إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبياً عن أمته، اللهم صلّ وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره، وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو اللقاء الثاني حول تأملات قرآنية في سورة هود، بلغنا الله العلم بكتابه والعمل به، وكنا قد شرعنا في اللقاء الماضي مبينين، أن هذه السورة مكية إلا بعض آياتها، وذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه قوله: (شيبتني هود وأخواتها)، وقلنا: هذا إجمال فسرته رواية أخرى.
وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هود والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت).
وقلنا: إن الجامع بين ذلك كله، هو أنها تتحدث عن أهوال اليوم الآخر، كما ذكرنا في تعليقاتنا، أن الله جل وعلا قال فيها: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، وقلنا: إن هذا إطلاق، وهذا الإطلاق قيده قول الرب تبارك وتعالى في سورة الإسراء: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18]، وقلنا: من قواعد العلم عند أهل الأصول: أن المطلق والمقيد له أربعة أنواع:
الحالة الأولى: يتفق فيها السبب والحكم، وهذا يحمل فيه المطلق على المقيد.
والحالة الثانية: يختلف فيها الحكم ويتحد السبب، وهذه مسألة خلافية، والحالة الثانية: يتحد الحكم ويختلف السبب، وهذه كذلك مسألة خلافية، والرابعة: أن يختلف السبب والحكم، وهذه اتفقوا على أنها لا يحمل المطلق فيها على المقيد هذا بعض ما ذكرناه في اللقاء الماضي.
وفي هذا الدرس سنختار التعليق على كلمات أو آيات هي في الغالب مظنة إشكال عند من يقرأ القرآن، وبعض الآيات سوف نعرج على الفوائد التي فيها.
والمهم هو الشيء الذي يثير الإشكال عند من يسمعه، فتنزيل الإشكال قدر الإمكان، قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود:69]، المقصود بالرسل هنا الملائكة، والملائكة كانت ذاهبة إلى قوم لوط للعذاب، فمرت على إبراهيم عليه السلام قبل أن تذهب إلى لوط، ولوط ابن أخ إبراهيم.
فإبراهيم عم للوط نسباً -وبمثابة الوالد حقيقة؛ لأن الله قال: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26]، فبعث الله لوطاً نبياً في حياة إبراهيم، بعثه إلى قرية سدوم، وحصلت منهم الفاحشة كما سيأتي، فجاءت الملائكة بالعذاب على أهل سدوم، وهم مارون في طريقهم إلى القرية مروا على إبراهيم بالبشارة، قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى [هود:69]، البشرى هنا: المقصود بها -إجماعاً- البشارة بالولد إسحاق، قال الله: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] وهذا ظاهر، والعلماء يقولون: كون إبراهيم يولد له وهو في هذا السن، وكون سارة يولد لها وهي في هذا السن مع كونها عاقراً منذ أن خلقت هذا يقال له: معجزة نبي وكرامة ولي، نظيره زكريا، فإن زكريا رزق ولداً كما رزق إبراهيم على كبر، فهي بالنسبة لزكريا معجزة وبالنسبة لزوجته كرامة؛ لأن المعجزة تلحق بالرسول والكرامة تلحق بالأولياء.
نقف هنا وقفة يسيرة: إن كل ما في القرآن مما حكاه الله جل وعلا أو قصه عن إبراهيم، فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ملزمة شرعاً به، وهذه الحالة لا تكون إلا مع إبراهيم اتفاقاً، والدليل على هذا: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [النحل:123]، وقوله جل وعلا: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78]، والمعنى: الزموا ملة أبيكم إبراهيم، وهذا من الدلائل على أن هذه الأمة مطالبة شرعاً بقضية بما أوحي إلى إبراهيم، ولذلك لما استغفر إبراهيم لأبيه جاء النهي مستثنى: أن لا تفعل. ولا يكون الاستثناء إلا في شيء الأصل فيه أن يفعل. فمثلاً عندما تأتي لشخص تسلمه بيتاً، فتقول له: إلا هذه الغرفة لا تدخلها. معنى الكلام: أن كل البيت مباح له، فلذلك قال الله جل وعلا في قضية استغفار إبراهيم لأبيه: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ [التوبة:114]، فهذه ليس لنا علاقة بها، لا نتبعه فيها.
هذا الفائدة الأولى.
الأمر الثاني: عند قول الله جل وعلا عن سارة: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71].
الضحك إذا أطلق يراد به انفراج الفم عن الأسنان، وهذا هو الضحك المعروف الذي لا يختلف عليه اثنان.
موضع الإشكال: أن بعض العلماء كما نقل عن مجاهد وعكرمة وبعض السلف، قالوا: ضحكت هنا بمعنى: حاضت، وأن الحيض من الدلائل على أن المرأة إذا حاضت تكون عرضة لأن تحمل، فقالوا: إن المقصود: حاضت، وهذا وإن قال به أئمة أجلاء، لكن لا يوجد في اللغة -فيما نعلم- شيء يدل عليه، وحكيت بعض الأبيات ذكرها بعض العلماء في مواطنها في التفسير، لكن أئمة اللغة كـأبي عبيدة والفراء وغيرهما من أئمة اللغة قديماً قالوا: إنا لا نعرف في لغة العرب أن ضحكت تأتي بمعنى: حاضت، وإن نسب هذا أحياناً للشافعي ، ونحن نحتج بقول الشافعي في اللغة؛ لأن الشافعي أصلاً عاش في هذيل كثيراً وأخذ عنهم اللغة، فيبقى قوله في اللغويات له مكانته العلمية؛ لكننا نقول: لا يوجد في اللغة ما يدل على أن ضحكت بمعنى: حاضت.
فالمعنى -والله تعالى أعلم- الذي اختاره كثير من المفسرين: إن سارة كانت واقفة بالخدمة مع زوجها، فلما علمت بهلاك قوم لوط سرت وفرحت وضحكت، والأصل أن البشارة حاصلة، لكن جعلت الضحكات تمهيداً لها، فلما سرت بنجاة لوط ومن معه من المؤمنين، بشرها الله جل وعلا بإسحاق، قال الله تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71].
نأتي لقضية أخرى، وهي قضية حمل النساء، قال الله: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ [هود:71]، فالحمل الذي تحمله المرأة إذا حملته في أول الأمر يصبح بشارة، وفي آخر الأمر ينقلب إلى هم، ولا شك أنه يستبشر الرجل أو المرأة في الشهور الأولى من الحمل، وفي أي بيت تحدث بشارة في البيت يتناقل أهل الدار والأقارب أن زوجة فلان حملت، وهذا أمر لا خلاف فيه بين الناس، ولذلك قال الله: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ [هود:71]، لكن الله قال: حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ أي: الحمل فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا [الأعراف:189]، فآخر الحمل يكون هماً؛ لأن النفاس مظنة الموت؛ ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم.
المرأة إذا ماتت في نفاسها شهيدة، وعند بعض العلماء كالمالكية مثلاً وهي رواية في المذهب: أن المرأة إذا وصلت إلى الثلاثة الأشهر الأخيرة من حملها لا يجوز لها أن تتصرف في أكثر من ثلث المال؛ لأن الإنسان إذا دخل في مرض يخاف عليه فيه الموت يقل سلطانه على ماله، ويبقى السلطان للورثة، فلا يجوز للمرأة في آخر حملها وهي مظنة ولادة أن تتصرف في أكثر من ثلث المال؛ لأنها مظنة مرض مخوف حتى لا يتضرر الورثة من تصرفها.
هذا من التعليق على قول الله تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71].
القضية الثانية في قول الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [هود:77-78].
وهذه القصة معروفة وهي بالجملة أن الملائكة دخلت على لوط في صورة شباب حسان، فلما رآهم قال الله عنه: سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود:77]، يعني: سيكون فيه من المشاق ما الله به عليم وقد وقع ذلك.
قال الله: وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ أي: يتسابقون وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ [هود:78] يعني: أمر تعودوا عليه قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [هود:78].
نقف عند قول الله على لسان نبيه لوط (هؤلاء بناتي)، وهذا الإشكال سوف نحاول أن ندفعه قدر الإمكان في هذا الدرس.
