إسلام ويب

سلسلة تأملات قرآنية تأملات في سورة النحل [1]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بين الله تعالى في سورة النحل أموراً عظيمة، منها تحقق مجيء أمره تعالى، وإنزال الملائكة بالوحي على المرسلين المصطفين للدعوة إلى توحيده، كما ذكر تعالى فيها عظيم منته على عباده بتسخيره الأنعام لهم ليبلغوا منها المنافع المتعددة، وليحصل لهم بها الزينة والبهجة، وإخراجه اللبن منها سائغاً للشاربين، وإكرامهم بنعمة العسل المختلفة ألوانه، ذاكراً مع ذلك حال المشركين إزاء هذه النعم العظيمة، وهو حال الجحود والكفران.

    1.   

    ذكر نسبة سورة النحل وسبب تسميتها

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.

    أما بعد:

    فهذا درس من جملة دروسنا في تأملات حول كتاب ربنا تبارك وتعالى، والسورة التي سنشرع في التأمل فيها -بإذن الله تعالى- هي سورة النحل، وهي سورة مكية إلا بعض آيها، وما كان منها مدنياً سنعرج عليه في درس آخر، وأما في هذا الدرس فإننا سنذكر ما كان في أولها من آيات، وأكثر آياتها الأول آيات مكيات، فنقول والله المستعان:

    سميت هذه السورة بسورة النحل لأن الله جل وعلا ذكر فيها اسم النحل، فقال الله جل وعلا: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68].

    وهذا أمر تكرر كثيراً، وهو أن السورة لا تسمى إلا بشيء ذكر فيها، وكذلك سميت سورة البقرة وآل عمران وغيرهما من سور القرآن على هذا المنوال، فلا جديد في هذا.

    1.   

    ذكر بعض ما ورد النهي عن قتله من الدواب

    والنحلة أحد الدواب الأربع الوارد النهي عن قتلها في حديث ابن عباس فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد)، والنملة والنحلة والهدهد معروفة، وأما الصرد فطائر أكبر من العصفور قليلاً ضخم الرأس عظيم المنقار، وكانت العرب تتشاءم به خاصة إذا أكل أمامها عصفوراً، فجاء الأمر النبوي من رسولنا صلى الله عليه وسلم بالنهي عن قتل هذه الدواب الأربع، كما ورد الشرع بالنهي عن قتل دواب أخر غير هذه، فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل الجراد، إلا إذا خيف ضرره، أو قتل لأكله، فمنفعة الأكل تغلب على النهي عن قتله كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم جمعاً بين الأحاديث التي وردت في أن النبي وأصحابه رضي الله عنهم أكلوا الجراد.

    ويسمى صوت النحل مجتمعاً دوياً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه...)

    يقول الله جل وعلا في صدر هذه السورة: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النحل:1]، الفعل (أتى) بالإجماع فعل ماض، والشيء إذا مضى وانتهى لا يقال فيه لا تستعجل؛ لأنه قد قضي وانتهى، فقول الله جل وعلا: (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) قيد يدل على أنه ليس المقصود أن هذا الأمر قد وقع؛ لأنه لو كان قد وقع فعلاً فلن يقال فيه (لا تستعجلوه) وإنما يقال: (لا تستعجل) في الشيء الذي لم يحصل بعد، لكن الأمر هنا المقصود به على الصحيح -والله أعلم- عذاب الكفار يوم القيامة، وهو الذي كان يرقبه كفار قريش، وقيل: ما قبل ذلك من الهلاك، ولكن الأرجح أن هذا الأمر لم يقع، ولكونه متحقق الوقوع جعله الله جل وعلا بمنزلة الشيء الذي وقع.

    وهذا النوع من الكلام لا يمكن أن يقدر عليه إلا الله؛ لأن أي أحد يقول عن شيء: إنه سيقع، فإنه قد يقع خلاف الذي قال، فلا يقدر على مثل هذا القول إلا الرب تبارك وتعالى.

    والله يقول لنبيه: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ .. [الكهف:23-24]، إلى آخر آية سورة الكهف.

    والذي يعنينا هنا أن هذا الأمر يدل على عظمة ربنا تبارك وتعالى، وأن الله أنزل هنا الأمر المتحقق الوقوع منزلة الشيء الذي وقع.

    وأمر الله هنا المقصود به عذاب الكفار يوم القيامة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ينزل الملائكة بالروح من أمره...)

    ثم قال تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل:2].

