يعلم ربنا جل جلاله نبيه عليه صلوات الله وسلامه، ويوجهه لكي يصبر نفسه، ويتحمل أتباعه من المؤمنين القاصرين أنفسهم على ذكر الله وعبادته والدعوة إليه، وهم لا يريدون بذلك إلا وجه الله والدار الآخرة، وذلك أمر للمؤمنين جميعاً، وهذا أمر للنبي عليه الصلاة والسلام لكونه أسوة للمسلمين.
وسبب نزول هذه الآية أن فئة من كفار مكة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يجلس مجلسك ويحضر معك أمثال بلال بن رباح وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وأبي الدرداء ، وهؤلاء مساكين الصحابة، وهم يلبسون ألبسة صوفية فعندما يشتد الحر تخرج منهم روائح العرق، فيتعالى الأغنياء والمترفون الجبابرة عن أن يجالسوا ضعاف ومساكين المؤمنين، وقالوا لنبي الله عليه الصلاة والسلام: خصنا بمجلس معك وأبعد هؤلاء واطردهم، فأمره الله بألا يفعل فقال: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام:52]، وقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] أي: تحمل هؤلاء المساكين ومسكنتهم وروائحهم، وجالسهم واصبر معهم وادع دعاءهم واعبد عبادتهم.
وكان هؤلاء يجلسون مكانهم في الغداة بعد صلاة الصبح يدعون ربهم ويتضرعون إليه ويسبحونه ويحمدونه ويكبرونه ويهللونه إلى شروق الشمس، ويفعلون مثل ذلك بعد صلاة العصر داعين ضارعين ذاكرين حامدين شاكرين مهللين ومعظمين ومنزهين إلى غروب الشمس.
وكذلك كان أهل الصفة الذين تجاوزت أعدادهم السبعين لا عمل لهم إلا العبادة والدعاء والذكر، والله ذكر هنا الدعاء؛ لأن الدعاء عبادة، والدعاء كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (الدعاء مخ العبادة).
واصبر نفسك يا محمد! وتحمل هؤلاء وهم يدعون ربهم، ويتضرعون إليه، وقد كان بعض هؤلاء لا يلبس إلا لباساً واحداً، وبعضهم يكون اللباس عليه أياماً، وبعضهم كان ثائر أشعث الشعر مسكنة وضعفاً وحاجة، ومع ذلك كان الواحد منهم يزن مئات من الأغنياء والمترفين والغافلين عن ذكر الله، فقد قلنا بالأمس بأن النبي عليه الصلاة والسلام كما روى الإمام أحمد وجد جماعة من أتباعه بعضهم ثائر الشعر، وبعضهم ليس عليه إلا ثوب واحد، وهم يذكرون الله غدوة، وهم يذكرون الله مساءً وعشية، فجلس معهم، وقال: (أنتم الذين أمرني ربي بأن أصبِّر نفسي معكم).
والمترفون من صناديد مكة عندما طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يخصهم بمجلس ويطرد عنه هؤلاء المساكين والضعاف، نهاه ربه أن يستجيب لهم، وإن كان لم يفعل عليه الصلاة والسلام، فهو لم يفردهم بمجلس ولم يجلس مختصاً بهم دون مساكين الصحابة وكل ما كان قد حدث يوماً بين ما هو مع أمثال هؤلاء جاءه عبد الله بن أم مكتوم وأخذ يسأله وكان أعمى لم ير من هم الجالسون فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام وعن جوابه، رجاء أن يؤمن به أولئك، وبإيمانهم قد يؤمن أتباعهم، وقد تؤمن الأكثرية من مكة، ولكن الله جل جلاله لم يقبل منه ذلك، وعاتبه عليه، وقال: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس:1-3].
فعاتبه الله ولامه، وبعد ذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا جاءه ابن أم مكتوم يقول: (أهلاً بمن عاتبني فيه ربي)، وكان يقبل عليه بوجهه الشريف عليه الصلاة والسلام، بل أكثر من ذلك كان إذا خرج من المدينة المنورة إلى غزوة كان يتركه أميراً للمدينة ونائباً عنه في حكم المدينة، والفصل بين الناس.
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الكهف:28] أي: يعبدون ربهم، ويضرعون إليه، بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28]، أي: يفعلون ذلك في الغداة وهي الصباح، ويفعلون ذلك مساءً وعشية، فيذكرون ربهم داعين ضارعين، يصلون الصبح، ويبقون في مجالسهم إلى شروق الشمس، ويصلون العصر، ويبقون في مجالسهم إلى غروب الشمس، داعين لله ضارعين، شاكرين له على أنعمه بأن هداهم إلى الإسلام ووفقهم لدعائه وعبادته وحده، وترك الأصنام والأنصاب والأزلام والأوثان كما كان يصنع أقوامهم.
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28]، وهم بذلك لا يقصدون من دعائهم ومن عبادتهم إلا وجه الله والدار الآخرة، ولا يريدون إلا ثواب الله، لا يريدون جزاء أو مكافأة دنيوية ولا جزاءً ولا شكوراً من أحد، ولا يريدون دنيا ولا مجاملة، ولا مراءاة، ولا شيء مما يفعله غير المخلص وغير العامر قلبه بالله وبعبادة الله وذكره.
وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28]، أي: لا تتجاوز بعينيك عنهم، ولا تتطاول بالنظر إلى غيرهم من الأغنياء والمترفين، وترى أن أولئك أولى بالمجالسة، وأولى بالمحادثة، وأولى بالمذاكرة، بل جالس هؤلاء العابدون، هؤلاء الأخيار الصالحون، المنكسرة قلوبهم لله، الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، عباد الله المخلصون في العبادة له، ولا تتجاوز عيناك عنهم، لا تنظر إلى غيرهم، ولا تهتم بالمترفين وبالمعجبين وبالتائهين، دع أولئك لدنياهم، واصبر نفسك مع هؤلاء العابدين المخلصين لله.
وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف:28]، أي: ولا تطع أولئك الذين طلبوا منك اختصاصهم بهذه المجالس وإبعاد العابدين المخلصين في دعائهم وفي عبادتهم لله وحده.
أما أولئك المترفون الذين غفل قلبهم عن ذكر الله، وعن عباد الله الصالحين فلا تطعهم وأعرض عنهم، ولا تجالسهم، ولا تخصهم بالجلوس، وإياك أن تبعد هؤلاء وتطردهم لأجل أولئك.
وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا [الكهف:28]، غفل قلبه فأغفلناه، ونسي ربه فنسيناه، لو يعلم الله في قلوبكم خيراً لآتاكم خيراً، ولأكرمكم، وفي الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله.
فهؤلاء عندما فسدت قلوبهم وغطى عليها الران، وما تركوا نبيهم عليه الصلاة والسلام والرسالة التي أنزل إليه، لم يتركوها عن جهل ولا عن عدم معرفة، ولكنهم أعرضوا عنها تكبراً وتعاظماً واستهزاءً، فدعهم واتركهم، فقد فعلوا بأنفسهم ما الله جل جلاله ودعهم إليها وتركهم.
وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا [الكهف:28]، أي: عن توحيد الله، وعن عبادة الله.
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف:28]، أي: اتبع نزواته وكفره وشهواته، واتبع ما يظنه خيراً له في دنياه، وهو لا يؤمن بالبعث ولا بالنشور ولا بالآخرة، فكان إلهه هواه، فصد عن سبيل الله، وأغفله الله وتركه.
وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، أي: كان أمره فارطاً ضائعاً ضالاً تائهاً من الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، كان أمره ضياعاً وضلالاً وفساداً، هؤلاء الذين يزعمون أنهم على شيء وليسوا على شيء، ممن جعلوا العبادة لغير الله، وممن جعلوا مع الله شريكاً، وممن اتبعوا شهواتهم ونزواتهم، وممن دعوا غير الله وأشركوا مع الله غيره، فهؤلاء كما أُمر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك وهو الأسوة والمعلم، وهو الذي جاء بالرسالة عن ربه ليبلغها لعباده.
وهو أمر لكل مؤمن ومسلم بأن يصبر نفسه مع المساكين من الصالحين والأتقياء، الذين يذكرون الله صباحاً ومساءً، وألّا يكبر في عينه المترفون والأغنياء والضائعون والمبتدعون والتابعون لأهوائهم وشهواتهم، والبعيدون عن الله في مجالسهم، وفي خلواتهم، هؤلاء الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وما هم على شيء، فقد ذهبت أيامهم ضياعاً وضلالاً، فلا تهتم بهم، ولا يهتم بهم مسلم، ولا يجعلهم المؤمن جلساء له، فإنهم يبعدون المسلم عن ربه، وينسونه ذكر ربه.
أما أولئك الذين إذا رأيتهم ذكروك بالله، والذين تتنزل الرحمات عند ذكرهم فجالسهم وعاشرهم، وهذه الآية الكريمة تحض المؤمن على عشرة الصالحين، والبعد عن المنافقين المبتدعين الضالين، وعلى ألا يكبر في عينه إلا الصالح التقي المستمسك بسنة نبيه وما كان عليه السلف الصالح، واترك ما عدا ذلك ممن اتبع هواه، وجعل دين الله شيعاً وأحزاباً، واتبع كل ناعق.
ومن هنا كان يعلمنا عليه الصلاة والسلام في الدعوات، ويقول لنا: (اللهم ارزقنا حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك)، فحب الصالحين مطلوب ومشروع أيضاً.
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
فحب الصالح يفيدك وينفعك، وعسى يوماً أن تنالك بركته، فتصبح من الصالحين كذلك.
وقديماً قيل في الحكمة: قل لي من تعاشر أقل لك من أنت.
أما أولئك التابعون لكل ناعق، المسترسلون مع كل فاشق، التاركون لنبيهم وسنتهم، التابعون لضلالات اليهود والنصارى والمنافقين والمبتدعة، فقد نهى الله عن عشرتهم، ونهانا عن مجالستهم، ونهانا عن أن نعترف بهم وبما عندهم من فساد وضلال وهوى.
يقول جل جلاله لنبينا: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [الكهف:29]، لست إلا بشيراً ونذيراً ومبلغاً من الله، والحق الذي أدعوكم إليه وأحضكم عليه، وأبعثكم له صباحاً ومساءً، فلست أنا الذي جئت به، وليس من قبلي، ولكن الحق من الله ربكم خالقكم، هو الذي أرسلني بهذا الحق ليزهق به باطلكم وباطل كل كافر، وباطل كل داعية للكفر والفساد والضلال، فما أدعوكم إليه هو من أمر الله.
أنا لست إلا رسولاً مبشراً، ولست إلا نذيراً ومبلغاً، قال تعالى: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وقال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272].
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [الكهف:29]، فالحق الذي أدعوكم إليه هو عبادة الله وحده، وترك الشركاء والأوثان والأصنام من أي نوع، فضلاً عن الأحجار والأشجار والجمادات.
وهذا تهديد ووعيد شديد، يقول الله جل جلاله لعباده بواسطة نبيه عليه الصلاة والسلام: بعد أن ظهر لكم الحق، وجاءكم به خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، بعد ظهور الحق ومعرفته بأدلته العقلية والمنطقية، فبعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فمن آمن فله الهدى والرحمة والرضا وله الجنة دائمة، ومن كفر وأشرك وعصى ربه وخالف نبيه فهو أدرى بنفسه، فليس له إلا الخزي والدمار والغضب والسعير الدائم، فطريق الجنة واضح، وطريق النار واضح، وهذه طريق الإسلام، قد بينها الله جل جلاله وشرحها، وأنزل بها كتاباً، وأرسل بها رسولاً يبينه ويوضحه، ليس فيه اعوجاج، قال عليه الصلاة والسلام: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يظل عنها إلا هالك).
فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29]، ثم قال: من كفر فهذا جزاؤه، ومن آمن فهذا جزاؤه، فقال عن الكافرين: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29]، أي: أعتدنا ناراً سعيراً محرقة، كلما نضجت جلود المعذبين فيها أعيدت ليزدادوا عذاباً، ويزدادوا هلاكاً ودماراً.
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29]، أي: أعد الله للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها، والسرادقات هي الحواجز التي تكون وراء الخيام، لكي لا يدخل ولا يخرج منها، ومعنى ذلك أن هذه النار محاطة بجدران، بين كل جدار وجدار قالوا: سبع جدران، والجدار سمكه ما يمشى فيه أربعين عاماً، بحيث لا يستطيع أحد أن يخرج منها مهما صاح ومهما ولول ومهما استغاث وبكى وتألم، وسيقال له: ألم تأتك الرسل؟ ألم تنزل على رسلك كتب دعتك لله الواحد، وأنت لا تزال في فسحة من عمرك؟
إنك لم تنتهز حياتك قبل موتك، ولا صحتك قبل مرضك، ولا شبابك قبل شيخوختك، وقد أرسل الله لك نبياً يأمرك وينهاك، ويدلك على الله، وأبيت إلا العناد والكفران والجحود، فهذا جزاء من ينكر ربه، ويشرك به، ومن يكذب نبيه ولا يؤمن به.
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29] أي: أحاط بالظالمين الكافرين، ومعنى حوطهم أي: حصرهم وحبسهم، فلا منجى ولا منفذ، فحبسوا في هذه النار، وصعدت جدرانها، وسمكت وتكررت وازدادت، بحيث لا يتصور أن يفر عنها فار، وهو خالد فيها سرمداً تحت العذاب والآلام، لا يكاد ينضج منه بدن، إلا ويعوض بدناً آخر وهكذا دواليك، أبد الآبدين ودهر الداهرين.
عندما لم يجد أهل النار مخرجاً ولا منفذاً ولا مهرباً، أخذوا يستغيثون أي: يطلبون الغوث، صاحوا في الملائكة: أغيثونا؛ فقد اشتد عطشهم، واشتدت آلامهم، واشتد جوعهم.
قال تعالى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، أعاذنا الله منها، وأبعدنا عنها، وثبتنا على عبادته وتوحيده، والموت على دينه.
فالحبس محيط بهم من كل جانب فاستغاثوا وطلبوا الغوث والرحمة، وقد أصابهم العطش، وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ، طلبوا الماء، فاحترقت منهم الأجواف، وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29]، والمهل هو الصديد والدم والقيح، وهو سائل ثقيل كعكر الزيت.
أراد ابن مسعود أن يمثل هذا المهل، فجاء بذهب ووضعه تحت النار إلى أن ذاب وأخذ يقطره، وهو ينزل ثقيلاً قطرة قطرة، قال: هكذا المهل، ماء ثقيل يشربون ولا يغيثهم، بل إذا دخل أجوافهم، مزق أمعاءهم، وزادها حرقة، وآلاماً ووجعاً، وهو ماء ثقيل من ماء الصديد، من الدم، من القيح، من كل أنواع من البلاء، مضاف إلى أنه كالنار بل أشد، فهو نار، فيشربونه بهذه الحالة، فيشوي الوجوه لمجرد قربه إلى الوجه، يشوي ويزيل فروة الوجه، نسأل الله اللطف والسلامة، فكيف به إذا دخلت جوفه ودخلت أمعاءه.
يا ما أبأس شراباً كهذا، يا ما أقبحه، يا بؤس وذل وهوان من يشربه ويضطر إليه! وهو طالبه لنفسه، محاطٌ بسرادق، يغلق عليه النار ويحبسه فيها، ثم يستغيث فلا يغاث، وإن أغيث أغيث بهذا الماء، الذي هو خلاصة الدماء، وخلاصة القيح والصديد، قيل: ذلك القيح والصديد الذي ينزل من فروج الزواني والفاجرات.
بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، أي: ساءت النار مرتفقاً يرتفق بها، ومنزلاً يؤوي إليه، ومكاناً يحتاج له ولا مفر، فهي المأوى إلى الأبد، وهي مكان مرفقهم، وهي مكان مجتمعهم، وهي دارهم الخالدة المؤبدة، التي لا مفر لهم عنها.
هذا للظالمين المشركين، أما الذين دخلوا تأديباً لعصيانهم، فهؤلاء مهما دخلوا وقعدوا فيها، فإنهم لن يخلدوا فيها ولن يبقى في النار أحد يقول: لا إله إلا الله، ولن يخلد في النار أحد يعلم أنه لا إله إلا الله، والله جل جلاله يأذن بالشفاعة العظمى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويأذن لغيره من الأنبياء والصالحين والعلماء والملائكة بالشفاعة، ومع ذلك فالمذهب الحق ثبوت كل الشفاعات، فقد يشفع للمسلم ويعفى عنه ولا يدخل النار ألبتة، ومن أولئك سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وهناك من يدخل ويشفع فيه ويخرج، وهناك من يدخل ويطول مقامه ثم يخرج ويدخل الجنة، ويقال لهم: الجهنميون، فتبقى على جباههم وعلى وجوههم آثار سوداء من شدة الحريق والآلام، ولكنهم بعد دخول الجنة وطول المقام بها، يستغيثون ربهم أن يرفع عنهم هذه العلامة، فهم قد تألموا من أن يقال لهم الجهنميون، فيستجيب الله لهم ويزيلها عنهم، ويصبحون كغيرهم ممن سبقوا إلى الجنان.
فهذه صفة المشركين الظالمين عندما تهددهم الله وأوعدهم، وعندما قال لنبيه فليقل لهم: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، إلا أنه من كفر فهذا جزاؤه.
أي: إن الذين آمنوا بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوة، ثم أتبع الإيمان بعمل الصالحات، فالإيمان عقد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، وهذه الجوارح بها نصلي، وبها نصوم، وبها نزكي، وبها نحج، وهذه هي الصالحات.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الكهف:30] أي: آمنوا بالله قولاً وجناناً، ويعملون بمقتضى الإيمان، فيصلون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان، ويؤدون زكاة مالهم، ويحجون بيت الله الحرام مرة في العمر، ويتركون السيئة البتة، ويعملون من الصالحات ما في قدرتهم، والضابط في ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، أي: ما في قدرتكم وطاقتكم، فأمرنا بالصلاة قياماً، وإن عجزنا صلينا قعوداً، وأمرنا أن يكون الوضوء بالماء، وإن عجزنا عن الماء أو فقدناه ننتقل للتيمم بالصعيد الطاهر، وهكذا ما عجزنا عنه ننتقل لما شرع لنا عند الأعذار.
أما السيئات كالزنا والشح والربا والسرقة والاشتغال بأعراض الناس، والغيبة والنميمة، وما إلى ذلك مما أمرنا بتركه فيجب أن نتركه البتة.
وقوله: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:30] هذه جملة معترضة، أما جواب (إِنَّ الَّذِينَ) فهي الآية التالية: أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [الكهف:31]، وتقدير الكلام: أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار إنها لا نضيع أجر من أحسن عملاً، بمعنى: أنه مع هذا المقام لا نضيع أجر من أحسن العمل، وإحسان العمل إخلاصه، فتكون عبادتك لله، لا تريد بها لا رياء ولا تسميعاً، ولا تريد بها أحداً من الناس البتة.
وأما من جعل عملاً من أعماله يريد به زيداً من الناس فذلك الشرك الخفي، وعبادته يضرب بها على وجهه، ولا بد أن تكون العبادة خالصة لله، قال تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3]، فلا بد أن يكون الدين خالصاً لله، لا تشرك معه فيه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولا غيرهما.
يحكى أن هارون الرشيد كان في بعض لياليه التي كان يسرف فيها على نفسه، فنازعته إحدى جواريه فقالت له: أأنت خليفة المسلمين؟ والله! لن تدخل الجنة، فقال لها: لي جنتان، وسأدخل الجنتين وأقسم لها بالطلاق، فبعد أن قال هذا إذا به أخذ يفكر ما الذي صنع، وكيف يحلف على غيب لا يعلمه إلا الله، وكان الوقت في منتصف الليل، فأرسل خلف أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، فجاء منزعجاً لأن هذه الأوقات لا يدعى فيها إلا من يراد تأديبه، فدخل عليه، فقال: أفتني يا أبا يوسف: الجارية الفلانية قالت لي: لن ترى الجنة، أأنت الذي تزعم أنك خليفة المسلمين؟ فأقسمت لها بالطلاق إني سأدخل الجنتين، فقال له: إني سائلك يا أمير المسلمين! قال: اسأل، قال: وتحلف لي بالله، فتردد هارون ، قال: إما أن تفعل وإما أن لا جواب عندي، فقال: أقسم، قال: هل تخاف الله؟ قال: نعم، قال: احلف، قال: والله إني لأخاف الله، فقال: أبشر، فالله تعالى يقول: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، فسُرَّ هارون. والكلام أولاً كان مزاحاً فأصبح جداً.
والمؤمن يرجو الله في كل الأوقات، وإن كان لا بد أن يكون بين الخوف والرجاء، فتارة يخاف العذاب والعقوبة، وتارة يطمع في الرحمة.
قوله: أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [الكهف:31] والعدن أي: الإقامة الدائمة الخالدة، أي: جنة الإقامة الدائمة، وليست جنة واحدة، فالمؤمن يستحق الجنان، فيتنقل في منازل الجنة وفي درجاتها، فينزل لما هو أدنى ولا يصعد لما هو أعلى، ولكن المحب المتعلق قد يصعده حبه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب)، والفردوس منزلة الأنبياء والمرسلين، وهي أعلى درجات الجنان.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [الكهف:31]، فأنهار الجنة تجري يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً، إلى ما يتصور الإنسان من لذائذ ومتع تتمتع بها العين، وتستمتع بها الأذن والبشرة، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وهي كما قال الله جل جلاله: فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ [الزخرف:71].
قال تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:31].
يقول جل جلاله: المنعمون من أهل الجنة، وهم الذين آمنوا بالله رباً وبنبيه محمد عبداً ورسولاً لهم الجنان، يمتعون بما فيها من حواسهم، فهم يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف:31]، أي: يلبسون فيها الأساور التي حرمت في الدنيا فإنها تحل لهم في الآخرة.
والذهب حرام على ذكور الأمة المحمدية، حلال لإناثها، وفي الآخرة يلبسونها، ويلبسون ثياباً من سندس خضر، وقديماً قالوا عن الخضرة ما قالوا، وبأن النظر إلى المياه المتدفقة وإلى الخضرة اليانعة، وإلى مايسر العين تزيد في صحة البصر، وتزيد من قوة النفس، وألبسة أهل الجنة الخضرة من سندس وإستبرق، والسندس رقاق الألبسة، وما يلبس عادة قمصاناً وما إليه من الألبسة الداخلية، فهي الألبسة الشفافة، وهي من حرير منسوج بالذهب واللؤلؤ وما إلى ذلك مما لا يخدش ولا يؤذي البدن.
أما الإستبرق فهي الأثواب الخارجية من الحرير ذي الذهب وذي الفضة، وذي اللآلئ على أشكال وألوان.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: كل ما ورد في الجنة من نعيم مأكول أو ملبوس أو مشروب أو منظور ليس من الدنيا فيه إلا الأسماء، وأما الذي في الآخرة فالله أعلم بشكله.
مع اليقين أن المتعة في الجنة تكون بالأجسام والأرواح، ومن أنكر ذلك فهو كافر حلال الدم، أي أن من قال: إن البعث لا يكون إلا بالأرواح، والتمتع لا يكون إلا بالأرواح، والعذاب لا يكون إلا على الأرواح، فلا يقول ذلك إلا أهل الكفر من أهل الكتابين، ويقول ذلك بعض المبتدعة ممن ضل وأضل وارتد.
فالبعث يكون بالأجسام وبالأرواح، والمتعة كذلك، لكن عندما نرى النبي عليه الصلاة والسلام يقول لنا: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت)، فلو أردنا أن نقيس ما في الجنة من نعيم على ما في الدنيا، لوجدنا أن الله قد ذكر الموز ونحن رأينا الموز في الدنيا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (فيها ما لا عين رأت)، وفيها الحور العين مع أشباههن، فنحن رأينا النساء في الأرض، ورأينا الجمال في ذروته، ومع ذلك يقول لنا نبي الله عليه الصلاة والسلام: (فيها ما لم تر عينك، ولا سمعت أذنك، ولا خطر على قلب بشر).
لكن الله جل جلاله يقول: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ [الزخرف:71]، إذاً كما قال ابن عباس : كل ما ذكر من نعيم في الآخرة من نساء، ومن طعام، ومن شراب ليس فيه ما يشبه الدنيا إلا بالأسماء، أما غير ذلك فالله أعلم بحقيقته، وهذا يؤكده القول النبوي الصحيح في الصحاح: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت)، ومعناه أن كل ما سنرى في الجنة بفضل الله وكرمه ورحمته لم تره أعيننا في الدنيا، ولم تسمعه آذاننا في الدنيا، ولم تتخيله ولم تتصوره خواطرنا وخيالاتنا.
وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ [الكهف:31]، الأرائك جمع أريكة، وهي المقاعد المرتفعة ذات الصوف والقطن والحرير.
قال تعالى: نِعْمَ الثَّوَابُ [الكهف:31] أي: هذا اللباس الأخضر، وهذا الدمقس الحرير، والسندس، وهذا الديباج على أشكال، هو نعم الثواب.
والإستبرق في الدنيا له أسماء، فيكون السندس ثياباً حريرية شفافة تلبس قمصاناً وأثواباً داخلية، ويكون الإستبرق ثياباً حريرية ديباجية غليظة، ويكون ألبسة خارجية، ومعنى ذلك أن الألبسة الداخلية والخارجية في الجنة هي من أعلى أنواع ما يتمتع به الإنسان مما لا يخطر ببالك في الدنيا.
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ [الكهف:31] أي: يجلسون في قصورهم، وفي جنانهم على الأرائك وهي: الفرش الواسعة المرتفعة التي يتمتع بها الإنسان في دنياه، فمهما غلت، ومهما أترفت، ومهما تكن، فما في الدنيا مما في الآخرة إلا ما يشبهه بالأسماء.
قالوا: والأريكة هي سرير تحت الحجلة، كما يسمى اليوم الناموسية، فهي أسرة وعليها أغطية تغطي الإنسان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر