إسلام ويب

قصائد قتلت أصحابهاللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الشعر حسنه حسن وقبيحه قبيح، ولقد لعب الشعر دوراً عظيماً في تاريخ العرب، وقد كانت تقوم حرب ضروس طاحنة بين قبيلتين سببها بيت شعر في الهجاء لما للشعر عندهم من مكانة.

    ولقد سقطت كثير من رءوس الأبطال بسبب أبيات قالوها، كما أنه قد استخدم في أغراض أخرى كالمدح والثناء والغزل.. فعلى المسلم صاحب الشعر والقلم أن يسلطه في طاعة الله ورفع راية الإسلام.

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أيها الإخوة الأبرار: أثقلت بهذا المديح والثناء هذه الليلة، ولكن -والحمد لله- قد أصبحت عندي مناعة ضد المدح والهجاء، فأُصَبَّح كلَّ يوم بقصيدة من المدح، ثم أُمَسَّى بقصيدة من الهجاء، فجعلتُها سواء، كما قال الفضيل بن عياض: لا يبلغ المؤمن الصِّدِّيقية حتى يكون مدح الناس وهجاؤهم واحداً، فعسى أن نبلغ هذا الفضل.

    وأما الإخوة فهم متفضلون -جزاهم الله خيراً- على أن دعَوني ودعَوا الدكتور حبيباً، ودَعوا أصحاب الفضيلة، وأهل العلم والأدب والحضور الكرام، فأشكر مركز متوسطة السيوطي على هذا الجهد، وهذا النظام وهذه الرتابة والحفاوة والضيافة.

    مَن تلقَ منهم تقُل لاقيتُ سيدَهم     مثل النجوم التي يسري بها الساري

    هَيْنُون لَيْنُون أيسارٌ بنو يسر      صِيْدٌ بهاليل حفَّاظون للجارِ

    أما ما تفضل به الدكتور/ حبيب، فلا أكتمكم سراً أني اشترطت على الإخوة والمجلس القائم على هذا النشاط بأن يقدمني الدكتور/ حبيب، ولم أتفق معه سرياً وراء الكواليس على أن يمدحني وأمدحه في مناسبات أخرى؛ لأن هذه خيانة، وقد فاجأني والله بما فعل؛ لكن له من اسمه نصيب، فقد غلبني باسمه، فأحببتُه منذ زمن بعيد، حتى يحق فيه أن أقول:

    أحبكَ لا تفسير عندي لصبوتي      أفسِّرُ ماذا والهوى لا يُفسَّرُ

    وغفر الله له مبالغتَه، وهو صادق فيما يقول، ومن ثبتت حجيته فلا يسأل عن مثله.. ولكنه قال: إنني أحفظ عشرة آلاف قصيدة، وهو أراد أن يقول: عشرة آلاف بيت. وهذا من باب التحدث بنعمة الله، فقد حدَّثتُه في الصحراء بيني وبينه؛ لأنه ألَحَّ عليَّ في السؤال، ومن كان منكم في شك من هذا فلينازلني في أي مكان يريد، وأتحداه وأتحدى أباه وجده؛ فإن بعضكم سوف ينكر ذلك.

    أما عنوان المحاضرة فهو: (قصائد قتلت أصحابها).. أعاذكم الله من القتل، وأسأل الله أن نقتل جميعاً في سبيله، وأن تضرب رقابنا لترتفع (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).

    لكن أصحابنا من الشعراء هذه الليلة ليس فيهم واحد قُتل في سبيل الله، مع الاحتفاظ بحقوق الطبع لشعراء متأخرين. فالله المستعان!

    أيها الإخوة الكرام: لقد اخترتُ هذا العنوان لأننا في زمن يجب علينا أن نحاسب على الكلمة، وأن نكون مؤتَمَنين على الحرف، وأن نتقي الله فيما نقول؛ لأنه ما دام أن البشر والملوك والوزراء والأدباء يؤدبون العاصي والمنحرف في لغته وفي لفظه، ويُقتل وتضرب عنقُه، فكيف بالواحد الأحد الذي يقول: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]؟!

    فإنها مدرسة، فاستمعوا وأنصتوا، وإنه بإمكانك أن توظف الحرف لمرضاة الواحد الأحد، وبإمكان المنحرف أن يلغو بكلمة، فيخرج عن المنهج وعن الصراط المستقيم.

    وسامحوني إذا ذهبتُ ذات اليمين وذات الشمال، مع أني أريد أن أقصر من الاستطراد، لكن الأدب يتحمل، وربما كان الاستطراد أحسن من النفسية الحرفية، وهذا أمر -إن شاء الله- معلوم.

    دور الشعر وتأثيره

    أما تأثير الشعر فلا تَسَل، ويكفي أن محمداً عليه الصلاة والسلام يقول: {إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة} ورسولنا عليه الصلاة والسلام لم يكن شاعراً، فقد صانه الله؛ لئلا يُتَّهم في الوحي، وقد اتُّهم بالشعر وهو لم يكن شاعراً؛ فكيف لو كان شاعراً عليه الصلاة والسلام؟! أما غيره فقال كثير من أهل العلم: إنها صفة مدح في الرجل إذا كان ينْظُم ويقول الشعر، ويبدع الكلمة، ويجوِّد الحرف، وليست سلبية أبداً.

    وأما الشعر فإنه يجوِّد البخيل، ويشجع الجبان، ويسكت الغضبان.. وأضرب على ذلك أمثلة سريعة لأدخل في الموضوع:

    ابن الأطنابة أمير من أمراء الجاهلية في الحجاز، كان في الطائف، حضر مع قومه والتقى بقبيلة أخرى يقاتلها، ولكنه لما رأى أشعة السيوف -أعاذكم الله من أشعة السيوف- خفق قلبُه وأصابته الحمى، ففر على بغلته وترك جيشه، فلما ذهب بعيداً تذكر أنه لا بد أن تكون له منزلة في التاريخ، وأن ديوان الإنسانية سوف يذكره بهذا، فقال:

    أبت لي عفتي وأبى حيائي      وأخذي الحمد بالثمن الربيحِ

    وإكراهي على المعروف نفسي     وضربي هامة البطل المشيحِ

    وقولي كلما جشأت وجاشت     مكانك تُحمَدي أو تستريحي

    فعاد وقاتل وانتصر، وسجل برائعته انتصاراً في التاريخ بسبب ثلاثة أبيات.

    وهذا قطري بن الفجاءة حينما حضر المعركة، والخوارج لا تسل عنهم في الشجاعة، فهم بائعو رءوسهم، والخارجي يقاتل بلا رأس ثلاثة أيام، وهذه من الإسرائيليات المنسوبة لبعض الأدباء المعاصرين، فحضر قطري وهو زعيم، فلما رأى السيوف تصرع، ورأى الجماجم تُحط من على الأكتاف فر، ثم رجع إلى المعترك وقال:

    أقول لها وقد طارت شعاعاً     من الأبطال ويحكٍ لن تراعي

    فإنكِ لو سألتِ بقاء يوم     على الأجل الذي لك لن تطاعي

    فصبراً في مجال الموت صبراً     فما نيل الخلود بمستطاعِ

    إلى آخر ما قال، وهي مقطوعة ذهبية جميلة فائقة رائعة، لا يمكن أن يُنْسَج على مثلها إلا أن يشاء الله.

    النابغة الذبياني ويمينه البارة

    وعلى ذلك سار الناس، فمنهم من سكَّت الغضبان كما فعل النابغة الذبياني لما أتى النعمان بن المنذر.

    والحقيقة أن الشعراء دينهم رقيق إلا من رحم الله، حتى يقول ابن كثير: على مذهب الشعراء في رقة الدين، وأستثني الحضور من أهل العلم والشعر والأدب؛ لأن هؤلاء سيوف إسلامية في الأدب والشعر؛ لكن في الجملة: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224] فدينهم رهيف خفيف سخيف، إلا أن يشاء الله.

    فأخذ النابغة يعرِّض بغرفة النوم عند النعمان بن المنذر.. وانظر إلى العقل، من يلاعب الأسد؟!

    احذر السلطان واحذر بطشه     لا تعاند مَن إذا قال فعلْ

    فأهدر النعمان بن المنذر دمه، ففر النابغة على وجهه، كلما أتى قبيلة وقال: أنا ضيفكم أستجيركم قالوا: إن كنت أنت النابغة فلا تدخل بيتنا، وكان ينام في النهار ويمشي في الليل، وفي الأخير أشار عليه أحد الحكماء أن يلبس أكفانه وأن يسلم نفسه إلى أقرب مخفر شرطة ليموت ميتة طبيعية.. فسلم نفسه، وذُهب به إلى النعمان بن المنذر؛ لكنه جهز ثلاث قصائد؛ لأن النفس -كما يقال- إذا كانت تغلي، فإنها تسخن في حنفيات حتى تصل إلى مصبها.

    وكان النابغة قد مدح أعداء النعمان الغساسنة بقصيدة رائعة قال في أولها:

    كِلِيْني لِهَمٍ يا أميمة ناصب     وليلٍِ أقاسيه بطيء الكواكبِ

    تطاول حتى قلت ليس بمنقض     وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ

    وصدرٍِ أراح الليل عازب همه     تضاعف فيه الحزن من كل جانبِ

    انظر إلى السحر الحلال! وليس كقصيدة:

    نحن أبناء الجزيرة المثنى والمغيرة

    التي كأنها درجات الحرارة، والصيدليات المناوبة.

    نريد شعراً قوياً عارماً هائلاً مؤثراً في الناس، وإلا فلنرح أنفسنا والقراء من الإكثار من كتابة القصائد بمعدل أربعٍ وعشرين قصيدة في كل ثلاث وعشرين ساعة.

    فهدر دمه، فلما جاء إليه النابغة قال له:

    حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبة     وليس وراء الله للمرء مذهبُ

    لئن كنت قد بلغت عني وشاية      لمبلغك الواشي أغش وأكذب

    فإنك شمس والملوك كواكبٌ     إذا طَلَعَتْ لم يبدُ منهن كوكبُ

    فرضي، ثم قال له أيضاً:

    فبتُّ كأني ساورتني ضيئلةٌ     من الرُكس في أنيابه السُّمُّ ناقعُ

    إلى آخر ما قال، وحلف له أيماناً الله أعلم بها.

    وكان لنا شيخ في معهد الرياض العلمي، وهو ابن منيف طيب الله ذكره، وهو لا يزال حياً، ولو كان ميتاً لترحمنا عليه، والمقصود أنني حلفتُ أني أستحق درجة أعلى من الدرجة التي أعطاني، وأنا في ثانية متوسط -وهذا من الاستطراد- فقال: أيمين امرئ القيس أم يمين النابغة؟ قلت: لا أدري، قال: إن دريتَ كمَّلتُ لك الدرجة؛ لكنني لا أعرف القصة، فقال هو: إن امرأ القيس فاجر في يمينه، حيث يقول:

    حلفتُ لها بالله حلفة فاجرٍ     لناموا فما أن من حديث ومِن صالِ

    وأما النابغة فيمينه بارة، حيث يقول:

    حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً     وليس وراء الله للمرء مذهبُ

    مرثية ابن بقية الوزير

    أما تأثير الشعر على الناس والملوك وأهل القرار فلا تسل، فإن الرجل يحكُم ويُصدر مرسوماً بقتل رجل ثم يندم، وتدمع عيناه، ويوجل قلبه، ويتمنى أن القصيدة التي رُثي بها ذاك المقتول قيلت فيه، وقد حصل هذا لـعضد الدولة فنا خسرو الذي ذكره المتنبي بأعقد بيت سمع به الناس فقال:

    فما يُسْمَى كَـفنا خسرو مُسْمٍ     وما يُكْنَى كـفنا خسرو كانِ

    ذهب إلى شيراز فقال -قاتله الله-:

    مغاني الشعب طيباً في المغاني     بمنزلة الربيع من الزمانِ

    ملاعب جنة لو سار فيها     سليمان لسار بترجمانِ

    فما يُسْمَى كَـفنا خسرو مُسْمٍ     وما يُكْنَى كـفنا خسرو كانِ

    يقول: هذا الملك البطل الشجاع لا يسمى مثله ملك، ولا يُكَنَّى مثله أحد.. وحصل أنه قتل في عيد الأضحى من ملوك الكفار ثلاثة، جندل رءوسهم على الطريقة الإسلامية، فلما قتلهم أتى ودخل بغداد واستقبله ثمانون شاعراً، منهم السلامي والمتنبي والصولي وغيرهم، فمدحوه كثيراً.

    لكن اسمعوا إلى الصولي وهو يخاطب الملك بأنه ذبح وضحَّى بثلاثة من ملوك الكفار، فالناس يضحون بالنوق والخرفان وهذا يضحي بملوك الكفار، وهذه هي تضحية أهل السنة، وقد فعلها خالد القسري لما ضحَّى بـالجعد بن درهم، فقال:

    أيها الناس: ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بـالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً.

    ثم رجع إلى أصل المنبر فنحره وذبحه.. قال ابن القيم:

    من أجل ذا ضحى خالد القسري      بـالجعد يوم ذبائح القربان

    إذ قال إبراهيم ليس خليله     كلا ولا موسى الكليم الداني

    شكر الضحية كل صاحب سنةٍ     لله درك من أخي قربانِ

    وهذا الملك قتل ثلاثة، فأتوا يسلمون عليه ويشكرون سعيه، فقال الصولي:

    صلِّ يا ذا العلا لربك وانحرْ      كل ضِدٍّ وشانِئٍ لك أبترْ

    أنت أعلى من أن تكون أضا     حيك قروناً من الجِمال تُعَفَّرْ

    بل قروناً من الملوك ذوو السؤ     دد تيجانهم أمامك تُنثرْ

    كلما خر ساجداً لك رأس     منهمُ قال سيفك: الله أكبرْ

    وهذه كتبت في ديوانه، وما يأتي مثلها في الشعر شيء.. ثم انطلق الشعراء، فتقدم السلامي وما قصَّر، وقال من قصيدة له طويلة يقول في أثنائها:

    فبشرتُ آمالي بشخص هو الورى     ودارٍ هي الدنيا ويوم هو الدهرُ

    أما المتنبي فقد أخذ الجائزة، دائماً يكون في المربد الأخير، لكنه يأخذ الجائزة، فقال في قصيدته الأعجوبة:

    فداً لك من يقصِّر عن فداكا     فلا ملِكٌ إذاً إلا فداكا

    المقصود أن الملك غضب على ابن بقية الوزير -وهذه القصة معروفة- فقتله وصلبه، ورآه أبو الحسن الأنباري مصلوباً على خشبة الموت؛ فبكى وبكت بغداد لهذا الجواد الكريم السخي الرحب؛ ورثاه بقصيدة تبلغ اثنين وعشرين بيتاً، ومنها:

    علو في الحياةِ وفي المماتِ     بحَق أنت إحدى المعجزاتِ

    كأن الناس حولك حين قاموا     وفود نَداك أيام الصِّلاتِ

    كأنك واقف فيهم خطيباً      وهم وقفوا قياماً للصَّلاةِ

    مددت يديك نحوهم احتفاءً     كمدهما إليهم بالهباتِ

    ولما ضاق بطن الأرض عن أن     يواروا فيه تلك المكرماتِ

    أصاروا الجو قبرك واستعاضوا     عن الأكفان ثوب السافياتِ

    فسمعها عضد الدولة، قال بعض الرواة: فدمعت عيناه وقال: والله لوددتُ أنني قُتِلْتُ وصُلِبْتُ وقِيْلَتْ فيَّ.

    هذا هو الشعر، وهو قليل من كثير.

    ولكن الشعر قد يكون سخطاً إن لم يُوظَّف في طاعة الله عزَّ وجلَّ، وغضباً إن لم يُرَشَّد بفكرة إسلامية وعقيدة تربوية، فإنه يذهب بالرأس إذا لَحَن فيه العبد لحناً لا يصلحه الخليل ولا سيبويه؛ فإن عثرة القافية تذهب برأس العبد، وربما تصليه جهنم عند الباري سبحانه.. يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89]. أول المقتولين في هذه القائمة -ولم أذكره في كتابي قصائد قتلت أصحابها إنما ذكرتُ غيره- هو: علي بن جبلة العكوك، وشعره كله نُخَب، وهو من أشعر الشعراء على الإطلاق، وقد أعجب الذهبي بشعره، وله قصائد مدوِّية، يقول في بعضها:

    بأبي من زارني مكتتماً      حذراً من كل واشٍِ جَزِعا

    يطرق السن على تلك الخطا     ثم ما سلَّمَ حتى ودَّعا

    قال العلماء: ليته زادنا قليلاً، وهي ثمانية أبيات؛ لكنه يتركك ويُنْهِيك وقد بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10] ثم يقطع القصيدة، فيقول:

    عسى فرج يكون عسى نعلِّل نفسنا بعسى

    فلا تجزع إذا حصَّلتَ هماً يقطع النفَسا

    فأقرب ما يكون المرءُ من فرج إذا يئسا

    وقد ذكرت هذا في كتاب لا تحزن وهو شعر جميل وليته أطال فيه.. وقد وفد على أبي دلف -وهذه هي التي أذهبت رأسه، وذهب في خبر كان- فدخل على أبي دلف الشجاع الأمير الجواد، فصنَّف فيه قصيدة تبلغ سبعين بيتاً، فلما انتهى منها اهتز أبو دلف -أتته حمى تهامة - وقال: احتكم، إما أن تأخذ نصف ما عندي -وهو أمير- وإما أن تأخذ على كل بيت مائة ألف درهم، وإلا فاحكم أنت. قال: بل مائة ألف على كل بيت.

    يقول في هذه القصيدة:

    ذاد ورد الغي عن صَدَرِهْ      وارعوى واللهو من وَطَرِهْ

    إلى أن قال:

    دع جدا قحطان أو مضر     في يمانيه وفي مضره

    وامتدح من وائل رجلاً      عصر الآفاق من عصره

    المنايا في مقانبه     والعطايا في ذرا حجره

    إلى أن يقول:

    إنما الدنيا أبو دلف      بين مغزاه ومحتضره

    فإذا ولى أبو دلف      ولت الدنيا على أثره

    كل من في الأرض من عرب     بين باديه إلى حضره

    مستعير منك مكرمة     يكتسيها يوم مفتخره

    وطارت القصيدة وصارت من عيون الشعر، وعارضها عشرون شاعراً لكنهم أخفقوا كلهم، وقع الرمي تحت خشبة المرمى، حتى إن أبو نواس أراد أن يَنْظُم قصيدة على هذا النسق؛ فما استطاع.

    ثم سمع المأمون بهذ القصيدة؛ فاستدعاه وقال: يا بن الفاعلة! والله لأقتلنك في قولك لـأبي دلف:

    كل من في الأرض من عرب     بين باديه إلى حضره

    مستعير منك مكرمة     يكتسيها يوم مفتخره

    ماذا تركت لنا؟ ثم استشار الهيئة الشرعية، فقالوا: نحن سنبشرك بأبيات تقدح في الشرع؛ حتى إذا قتلتَه فسيقال: إن ذلك غيرة على الدين، قال: وما هي؟ قالوا: يقول أبو دلف من قصيدة سابقة:

    أنت الذي تنزل الأيام منزلها     وتنقل الشهر من حال إلى حالِ

    وما مددتَ بأقلام لها شبة     إلا قضيت بأرزاق وآجالِ

    وهذا لا يكون إلا لله الواحد الأحد.

    انظروا! فقد أساء كل الإساءة، ووجدها المأمون فرصة، حتى يظهر أمام الناس أنه عَفٌّ طاهرٌ يغار لدين الله ويحفظ محارمه، والسياف حاضر، فأمره أن يضرب رأسه فصار كأنه بدون رأس، وذهب في خبر كان، وبقي شعره من أحسن الشعر عند العرب.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088461913

    عدد مرات الحفظ

    776867087