لما أراد قوم لوط أذية الشباب الذين هم الملائكة في الأصل، أراد لوط أن يدفع هؤلاء عن ضيوفه، قال: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [هود:78] فأهل كثير من المفسرين يقولون: إنه قصد بقوله: هَؤُلاءِ بَنَاتِي [هود:78] بنات القرية، وأنه أراد بالمعنى أن يتشفع لهؤلاء الرجال في أن يتزوجوا بنات القرية؛ حتى يكون ذلك دفعاً لهم عن الفاحشة، وقالوا: إن أي نبي يعتبر كالأب لأمته، هذا حجة من قال: إن قوله: هَؤُلاءِ بَنَاتِي [هود:78]، عائدة على بنات القرية.
وقال آخرون: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود:78]، أراد أن يزوجهم بناته اللواتي من صلبه.
ونحن نقول والله أعلم: كلا هذين الرأيين صعب أن يقال به؛ لأن القرآن نزل باللغة على ما يوافق العقل، وهذا الكلام لا يوافق اللغة ولا يوافق العقل.
أما لماذا لا يوافق اللغة؟ فإن كلمة هؤلاء في اللغة تكون للإشارة إلى الشيء الحاضر، ولا تكون للشيء الغائب، فكلمة: (هؤلاء) لا تطلق على شخص غير موجود، وإنما تطلق على شخص حاضر، فانتفى بذلك القول بأنه قصد بنات القرية، هذا الأمر الأول، والذي يدفع القول بأن النبي يعتبر كالأب لبنات القرية أن النبي لا يعتبر كالأب للبنات الكافرات، والقرية كلها كافرة إلا من كان في بيت لوط، قال الله: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:36] وهو بيت لوط، فلا يوجد في القرية أحد مؤمن، حتى نقول: إن لوط أباً لهم.
القول الثالث وهو الذي نختاره، وقد نسبه العلامة الآلوسي رحمه الله في (روح المعاني) إلى غير أحد، حيث قال: قال به أجلاء المفسرين، ونص عليه العلامة ابن سعدي رحمه الله في كتابه (قصص الأنبياء).
وهذا القول هو أنه قصد بناته عيناً، وقصد أن يأذن لهم بالزواج أو بدون زواج، فإن قيل: كيف يعقل أن النبي يعرض بناته لأهل الفواحش، قلنا: هذا من باب إقامة الحجة على المعاند، ومن باب علمه اليقيني أن هذا لن يكون، ونظير ذلك، وهو أعظم القرائن على صحة ذلك ما جاء في الحديث الصحيح: (أن سليمان عليه السلام اختصمت عنده امرأتان في ابن لهما، كل تدعي أنها أمه، فقال عليه السلام: ائتوني بالسيف، ثم قال: أنا أقطعه قطعتين وأعطي كل واحدة نصفاً، فقالت أمه الحقيقية: لا تفعل، أعطه فلانة)، تطلب نجاة ابنها.
الشاهد من القصة: أنه لو وافقت المرأتان أن يقطع سليمان الطفل فإنه يستحيل ذلك، لكن هذا من باب علم سليمان أنه لن يقع.
ومثال آخر: لو أن رجلاً له خصوم وأعداء، ينتظر منذ مدة أن يظفر بهم، وخصومه هؤلاء بينك وبينهم علاقة متوادة.
فإذا جاء هؤلاء بيتك فعلم هذا العدو أنهم في بيتك وجاء ومعه سلاحه وأراد أن يقتلهم فأخذت تذكره بالله وأنهم ضيفك، ومع ذلك لم يرتدع، فقلت له: إذ كان ولابد فاقتلني وأبنائي بدلاً منهم.
من الناحية الشرعية لا يجوز أن يدعو الإنسان أحداً إلى قتله ولا إلى قتل أبنائه، لكن هو ما قال هذا من باب أنه يجوز أو لا يجوز، وإنما ليبين لهذا الخصم أنه أحرجه أمام ضيوفه، وهو يعلم يقيناً أن هذا العدو لن يقتله؛ لأنه لن يستفيد لو قتل الرجل وأبناءه، فهو إنما يريد خصومه.
فمثلها تماماً لوط، فإنه يعلم يقيناً أنه لو عرض بناته حتى بالزنا على هؤلاء لن يقبلوا ذلك لأنهم لو أرادوا الزنى، ولو أرادوا الزوجات لما جاءوا إلى بيت لوط، فكلهم متزوجون، ويستطيعون أن يأتوا الفاحشة كما يريدون، لكنه يعرف أنهم لا يريدون هذا، ومما يدل على صحة هذا القول: أنهم هم أنفسهم عرفوا ذلك فقالوا: قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [هود:79]، أي: أنت تعرف أننا لا نريد بناتك إنما نريد هؤلاء.
لكن لوطاً عليه السلام أراد أن يبين لضيفه -وهو لا يدري أنهم ملائكة- أنه فعل كل ما يمكنه ليدفع عنهم الفاحشة.
هذا القول رجحه العلامة ابن سعدي في قصص الأنبياء، ونسبه الآلوسي إلى أجلاء من أهل العلم، لكنه لم يذكر أسماءً. وهو إلى ساعتنا هذه هو الذي نختاره، والعلم عند الله تبارك وتعالى.
هذا حل الإشكال الوارد في قوله تعالى: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي [هود:78].
ثم قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [هود:96-99].
نذكر أولاً طرفة حول قوله تعالى: وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود:97]، ثم ندخل في القضية العلمية.
الملك فيصل رحمه الله تعالى: كان عنده مستشار اسمه: رشاد فرعون ، كان رجلاً طيباً عاقلاً صالحاً، فالملك -رحمه الله- زار المدينة وأراد أن يزور الجامعة الإسلامية، وكان يدرِّس في الجامعة الإسلامية آنذاك العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله -وليس هذا خبراً ملفقاً فأنا سمعته من عالم كان طالباً آنذاك بأذني ورأيته بعيني- فجاء الملك غفر الله له ورحمه، وزار الجامعة، وصار يزور المحاضرات، فلما دخل المحاضرة التي فيها الأمين الشنقيطي رحمه الله وهو يشرح، توقف الشيخ الأمين رحمه الله عن الشرح، والطلاب حاضرون، وكان الملك معروفاً أنه متواضع، ويعرف أن هذا هو الأمين الشنقيطي العلامة المعروف، فأراد الملك رحمه الله أن يعرف مستشاره للشنقيطي فقال: هذا مستشارنا رشاد فرعون ، فقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: أعوذ بالله! الله يقول: وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود:97]، وأنت تقول: رشاد فرعون ! بمعنى الكلام: غير اسمه.
وهذا يدل على أن الشيخ رحمه الله تعالى ربي على حفظ القرآن وعلى شرح القرآن فيأتي بهذه اللطائف سجية، ولا يحب أن يعبث أحد في القرآن.
ويقال عنه رحمه الله: أنه كان يدخل من باب معين في الحرم، فكان إذا دخل الحرم يضع يده في جيبه ويخرج ما تيسر ويضعها في يد البواب.
وكان يدخل من هذا الباب؛ لأنه من جهة سكنه، واعتاد هذا البواب أن يأخذ من الشيخ هذا المبلغ -تقريباً- في كل دخلة، وكان الشيخ يدخل بعد العصر ويجلس ليدرس إلى بعد العشاء، فدخل مرة وكان بجواره شخص يسأله، فالشيخ انشغل عن إعطاء المال للبواب، فالبواب غفر الله له -والله إذا أراد منع شيء هيأ أسبابه- قال للشيخ: (أدخل يدك في جيبك) آية موسى، فتمعر الشيخ لأنه قالها من باب السخرية، وصار لا يعطي هذا الرجل شيئاً، ولم يعد يدخل من ذلك الباب، فهذا حرم نفسه؛ لأنه لم يعرف بشخصية الشيخ العلمية، فهو رجل عاش حياته كلها للقرآن، فقد كان يدرس التفسير رغم أنه كان يجيد أكثر العلوم، فقيل له ذلك، فقال: كل العلوم مردها إلى القرآن، وهذا أحد أسباب شرحنا لكتاب الله.
قال الله عن فرعون: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [هود:98-99]، اللعنة -أعاذنا الله منها-: الطرد والإبعاد من رحمة الله. وسوف نتكلم علمياً وفقهياً وأصولياً حول كلمة اللعنة، وأمرها في الكتاب والسنة لاشتهارها بين الناس اليوم.
اللعنة قلنا: هي الطرد والإبعاد من رحمة الله. ولها حالات:
الحالة الأولى: لعن المسلم، فهذا باتفاق العلماء لا يجوز لأحد أن يلعنه.
الحالة الثانية: لعن الأوصاف العامة، وهذا جائز بالاتفاق، مثل أن تقول: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]، فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61]، هذا يسمى لعن ذوي الأوصاف العامة وهو جائز بالاتفاق.
الحالة الثالثة: لعن الأوصاف الخاصة، تقول: لعن الله آكلي الربا، لعن الله السراق، لعن الله من يلعن والديه، فهذا جائز جاءت به السنة.
الحالة الرابعة: لعن الكافر الذي ثبت أنه مات على الكفر، فهذا جائز، كلعن أبي جهل ولعن فرعون.
الحالة الخامسة: لعن الكافر الذي لم يتحقق موته على الكفر، فهذا ينظر فيه، فإن كان غالب الظن أنه مات على الكفر فيلعن وتركه أولى، وإن كان لا يعلم أنه مات على الكفر أو مات على الإيمان، فإنا نتوقف في لعنه.
فالكافر الذي لا يوجد دليل على أنه أسلم، ولا توجد قرينة على إسلامه يلعن إذا مات على الكفر، لكن من كان هناك قرائن أو شبهات على أنه أسلم وتوقف الناس فيه فالأصل أن لا يلعن أو يتوقف عن لعنه احتياطاً.
الحالة السادسة: لعن الكافر المعين الحي، مثل لعن شارون فهذا لا يجوز، فالله جل وعلا يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161]، فجاء الله بقيد وهو وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [البقرة:161]، فمن لعن كافراً حياً خالف العمل بهذا القيد، وهذا قول جماهير العلماء.
ونقل عن أبي بكر ابن العربي المفسر المعروف في كتابه (أحكام القرآن) القول: بأنه يجوز لعن الكافر الحي المعين، فيجوز لعن شارون على قول أبي بكر ابن العربي ، لكن الأدلة التي قالها غير صحيحة، فقد أتى بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عمرو بن العاص أيام كفره، لكن الحديث ضعيف جداً، ولم يقل أحد بصحته، ولذلك قال (وروي)، وكلمة (روي) يؤتى بها لصيغة التمريض، ويؤتى بها لضعف الحديث، هو أراد أن يفر منه.
وهناك أمور لا يقتدى بالأنبياء فيها، فالنبي قد يعرف حال الملعون عن طريق معين لا يعرفه الإنسان العادي. فنقول: إن لعن الكافر المعين في قول أكثر أهل العلم لا يجوز إلا إذا مات على الكفر؛ لأن الله يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161].
وما دام أنه لا يجوز لعن الكافر المعين، فمن باب أولى لا يجوز لعن المسلم العاصي المعين.
الجهة الثانية من الكلام حول اللعنة: أن المؤمن ينبغي عليه أن يفر من اللعن قدر الإمكان، فلا يعود نفسه على اللعن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في حديث أبي الدرداء وهو صحيح-: (إن العبد إذا لعن تصعد اللعنة إلى السماء، تسد أمامها أبواب السماء ثم تعاد إلى الأرض فلا تجد لها مساراً فتلتفت يميناً وشمالاً -كما قال صلى الله عليه وسلم- ثم تذهب إلى من لعن، فإن كان أهلاً ولا رجعت للذي لعن)، ويؤيده كذلك ما في سنن أبي داود وهو حديث صحيح: أن عبد الله بن مسعود الصحابي المعروف كان صديقاً لرجل يقال له أبو عمير ، فذهب عبد الله بن مسعود لزيارة أبي عمير فلم يجده فأدخلته أم عمير زوجة أبي عمير الدار، فدخل وجلس في المجلس.
فبينما هو ينتظر صاحبه سمع امرأة أبي عمير تقول بعد أن بعثت جارية: لعنها الله أبطأت عليّ فخرج ابن مسعود من البيت وجلس خارج البيت، فجاء أبو عمير فوجد ابن مسعود خارج الدار، فقال: ما منعك أن تدخل بيت أخيك، قال: قد دخلت ولكني سمعت امرأتك تلعن جارية لها أبطأت عليها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن اللعنة إذا خرجت من فيّ -يعني: فم- قائلها تذهب إلى من لعن، فإن كان لذلك أهلاً وإلا رجعت إلى من لعن، فكرهت أن أكون بسبيل اللعنة) والمعنى: كرهت أن أكون في طريق اللعنة فخرجت.
فاللعن لا يجوز أبداً أن يكثر الإنسان منه.
ثبت أن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي المعروف، استضاف أم الدرداء رضي الله عنها وأرضاها فسمعته في الليل وهو قي قصره يلعن، فلما أصبحت قالت له: إنني سمعتك تلعن بعض خدمك، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يكون اللعانون يوم القيامة شهداء ولا شفعاء)، ومما يدل على أن كثرة اللعن من أسباب دخول النار.
أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يخطب في عيد فطر أو أضحى -كما في حديث أبي سعيد - ثم قال عليه الصلاة والسلام -يوجه كلامه إلى النساء-: (معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة جزلة فقالت: بِمَ يا رسول الله؟ قال: إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير)، تكفرن العشير: يعني: تنكرن حسنات الزوج عليكن.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكن تكثرن اللعن)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإكثار من اللعن سبب من أسباب دخول النار.
فالعاقل ينبغي عليه أن لا يلعن شيئاً.. لا دابة ولا غيرها.
إن البعض يكثر من لعن أبنائه، وهذه أشد إثماً، فعلى الإنسان أن يحفظ لسانه فلا يلعن إلا اللعن العام إذا اضطر إليه، كأن يقول: لعنة الله على الظالمين.. لعنة الله على الكافرين.
كذلك من قواعد العلم أن الإنسان لا يأتي مثلاً إلى شخص يعمل في بنك ربوي فيحكم على هذا الرجل بأنه ملعون، فهذا لا يجوز، وإنما تقول: لعن الله آكل الربا، فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا فقال: (لعن الله آكل الربا)، لكن لا تحكم على شخص بعينه أنه ملعون، فهذا لا يجوز شرعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله شارب الخمر، فجيء له بصحابي قد شرب الخمر، فلما لعن، قال: لا تلعنوه، فإني ما علمته إلا محباً لله ورسوله)، مع أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لعن الله شارب الخمر).
ووقوع اللعنة على آكل الربا وعلى السراق وعلى الزناة وعلى أمثالهم ممن لعن الله أو لعن رسوله، ليس كوقوعها على أهل الكفر، وما ذكر ملعون في القرآن أكثر من فرعون عياذاً بالله، قال الله جل وعلا: وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص:42].
نعوذ بالله جل وعلا من موارد لعنه.
سنذكر على سبيل الإجمال بعض من لعنه الله أو رسوله: لعن الله شاهد الزور، الراشي، المصورين، غير منار الأرض، النامصة، الواصلة، المستوصلة، من ذبح لغير الله، شارب الخمر، لعن الله من لعن والديه، لعن الله آكل الربا، من أحدث في المدينة حدثاً، أو آوى فيها محدثاً.
وهذه كلام شرعي يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقله لتحفظه وتمليه، بل لتطبقه وتعمل به كما أمر نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
قال الله جل وعلا: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هود:104] أي: يوم القيامة، يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:105-108].
الإشكال في قوله تعالى: (إلا ما شاء ربك)، وهذا الإشكال أجاب عنه العلماء بأجوبة كثيرة، ذكر منها أبو العز الحنفي في شرح (العقيدة الطحاوية) أكثر من ثمانية أقوال، وغيره من المفسرين، وسردها الآلوسي في روح المعاني وغيره من العلماء.
والذي يظهر والله أعلم: أنها كلها أجوبة متكلفة، لا تستقيم، وإنما نختار الذي نراه صواباً فنقول: إن هذا القول من ربنا جل وعلا: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107] المراد به: بيان القدرة والمشيئة ودفع توهم أن يكون هذا واجباً على الله.
أما ما ذكره العلماء كقولهم: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107] يعني مدة بقائهم في أرض المحشر، أو مدة بقاء العصاة في الحساب وأمثال ذلك فهذا كله يصعب القول به، حتى من نقله قال: هذا أمر لا يستقيم.
فقوله تعالى: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107] مسألة مطلقة لله جل وعلا، والقرآن فيه محكم وفيه متشابه، ويرد المتشابه إلى المحكم، وقد أخبر الله في أكثر من آية محكمة وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم: أن أهل النار خالدين فيها أبد الآباد -عياذاً بالله- وأهل الجنة خالدين فيها أبد الآباد، قال الله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، أي: غير مقطوع، فلا ينقطع ولا ينتهي، وهذا أمر أجمع الناس عليه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الجنة، وقال: (لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم)، فهم خالدون فيها كما قال الله جل وعلا.
فالحق أن أهل النار خالدين فيها، وأهل الجنة خالدين فيها، أما قول الله: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107] فلبيان أن هذا الأمر غير لازم على الله تبارك وتعالى، ودفع توهم أن يكون واجباً على الله، ولبيان أن الأمر كله يرجع إلى قدرته ومشيئته وأمره ونفوذ ذلك منه، تبارك وتعالى.
قال الله جل وعلا: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:114-115].
هذه الآية مدنية، والمقصود منها كما قال أهل العلم: إن رجلاً من آحاد المسلمين في المدينة وقع في أمر يتعلق بالنساء دون الزنا، فقبل أو ضم -وما أشبه ذلك- امرأة محرمة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فيما وقع منه تائباً نادماً، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ثم أنزل الله عليه هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: (أين الرجل؟ فقال: أنا يا رسول الله، قال: صليت العصر معنا؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد غفر الله لك، ثم تلا هذه الآية: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:114-115]).
إذاً: كلنا ذوو خطأ، ولا يخلو إنسان من معصية، ولا يذهب السيئات مثل الحسنات، وكل بني آدم الخيرون منهم يريدون التوبة، فإن أقبلت على الله جل وعلا وأنت تريد التوبة وغسل ما كان من الذنوب، فإنه لا يغسلها ويذهبها مع الاستغفار والتوبة أعظم من كونك تكثر من الحسنات؛ لأن الله يقول: وهو أصدق القائلين وأعلم بخلقه: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وهذا فسرته السنة.
فالحج يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الجمعة إلى الجمعة والعمرة إلى العمرة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن من الذنوب، إذا اجتنبت الكبائر)، فالإنسان يكثر من عمل الصالحات، كلما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإن هذا كفيل برحمة الله أن يذهب السيئات ويطهر قلبه، ولابد من الميزان، فمن كثرت حسناته ترجح بسيئاته.
إذا وقعت في خطيئة أحسست فيها بالندم فليس الحل أن تخبر بها زيداً أو عمرو، وإنما الحل أن تكثر من فعل الخيرات، وعمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه راجع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الحديبية، وقال: (علام نعطي الدنية في ديننا)، فكأنه أغلظ على نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول عمر : (فما زلت أعمل لذلك اليوم)، يعني: أكفر عن تلك الخطيئة بأن أكثر من الصلاة والصيام والصدقة؛ رجاء أن يغفر عني ذنب ذلك اليوم.
فالمؤمن الذي يتبصر بالقرآن ويعمل به يأخذ بهذه الأمور، فيكثر من الحسنات رجاء أن يغفر الله جل وعلا له: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:114-115].
السؤال: يقول السائل: قول الله تعالى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ [هود:44]، يقول: ليس هناك ترادف، وكأن المعنى واحد، فما المقصود بذلك؟
الجواب: إن أمر الله لا يكون فيه تكرار، وهذا ليس فيه تكرار، وإنما المعنى: أن الأرض أخرجت ما عندها من الماء، والسماء أمطرت ماء، فقول الله جل وعلا: يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ [هود:44] أي: الماء الذي أخرجته، وأما ماء السماء فقال الله عنه: وَغِيضَ الْمَاءُ [هود:44]، فالأرض بلعت ماءها الذي أخرجته؛ لأن الله قال: وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:12] * وقال: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ [القمر:11]، فالتقى ماء السماء وماء الأرض، فقول الله: ابْلَعِي مَاءَكِ [هود:44] عائد على الأرض في الماء الذي أخرجته، وقوله: وَغِيضَ الْمَاءُ [هود:44] في الماء الذي نزل من السماء، وعلى ذلك فلا تكرار في الآية.
السؤال: هل يجوز للزوجة أن تستضيف صديق زوجها في غيابه حتى يحضر، وخاصة في زماننا هذا؟
الجواب: هذا مرده إلى أمور كثيرة، فإن كان في البيت أطفال وخدم كبيوت العرب قديماً، فهذا لا حرج فيه، أما إن لم تكن إلا الزوجة لوحدها فلا يجوز قطعاً؛ لأنه سيحدث نوع من الخلوة، خاصة في الشقق وفي الفلل البعيدة، فهذا كله لا يجوز؛ لأنه مظنة شبهة وتهمة، ولا يفعله عاقل؛ لأنه يفتح باب شر عظيم، حتى لو لم يحصل شيء فقد يأتي الزوج ويدخل في قلبه ما الله به عليم.
أما العرب قديماً فقد كانت بيوتهم فيها خدم، وغلمان وعبيد وجواري يدخلن ويخرجن، فإذا كان الأمر كذلك فلا بأس، وكذلك في زماننا لو أن الإنسان يدخل على رجل من أهل الثرى، وعنده خدم وحشم فيدخل المجلس وزوجة صاحبه في الدور العلوي، ويأتي أبناؤه وخادمه ويدخلون ويخرجون فهذا كله لا حرج فيه، فتقدر الحالة بقدرها والله أعلم.
السؤال: ما رأيكم فيمن يحذر من الشيخ عائض القرني ؟
الجواب: الشيخ عائض القرني لا نعلم عنه إلا خيراً، وكونه يخطئ ويصيب، فكل الناس يخطئون ولا يخلو أحد من الخطأ، لكن الشيخ من أهل السنة معروف بفضله، ولا نعلم عليه -والله تعالى أعلم- أمراً يقدح في دينه أو في علمه أو في عقيدته، أما كونه يخطئ، فكلنا يخطئ ويصيب.
وأنت عندما تسمع لزيد وعمرو لا يعني ذلك أنك ملزم بما يقول، وإنما خذ من كل إنسان ما ينفعك منه، ودع الباقي.
السؤال: يقول: ما سبب كون سورة هود كلها مكية إلا آية واحدة مدنية؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب: إن ما نزل قبل الهجرة من القرآن مكي، وما نزل بعد الهجرة مدني، فأكثر آيات القرآن كسورة هود نزلت في مكة، فلما نزل قول الله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ [هود:114] قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ضعوها في موضع كذا)، في موضعها الذي هي فيه اليوم، فأصبحت بذلك مدنية.
السؤال: يقول الله تعالى: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا [التوبة:97] منهم الأعراب؟
الجواب: الآية يقصد بها من كان حول النبي صلى الله عليه وسلم، فمن سكن البادية ورفض الانتقال ودخول المدن، فهذا يقال له: أعرابي، لكن ليس كل أعرابي مذموم، قال الله: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ [التوبة:99]، والذي يستشهد بالقرآن عليه أن يستشهد به كاملاً.
السؤال: أنا شاب من الله علي بالاستقامة على شرعه وهديه، وظاهري ظاهر الصالحين، ولكن لدي ذنب أعاوده بين فترة وأخرى، وأخشى أن يهلكني، وقد أصبحت أفكر بالانتكاس حتى لا أكون منافقاً أخدع نفسي، فباطني مخالف لظاهري، فأرجو منك يا شيخ أن تدلني على حل يخرجني مما أنا فيه؟
الجواب: أقول: لا يخلو أحد من المعاصي كائناً من كان، وهذه من طرائق دخول الشيطان على بني آدم، ولا يوجد شيء لا يمكن تركه، وإن قدرنا أنك لن تستطع تركه على الأقل في الفترة الحالية، كمن -مثلاً- يبتلى بالنظر إلى النساء فهو شاب لم يتزوج فهذا لا يكون سبباً في الانتكاس، إنما يستغفر كل ما وقع منه هذا الشيء حتى يتزوج، هذه مرحلة، فإذا أكثر من الصلوات في الحرم، وصام الإثنين والخميس وأمثالها تكفر تلك الخطيئة، وإذا صدق مع الله جل وعلا يصدقه الرب تبارك وتعالى.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر