في هذه الآيات يذكر الله تعالى بعض أنبيائه وهو نبي الله زكريا، فقد دعا ربه أن يرزقه الولد الصالح، مع أنه قد بلغ العتي من العمر، وكانت امرأته عاقراً، فاستجاب الله تعالى دعاءه ورزقه يحيى ليرث عنه العلم وكلمة النبوة.
قال الله تعالى:
كهيعص 
[مريم:1].
هذه سورة مريم الصديقة أم عيسى عليه السلام، وهي سورة مكية، آياتها ثمان وتسعون آية، وعندما ذهب قوم من المسلمين بإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين إلى الحبشة بدينهم؛ فراراً من قهر الكفار لهم، ومن الضغط عليهم، بقيادة جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخي علي رضي الله عنهما، بعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد - وكان عمرو لم يسلم بعد - يطلبان من النجاشي أن يسلمهما هذه الفئة التي خرجت عن دين قومها، فقال عمرو للنجاشي : إن هؤلاء يدينون بدين جديد أتى به محمد بن عبد الله بن عبد المطلب في أرض مكة، ويقول عن ربك: ليس برب وإنما هو عبد، يعني: عيسى ابن مريم، فجمع النجاشي جعفراً والذين جاءوا معه من المهاجرين من مكة إليه فسألهم، فقال لهم: ما الذي أتى به هذا الذي يقول: إنه نبي؟ قال: يدعو إلى عبادة الله الواحد، وإلى أن عيسى عبد الله وابن الصديقة مريم ، وإلى أن موسى نبي الله ورسوله، وأنه من أولي العزم من الرسل، وأن الله أنزل على أنبيائه السابقين كتباً وصحائف، وقد أنزل منها التوراة على موسى والإنجيل على عيسى، ثم قرأ عليه من سورة مريم ما يتعلق بالسيدة مريم .
وإذا بـالنجاشي يقول: إن هذا الذي تتلوه والذي جاء به عيسى لمن مشكاة واحدة، وطرد هذين اللذين أتياه رسولين عن كفار قريش، ورد عليهما هديتهما.
قال تعالى:
كهيعص 
[مريم:1]، اختلف المفسرون في معنى الحروف المقطعة، فقال قوم: كل حرف يدل على اسم من أسماء الله، فالكاف هنا بمعنى: يا كريم! أو يا كافي! والياء بمعنى: يا بديع! والهاء هو الله جل جلاله، وهكذا.
وقال قوم: لكل حرف من هذه الحروف المقطعة عدد من الأعداد يستخرج به معنى من المعاني، وقد قيل هذا فهماً عن صحابة وتابعين، واختلفوا فيه كثيراً، ولم يثبت ذلك في آية من كتاب الله ولا في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أعجز الله البشر والخلق كلهم ملائكة وإنساً وجناً عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بسورة منه أو بآية، والتعجيز لا يزال قائماً منذ 1400 عام، وما زادت الأيام ومضي القرون هذا التعجيز إلا تأكيداً ويقيناً وقطعاً، فطوال هذه القرون لم يستطع أحد أن يأتي بمثل هذا القرآن لا سورة ولا آية، وسيبقى ذلك -على كثرة الكفار والملاحدة- المعجزة الدائمة المستمرة إلى يوم القيامة.
ولعل قائلاً أن يقول: كيف هذا الإعجاز؟ ومن أي شيء القرآن؟ أليس عربياً والعربية يعلمها عشرات الملايين من العرب ومن غيرهم؟
فنقول: هو كذلك، ومع هذا أعجز كل هؤلاء فلم يستطيعوا أن يأتوا بشيء مثله أبداً، ومن هنا كان الإعجاز، أي: عجزوا واعترفوا بعجزهم بأن كلام الله لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو بشبيهه أو بقريب منه. يقول الزمخشري وتحمس لقوله أكثر المفسرين في عصرنا علماً وبياناً ويقيناً وأكدوه بالأدلة التي لا ترد: إن هذا القرآن الكريم صنع الله، تكلم الله به، وأوحى به إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وهو من حروف الهجاء العربية، وعليها كانت بنيته، وعليها قام قيامه، وعليها كان كتاباً جامعاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومع ذلك إن استطعتم أن تؤلفوا من هذه الحروف سورة أو آية فافعلوا، وقد حاول بعض الكفرة كـالمتنبي الكذاب ومسيلمة الكذاب وغيرهما ذلك، فما أتوا إلا بالباطل من القول، والهراء والغث مما لا تكاد تقبله أذن.
قال تعالى:
كهيعص *
ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا 
[مريم:1-2].
تقدير الكلام: ذكر الله وذكر ربك عبده زكريا برحمته، أي: هذا اشتمل على ذكر الله رب زكريا لعبده زكريا برحمة منه، حيث استجاب دعاءه، وحقق طلبه، ورزقه الولد على عقر زوجته وكبر سنه، وعلى اشتعال رأسه شيباً، وعلى وهن عظمه، وعلى ذهاب أكثر ما يمكن أن يطمع فيه بالولد.
ولقد رحم الله عبده زكريا بأن استجاب دعاءه ورزقه الولد على كبر منه، وعلى عقر امرأته وكبر منها كذلك.
قال تعالى:
ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا
أي: في هذه السورة ذكر الله رب زكريا عبدَه زكريا؛ رحمة منه ورضي عليه بأن حقق طلبه، وأجاب رغبته، فاستجاب لدعائه الخفي.
وقد قرئ زكرياء بالمد وبالقصر، والقراءتان سبعيتان متواترتان، وزكريا أحد عظماء أنبياء ورسل بني إسرائيل، وكان من أعاظم أنبيائهم طاعة ووحياً وإشرافاً على التوراة، وعملاً بها، وتحقيقاً لأحكامها، ونشراً لها، ودعوة إلى الله في السر والعلن، وفي الصبا والشيخوخة.
قال تعالى:
ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا
[مريم:2-3].
أي: كانت الرحمة عندما نادى زكريا ربه نداء خفياً سراً في آخر الليل، حيث رفع يديه لله قائلاً: يا رب! وهو يضرع إليه ويكتم دعوته؛ إما لأن الدعاء كان في الليل في الثلث الأخير من الليل، حيث (ينزل الله جل جلاله إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من داع فاستجيب له، هل من مظلوم فأنصره..) ، إلى آخر الحديث المتواتر القدسي، أو دعا ربه دعاء أخفاه عن قومه وعن أتباعه؛ خوف أن يكون في هذا الطلب رعونة وشيء لا يليق بمثل زكريا في سنه أن يطلبه، إذ العادة تأبى ذلك، وقد رفع زكريا يديه ضارعاً لله، سائلاً له، راغباً في تحقيق طلبه ورغبته، بأن يكرمه بغلام يرثه ويرث نبوة آل يعقوب.
وكان عندما طلب الولد - كما قال عن نفسه - قد انتشر الشيب فيه، والشيخوخة ظاهرة عليه، وقد رق عظمه، وأضعفت الشيخوخة باطنه، وكانت امرأته على كبر سنها عاقراً لا تلد، ومع كل هذا لم ييأس من ربه ومن دعوته ومن تحقيق الولد رحمة من الله له. قال تعالى:
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا
[مريم:3-4] أي: كان الذي قاله ونادى به ربه وضرع إليه أن قال: رب إني أدعوك لشيء أرجو تحقيقه ونواله على ما بي من هذه الحال، فأنت القادر على كل شيء، فامرأتي عاقر، والعاقر: هي التي لا تلد وهي صغيرة، ومن باب أولى إن كانت كبيرة، وقد رق حالي، فقد سقطت أسناني، ولصقت عظامي بجلدي، والشحم قد ذاب، واللحم أصبح هشاً، ومع هذا قد اشتعل رأسي شيباً، وأصبح مشتعلاً مضيئاً كما تضيء النار والأضواء؛ لكثرة الشيب، ولكثرة بياضه، وغلبته على السواد من شعره، فقوله تعالى:
رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي
أي: رق وضعف، وسقطت الأنياب، وزالت الأسنان، وأصبحت العظام لا تكاد تحمل الجسد إلا بمشقة، ولا تتحمله الرجلان إلا برجل ثالثه من عصا يتكئ عليها أو إنسان يعتمد على عاتقه، وأنا مع هذا السن والشيخوخة الفانية فإن امرأتي عاقر من الأصل لا تلد.
فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا
[مريم:5] أي: أكرمني بولد يتولاني من بعدي، ويحمل اسمي وعلمي ونبوتي وعملي في الدعوة إلى الله.