إسلام ويب

الرجل الممتازللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من هو هذا الرجل الممتاز؟

    إنه عمر بن الخطاب تلك الشخصية العظيمة، وكم هي عظيمة مواقف عمر بن الخطاب.

    من يبلغ منزلته في عدله، وذكائه، وخشيته لله وقوته، وحبه للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وإخلاصه، وصدقه...

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد:

    فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،،

    معنا في هذا الدرس جلسة طيبة بإذن الله، ومجلس مبارك بعون الله مع أصحاب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، مع الذين فتحوا الدنيا، مع الذين بذلوا دماءهم وأموالهم رخيصة في سبيل الله، واشتروا رضوان الله وجنة عرضها السماوات والأرض بكلمة لا إله إلا الله، مع الذين صدقوا الله فصدقهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح:18].

    اتفق الشيخان واللفظ للبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سافرت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يحدث بالقصة مكة، فبينما نحن في الطريق عدل رضي الله عنه وأرضاه يقضي حاجته، فقال: اتبعني بماء أتوضأ به، قال: فحملت إداوة ولحقته، فلما انتهى من قضاء حاجته أخذت أصب عليه ثم سألته قلت: يا أمير المؤمنين!! من هما المرأتان اللتان أنزل الله فيهما: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]

    قال عمر: عجباً لك يا بن عباس!

    قال الزهري: كره عمر سؤال ابن عباس وكره أن يكتم العلم الذي أعطاه الله إياه.

    قال ابن عباس رضي الله عنهما: ثم اندفع عمر رضي الله عنه وأرضاه وقال: لما قدمنا المدينة مهاجرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت في عوالي المدينة عند رجل من الأنصار؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤاخي بين المهاجرين الأنصار.

    قال عمر: فنزلت في العوالي عند أخٍ لي من الأنصار، فكنت أتناوب وإياه النزول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة. أي: هذا ينزل ليلة وهذا ليلة وهكذا..

    لأنهم كانوا يكدحون وسوف يأتي مجمل الحديث، قال: فنزل صاحبي في الليلة التي بقيت فيها، وكنا نتحدث أن غسان -قبيلة من القبائل العربية بـالشام - تريد أن تغزو المدينة، قال: فقدم صاحبي علي في الليل فطرق الباب طرقاً شديداً، وضربه ضرباً، فقلت: ماذا حدث؟

    قال: حدث أمر عظيم.

    قال عمر: أغزت غسان المدينة المنورة؟

    قال صاحبي: لا، أمر عظيم. قلت: ما هو؟

    قال: طلق الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه.

    فقال عمر: الله أكبر.

    ثم قال: ويحاً لـحفصة، أما نهيتها عن معاندته صلى الله عليه وسلم حتى وقع ما وقع، ولكن عمر كان صبوراً وحازماً وكان صارماً رضي الله عنه كالجبل.

    قال عمر: فأخذت علي ثيابي، ثم أخذت حذائي فلبستها فنزلت فصليت الصبح.

    انظر ما أحسن سياق القصة! وما أحسن هذا التصرف الحكيم من عمر رضي الله عنه وأرضاه! لم يأتِ وسط الليل يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن تركه حتى صلى الصبح.

    قال: ثم أتيت مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فوجدت الناس يبكون حول المنبر؛ وذلك لأنهم سمعوا بالخبر، وهم يعيشون أحداث الرسول عليه الصلاة والسلام وقضاياه.

    قال: فقلت للناس: أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه؟ قالوا: لا ندري.

    عمر يستأذن للدخول على النبي صلى الله عليه وسلم

    قال: فذهبت إلى حفصة في بيتها فدخلت عليها فوجدتها تبكي. فقد أتاها الخبر ولكن ما تثبتت منه فقلت: أطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

    قالت: لا أدري.

    قلت: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

    قالت: هو في المشربة قال: فانطلقت فإذا على المشربة غلام أسود يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: استأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    قال: فذهب فاستأذن فلم يأذن؛ فرجع الغلام فقلت: أستأذنت لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

    قال: نعم، حدثته أنك بالباب فلم يرد علي كلاماً.

    قال: فذهبت إلى المسجد وغلبني ما أجده في صدري فعدت فقلت للغلام: استأذن لي؛ فاستأذن مرة ثانية فلم يأذن له.

    قلت للغلام: أستأذنت لي؟ قال: نعم، ولكنه لم يرد عليَّ جواباً.

    قال: فذهبت إلى المسجد.

    انظر إلى هذا الصابر والجبل العظيم والعملاق، سوف يتحدث في مناظرة شفوية حارة مع الرسول صلى الله عليه وسلم عن السبب، وما هو الداعي، وسوف يكون من صف الرسول صلى الله عليه وسلم لا من صف ابنته؛ لأن بعض الناس إذا طلقت ابنته؛ قام معها ظالمة كانت أو مظلومة، شاكية أو مشكوة، والله يقول: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4] يعني حفصة وعائشة.

    كأنه يقول: لا تنخدعا، لا تظنا أن أبا بكر وعمر سوف يكونا في صفيكما؛ بل سيكونا مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

    قال: فرجعت مرة ثالثة، وقلت للغلام: استأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاستأذن فقال: دعه يدخل.

    قال عمر: فتسلقت درجة المشربة -درجة من عود منحوتة تصل إلى المشربة- قال: فدخلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع وقد أثر الحصير في جنبه -لأنه لم يكن بينه وبين الحصير الذي هو من خصف النخل وطاء ولا غطاء- قال: فلما رآني صلى الله عليه وسلم تربع في مجلسه، فعرفت الغضب في وجهه، فجلس صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان حساساً، وكان يتأثر بالمثيرات فتظهر في وجهه صلى الله عليه وسلم.

    كان المنكر يظهر في وجهه، وكان سيما البشريات تظهر في وجهه، تقول عائشة: [[إذا سر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأسارير وجهه كانت تبرق كالعارض البارق]] أي: كالبرق إذا عرض، ولذلك قالت: كنت أتذكر قول أبي كاهل يوم قال:

    وإذا أستسر ترى أسرة وجهه     برقت كبرق العارض المتهلل

    عمر يتأكد من الخبر

    قال عمر: فتربع في مجلسه، فأراد عمر أن يدخل بالدعابة إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يتكلم معه.

    بماذا يدخل من المزح حتى يتبسم صلى الله عليه وسلم؟ اسمع ماذا يقول فاروق الإسلام أبو حفص، الذي دكَّ دولة الباطل وإمبراطورية كسرى وقيصر، والذي كان كما يقول الأول:

    يا من يرى عمراً تكسوه بردته     والزيت أدم له والكوخ مأواه

    يهتز كسرى على كرسيه فرقاً     من خوفه وملوك الروم تخشاه

    قال: يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.

    قال: لو رأيتنا كنا رجالاً -يقصد قريشاً- تخافنا النساء ونحن في بكة، فقدمنا إلى أناس في المدينة فوجدنا نساءهم تخيفهم، فأصبحنا نخاف النساء، لو رأيت بنت زيد -يقصد عاتكة زوجته- تطلبني النفقة يا رسول الله -رجل مهاجر فقير مسكين ليس عنده ما يتغدى منه ويتعشى، وهي تطلب الحلي الذهب والفضة- تطلبني النفقة يا رسول الله وتغاضبني؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، ثم جلس.

    كان ذلك الكلام توطئة، فلما تبسَّم صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه. انظر إلى الحكمة! وإلى الدخول إلى قلوب العظماء والزعماء والقادة!

    فلما جلس قال: فنظرت فإذا أثر الحصير في جنبه صلى الله عليه وسلم. قال: فلمحت المشربة، والله ما رأيت شيئاً يرد البصر إلا شيئاً من شعير كان معلقاً في جانب البيت، فدمعت عيناي.

    من قال من المؤرخين: إن عين عمر سوف تدمع لولا الإسلام؟

    ومن قال: إن قلبه سوف يرق لولا (لا إله إلا الله)

    ومن قال: إن روحه سوف تلين برهة من الدهر لولا عظمة هذا الدين، كان لا يعرف الدمعة من الرحمة، ولا يعرف اللين، ولا المسامحة، إنه رجل عملاق؛ ولذلك جعلته قريش السفير لها مع قبائل العرب، فهو الواجهة العظمى التي لا تلين، وكان الناس يخافونه.

    لكن لما دخلت لا إله إلا الله في هذا القلب الكبير؛ أصبح يتأثر تأثراً عظيماً، من يصدق أنه يصعد المنبر يوم الجمعة، فينقطع صوته من البكاء على المنبر؟!

    ومن يصدق أنه يرى الأثر الذي يثير الخشية فيبكي؟!

    فلما رأى حفنة الشعير ورأى الحصير يؤثر في جنب المصطفى صلى الله عليه وسلم، يا عجباً.. ألا يجد اللحم!

    ألا يجد الخبز!

    ألا يجد اللذائذ والطبيات، والفواكه والخضروات...!!

    فلماذا يجدها كسرى وقيصر؟!

    وتدمع عيناه رضي الله عنه؛ فيلتفت صلى الله عليه وسلم ويقول: ما لك يـ ابن الخطاب؟

    فقال عمر: يتنبأ بالأحداث، وأنه سوف يدكدك بقدميه تلك الدولتين الظالمتين- قال: يا رسول الله.. كسرى وقيصر وهما ما هما -أي: أعداء الله- وهما في العيش الرغيد، وأنت رسول الله وأحب الناس إلى الله، وأنت في هذا الحال..! فجلس صلى الله عليه وسلم مستوفزاً، وقال: أفي شك أنت يـ ابن الخطاب؟ أي: أفي شك من عدل الله؟ أو في شك من ميزان الله في الأرض؟ أوفي شك من رسالة الله؟ أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم.

    النبي صلى الله عليه وسلم ينفي هذه الشائعة

    ثم أتى عمر فقال: يا رسول الله.. أطلقت نساءك؟ قال: لا. قال عمر: الله أكبر!

    ارتاح وهدأ باله وارتاح ضميره؛ لأنه لا يريد أن يخسر بنته من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يأتي يوم القيامة وصهره ورحيمه هو رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ويريد إذا دخل الجنة أن يزور رحيمه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم

    فخرج عمر رضي الله عنه إلى الناس وبشرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه، وإنما حلف ألا يدخل عليهن شهراً كاملاً، فلما انقضت تسعة وعشرون يوماً؛ نزل صلى الله عليه وسلم فطاف على نسائه، وبدأ بـعائشة فقالت عائشة: يا رسول الله، بقي ليلة، الشهر ثلاثون يوماً، قال صلى الله عليه وسلم: لا، الشهر تسعة وعشرون يوماً. ولذلك يقول: {نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا} يعني أمة ذكية بليغة، عبقريتها مستوحاة من الصحراء، فنحن لا نعرف الجبر ولا الهندسة ولا نعرف الجمع ولا الطرح وإنما نحسب هكذا، ثم نزل صلى الله عليه وسلم وقد آلى من نسائه ثم عاد.

    هذا مجمل الحديث أو نحو هذا أو شبه هذا، ونستغفر الله إن زدنا أو نقصنا، لكن هذا الحديث أو نحوه هو الذي أورده البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088522152

    عدد مرات الحفظ

    777108884