    كلمة (الروح) وردت في القرآن كثيراً، ولكن القرائن تدل على المعنى، فقول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم:16-17] هذه قرينة على أن المقصود بالروح جبريل، وقد يقصد به ملك غير جبريل، ولكن ظاهر السنة على أنه جبريل، فالمقصود به هنا أحد الملائكة، فقول الله: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قرينة على أن المقصود بالروح هنا جبريل أو ملك من الملائكة، والله تبارك وتعالى يقول: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] فهنا الروح جاءت مبهمة، واختلف العلماء فيها اختلافاً كثيراً، وظاهر الآية أن المقصود بها الروح التي في أجساد بني آدم.

    وهنا يقول الله: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [النحل:2]، فالملائكة تنزل بهذا الروح، ولا نعرف ما هو الروح، ولكن سنفسره بالقرآن، فالقرآن يتمم بعضه بعضاً ويفسر بعضه بعضاً، فالله يقول لنبيه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ [الشورى:52]، وقال: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ [غافر:15]، ففي الآيتين دلالة على أن المقصود الوحي الذي تنزل به الملائكة على النبي المختار من الله.

    فالمقصود بالروح هنا الوحي، وإنما سمي الوحي روحاً لأنه حياة للأرواح، كما أن الغذاء حياة الأبدان، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].

    وقول الله: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ [النحل:2] هذا إجمال، ولكن دلت السنة على أن الموكل بنزول الوحي هو جبريل عليه السلام.

    1.   

    النبوة اصطفاء لا يُنال بالكسب

    قال تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [النحل:2]، فالنبوة مسألة اصطفاء لا تنال بكثرة صلاة ولا بكثرة صيام؛ فإن الأنبياء لا يعلمون أنهم أنبياء حتى ينزل عليهم الوحي ويأتيهم الملك وينبئهم، ولا توجد كلية تخرج أنبياء ولا حلقة علم تخرج أنبياء، بل توجد كليات وحلقات علم تخرج علماء، وأما النبوة فأمر يصطفي به الله جل وعلا بعض عباده، قال الله جل علا: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، والله تبارك وتعالى يقول: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124].

    بيان معنى قوله تعالى (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا)

    قال تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل:2] (أن) هنا في أصح أقوال النحويين مفسرة لما قبلها.

    وقوله تعالى: لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا هو توحيد الإلهية، وقوله تعالى: فَاتَّقُونِ دعوة إلى توحيد الإلهية، والفرق بينهما أن الأول به عرف الله تبارك وتعالى وكلمة (رب) تفيد توحيد الربوبية، وأما كلمة (إله) فتفيد توحيد الإلهية.

    وقد قلنا: إن موسى قدم يبحث عن جذوة من النار، والله يربي عباده على التوحيدي، فلما قدم موسى ليلتمس جذوة من النار وهو لا يدري أنه نبي ولا أنه الذي سيصبح كليم الله أو صفيه جاء خائفاً يرقب هذه النار، فالله جل وعلا قبل أن يملي عليه توحيد الإلهية -وهو مطلب الرب جل وعلا من خلقه- قال له: يا موسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه:12]، فأشعره بالطمأنينة قبل أن يطلب منه أي طلب؛ لأن قوله: (أنا ربك)، مثاله كما يقول لك أبوك وأنت تائه: أنا أبوك، أو يقول لك: أنا أخوك الأكبر، أنا رئيسك، أنا مديرك، أنا أميرك، حتى تشعر بالطمأنينة.

    فقال له ربه جل وعلا: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه:12]، فشعر موسى بالطمأنينة؛ لأنه لا يوجد تكليف.

    ولما شعر موسى بالطمأنينة طلب منه الله جل وعلا أن يعبده، فقال الله جل وعلا: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [طه:12-13] ثم علمه توحيد الإلهية فقال: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14] بعد أن مهد بتوحيد الربوبية.

    فهنا ذكر الله جل وعلا توحيد الإلهية بالطريقين فقال: أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا [النحل:2]؛ لأن العرب لم تنكر توحيد الربوبية، فقال الله جل وعلا: أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل:2].

    1.   

    براهين توحيد الربوبية

    ثم ذكر الله جل وعلا بعض البراهين على أنه رب العالمين جل جلاله، وسورة النحل تسمى سورة الامتنان؛ لأن الله جل وعلا ذكر فيها كثيراً من مننه على خلقه تبارك وتعالى، وصدرها الله جل وعلا في آيات متفرقات ببراهين البعث، وبراهين البعث أكثر من خمسة، والمذكور في سورة النحل ثلاثة:

    الأول: الاستدلال بالأمر العظيم على الأمر الذي هو أدنى منه، قال الله جل وعلا: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النحل:3]، فلما خلق السموات والأرض دلل جل وعلا به على القدرة على بعث الناس؛ لأن الله يقول: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]، وهذا أول براهين البعث.

    الثاني: خلق الإنسان نفسه، ولذلك قال الله جل وعلا بعدها: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل:4]، وكونه جل وعلا خالقاً للإنسان ابتداء يدل على أنه قادر على أن يعيده، وهو البعث، ولهذا قال الله: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78]، وقبلها قال: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس:77].

    الثالث: إحياء الأرض، ولهذا الله جل وعلا قال: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ .. [النحل:11] إلى آخر الآية.

    فإنبات الأرض بعد مواتها دلالة على القدرة على بعث الناس إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى [فصلت:39].

    فهذه براهين البعث الثلاثة التي ذكرها الرب جل وعلا في سورة النحل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين)

    قال الله جل وعلا: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل:4]، أي: خلق الله جل وعلا الإنسان ليعبده ويخضع لربه ويطيعه فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ بمعنى: مخاصم، وهي صيغة مبالغة من (خصم)، أي: يجادل ربه، وإذا أخذنا بهذا المعنى أصبحت الآية في معرض الذم، فالآية هنا ذم لمن يخاصم ربه ويجادله، وهي بمفهوم المخالفة مدح لمن لم يجادل في الله جل وعلا ولم يخاصم فيه.

    1.   

    ذكر منافع الأنعام

    حصول الدفء والمنافع والأكل منها

    ثم ذكر الله جل وعلا قوله: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل:5]، والأنعام هنا: الإبل والبقر والغنم بقسميها: المعز والضأن، فأصبحت أربعة أنواع كل منها ذكر وأنثى، فهي ثمانية أزواج ذكرها الله جل وعلا في سورة الأنعام.

    وقوله تعالى: لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ الدفء: يكون من الأصواف أو الوبر أو الشعر الذي يؤخذ من الأنعام، وهذا ظاهر وَمَنَافِعُ لكونها تتناسل، ولكونها ذوات منافع متعددة وَمِنْهَا أي: من الأنعام تَأْكُلُونَ ، وهذا فيه دلالة صريحة على جواز أكل الأنعام.

    البهجة بها

    ثم قال الرب تبارك وتعالى: وَلَكُمْ فِيهَا [النحل:6]، أي: في الأنعام جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل:6]، والرواح هو عودة الأنعام من المرعى، وأما السروح فهو ذهابها، وإنما قدم الله جل شأنه الإياب هنا؛ لأن الإنسان تقر عينه بعودة دوابه وقد رعت وأصبحت أعظم بطوناً وأحفل ضروعاً مستقرة في حظائرها عنده بجواره.

    فلذلك قدم الله جل وعلا الرواح على السروح رغم أن السروح مقدم على الرواح، وهذا من أسباب التقديم والتأخير في كلام الله.

    حملها الأثقال والأمتعة

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها...)

    حكم أكل لحم الخيل

    ثم قال الله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8].

    قوله تبارك وتعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [النحل:8]، اختلف العلماء في أكل لحم الخيل، مع اتفاقهم على حل أكل لحم الإبل والبقر والغنم، واتفاقهم على تحريم أكل لحم البغال، واختلفوا في الحمير كذلك، ولكن جمهور العلماء على أنها حرام.

    وأما الخيل فقد ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى -وهو أحد الأقوال في مذهب مالك رحمه الله- إلى حرمة أكل لحم الخيل، وحجتهم هذه الآية، قالوا: إننا متفقون على أن الآية في سياق الامتنان من الرب على عباده، وهذا لا خلاف فيه، فقالوا: إن الله لما ذكر الأنعام قال: لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل:5] فصرح بالأكل، فلما جاء ذكر الخيل والبغال والحمير قال: لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، ولم يقل في منته على عباده بأنها تؤكل، فقالوا هذا من أعظم الأدلة على أن لحم الخيل محرم.

    والأمر الثاني هو ما يعرف عند الأصوليين بدلالة الاقتران، حيث قالوا: إن الله أشرك الخيل مع البغال والحمير، وأنتم متفقون معنا على أن البغال والحمير محرمة الأكل، فقرنت معها الخيل فأصبحت محرمة بدلالة الاقتران.

    ولكن دلالة الاقتران عند الأصوليين من أضعف أدلة التحريم وإن قال بها جمع من العلماء.

    والذي يعنينا أنهم قالوا: إشراكها مع البغال والحمير إشراك في الحكم.

    وقالوا: إننا متفقون على أن اللام في قوله جل وعلا لِتَرْكَبُوهَا للتعليل، ولذلك جاء الفعل المضارع بعدها منصوباً، فحذفت النون لوجود اللام الناصبة.

    وقوله تعالى: لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً الأصح فيها أنها تعرب مفعولاً لأجله، وهو تعليل، فقالوا: إن التعليل عندنا يفيد الحصر، بمعنى أن الخيل والبغال والحمير لا تصلح إلا للركوب أو للزينة، وهذا يدل على أنه لا يجوز أكلها.

    وذهب جمهور العلماء -كـالشافعي وأحمد وجماهير العلماء من المحدثين وأصحاب أبي حنيفة - إلى جواز أكل لحم الخيل، وهؤلاء لم ينظروا إلى هذا النص؛ لأن هذا النص يحتمل، وإنما أتوا بأدلة قطعية في الصحيحين، وأولها حديث جابر رضي الله تعالى -وهو في الصحيحين- قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا يوم خيبر عن لحم الحمر الأهلية وأباح لنا أكل الخيل)، فهذا نص صريح في الصحيحين على جواز أكل لحم الخيل، وهو يعارض الاحتمال الذي في الآية.

    واحتجوا بما في الصحيحين -أيضاً- من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (ذبحنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فرساً فأكلناه).

    وزاد الدارقطني رحمه الله زيادة، وهي أنها قالت: (كان لنا فرس خشينا أن يموت، فنحرناه وأكلناه).

    فقال الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى وجماهير العلماء بجواز أكل لحم الخيل لهذه الأدلة الواردة عن جابر وعن أسماء رضي الله عنهما، وهي في الصحيحين.

    ولهذا عارض صاحبا أبي حنيفة أبا حنيفة في تحريم لحم الخيل.

    وصاحبا أبي حنيفة هما أبو يوسف ومحمد بن الحسن ، وأبو يوسف اسمه يعقوب بن إبراهيم ، ومحمد بن الحسن هو الشيباني ، فهذان تلميذا أبي حنيفة رحمهما الله تعالى، ومن أخلص الناس للمذهب، وقد أسهما كثيراً في تحرير مذهب أبي حنيفة ، ولكنهما لما نظرا في النصين أبطلا قول أبي حنيفة ، فرحمة الله تعالى على الجميع.

    ويذكر أن محمد بن الحسن كان سميناً بديناً جداً، ولكنه كان مليح الوجه جداً، ففي أول طلبه العلم جلس أمام أبي حنيفة ، فلما رآه أبو حنيفة أمره بأن يجلس وراءه، فجلس سنين يأخذ العلم من أبي حنيفة وهو وراءه حتى نبت شاربه وتغير وجهه وذهبت الملاحة التي هي فيه قليلاً، فلم يعرفه أبو حنيفة بعدما كبر، ثم بعد ذلك صار يجلس أمامه.

    قال الشافعي رحمه الله: ما رأيت سميناً أخف روحاً منه، وكان ذكياً جداً.

    وأما الشافعي رحمه الله فقد أخذ علم الأثر عن مالك في المدينة، وأخذ علم الرأي عن محمد بن الحسن ؛ لأن الشافعي لم يدرك أبا حنيفة ، فذهب إلى مصر ومزج بين رأي محمد بن الحسن وبين الأثر الذي أخذه عن مالك ، وأخرج مذهبه الجديد رحمه الله تعالى في أرض مصر.

    فالشاهد أن صاحبي أبي حنيفة محمد بن الحسن ويعقوب بن إبراهيم المعروف بـأبي يوسف خالفا أبا حنيفة رحمه الله في هذه المسألة، ولم يقولا بتحريم أكل الخيل؛ لوجود النصوص الصريحة.

    وذهب بعض العلماء إلى كراهة أكل لحم الخيل تنزيهاً.

    وقد أجاب المجيزون عن قول العلماء المحرمين أكلها فقالوا: إن قول الرب تبارك وتعالى: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل:5] لا يدل على الحصر، بدليل أن الإبل ذكر الله فيه الدفء والمنافع والأكل، ولم يذكر الركوب، ويجوز ركوبها، فكذلك الخيل ذكر الله جل وعلا أنها زينة وأنها تركب، ولا يعني هذا أنه لا يجوز أكل لحمها.

    وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الفخر والخيلاء في أهل الإبل، والسكينة في أهل الغنم، والعرب قديماً ما كانت تفتخر بالغنم، وإنما تفتخر بالإبل والخيل، وكانوا يقولون: إن الغنم ليست موطن فخر، وإنما الفخر في الإبل والخيل إذا عقدت وربطت في حظائرها أمام بيت الرجل أو في فناء داره، ولهذا خاطبهم الله بما اعتادوه فقال جل وعلا: لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8].

    ونخلص من هذا إلى أن لحم الخيل عند جماهير العلماء حلال يجوز أكله، أما البغل فاتفقوا على تحريمه، وكذلك لحم الحمار، إلا ما روي عند المالكية من أنه يجوز أكل لحم الحمر الأهلية، ولا أظن أحد يصنعه اليوم.

    بيان معنى قوله تعالى (ويخلق ما لا تعلمون)

    نعود إلى قول الله تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، لقد كان المفسرون الأوائل يتكلفون في تفسير هذه الجملة؛ لأنه لم يخطر في خلدهم يوماً ما نحن فيه من وسائل النقل، ولكن الله جل وعلا يعلم ما هو كائن وما سيكون، وحتى لا يفتن الناس آنذاك بشيء لا يعرفونه لم يقل لهم جل وعلا: إن الحديد ذات يوم سينقل الناس، وإنما قال جل وعلا تمهيداً لمن يأتي بعدهم: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ .

    وأذكر أنه أول ما ظهرت السيارات قبل توحيد المملكة أو في أول توحيدها سافر اثنان من ديار نجد إلى الهند، فرأيا السيارات لأول مرة قبل أن يعرف الناس السيارات في بلادنا وقبل أن تأتي الصور الفوتوغرافية للسيارات، والناس كانوا هنا بدواً رحلاً، فرأيا السيارات عياناً تمشي فركبا فيها ثم رجعا، فصنعت لهما قبيلتهما طعاماً احتفاء بهما، وكان الناس إذا قدم إنسان من سفر يتحلقون حوله ليخبرهم بما رأى، وكان أحدهما كهلاً والآخر شاباً فقال الشاب: رأينا الحديد يمشي. فنظر الناس بعضهم إلى بعض، فحسب شيوخ القبائل أنه يضحك عليهم، فنظروا إلى الكهل فقالوا: هل صحيح أنكما رأيتما الحديد يمشي؟ فقال: كذب، فما رأينا -والله- حديداً يمشي، وأنكر وقد ركب مع ابن أخيه، فقاموا إلى العقالات والنعال وطردوه قائلين: أتكذب على الرجال وتضحك على لحاهم؟! وعندما خرج توارى ينتظر عمه ليخرج؛ لأنه يعرف أن عمه رأى ذلك، فلما خرج قال له: أسألك بالله أما ركبنا السيارة؟! وجعل يحلفه، فصدقه، فقال: لماذا أنكرت؟ فقال: لو قلت: نعم لضربوني وطردوني كما ضربوك وطردوك.

    فالناس يخاطبون على قدر عقولهم، فلابد من أرض ممهدة قبل أن تلقي خطابك.

    فالمطر ينزل فتنبت الزرع أرض وأخرى غير قابلة لأن تنبت زرعاً، والقرآن قال الله جل وعلا عنه: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44] أي: على الكفار، وهو القرآن، لأن قلب الكافر غير قلب المؤمن.

    وكذلك كلامك لا ينبغي أن تقوله لكل أحد، فلابد من أن تمهد للناس أمراً معظماً قبل أن تلقى إليهم كلامك، والله يقول: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]؛ لأنه إذا كان خائفاً فلن يسمع كلام الله.

    فالله يقول لنبيه: (فأجره) أي: أعطه أماناً، فإذا أعطيته الأمان فلن يخشى على روحه، فسيقبل عليك بعقله وقلبه، فالله جل وعلا قال لنبيه: فَأَجِرْهُ [التوبة:6] لسبب عظيم، هو حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6].

    فالمقصود عموماً من الآية في قوله تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8] تربية الله جل وعلا للناس على أن الخطاب لا يكون واحداً لكل أحد، وإنما يتنوع بحسب الجيل أو القلب الذي تخاطبه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر...)

    ثم قال الرب تبارك وتعالى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل:9]، بعد أن ذكر الله الطرائق الحسية التي يحمل الناس عليها أمتعتهم من البغال والخيل، ذكر الطرائق المعنوية، ولا طريق معنوياً أعظم من طريق يؤدي إلى الله.

    فقال الرب: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وقصد السبيل أي: الطريق القويم المستقيم، والمعنى: على الله جل وعلا بيان الطريق المستقيم المؤدي إلى رضوانه، وهذا قد وقع -بلا ريب- بإنزال الكتب وإرسال الرسل، و(من) في قوله تعالى: (منها) بيانية، أي: من هذه الطرق جائر، أي: مائل عن الحق، كاليهودية والنصرانية والمجوسية وغير ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً...)

    ثم قال الله جل وعلا: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:14].

    الفلك هي السفن، وجاءت في كلام الله مذكرة ومؤنثة، وبالاستقراء علم أنه إذا ذكرها الله مذكرة فإنه يراد بها السفينة الواحدة، وإذا أراد الله بها جمع السفن فإنها تؤنث.

    فالله تعالى يقول: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس:41-42]، فقوله تعالى: مِنْ مِثْلِهِ الضمير فيه عائد على الفلك، والمراد سفينة نوح، فالمقصود السفينة بعينها.

    وقال تعالى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ [البقرة:164]، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ فجاء بتاء التأنيث تَجْرِي الداخلة على الفعل المضارع؛ لأن الفلك هنا جاءت على يراد بها الجمع.

    أما البحر فهو معروف، ويخرج الله منه اللؤلؤ والمرجان، كما قال جل وعلا: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22].

    بيان حل أكل لحم البحر في حال طراوته وغيرها

    قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [النحل:14]، كلمة طَرِيًّا جاءت هنا صفة للحم، والصفة نوع من أنواع القيد، ولكن القيد هنا لا يدل على حل ولا على تحريم؛ لأن السياق سياق امتنان.

    بمعنى أنه لا يصح أن يأتي إنسان ويقول: إن لحم السمك إن لم يكن طرياً لا يجوز أكله، فإذا قلنا له: لماذا لا يجوز؟ قال: إن الله يقول: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [النحل:14] فنقول: إن الآية واردة مورد الامتنان، فلا يقبل الاستدلال بالقيد هنا؛ لأن المقصود بالامتنان أن أفضل ما يؤكل فيه لحمه عند أن يؤكل طرياً حال خروجه، وفهم قواعد العلم يعين على فهم كلام الرب.

    ثم إنه ثبت في الصحيح وغيره أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه وأرضاه خرج في سرية مع أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وهو عليهم أمير، فأصابهم جوع شديد فرمى البحر لهم بحوت يقال له العنبر، فأكلوا منه نصف شهر، ولا يعقل أن يبقى الحوت نصف شهر وهو طري، فبقي نصف شهر يأكلون منه، فأخرج أبو عبيدة عظماً من هذا الحوت فدخل من تحت ذلك العظم رجل على فرسه، فحملوا بعضه إلى المدينة فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بما أكلوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما هو رزق ساقه الله إليكم فكلوه) أي: أن أكلكم له مباح، والنبي أفضل من ربى أصحابه ومن حوله، فقال: (هل عندكم منه شيء؟) وما يريد النبي صلى الله عليه وسلم بحوت له نصف شهر، ولكن لما أعطوه إياه أكل منه حتى لا يبقى شيء في قلوب الذين أكلوا من الحوت وقت خروجه.

    بيان حل جميع صيد البحر

    وقد اختلف العلماء في صيد البحر، وأشهر الأقوال -وهو الصحيح إن شاء الله- أن كل ما في البحر يجوز أكله؛ لعموم قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96]، فكل ما يعيش في البحر يجوز أكله، والله جل وعلا هنا يقول: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [النحل:14].

    بيان ما يحل لبسه من الحلية

    ثم قال تعالى: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [النحل:14].

    قضايا اللباس مما اضطربت أقوال العلماء فيها كثيراً، ولكن نقول: إن الذهب والفضة الأصل فيهما الحل، إلا أن الذهب حرمه نبينا صلى الله عليه وسلم على.. على الرجال، وأباح الفضة للرجال والنساء، والاتفاق قائم على للنساء، وفي إباحة الفضة للرجال خلاف، لكن الذي عليه جماهير العلماء أنها جائزة للرجال والنساء.

    وهذه الحلية التي أطلقها الله هنا في باب الامتنان وجاءت السنة مفسرة لها لابد من أن يراعى فيها حال اللبس، فإذا قلنا بجواز الفضة للرجال والنساء فإنه لا يجوز للرجل أن يتحلى بالفضة على هيئة حلية النساء، فلا يجوز للرجل أن يضع قلادة ولا أن يضع قرطاً في أذنه، ولا سواراً في يده، ولا خلخالاً في رجله ولو كان من فضة، فإن قيل لنا: إن ظاهر الأحاديث على إباحة الفضة أجبنا بأن المنع هنا ليس لكونها فضة، بل للتشبه بالنساء.

    ومما يجوز للرجال والنساء اتفاقاً عند أكثر العلماء الخاتم، وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم أول أمره خاتماً من ذهب ثم نزعه، ثم اتخذ خاتماً من فضة نقش عليه (محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم.

    ولا يجوز لأحد أن يجعل نقش خاتمه (محمد رسول الله)، ولورود النهي عنه، وإنما ينقش عليه غير ذلك مما يخصه.

    وقد قال مالك رحمه الله: إن الأئمة الثلاثة -أبا بكر وعمر وعثمان - وأكثر الصحابة والعلماء والسلاطين كانوا ينقشون على خواتمهم، وكان بعض العلماء يكتب (حسبي الله ونعم الوكيل) وكان نقش خاتم الإمام الزهري (على الله يتوكل أبو محمد ) وغير ذلك، وهذا مذكور في كتب المؤرخين والكتب التي تتكلم عن سير الملوك، حيث كانوا يضعون نقشاً على خواتمهم.

    ويقولون: إن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بلغه أن أحد أبنائه اشترى خاتماً بألف درهم، فبعث إليه يقول: قد بلغني أنك اشتريت خاتماً بألف درهم، فبعه وأطعم به ألف جائع، ثم اتخذ خاتماً من حديد وانقش عليه (رحم الله امرأ عرف قدر نفسه).

    بيان طهارة ماء البحر

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن لكم في الأنعام لعبرة...)

    أما الآيات التي نريد أن نقف بعد ذلك عندها فهي قول ربنا جل وعلا: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل:66-67].

    الأنعام لفظ جاء على جمع تكسير، وجمع التكسير عند العرب يجوز فيه تأنث فعله وضميره وتذكيرهما، تقول: قالت العرب وقال العرب، وتقول: قامت النساء وقامت النساء، وقامت الرجال وقام الرجال.

    فالله تعالى هنا يقول: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ [النحل:66]، ولم يقل: مما في بطونها لما ذكرنا.

    قال تعالى: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل:66].

    قوله تعالى: (سائغاً) جزم القرطبي رحمه الله في تفسيره له بأنه لم يشرق أحد باللبن، رغم أنه يمكن أن يشرق الإنسان بالماء؛ لأن الله جل وعلا يقول وهو أصدق القائلين: سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل:66]، وهذا اللبن يتكون من أخبث شيئين في بطون الأنعام، وهما الفرث بعفونته والدم بلونه، فيخرج الله جل وعلا منهما اللبن بقدرته، ولذلك نسب الفعل إلى ذاته العلية فقال: (نسقيكم) فلا الفرث يؤثر بالعفونة ولا الدم يؤثر باللون، فيخرج اللبن أبيض ليس فيه رائحة العفونة ولا اللون الأحمر، خالصاً سائغاً للشاربين؛ لأن يد ابن آدم لم تدخل فيه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً...)

    ثم ذكر تعالى ما دخلت فيه يد ابن آدم من باب الامتنان على عباده، فقال: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل:67].

    السكر هو الخمر، ومن أكثر ما تتخذ منه الخمر التمر والعنب والزبيب.

    ولم يرد في الشرع لعن شيء كما ورد في الخمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة، فلعن البائع والمبتاع والساقي والعاصر والمعتصر والحامل والمحمولة إليه والوسيط، كلهم لعنهم، ولم يلعن في الربا إلا أربعة أو ستة، وقد سماها الشرع أم الخبائث.

    وهذه السورة مكية، والله جل وعلا هنا يمهد لأمر قادم، فقال تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67]، وما وصف السكر بأنه حسن، وأما الرزق فوصفه بأنه حسن، حيث قال تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا [النحل:67] وما قال حسناً، فلما فرق بين الرزق والسكر دل ذلك ابتداءً على أن السكر سيأتي فيه شيء بعد ذلك، والخمر لم تحرم إلا في المدينة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل...)

    ثم قال جل وعلا: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68].

    فبيوت النحل في مواطن ثلاثة رتبها الله جل وعلا بحسب أكثريتها، فأكثر بيوت النحل في الجبال، ثم في الشجر، ثم فيما يبنيه بنو آدم له.

    ثم قال جل وعلا: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [النحل:69] و(كل) هنا لا تعني العموم؛ لأن النحل لا يأكل من كل الثمر، وإنما يأكل من كل شيء يحسن الأكل منه، ونظيره في القرآن تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25]، والريح لم تدمر كل شيء؛ لأن الله قال بعدها فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25]، فأثبت جل وعلا المساكن مع أنه قال: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الأحقاف:25]، وقال جل وعلا عن بلقيس : وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]، ومعلوم أن بلقيس لم تعط من كل شيء، وإنما المقصود أنها أعطيت كل شيء يعطاه الملوك عادة، وإلا فما كان عندها من الملك كما عند سليمان.

    ثم قال تعالى: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ [النحل:69].

    وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل:12]، إن الغنم والنحل تأتي إلى الثمار فتأكلها فتختلط في بطونها فيخرج من الأنعام لبن ويخرج من النحل عسل، وكل من اللبن والعسل فيه منفعة للناس؛ لأن يد ابن آدم لم تدخل فيه، أما ثمرات النخيل والأعناب التي خالطتها يد ابن آدم فيخرج منها الشيء المحمود كالرزق الحسن، ويخرج منها السكر، وعلى هذا يفهم أن من سكر فهو في الفهم أقل من الأنعام، ولا يقال: (بل أضل) إلا في الكافر.

    قال تعالى: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:69].

    أعظم ما في العسل أنه شفاء للناس، وهذا أمر مشهور لا يحتاج إلى بيان.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم...)

    بيان تنزيه الله تعالى نفسه عن الولد

    ثم قال الله تبارك وتعالى: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:56-57].

    في كلام العرب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إيجاز ومساواة وإطناب.

    فالإيجاز هو الاختصار، والمساواة أن يكون الكلام متوازناً لا زيادة فيه ولا نقصان، والإطناب أن يكون هنا كلام زائد، وأحياناً يكون الإيجاز محموداً، وأحياناً تكون المساواة محمودة، وأحياناً يكون الإطناب محموداً.

    فهذه الآية فيما إطناب محمود، حيث يقول تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57]، فكلمة (سبحانه) جاءت اعتراضية زائدة، فالإطناب هنا محمود؛ لأنه ينزه مقام الرب عما نسبه الكفار إليه.

    والأصل: (يجعلون لله البنات ولهم ما يشتهون)، ولكن ذكر الله هنا كلمة (سبحانه) تنزيهاً لذاته العلية.

    وكلمة (ولد) تطلق في اللغة على الابن والبنت، فكفار قريش ارتكبوا حماقتين في حق الله تعالى:

    الحماقة الأولى: أنهم نسبوا إليه الولد.

    والحماقة الثانية: أنهم اختاروا له أنقص الولد، وهو البنت، فهم ينزهون أنفسهم عن البنات ومع ذلك ينسبون البنات إلى الرب تبارك وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً...)

    قال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:57-59].

    والعرب من جاهليتها كانت تعلم أنه لابد من الأصهار، والصهر هو من يتزوج ابنتك، ولكن كانوا يرون أن الصهر هو كل من يأخذ بنتك، فكانوا يقولون: أفضل صهر هو القبر، فلا يرتاح المرء منهم إلا إذا دفن ابنته خشية العار.

    فالله يقول هنا عن بعضهم: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا [النحل:58] أي: تغير من الهم وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ [النحل:58-59]، نسأل الله العافية. مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ [النحل:59] يعني: على خفية، أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:59] وهذه التي تسمى الموءودة، قال الله: أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:59].

    فهذه نظرة بعض العرب القدماء من الجاهليين، وكان جد الفرزدق يفدي الموءودات، فإذا جاء إنسان يريد أن يدفن ابنته حية يعطيه مالاً على أن تبقى البنت حية، فكان الفرزدق يفخر على جرير وعلى غيره من الشعراء؛ لأن جده في الجاهلية كان يحيي الموءودات، ولا شك في أن هذا عمل عظيم، حيث جاء الإسلام يذم هؤلاء، قال الله: أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:59]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من عال جاريتين حتى تبلغا كانتا له حجاباً من النار)، ووردت أحاديث كثيرة في فضل تربية البنات، والله جل وعلا يبتلي بالبنين ويبتلي بالبنات، ويبتلي بغيرهما، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، ولكن المؤمن الحق يرضى بقضاء الله جل وعلا وقدره كيفما حل وأينما نزل.

    ويروى في أخبار الناس المتداولة أن رجلاً رزق بست بنات ثم حملت زوجته فهددها -وكأن الأمر بيدها- بأنه إن كان الآتي بنتاً فسيطلقها، ثم رأى في المنام أنه في يوم المحشر يقاد إلى جهنم، فكان كلما جيء به إلى باب وجد ابنة من بناته ترده عن جهنم حتى انتهي به من ستة أبواب، ثم جيء به إلى الباب السابع فلم ير بنتاً، فأصبح ينادي: اللهم اجعلها بنتاً. وهذه القصة قد تصح وقد لا تصح، ولا أستدل بالقصص على أنها أصل حتى لا نفهم خطأ، لا يصح أن يربى الناس على القصص، وإنما نستشهد بالقصص.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من عال جاريتين حتى تبلغا كانتا له حجاباً من النار)، وقال لـعائشة لما أخبرته بأن امرأة قسمت التمرة بين ابنتيها: (إن الله قد أوجب لها بهما الجنة)، وغير ذلك من الأحاديث، وهذا الخبر الذي سقناه يدل عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

    والإنسان لا يدري أين مكامن الخير فيما يعطاه أو فيما يمنع منه.

    وما أدري إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يليني

    أألخير الذي أنا أبتغيه

    أم الشر الذي هو يبتغيني

    هذا ما أردنا بيانه حول هذه السورة الكريمة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768279306