الكفار إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم اتخدوه هزواً وتآمروا بأنه الذي يذكر آلهتهم بالسوء، فيهددهم الله بما سيصيبهم من العذاب إن استمروا على ذلك، ويذكر أنه قد استهزئ بالرسل من قبل فحاق بالمستهزئين العذاب.
قال تعالى:
خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ 
[الأنبياء:37].
هؤلاء يقولون: أين هذا الذي ذكرت يا محمد من نزول الصواعق، والغلبة، والعقاب، ومن الذل والهوان الذي ينزل علينا؟ إن كان هذا حقاً فعجل به، فقال الله عنهم:
خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ
[الأنبياء:37] أي: الإنسان جبل على العجلة والتسرع، لا يريد أن يهدأ وينتظر ويفكر فيما هو عليه أحق هو أو باطل؟ قبل أن يطلب لنفسه العذاب، ويستعجل العقوبة، فلا يفلت منها إذا جاءت، ولا يردها عنه راد.
وقالوا هنا: إن أبانا آدم عليه السلام عندما خلقه الله، ونفخ فيه من روحه، جاءت الروح من رأسه، فوصلت عينيه ففتحهما، فوصلت إلى فيه فنطق، فوصلت إلى جوفه، فشعر بالشهوة، ورأت عيناه الثمر، وتكلم لسانه يطلبها، واشتهى ذوقه وبطنه أن يأكل من هذه الثمرة، فحاول أن يقف ليجنيها ويأخذها بيده، وإذا به يقع؛ لأن الروح لم تصل بعد إلى رجليه، ليستطيع القيام، فكانت هذه هي العجلة التي وصف بها، وأصبحت صفة لازمة للإنسان، قيل هذا، ولم ينسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يؤكده؛ لكنه نقل عن بعض التابعين، وهذا أشبه ما يكون بالإسرائيليات.
والقرآن نزل بلغة العرب، ومن عادة العرب أن تقول لمن أكثر من شيء وبالغ فيه: فلان خلق من الغضب، أي: كثير الغضب مثلاً، فلان خلق من عجل، أي: كثير العجلة، وكان الإنسان عجولاً.
وما أكثر عجلة الإنسان وعدم تأنيه إلى أن يستوعب الأمور ويتدبرها! ومن هنا جاء في الآثار النبوية: (التأني من الرحمن والعجلة من الشيطان) والعجلة قلما تأتي بخير.
فقوله:
خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ
[الأنبياء:37] أي: ما أكثر عجلته، وعدم تأنيه! والإنسان لولا الوحي والرسل، ولولا الكتب السماوية لكان وحشاً ضارياً، وهذا ما أكده القرآن عندما قال:
وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ
[العصر:1-2]، أي: أن الإنسان خاسر هالك إلا من استثناه الله، فقال:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
[العصر:3].
الإنسان غير الخاسر هو من آمن، وأتى بعد الإيمان بالصالحات، وأتى بعد العمل بالصالحات: الأمر بالمعروف، والتواصي على الحق، ويأتي بعد ذلك في الدرجة العليا: الصبر على ما يصيب الداعية إلى الله عندما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ
[الأنبياء:37] أي: لا تستعجلوا لهؤلاء الكفار سيريهم الله آيته وقدرته، وعقابه وانتقامه، دون أن يستعجل فهو آت لا محالة، قال تعالى:
أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ
[هود:81].
في هذه الحالة والنبي صلى الله عليه وسلم يعظهم على كفرهم، ويأمرهم بعدم العجلة، وأن عقاب الله لمن أقام على الكفر، واستمر عليه، فيأتيه لا محالة، ستأتيه قدرته وعقوبته؛ لكفره واستهزائه بسيد البشر صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
يقول تعالى:
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ 
[الأنبياء:38].
أي: يقولون للنبي صلوات الله عليه ولأتباعه من المسلمين متحدين مكذبين معاندين، يقولون: إن كنت يا محمد رسولاً حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب من ربك، لم يطلبوا العفو، ولم يطلبوا اليقين، ولم يطلبوا أن يشرح الله نفوسهم وقلوبهم للتمييز بين الحق والباطل، ولكنهم عجلوا وبادروا في طلب العقوبة.
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ
[الأنبياء:38] أي: متى هذا الوعد بالهلاك؟! متى هذا الوعيد بما زعمت يا محمد؟ ويا أتباع محمد! ائتونا بهذا إن كنتم صادقين، إن كنتم مؤمنين حقاً بنبيكم وإلهكم فاطلبوه أن ينزل على الكفار -على هؤلاء المستعجلين- عذاباً ونقمة وعقوبة.
وقد فعل الله ذلك بهم أما في الدنيا فعوقبوا يوم بدر عقوبة مدمرة مهلكة، قتل فيها زعماؤهم، وأسر فيها سادتهم وكبراؤهم، وشرد الجيش ودمر، وقطع شذر مذر بما كان سبب الفتح أخيراً، وخروجهم من مكة، أو خضوعهم للإسلام صاغرين، وهم من يسمون مطلقة الفتح، أي: الذين عندما جمعهم صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقال لهم: (يا معشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم! وابن أخ كريم! قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).
وما أكرم العفو بعد المقدرة! وهكذا فعل صلى الله عليه وسلم، ومنهم من حسن إسلامه، ومنهم مع الأيام من صار عظيماً فاتحاً، بقي مدة حياته يستغفر الله على عناده السابق، ومنهم من فر وقتل أو مات على الكفر.
أما هؤلاء المستهزئون أمثال أبي جهل وأبي لهب وأضرابهما، فقد قال الله لنبيه:
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
[الحجر:95].
وقال ابن تيمية : ما من أحد عرف بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم -سواء في حياته، أو بعد مماته، أو على مدى العصور- إلا وعوقب بسوء الخاتمة، وبالهوان والذل في الدنيا، والموت على الكفر، والذهاب إلى جهنم خالداً مخلداً، وهكذا فسر قوله تعالى:
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
[الحجر:95].
وحكى بذلك أمثالاً شاهدها، وأمثالاً رواها، وقصصاً عاشرها وعايشها.
وَيَقُولُونَ
[الأنبياء:38]: أي: يقول هؤلاء الكفار مستهزئون ومستعجلون:
مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ
[الأنبياء:38].
إن كنتم يا معاشر المسلمين، فيما تروون عن ربكم، وتروون عن نبيكم، وأن الله القادر على كل شيء، وأن النبي المحبوب لربه لينتقم له من أعدائه، فأين هذا الذي ذكرتم؟ استعجلوا العقوبة، ومع الأيام قد حلت، ودمرت وأهلكت.
قال تعالى:
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ 
[الأنبياء:39].
قوله: (لو يعلم الذين كفروا) الجواب محذوف للعلم به، أي: لآمنوا، لأسلموا، لتابوا، أي: لندموا على ما هم عليه من شرك، وبادروا إلى التوبة والتوحيد الإيمان.
أي: لو يعلمون عندما يدخلون النار، ويعاقبون، وتلفحهم في وجوههم، وتتبعهم من ظهورهم، وسياط ملائكة النار خلفهم، لو يرون العذاب ذلك الحين وهم لا يستطيعون كفاً ولا دفعاً، (ولا ينصرون) فلا يجدون من ينصرهم من ربهم، فلا تنفعهم آلهتهم المزيفة الباطلة، إنه يوم لا يجدون إلا أنفسهم مع العقاب والعذاب الذي أوعدوا به.
يقول تعالى:
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
[الأنبياء:39] أي: لو يعلمون هذه الحالة، وبؤسها وألمها، وإيجاعها، لو يعلمون حين لا يكفون عن وجوههم النار، لو يعلمون عندما تلفحهم النار وتحرقهم، ويعذبون فيها، وهم لا يستطيعون ردها ولا دفعها، ولا يستطيعون أن يوقفوا لظاها، ولا عذابها، ولا يوقفوا نارها عن وجوههم ولا عن ظهورهم، حينما تحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم.
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
[الأنبياء:39] لا يجدون ناصراً، ولا معيناً ومؤازراً.
وجواب قوله: (لو يعلمون) هو: لما ارتدوا ولما كفروا، ولما استعجلوا العذاب، وحذف للعلم به، كما يقول ابن مالك في ألفيته النحوية:
وحذف ما يعلم جائز.
أي: ما يعلم من مضمون الكلام، وهو من البلاغة، والقرآن مليء بذلك.
قال تعالى إضراباً عن الكلام السابق:
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ 
[الأنبياء:40].
(بل) حرف إضراب عن الماضي، عن هؤلاء الذين استهزءوا، وعن هؤلاء الذين لم يفكروا ويغتنموا فرصة حياتهم فيتوبوا إلى الله، ويعودوا للإيمان والطاعة، دعك من كل ذلك، فلم ينفعهم، ولم ينتهزوا شبابهم قبل شيخوختهم، ولا حياتهم قبل مماتهم، وبقوا هكذا إلى أن أحاط بهم عذاب الله وعقوبته ونقمته.
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ
[الأنبياء:40] تأتيهم العقوبة.. تأتيهم النار.. يأتيهم عذاب الله.. يأتيهم ما استعجلوا به من العذاب والنقمة بغتة وفجأة، قد يأتيهم وهم نائمون، وقد يأتيهم وهم ضاحكون، وقد يأتيهم على حالة لا يكادون يتصورون وجود ذلك فيها، فتبهتهم، فيصبحون حيارى تائهين زائغي العيون، ضائعي النفوس، وهكذا كمن أصيب بمس، فلم يعرف ما يقدم ولا ما يؤخر.
قوله:
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ
[الأنبياء:40] أي: تحيرهم، وتذهلهم.
قوله:
فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا
[الأنبياء:40] أي: فلا يستطيعون رد العذاب والعقوبة، ورد النقمة ودفعها وكفها عنهم.
قوله:
وَلا هُمْ يُنظَرُونَ
[الأنبياء:40] أي: لا يتربص بهم، ولا ينتظر بهم وقتاً آخر لعلهم يرجعون؛ لأنهم قد مضت المدة التي سمى الله مع نفسه، وأرجعه فيها، وأمهله فيها، فلم ينتفعوا بها، وحينما تأتيهم -ويصبحون في العذاب- لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً.