وجه عند العرب في كلامها.
أما المعنى: فإن هذا القول حكاه الله جل وعلا عن أهل الكفر، فالله يقول: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2] والسؤال: متى يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين؟
اتفق العلماء على أن هذا لا يقع إلا إذا عاينوا حقيقة الأمر، فيودون لو أنهم كانوا مسلمين.
ثم اختلفوا -أي: العلماء رحمهم الله- في وقت معاينتهم الحقيقة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إذا احتضر الكافر، فإنه يود لو كان مسلماً، وهذا محتمل؛ ولكنه أضعف الأقوال، ولا نجزم ببطلانه.
القول الثاني: عندما يرون النار، وهذا يدل عليه قول ربنا جل وعلا: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27] فآية الأنعام تشهد للقول بأنه يقع هذا القول من أهل الكفر عند رؤية النار.
القول الثالث: أنه عندما يخرج الله جل وعلا عصاة المؤمنين الموحدين من النار يقول الكفار هذه الكلمة، وهذا القول أرجح الأقوال والله أعلم، وله آثار من السنة يعضد بعضها بعضاً.
فالله جل وعلا -كما هو معلوم- حكم ألا يخلد في النار من مات لا يشرك به شيئاً، فعصاة الموحدين آخر أمرهم إلى الجنة، فإذا اجتمع عصاة المؤمنين مع الكفار في النار يقول أهل الكفر لأهل الإيمان: ما الفرق بينا وبينكم؟! أنتم أسلمتم وآمنتم وكفرتم باللات والعزى، ونحن آمنا باللات والعزى، فما نفعكم إيمانكم ولا تصديقكم شيئاً، فنحن وأنتم في النار! فيخرج الله جل وعلا بعدها عصاة الموحدين الذين يقال لهم الجهنميون إلى الجنة، فإذا اخرجوا إلى الجنة يقع قول الله جل وعلا: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2].
وقد أشكل على العلماء أنها جاءت للتقليل؛ والأصل فيها أنها لا تدخل على الأفعال، والعرب تقول في أمثالها: (رُبَّ أخ لك لم تلده أمك)، ويقولون غير ذلك مما يدل على أن (رُبَّ) تختص بالدخول على الأسماء، ولكن الذي أدخلها على الفعل هنا وجود (ما)، فساغ دخولها على الفعل، ولكن ذلك لا يخرجها عن كونها تفيد التقليل.
وقد أجاب العلماء عن هذا الإشكال بأن العذاب -عياذاً بالله- يلهيهم عن كثرة القول بودهم لو كانوا مسلمين، أعاذنا الله وإياكم من ذلك كله.
ثم قال الله جل وعلا: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3] ليس المقصود بالأمل هنا الرجاء أو انتظار الفرج، وإنما المقصود بالأمل هنا الذي يلهي بالإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة، واختلف العلماء هل هذه الآية منسوخة أو غير منسوخة؟
فإن قيل: إنها منسوخة فهي منسوخة بآية السيف، وإن قيل: إنها غير منسوخة فهذا أسلوب تهكم بكفار قريش وغيره.
ثم قال الله جلا وعلا عنهم في بعض آيات هذه السورة: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6] والجزء الأول من الآية يشعر بأنهم آمنوا واعترفوا بالنبوة، ولكن الجزء الثاني: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6] يذهب هذا، والمعنى أنهم يقولون من باب السخرية والاستهزاء والتهكم: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6] وقد ورد في بعض كتب السير أنهم كانوا من سخريتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم يأتي أحدهم فيربت على كتف النبي ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الحجر:6] فيلتفت صلى الله عليه وسلم هاشاً باشاً يظن أنه آمن فيقول له: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6]، وهذا منتهى العنت والصدود، ومنتهى الصبر منه صلوات الله وسلامه عليه، وبعض بيان لما كان لقاه عليه الصلاة والسلام من ألم ومشقة عظيمة في سبيل الدعوة إلى ربه.
وهذا الأسلوب القرشي لم يكن القرشيون فيه بأول الناس، فهو أسلوب ابتدعته الأمم من قبل، قال الله جل وعلا عن فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:27] ففرعون يعترف في أول الكلام أن موسى رسول، حيث قال: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:27]، وقبل فرعون قاله قوم شعيب لشعيب، كما قال الله جل وعلا حكاية عنهم: قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87] فكلمة (إنك لأنت الحليم الرشيد) قيلت في معرض السخرية والاستهزاء والتنقيص لبنبي الله شعيب.
فالقرشيون ساروا على نهج الأسلاف من أهل الكفر في الأمم السابقة.
قال تعالى: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [الحجر:6-8].
(لو) إذا جاء بعدها الفعل المضارع فإنه يقصد بها الحث أو الحظ، وهي هنا للحث، وإذا جاء بعدها الفعل الماضي فغالباً يراد بها التوبيخ، كقول الله تبارك وتعالى: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً [الأحقاف:28] ، وقول الله جل وعلا: لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:13] فهذا كله باب توبيخ.
فالمقصود بـ(لو) هنا الحث، فالقرشيون يقولون: لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ [الحجر:7] وهذا المطلب القرشي من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالملائكة تكرر كثيراً في القرآن، كقوله تعالى عنهم: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف:53]، فكان القرشيون يطالبون النبي صلى الله عليه وسلم دائماً بأن ينزل الملائكة.
والسبب في عدم نزول الملائكة هو أنه لو جاء ملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم فما آمن الكفار لحصل العذاب مباشرة، قال الله جل وعلا: وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ [الأنعام:8] فلو أنزل الله جل وعلا ملائكة فإن الأمر سينقضي تماماً، فقال الله جل وعلا: وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ [الأنعام:8] فالله تبارك وتعالى لم ينزل الملائكة رحمة بهم.
قال تعالى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [الحجر:8] هذا شاهد لما قلنا، و(إذاً) هنا جاءت منونة، والتنوين هنا تنوين عوض عن جملة، ومعنى الآية: وَمَا كَانُوا إذا نزلت الملائكة فكذبوا بهم مُنْظَرِينَ .
ثم قال الله جل وعلا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
المقصود بالذكر هنا القرآن، ولكن اختلف العلماء في عود الضمير قول الله جل وعلا: وَإِنَّا لَهُ ، فقال بعض العلماء: (وإنا له) أي: لنبي الله صلى الله عليه وسلم، فيصبح المعنى: إن الله أنزل القرآن وهو حافظ لنبيه، وقالوا: إن دليل هذا القول قول الله جل وعلا في المائدة: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67].
ولكن هذا قول مرجوح، والراجح ما عليه جماهير العلماء أن الهاء عائدة على الذكر الذي هو القرآن.
فنأخذ من هذه الآية أمور أعظمها: أن القرآن منزل من عند الله، ولعظمة القرآن جاء الله جل وعلا بـ(نحن) الدالة على التفخيم.
فقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ [الحجر:9] أي: للقرآن لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فالقرآن أعظم كتاباً أنزل من السماء على أعظم نبي مشى على الأرض صلوات الله وسلامه عليه.
وقول ربنا جل وعلا: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] فيه دلالة على أن الله تكفل بحفظ القرآن، وقد أيد الله هذا المعنى في آيات كثيرة، قال سبحانه: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42] وهذا أمر متفق عليه، وينبغي أن يقال بعد ذلك الأسباب التي جعلها الله حافظة للقرآن؛ لأن الله جل وعلا إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه، فلكي يبقى القرآن محفوظا لا بد من أن يهيأ الله جل وعلا أسباب حفظه، فالقرآن أول ما نزل نزل منجماً مفرقاً على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يكتب، والذي لا يجيد الكتاب يعتمد على حفظه، فلما كان جبريل أول الأمر ينزل بالقرآن كان النبي يخالج جبريل بالقراءة خوفاً أن يتفلت منه ما يملى عليه، فطمأنه الله فقال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:16-19].
فتكفل الله بحفظه في قلب نبيه وإفهام معناه لنبينا صلى الله عليه وسلم، فكان بعد ذلك صلوات الله وسلامه عليه إذا أقرأه جبريل القرآن لا يخالج ولا يخالط ولا يراجع جبريل؛ لأن الله جل وعلا طمأنه بأن يحفظ القرآن، ثم أذن عليه الصلاة والسلام بكتابة القرآن.
لقد مر جمع القرآن بثلاث مراحل، فجمع باعتبار حفظه، وجمع باعتبار كتابته، وجمع باعتبار تسجيل صوت قارئه، وكلها جعلها الله أسباباً لحفظ كتابه.
أما الأول فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان القرآن في قلبه يحفظه، ويقرأ به آناء الليل وأطراف النهار، ويصلي به الليل، ويقرأه على أصحابه، ويتلوه على المنبر، ويشجع أصحابه على حفظه عبر طرق متعددة، فيعطي الراية لمن هو حافظ للقرآن، وفي القبور كان يقدم من هو أكثر قرآناً، وفي صدور المحاريب يقدم اقرأهم لكتاب الله، ويزوج أحياناً بمهر القرآن، وهذه كلها طرق اتبعها النبي عليه الصلاة والسلام ليحفظ الناس كلام ربهم جل وعلا، فاستجاب الصحابة في ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فظهر فيهم قراء يتقنون القرآن، كمثل أبي بن كعب وتميم بن أوس الداري وزيد بن ثابت ، والخلفاء الأربعة وغيرهم من الأئمة وأفاضل الصحابة.
وهذا التشجيع كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلنه، فقد قال في حق أبي موسى الأشعري : (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) يشجعه على قراءة القرآن، ومر على سالم مولى أبي حذيفة وهو يقرأ القرآن فقال: (الحمد الله الذي جعل في أمتي مثلك) أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح، وأمر عليه الصلاة والسلام عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه القرآن فقال: كيف اقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! قال: (إني أحب أن أسمعه من غيري) فقرأ عبد الله بن مسعود بعضاً من سورة النساء على نبينا صلى الله عليه وسلم.
وكان عليه السلام يقول: (إني لأعرف منازل الأشعرين -أهل اليمن- من قراءتهم للقرآن في الليل، وإن كنت لا أعرف أين نزلوا في النهار)؛ لأنهم كانوا يقرءون القرآن بصوت عال.
فهذا كله جعل الصحابة يحفظون القرآن والحفظ للقرآن جاء في وصف الصحابة في الكتب المتقدمة في التوراة والإنجيل، حيث جاء فيها أن أناجيلهم في صدورهم، وقد قال الله جل وعلا:بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49].
وكان القرآن يكتب، ولكن مات النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن مكتوب مفرقاً، بمعنى أنه لا يوجد لوح مكتوب فيه القرآن كله.
الجمع الثاني: جمعه كتابتة، وهذا تولاه الصديق رضي الله تعالى عنه بمشورة من عمر رضي الله عنهما، وكلف به زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقال: لو كلفاني أن أنقل جبلاً لكان أهون علي مما حملاني إياه، فأخذ زيد يسأل الناس ويأتي بشهيدين على كل آية حتى جمع القرآن الذي هو بين دفة المصحف اليوم، وسمي مصحفاً في عهد أبي بكر ، وكلمة (مصحف) يجوز في ميمها التثليث، فيقال: مُصحف ومِصحف ومَصحف والضم أشهر.
وأما الجمع الثالث فهو الجمع التسجيلي وهو تسجيل الصوت، وهذا الجمع لم يكن في القرون المفضلة ولم يكن فيما بعدها لعدم وجود آله تسجيل، وإنما تبنته جمعية خيرية في مصر عام 1379 من الهجرة في القاهرة بمشورة من رجل فوافقه علماء عصره، ولم تكن آلات التسجيل كما هي في عصرنا هذا، وكان أول رجل سجل له القرآن الشيخ محمود خليل الحصري رحمه الله تعالى، فسجل القرآن بصوته.
ثم تبنت بعد ذلك عدة مؤسسات علمية جمع القرآن صوتياً تختلف في قوتها، وآخرها مجمع الملك فهد المعروف في المدينة المنورة، وقد سُجِّل فيه القرآن بصوت الشيخ علي الحذيفي والشيخ إبراهيم الأخضر فأصبح القرآن مجموعاً بثلاث طرق، فجمع في صدور من يحفظونه، وجمع كتابة، وجمع تسجيلاً، وهذا تحقيق لقول الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] .
ويروى أن رجلاً يهودياً حسن السمت جميل الخط دخل على المأمون الخليفة العباسي، فعرف أنه يهودي، فقال له المأمون : أسلم وسأوليك كذا وكذا؛ لأنه كان معجباً به، فرفض أن يسلم، ثم خرج من عند المأمون فغاب عاماً ثم عاد إلى المأمون وقد أسلم، قال له المأمون : ألست صاحبنا بالأمس؟ فقال: بلى، فقال: لماذا أسلمت؟ قال: يا أمير المؤمنين! إنني وقد أعطيت عقلاً وحسن خط، فعمدت إلى التوراة فكتبتها فزدت فيها ونقصت، ثم أتيت إلى علماء اليهود وعرضت عليهم ما كتبت فاشتروه مني، ثم عمدت إلى الإنجيل فكتبته بخطي، فزدت فيه ونقصت من عندي، فعمدت إلى ديار الرهبان فاشتروه مني، ثم عمدت إلى القرآن فكتبته فزدت فيه ونقصت، فذهبت إلى الوراقين -وليس إلى العلماء- في الدكاكين فأعطيتهم إياه فتصفحوه فوجدوا فيه زيادة ونقصاناً فرموه ولم يشتروه مني، فعلمت أن هذا القرآن محفوظ، فأسلمت بهذا السبب.
فحج يحيى بن أكثم وزير المأمون فالتقى بـسفيان بن عيينة المحدث الحجازي المعروف، ثم حكى له الخبر، فقال له: إن يهودياً جاء إلى أمير المؤمنين وكان من شأنه كذا وكذا، فقال سفيان -وهو الواثق من علمه-: هذه القصة مصداقها في كلام الله. فقال له: أين؟ قال: في قول الله جل وعلا: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ [المائدة:44]، فأوكل الله الحفظ إليهم فضيعوه، وقال عن كتابنا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] فلم نضيعه.
هذه مجمل ما يمكن بيانه حول قول الله جل وعلا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
وقد دلت الآية كذلك على أن الأصل في العلم أن يكون في الصدر؛ لأن الله قال عن الصحابة وقال عن أهل العلم: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، ولذلك قال العلماء: إن الفهم والحفظ واستظهار الأدلة كل ذلك مطلوب من العالم، ومن أعظم ما يجعل الإنسان حافظاً هو ترك المعاصي، وقد كان وكيع بن الجراح الإمام المعروف من أشهر الناس في الحفظ، فقد كان يسند ظهره أحياناً إلى سارية المسجد فيملي سبعمائة حديث من حفظه دون أن يقطعها، فمر معه رجل ذات يوم فقال له: يا وكيع ! إني أسألك عن مسألة. قال: سلني. فقال: ما أعظم أدوية الحفظ؟ فقال: أوتفعل إن أمرت -أو إن أرشدتك-؟ قال: نعم. قال: ترك المعاصي، ما جربت شيئاً غيره.
ولهذا سأل الشافعي رحمه الله تعالى وكيعاً عن نفس السؤال، فـوكيع شيخ للشافعي ، وشيخ لـأحمد ، ويكثر أحمد في المسند من قوله: حدثني وكيع عن سفيان عن عبد الله بن دينار وذكر السند، فـوكيع شيخ لهما.
قال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
وليس المقصود بالعلم هنا مجرد حفظه وإدراكه، وإنما المقصود به على وجه التفصيل العلم والعمل به، وهذا معنى قول وكيع :
إن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
يقول الله جل وعلا: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:78-88].
هذه الآيات ذكر الله جل وعلا فيها منَّته على رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الله جل وعلا أعطاه القرآن وأعطاه السبع المثاني، وقد اختلف العلماء في الواو في قوله تعالى: (سبعاً من المثاني والقرآن العظيم)، والصواب أن يقال: إنها واو عطف، ويصبح ذلك من باب عطف العام على الخاص، فالسبع المثاني المقصود بها الفاتحة في قول جمهور العلماء، وقال بعض العلماء: إن المراد بها السبع الطوال، والأظهر -والله أعلم- أن المقصود بها فاتحة الكتاب، وهي أعظم سورة في كلام الله، ولذلك أمرنا الله جل وعلا بأن نتلوها في اليوم في كل ركعة، سواء أكانت الصلاة فرضاً أم نفلاً.
يقول تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]، فالله يمن على نبيه بهذا القرآن، وهذه المنة بالقرآن تجعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه لا ينظر إلى زينة الحياة الدنيا، حيث يقول تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87] أي: وبما أننا آتيناك هذه السبع المثاني والقرآن العظيم: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88]، وجاء في سورة طه: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا [طه:131].
إذاً: من أعظم ما يعين الإنسان على ترك التعلق بالدنيا قراءة وتلاوة القرآن، على أنه ينبغي أن يفهم أن قول الله جل وعلا لنبيه: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [الحجر:88] لا يعني تحريم طيبات الحياة الدنيا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب)، ولكنه قال بعدها (وجعلت قرة عيني في الصلاة) فالإنسان قد جبل على أن يحب شيئاً من الدنيا، فهذا يحب التجارة، وهذا يحب السيارات، وهذا يحب العقار، وهذا يحب الجلسات البرية، وهذا يحب الصيد، والناس في ذلك يختلفون، وهذا لا ينافي الشرع إذا كان الإنسان يأخذ منه بقدر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحب النساء، ويحب أن يتجمل بالطيب، ولكن المؤمن يجد مكمن الحلاوة وجليل اللذة في صلاته؛ لأنها تقف به بين يدي رب العالمين جل ذكره، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وجعلت قرة عيني في الصلاة).
ثم قال الله جل وعلا: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [الحجر:88]، وهذه الجملة تحتمل ثلاثة معان:
المعنى الأول: لا تحزن عليهم لكونهم لم يؤمنوا.
المعنى الثاني: لا تحزن عليهم لما متعناهم به من الحياة الدنيا؛ فإن لهم الدنيا ولك الآخرة.
المعنى الثالث: لا تحزن عليهم أنهم صائرون إلى العذاب؛ لأنهم أهل للعذاب.
ثم ختم الله جل وعلا الآية بقوله: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88] وخفض الجناح للمؤمنين معاملتهم بلين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) والإنسان إذا أعطي خفض الجناح والكلام اللين والوجه الذي يبش به في وجوه إخوانه، وإقالة العثرة، والعفو عن الناس، وحسن معاشرتهم؛ فقد رزق العمل بهذه الآية التي أمر الله بها نبيه: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88]، وأولى بخلق المسلم وكريم صفاته وجميل نعوته من حوله من إخوانه المؤمنين.
رزقنا الله وإياكم الفقه في الدين والعمل به.
السؤال: ما حكم التأمين؟
الجواب: التأمين مسألة خلافية، فجمهور أهل العلم المعاصرين على أنه حرام، وذهب بعض العلماء المعتبرين إلى أنه لا حرج فيه.
السؤال: هل تجوز الصلاة خلف شخص متعصب لمذهب من المذاهب الأربعة ولا يأخذ بأي قول من المذاهب الأخرى؟
الجواب: الصلاة خلفه صحيحة، فمن صحت صلاته لنفسه صحت صلاته بغيره.
السؤال: هل تجوز الصلاة خلف شخص صوفي من أهل البدع والأهواء الذين من يقيمون الموالد؟
الجواب: إذا ثبت أنه مشرك فلا تجوز الصلاة خلفه، أما كونه يقيم المولد فالمولد بدعة بلا شك، ولكنه لا يصل إلى حد الشرك؛ لأن الموالد تختلف من مولد إلى مولد، ولا يحكم على الإنسان بغلبة الظن والأصل في المسلم السلامة.
السؤال: ما حكم التهنئة والمباركة بحلول السنة الهجرية؟
الجواب: هي عادة لا حرج فيها إن شاء الله.
السؤال: عندي ميل إلى علم التفسير، فكيف السبيل إلى التبحر في هذا العلم؟
الجواب: التفسير أشرف العلوم بلا شك، والسنة كلها في آية واحدة وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] وأول خطوة لكي تصبح مفسراً أن يكون بينك وبين علم التفسير امتزج، حيث يصبح علم التفسير في دمك، وهذا لا يكون إلا بأن تقرأ كثيراً للمفسرين دون أن تتصدر للناس وتستعجل، فتقرأ كثيراً في كتب التفسير، فإذا وجدت التفسير يجري في دمك وكنت تحبه وتقرأ فيه الحين والحين الآخر، وأصبحت منشغلاً به ليلاً ونهارا كانت هذه هي الخطوة الأولى، مثل الشعر، فلا يمكن أن تصبح شاعراً حتى تتعلم وتقرأ في كتب الشعر ويصبح الشعر جارياً في دمك ليل نهار، فعندئذٍ تصبح شاعراً.
وأقول: من قرأ كتاب الجامع لأحكام القرآن للقرطبي رحمه الله تعالى مرة ومرتين وثلاثاً ورأى بعد ذلك اندماجاً فيه فليتبحر في الكتب وليبدأ في غيره بحسب قدراته العلمية.
ولو كنت من أعلم الناس فاعلم أن العلم بالمراجعة والمدارسة ليلاً ونهارا، ويعلم الله أننا نقرأ فيه ليلاً ونهاراً ولم نبلغ شيئاً فيه.
السؤال: ما حكم قتل النمل في المنازل إذا خشي على الأسرة منه؟
الجواب: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النمل، وبعض العلماء يرخص في قتله إذا آذى كثيراً، أما أنا فأتوقف في الترخيص في قتله.
السؤال: يقول: هل يجوز لعن الشيعي الذي يعلم طلابه بعض الأمور التي ليست من ديننا؟
الجواب: ينبه على خطئه بالطريقة التي تكشف أمره.
السؤال: ما رأيك في تزوج طالب العلم بالثانية؟
الجواب: هو بذلك يستر مؤمنة، ويفعل خيراً عظيماً، فإذا استطاع مالياً وبدنياً فإنه لا يحتاج إلى مشورة.
السؤال: هل الأفضل في المسح على الجوارب أن يمسح الجوربان في وقت أم يمسح أحدهما قبل الآخر؟
الجواب: كلاهما صحيح، ولكن أحب إلينا أن يمسحا في وقت واحد، فيمسح اليمين على اليمين وباليسار على اليسار من الأدنى إلى الأعلى في وقت واحد؛ كما أن الأذنين تمسحان في وقت واحد، والشعر يمسح في وقت واحد، فيقاس عليها مسح الجوارب.
السؤال: عندنا في الحي مسجد بعيد ومصلى قريب، ففي أيهما أصلي، وإذا صليت في المصلى هل لي نفس الأجر الكائن في المسجد؟
الجواب: لم أفهم معنى كلمة (مصلى)، ولكن الذهاب إلى المسجد أولى.
السؤال: اشتريت من صاحب بقالة بعشرة ريالات وأعطيته خمسين ريالاً، فرد لي ثلاثين ريالاً وقال سأعطيك الباقي غداً، فهل يعتبر هذا ربا؟
الجواب: ليس هذا بربا، والذي أخرجه من الربا وجود العين، ولكن لو جاء الرجل وقال هذه خمسين ريالاً أريدك أن تصرفها لي، فقال له: ما عندي إلا ثلاثون، فأخرجها وأعطاه إياها وقال: سأعطيك عشرين غداً، فهذا ربا.
ولكن لو اشترى أغراضاً وليس عند البائع الباقي من المال يكون ذلك ديناً.
السؤال: ما الفرق بين المذي والمني؟
الجواب: المني: يخرج متدفقاً، والمذي يخرج غير متدفق، والمذي يجب منه غسل الذكر وما حوله، والمني يوجب الغسل الكامل.
كما أن المني يوجب الإفطار إجماعاً، فينجم عنه فساد الصوم إجماعاً، أما المذي فاختلف العلماء فيه هل يفطر به المرء أم لا.
السؤال: لو إنساناً لاعب زوجته وهو صائم فأمذى دون أن يمني، فهل يفطر أو لا يفطر؟
الجواب: للعلماء في ذلك قولان: فمنهم من ذهب إلى أنه يفطر لأنه والمني من مخرج واحد.
ومنهم من قال: إن المذي لا يفطر، وإنما يوجب غسل الذكر وما حوله مثل الوضوء، فألحقه بالبول أكرمكم الله، ونحن نرى -والله أعلم- أنه لا يفسد الصيام.
السؤال: ما حكم غسل يوم الجمعة؟
الجواب: هذه مسألة خلافية، ولا أحب الإلحاح في المسائل المعروفة، فمن استطاع أن يغتسل فقد خرج من الخلاف وأصاب السنة وفعل خيراً كثيراً، ومن لم يستطع أن يغتسل لبرد أو لغيره فصلاة الجمعة بالنسبة له صلاة صحيحة، وأرجو ألا يأثم.
السؤال: يحكي بعض الناس عن بعض الأشخاص أنه يقوم بسحب الطائرة بمفرده، ويقول: إن ذلك من المعجزات، فهل هذا صحيح؟
الجواب: هذا لا يمكن أن يكون معجزة، بل هو نوع الشعوذة وسحر أعين الناس.
السؤال: هناك شيخ أمي مستقيم يحفظ من القرآن شيئاً بلا تجويد، وهناك شاب مقصر يسمع الأغاني ويشرب الدخان، فأيهما أحق بالإمامة؟
الجواب: إذا كان الأمي يحفظ من القرآن شيئاً ولو يسيراً فهو أولى بها.
السؤال: يقول: ما صحة القول بأن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا؟
الجواب: لا أعلمه ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هو قول كثير من العلماء.
السؤال: هل الأفضل النزول إلى السجود على الركبتين ثم على اليدين، أم على اليدين ثم الركبتين؟
الجواب: هذا أمر خلافي، وعلى الركبتين أولى، ولكن لا إنكار في مثل هذه المسائل.
السؤال: هل يجوز إسبال اليدين بعد الرفع من الركوع، وهل في ذلك خلاف بين أهل العلم، وما القول الراجح؟
الجواب: في ذلك خلاف، وأما مسألة القول الراجح هي خطأ؛ لأنك إذا سألت من يرى الأولى فسيقول لك: الراجح عدم القبض، وإذا سألت من يرى القبض فيقول لك: الراجح القبض، فهذا بحسب من تسأله، ولكلا الفريقين دليل قوي، والمسألة لا تقدم ولا تأخر، فلم يقل أحد: إن صلاة الآخر باطلة.
السؤال: ما رأيك في حمل المصحف في الجيب؟
الجواب: أمر حسن.
السؤال: هل يجوز أن أعطي أخي دفتر العائلة للاشتراك في أسهم بنك البلاد باسمي وأسماء أبنائي؟
الجواب: بنك البلاد يجوز الأستهام فيه، بل أولى؛ لأنه بنك ثبت إلى الآن أنه قائم على معاملة إسلامية.
أما مسألة أن يعطي الإنسان اسمه لغيره فقد اختلف فيها المعاصرون، وأنا أقول ما أدين الله به، وهو أنه إذا كانت المسألة مسألة شراكة فذلك جائز، أما إذا لم تكن مسألة شراكة فلا نراها جائزة.
ومثال مسألة الشراكة الجائزة ألا أكون قد ساهمت في بنك البلاد أو غيره، فلم يسبق لي شغل في الأسهم، فاتفقت مع شخص على أنني أكتتب باسمه وأسماء عائلته، حيث أدفع المال ولا يدفع هو شيئاً، وإنما يدفع كرت العائلة، فإذا دفع كرت العائلة فقد دخل في الشراكة بجاهه وأنا دخلت بمالي، واتفقنا على الربح بالنسبة، وعلى أي نسبة كان الاتفاق فإنه يجوز.
أما كونه يعطي لمجرد العطاء فهذا يخالف العقد مع البنك؛ إذ البنك يريد أن يوسع الدائرة، ولا يريد أن يجعلها في شخص واحد، ولذلك اشترطوا أن يكون الدفتر دفتر العائلة التي ينتسب إليها، فحين تأخذ عشرة دفاتر أو ثلاثة عشر دفتراً أو كرتاً من كروت العائلات يصيب البنك الخلل؛ لأنك أصبحت وحدك قد دفعت الفلوس، فلهذا نقول -والله أعلم- بمنعه.
ولو جازت هذه المسألة شرعاً لم تحسن عقلاً، فليس هناك عاقل يعطي كرت عائلته لأحد، وأنا أعرف أناساً إلى الآن أدركناهم أعطى بعضهم كرت العائلة لغيره، وحين ابتاعت الأسهم وأربحت فلوساً جاء فرد له الخمسمائة ريال التي هي قيمة الأسهم وقال له: هذا حقك، أما هذه فليس لك فيها شغل. ووضعها في جيبه ثم ذهب، فلو ذهب إلى أي محكمة فلن تنصفك، فلماذا يدخل الناس في متاهات هم في غنى عنها.
فإذا أردت فادخل في شراكة مكتوبة، والله تعالى قال لجيل الصحابة: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282] وقال: وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ [البقرة:282] فعلى الإنسان أن يكتب ويحرر؛ لأن الدنيا حياة وموت.
هذا ما أردنا بيانه، والله المستعان، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر