الأرض أرض الله والملك ملكه، وقد كتب أن الأرض لعباده الصالحين، وقد أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، يدعو إلى التوحيد ويحذر من الشرك بالله، وينذر الكافرين العقوبة.
قال تعالى:
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ 
[الأنبياء:106].
أي: إن في هذا القرآن الموحى به لمحمد خاتم الأنبياء وسيد الرسل صلوات الله وسلامه عليه لبلغة تكفي من يؤمن به، فمن آمن بالقرآن كفاه، ومن عمل بما في القرآن بلغه المقصود من عز الدنيا وعز الآخرة، ومن سيادة الدنيا ورحمة الله في الدنيا والآخرة.
قوله:
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ
[الأنبياء:106]، أي: خاشعين لله لا يعبدون معه غيره، يؤمنون به كما أراد وأوحى به إلى نبينا مما أمرنا به من صلوات وحج وصيام، ومن الأركان، ومما علمناه القرآن ونبينا عليه الصلاة والسلام.
ثم قال تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ 
[الأنبياء:107].
أي: يا محمد! ما كانت رسالتك إلا رحمة لكل الناس برها وفاجرها، مؤمنها وكافرها.
وقد استشكل قوم فقالوا: نبينا رحمة للمؤمن، فكيف هو رحمة للكافر وهو الذي أنذر وهدده بالنار خالداً مخالداً إذا دام على كفره ومات عليه؟
والجواب بين واضح: النبي رحمة للكافر قبل أن يكون رحمة للمؤمن؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتنى به ودعاه، وبلغه رسالته، وأنذره عذاب الله وبشره برحمته، أتعب نفسه التعب الكبير ليؤمن، حمله كفار قريش ما لم تحمله الجبال الرواسي من عناد، وشتيمة، وهجران، وإسالة دماء، وكسر أسنان، ومؤامرات، وتألب عليه بكل الأشكال، وهو مع كل ذلك يدعوهم، وعندما يقال له: ادع على أعدائك، يقول: لم أرسل سباباً، ولا لعاناً، ولكني أرسلت رحمة للعالمين.
ومن هنا يقول الله له:
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
[التوبة:128]، أي: كان صعباً على نفسه وعزيزاً عليها أن يتعنت قومه فلا يؤمنون، فكان رحمة لهم حيث دعاهم إلى الله، ورحمة لهم بما أرجأهم من عذاب مدة حياتهم؛ لعلهم يوماً يعودون إلى الله ويقولون: ربي الله، ويتوبون.
فهو رحمة لهم بإرساله لكل الناس الكافرين والمؤمنين، عندما أرسل كان أول من آمن به خديجة ، ثم أبو بكر ، ثم علي رضي الله عن الثلاثة، وصلوات الله على نبينا وسلامه.
من كرامة الله لرسوله أنه أوقف ما كان يعاقب به الأمم السابقة من خسف وقذف بالحجارة والصواعق، ومن مسخ إلى قردة وخنازير، فالأمة المحمدية لا تخسف بها الأرض، ولا تقذف بالحجارة من السماء، ولا تمسخ قردة ولا خنازير، وتبقى على حياتها وقد ترزق وقد رزقت، وقد تستغني وقد استغنت، وأرجئت في العذاب والمحنة إلى ساعة الغرغره، فإذا أناب وتاب ولو قبل الموت وقبل وصول الروح إلى الغرغرة فإن الله يقبل توبته.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا رحمة مهداة) وكفى في ذلك قول الله:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ
[الأنبياء:107]، أي: لجميع العوالم منذ إرساله للعرب والعجم، للمشارق والمغارب، للبر والفاجر، للمؤمن والكافر، وما جزاء من يكون هكذا إلا أن يحب، وأن تدام الصلاة عليه، وأن يتبع ويجعل مثالاً وأسوة وقدوة صلوات الله وسلامه عليه ما دام الليل والنهار، وجزاه الله عنا أحسن الجزاء، وحشرنا تحت لوائه يوم القيامة.
قال تعالى:
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ 
[الأنبياء:110].
أي: يا هؤلاء الذين تمردوا على ربهم، إن الله يعلم ما تجهرون به من القول، وتصدون به الناس عن الإيمان، وتجهرون به لنبيكم من كفر وعصيان، ومخالفة ومواجهة ومجابهة.
قوله:
ويعلم ما تكتمون
، أي: يعلم ما تكتمونه في أنفسكم من تآمر ورغبة في قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل أصحابه، وطردهم من مكة وعقوبتهم.
وسبب هذه الآية كفار عصره، ثم أصبحت للعموم، يخاطب بها كل كافر كما يخاطب بها كل مؤمن، فمن كفر قبل أو بعد وفي عصرنا أو بعده كل ما ورد في القرآن عن الكفار فهو مخاطب به، ومن سيأتي بعدنا.