إسلام ويب

من آداب النبوة (4)للشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تواصلاً مع آداب النبوة, يتكلم الشيخ في هذه المادة عن آداب التبسم والضحك.

    وإذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أساساً لهذه المادة, فقد قامت على هذا الأساس فوائد أخرى كثيرة يحتاجها المسلم, كأنواع الضحك, وأنواع البكاء, معرجاً على فضائل بعض الصحابة.

    وتظل الآداب النبوية هي الينبوع الصافي الذي لا ينضب, تمدُّ البشرية عبر العصور بأروع وأجل الأخلاق التي عرفها التاريخ, ومن شمولها لكل جوانب الحياة أنها تعالج موضوعاً دقيقاً كالضحك والبكاء.

    إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    هذا حديث المصطفى     صلوا عليه وسلموا

    هذا الرحيق المجتنى      فيه الشفا والبلسم

    بعد الكتاب هو النجاة     فبالهدى فاستعصموا

    تجد البخاري روضة      أما الغدير فـمسلم

    من كان هذا هديه     لا لن تراه جهنم

    ما نزال مع البخاري رحمه الله في كتاب الأدب، وهو يشنف الأسماع ويثلج الصدور بكتابه, فهو يدبجه تدبيجاً, ويوشحه توشيحاً.

    يقول: (باب التبسم والضحك) فما هو حد التبسم؟ وما هو حد الضحك؟

    وما هو المحمود منه؟ وما هو المذموم؟ وما هو الذي وردت به السنة؟

    وكأني ببعضكم يقول: حتى الضحك والتبسم لا بد فيه من حلال وحرام، ومن دليل وتعليل؟! فنقول: إنها أمة تتلقى وحياً من فوق سبع سماوات، وإن نبيها صلى الله عليه وسلم يؤدبها في الحركات والسكنات، حتى في الضحك والبكاء، فهي أمة ليست مسيرة من البشر، إنما تُسَيَّر بوحي من السماء.

    قال: (باب التبسم والضحك) وسوف يورد كلاماً عند هذا، يقول: وقالت فاطمة عليها السلام: [[أسر إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت]] وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [[إن الله هو أضحك وأبكى]].

    وقبل هذا اعلموا أن الضحك فيه شيء مذموم وفيه شيء ممدوح، وهو أقسام، والبكاء أقسام، وفيه مذموم وفيه ممدوح.

    أنواع الضحك

    أما الضحك فهو أنواع، كما قال علماء التربية، فمنه ضحك التعجب، وقال أهل التفسير: ضربوا على ذلك مثالاً -ضحك التعجب- بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ [هود:71] كيف ضحكت؟ بعض المفسرين يقولون: حاضت، على لغة بعض القبائل العربية، لكن الصحيح عند الجمهور أنها ضحكت تعجباً: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود:72] امرأة تنيف على الستين أو تصل إلى السبعين، ثم تأتيها البشارة بغلام لها فتضحك ضحك التعجب، إذاًً فمن الضحك: ضحك التعجب.

    ومن الضحك: ضحك السخرية، والاستهتار، والاستهزاء، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ [الزخرف:47] عجيب! يضحكون من آيات الله! يضحكون من الأسس الخالدة التي أقام الله سبع سماوات وسبع أراضين من أجل هذه المبادئ الأصيلة والأهداف الجليلة! فكان عاقبة الضحك أن دمرهم الله تدميراً هائلاً، وأذاقهم لعنة في الدنيا والآخرة: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ [الزخرف:47].

    ومنها ضحك الاعتزاز بالنفس، بعض الناس إذا هُدد وتُوعد ضحك معتزاً بنفسه.

    أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا     متى أضع العمامة تعرفوني

    وماذا يبتغي الشعراء مني     وقد جاوزت حد الأربعين

    فإذا تُوعِّد الشجاع ضحك، يقول المتنبي وقد توعده خصومه بالقتل:

    إذا رأيت نيوب الليث بارزة      فلا تظنن أن الليث يبتسم

    يقول: إذا ابتسمت فأنا متوعدٌ لهم، وأنا متهددٌ لهم، وهذا موجود في أفعال الرجال، أنهم ربما ضحكوا استهتاراً بهذا الخصم، يقول جرير للفرزدق:

    زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع

    ومنها: تبسم الإقرار.. وضحك الإقرار.. أن ترى شيئاً وأنت مطاع، وكلمتك مسموعة؛ فتضحك كأنك تقر هذا الشيء، يلعب طفلك في البيت فتضحك مقراً لفعله، أو يتكلم بكلمة فتتبسم له، ودليل ذلك أنه صح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، وهو أرطبون العرب، صاحب القوة الهائلة، والذكاء الخارق، الداهية الدهياء، الذي لعب على عقول الكفرة، خرج في سرية من الصحابة؛ فأجنب وكان الجو بارداً، والنسيم معتلاً، فأراد الماء، فوجده مثلجاً؛ فتيمم، وأفتى نفسه، وصلى بهم هكذا، وذهبت الشكاية إلى المعلم الأعظم، وإلى المعلم الأكرم، تشتكي هذا الرجل، لأنه ليس مشرعاً، فلا بد أن تعرض الشريعة على الذي أتى بها، وتعرض المخطوطة على من يحققها، وليس لها إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فلما عرضت عليه صلى الله عليه وسلم، تبسم ضاحكاً، وقال: {يا عمرو! أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ قال يا رسول الله! إن الله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً [النساء:29] فضحك صلى الله عليه وسلم} وهذا ضحك الإقرار.

    ومن التبسم: تبسم الغضب، فقد يتبسم المغضب، فإذا رأى شيئاً تبسم من غضبه ونفس عن خاطره بالتبسم، ودليل ذلك: ما في الصحيحين من حديث كعب بن مالك، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم من تبوك، وقد تخلفت مع الثلاثة، فلما رآني تبسم تبسم المغضب عليه الصلاة والسلام. وله أنواع أخرى، وسوف نأتي إلى الممدوح من الضحك والمذموم.

    أنواع البكاء

    أما البكاء فهو أنواع: منها: بكاء الحزن على الفائت، وأعظم بكاء في تاريخ الإنسانية هو بكاء يعقوب عليه السلام على يوسف، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84] بل ورد في بعض الآثار: أن الملائكة شاركته في البكاء، ودرجة بكاء تصل إلى أن يشارك الملائكة هذا الرجل الصالح، إنها درجة عظيمة.

    ولا بد من شكوى إلى ذي قرابة     يواسيك أو يسليك أو يتوجع

    وممن بكى كذلك كثيراً في تاريخ البشرية داود عليه السلام، ألم بذنب فبكى بكاءً عظيماً حتى كادت تتلف روحه.

    ومن أنواع البكاء: البكاء من خشية الله، وأخشى خلق الله لله هو محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر ابن مردويه وابن جرير: أن بلالاً رضي الله عنه وأرضاه مر بالرسول عليه الصلاة والسلام ليخبره بصلاة الفجر، فقال: يا رسول الله! الصلاة، قال: { يا بلال نزلت علي آيات ويلٌ لم قرأها ولم يتدبرها، ثم قرأها صلى الله عليه وسلم، وأخذ يبكي، وهي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191]}.

    وفي سنن أبي داود بسند صحيح عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: {كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولصدره أزيز من البكاء كأزيز المرجل}.

    الأزيز: صوت يحدثه البكاء في الصدر. والمرجل: القدر إذا اجتمع غلياناً بالماء، فكأن صدره صلى الله عليه وسلم لكثرة أحزانه وخشيته لله القدر يوم يجتمع غلياناً، وورد عنه صلى الله عليه وسلم البكاء في أكثر من حديث ليس هذا مقام ذكرها.

    ومن البكاء: بكاء الهلع، وبكاء الجبن والخور، وهذا مذموم، كأن ترد على الإنسان مصيبة. فيبكى ساخطاً متسخطاً على قضاء الله، ولو بكى قليلاً من غير تسخط لكان لا شيء عليه.

    ومن أنواع البكاء: البكاء من الفرح.. سبحان الله! أفي الفرح بكاء؟! نعم، إن أقصى درجات الفرح يحدث بكاءً، لذلك إذا بشرت الأم -مثلاً- بولدها وقد قدم من سفر طويل بكت، قال الأول:

    طفح السرور عليَّ حتى إنني      من عظم ما قد سرني أبكاني

    وقال أنس: [[ما كنت أظن أن الإنسان إذا فرح بكى، حتى رأيت الأنصار يوم قدم صلى الله عليه وسلم المدينة يتباكون]] وجاء في صحيح مسلم أن أبي بن كعب وأبي هذا أمة من الأمم، سيد القراء، أتى رجل من العراق وعمر رضي الله عنه في اجتماع طارئ للصحابة ولكبار علماء الصحابة، واضع على يمينه أبي بن كعب سيد القراء، وكانت لحيته بيضاء، ورأسه أبيض، وكان عابداً لله عز وجل، يتلو كتاب الله دائماً، فقال العراقي: يا أمير المؤمنين! من هذا الرجل الذي بجانبك، قال: ثكلتك أمك! أما تعرفه؟! هذا سيد المسلمين أبي بن كعب.

    أتى جبريل فقال للرسول عليه الصلاة والسلام: {إن الله يأمرك أن تقرأ سورة: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1] على أبي بن كعب -فذهب صلى الله عليه وسلم معلم البشرية، وهادي الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية إلى طالب من طلابه، وتلميذ من تلامذته، وإلى حسنة من حسناته ليقرأ عليه السورة- فقال أبي: يا رسول الله! من أمرك بهذا؟ قال: الله، قال: وسماني في الملأ الأعلى؟ قال: إي والذي نفسي بيده، فبكى أبي} من الفرح؛ لأن الله سماه من فوق سبع سماوات.

    وسطية الرسول صلى الله عليه وسلم في الفرح والحزن

    قال البخاري: (باب التبسم والضحك) ومن التبسم المجاز، ويستخدم في الضحك، قال البحتري في قصيدته الرائعة الربيعية وهو يصف الورود في الخمائل:

    أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً     من الحسن حتى كاد أن يتكلما

    فهذا مجاز.

    وقال زهير يمدح هرم بن سنان:

    تراه إذا ما جئته متهللاً     كأنك تعطيه الذي أنت سائله

    وهذه من أعظم القصائد، حتى كان عمر يتأثر، ويقول: لا تصلح هذه الأبيات إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام وسطاً في رسالته، ليس بالضاحك الذي أسرف على نفسه في الضحك عليه الصلاة والسلام، أو أكثر في هذا الجانب، وليس بالذي تقمص شخصية الحزن والكآبة والحسرة والندامة، والناس قليل منهم الوسط، فهو وسط في كل شيء، وسط في المعتقد، ووسط في العبادة والتشريع، ووسط في الآداب والسلوك.. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143].

    وتجد كثيراً من الناس يضحكون ويقهقهون حتى يتمايلوا ويتساقطوا، وربما يترح أحدهم ترحاً برجله.. فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36] وتجد بعضهم لا يضحك أبداً حتى في عيد الفطر وفي عيد الأضحى، فتجد الناس يتعاودون والكباش تذبح وهو لا يضحك.

    يقال له: ابتسم, فلا يتبسم. أين أسنانك الطاهرة الطيبة؟ فلا يرينا أسنانه.

    وذاك صنف، وهذا صنف، لكن الوسط محمد صلى الله عليه وسلم.

    كان يبكي من خشية الله بكاءً ربما أحدث صوتاً أحياناً، وكان يتبسم كثيراً، والضحك نادر في حياته، وأكبر ضحكه -كما ورد في الأحاديث- أنه ضحك حتى بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم، وكان إذا ضحك ربما وضع يده الشريفة على فمه، لكن هذا نادر، ولم توجد في الصحيحين إلا في أربعة أو خمسة مواضع، أما تبسمه صلى الله عليه وسلم فكثير.

    قال جرير بن عبد الله -كما سوف يمر معنا-: [[ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي]] والبسمة ليست عبثاً، بل شرى بها قلوب الناس وقلوب القبائل والشعوب عليه الصلاة والسلام، يقول الله عز وجل: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ويقول له: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].

    وهؤلاء العرب مشاغبون كلهم، يتضاربون كأنهم في الحراج، وليس عندهم تأسيس ولا نظام أو معرفة أو ثقافة، فلما أتيت -يا رسول الله- جمعت هذه القبيلة التي كانت تنحر هذه، فقد كان الإنسان يسلب أخاه في الحرم المكي، ويتعقبه بالسيف فيقتله، وهذا كله على شاة أو ناقة، فلما أتى صلى الله عليه وسلم حبكهم بنظام عالمي عجيب، لا يمكن أن يخترقه الصوت، عليه أفضل الصلاة والسلام.

    فالمقصود أنه صلى الله عليه وسلم كان يتبسم كثيراً، ويضحك نادراً كما سوف يمر معنا.

    نماذج للبكائين من السلف الصالح

    والبكاء من خشية الله ورد عن قوم صالحين كثيرين، وأنا لا أقول: إن الضحك حرام، فإن بعض الناس من جبلتهم الضحك، ولو كان من أتقى الناس، لكن من جبلته وفطرته وتكوينه الشخصي أنه كثير الضحك، فـابن سيرين هذا العالم العابد الزاهد التابعي المحدث الشهير، وهو أكبر تلميذ لـأنس بن مالك، وراوية الصحابة الكبير، ومعبر الرؤيا، قد كان من أعبد الناس، وكان يضحك حتى يتمايل، ولكن إذا أتى الليل يبكي حتى يسمع جيرانه بكاءَه.

    يقول أحد التابعين: هل أريكم الضحاك البكاء؟ قالوا: نعم. قال: تعالوا، فأطلعهم على ابن سيرين في حلقته، قال: هذا ضحاك النهار بكاء الليل. وقالوا: كان صاحب دعابة إذا جلس في المجلس، وكان يروح على الغادي وعلى الرائح بها، لكن إذا أتى الليل بدأ يبكي من بعد صلاة العشاء حتى صلاة الفجر.

    قلت لليل هل بجوفك سرٌ     عامر بالحديث والأسرار

    قال لم ألقَ في حياتي حديثاً     كحديث الأحباب في الأسحار

    ومنهم: عامر الشعبي، فقد كان من أفكه الناس، وكان مزاحاً، خفيف الظل، لكن كان من أتقى عباد الله لله. فلا نظن أن الإنسان إذا كان كثير الدعابة وكثير الضحك والتبسم؛ أنه لا يتقي الله، لا. بل قد تجد أفجر الخلق لا يتبسم ولا يضحك، ولكنه فاجر، فتجده دائماًً قابضاً وجهه، كأنما عقدت عليه لعنة الأولين والآخرين وهو كافر, فليست تقوى الله في عدم الضحك.

    ووجد من الصالحين من كان كثير البكاء، فقد روى وكيع في كتاب الزهد بسند جيد، قال: قرأ ابن عمر قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] فبكى حتى أغمي عليه. وقال مجاهد: رأيت أجفان ابن عباس كالشراكين الباليين من كثرة البكاء.

    قرأ ابن عباس رضي الله عنهما ليلة كاملة: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123] فبكى حتى أصبح.

    وقد كان أكثر الناس بكاءً بعد أبي بكر عمر رضي الله عنهما، والنماذج تطول، ولكننا نذكر نماذج على حسب الطاقة.

    قال البخاري: وقالت فاطمة عليها السلام.. وهنا سلم عليها، ونحن نسلم ونصلي عليها وعلى أبيها؛ الزهراء.. البتول.. الطاهرة.. الصادقة.. الأمينة.. سيدة نساء الخلق، فهذه بنت محمد صلى الله عليه وسلم، يقول محمد إقبال شاعر الباكستان، يتكلم عن فاطمة رضي الله عنها وأرضاها:

    هي بنت من هي أم من هي زوج من     من ذا يباري في الأنام علاها

    بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وزوجة علي بن أبي طالب، وأم الحسن والحسين.

    أما أبوها فهو أكرم مرسل     جبريل بالتوحيد قد رباها

    وعلي سيف لا تسل عنه سوى     سيفاً غدا بيمينه تياها

    أكبر المفاخر لـفاطمة رضي الله عنها وأرضاها، ونحن لا نغلو فيها وفي أبنائها غلو الجهلة الذين لا يعلمون, ولا نجفو جفاء الذين لا يعقلون، فكلا الطرفين ضلال، وإنما نعتدل فنحبها في الله، ونكثر من محبتها لمحبة أبيها عليه أفضل الصلاة والسلام.

    قال: وقالت فاطمة عليها السلام -لأنها من بيت النبوة- {أسر إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت} وهذا الإسرار كان وقته في ساعة الوداع، يوم ودع النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا، ورحل عن المعمورة، يوم خير بين البقاء والرحيل, فاختار الرحيل، وكانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تأتيه، فيقول: {بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى} فأتى بأحب الناس إلى قلبه، وأقرب الناس إلى روحه، بـفاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فكلمها صلى الله عليه وسلم ليودعها، فقال: {أنت أول الناس لحوقاً بي -وأخبرها أنه سوف يموت من وقته- فبكت، فقال: ادني مني، فدنت، فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين؟} فضحكت، وهذه أعظم بشرى، فنساء العالمين جميعاً سيدتهن فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، وصلى الله على أبيها وسلم.

    الضحك والبكاء من الأمور الجبلية

    وقال ابن عباس: [[إن الله هو أضحك وأبكى]] أيُّ إشراقٍ هذا الفهم لـابن عباس! وأي عقلية هذه العقلية الضخمة الكبرى! يستدل على أن الضحك والبكاء من أمر الله الجبلي؛ لأن غلاة الصوفية قالوا: لا تضحك، وإذا ضحكت فاستغفر. وقد ذكر ابن الجوزي وبعض المحدثين أن أحدهم كان محدثاً، ولكنه كان شرس الخلق، لا يتبسم، ولا يضحك، ولا يداعب، فكان عابساً أبداً، فإذا سمع خشخشة الأوراق طوى دفاتره وذهب إلى بيته، فجلس في مجلس، فأتى طالب من الطلاب يريد أن يعطس، والعطاس من أمر الله عز وجل وقضاء منه وقدر، فأراد أن يعطس، فتذكر الشيخ، والشيخ ينزعج من أي شيء، إذا سمع الإبرة قام، وقال لتلاميذه: والله الذي لا إله إلا هو، إن تحرك متحرك منكم لا أسمعكم حديثاً هذا اليوم. فأتاه هذا الطالب فما استطاع فكتم أنفاسه، فتجمع العطاس كله دفعة واحدة فعطس، فقال لزملائه أمام شيخه: أنحن جالسون أمام رب العالمين؟ فضحك الشيخ، وهذه ذكرها ابن الجوزي وغيره.

    فالمقصود أن بعض الهدي يخالف هديه صلى الله عليه وسلم، ولا يعرض الكلام والبضاعة والسيرة إلا على سيرة محمد صلى الله عليه وسلم.

    فإذا سمعت عن الإمام أحمد، أو مالك، أو الشافعي، أو أبي حنيفة -على جلالتهم- أي أمر فاعرضه على محمد صلى الله عليه وسلم، فإن وافقه فبها ونعمت، وإن عارض وخالف تركناه.

    قالت فاطمة: [[أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت]] ولم يذكر البكاء؛ لأنه يريد أن يستدل على التبسم والضحك.

    وقال ابن عباس: [[إن الله هو أضحك وأبكى]] أما يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43] فمن الذي خلق الضحك والبكاء إلا الله عز وجل، ولذلك يقول أحد العلماء: في كتابنا علم نفس، علم النفس يذكر الضحك وأسبابه ودوافعه وعلاماته وآثاره، والبكاء وأحواله، لكن الله عز وجل اختصر هذا كله بقوله: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43] فهو الذي يضحك وهو الذي يبكي، لكن الإنسان يقتصر في هذه الأمور على حسب السنة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088528646

    عدد مرات الحفظ

    777144875