يقص الله جل جلاله علينا قصة نوح لنعتبر بما فيها من حكم وأمثال، ومن تشابه بين الكفر قديماً وحديثاً، وما جعله الله عقوبة ونقمة من المكذبين للرسل والمشركين بالله، فقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أرسل نوحاً إلى قومه؛ ليبلغ عنه، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويرشدهم إلى عبادة الله، ويأمرهم بترك الأوثان والشرك بالله، وليتحلوا بالأخلاق الفاضلة في ظواهرهم وبواطنهم، ويكونوا مسلمين أنفسهم وعقائدهم وحياتهم لله الخالق الرازق.
وقد كان الرسل قبل يرسلون إلى أقوامهم وإلى عشائرهم فقط، وما أرسل للناس كافة بشيراً ونذيراً حال حياته وبعد حياته إلى يوم القيامة إلا نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه، فليست هناك ديانة عالمية إلا دين الإسلام، وليس هناك رسول عالمي إلا محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، ونوح جاء بعد إدريس وآدم، وزعموا أن بينه وبين آدم ألف عام، والقطع بذلك الزمن الذي بينهما لا يتأتى، ولكنه كان أقرب الرسل إلى آدم، فما بينه وبينه إلا إدريس عليهم وعلى نبينا جميعاً السلام.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ أي: امتثل نوح وأطاع وذهب يبشر وينذر قومه، فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فقام نوح منذراً ومبشراً، مبشراً للمؤمنين إن هم آمنوا ووحدوا وتركوا الشرك والأوثان أن لهم الجنة، وبشرهم بأن الله يرضى عنهم ويرحمهم، وأنذر المشركين إن هم استمروا على الشرك والكفر بغضب الله وسعيره.
فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ دعاهم إلى عبادة الله الواحد لا إله إلا هو، ولا معبود بحق سواه.
فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ألا تتقون الله وتجعلون وقاية بينكم وبين عذابه ونقمته وتأديبه: فتؤمنون بالله الواحد، وتتركون عبادة الأصنام والأوثان، فكل ذلك ضلال وباطل ما أنزل الله به من سلطان؟
فقام قومه مكذبين ومشركين ومصرين يقولون ويتنادرون مع بعضهم: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وكلهم قد كفر إلا قليل منهم مع كونه ظل في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعوهم إلى الله الواحد، فقال الكفار من قومه: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وتصوروا بعقلهم السخيف وشركهم الضائع الضال أن البشر لن يكون نبياً ولن يكون رسولاً! فجعلوا من حججهم ومن دلائلهم على تكذيب نبيهم نوح أنه بشر.
مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي: إنما يريد بكذبه -وحاشاه من ذلك- أن يكون أفضلهم، وأن يكون المتبوع لا التابع، وأن يتظاهر عليهم بالرفعة والسؤدد، وهكذا عقول الكافرين تملي عليهم هذا الشيء في الزمان القديم، ولا يزال هذا إلى عصرنا.
يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً أي: لو شاء الله حقاً عبادته، ولو شاء الله حقاً إرسال رسول لما أرسله بشراً، ولما أرسله إلا ملكاً، كانت هذه حجة الكفار منذ عهد نوح إلى عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد قالوا ذلك وكرروه أمة بعد أمة، وقالوه لرسلهم رسولاً بعد رسول إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، فكذلك قاله الكافرون الذين عاصروه، وقاله الذين جاءوا بعدهم؛ قالوا: لو أراد الله نبياً ورسولاً لجعله ملكاً.
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ قالوا مبهتين وكاذبين: ما سمعنا بهذا في عصر آبائنا ومن قبلهم إلى عهود أجدادنا أن الله أرسل نبياً بشراً إلا نوح الذي زعم ذلك لما به من جنة وافتراء، هكذا زعم الكافرون، وهذا الذي قاله قومه هم أول من يعلم أنهم كذبة، وأنهم مبهتون، وأنهم قالوا غير الحق، فلقد كان العهد بهم قريباً إلى إدريس نبي الله، وكان العهد به قريباً إلى آدم نبي الله وإلى أبنائه المعاصرين له، فهم عندما يزعمون بأنهم لم يسمعوا بنبي بشر ولم يسمعوا برسول بشر كذبوا وافتروا، وزادوا على تكذيب نبيهم وشركهم بالله أن استدلوا بالأكاذيب والأضاليل والافتراءات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهكذا شأن الكافرين عندما يعجزون -وهم دائماً عجزة- عن الإتيان بالدليل ليحاجوا به الحق، فيبحثون عن الأكاذيب فيتخذونها أدلة، ولن تكون أدلة لا نقلية ولا عقلية.
بعدما افتروا وقالوا إنه: لم يرسل الله في آبائنا السابقين رسولاً بشراً، وزعموا أنه إنما أراد السؤدد والزعامة والبروز عليهم، وزادوا فكذبوا وقالوا عنه: إنه ينطق بما يدل على جنونه وعلى عدم عقله، فتربصوا وانتظروا به إلى أن يموت، وما كانوا يظنون وهم يتمنون ويتربصون بنوح الدوائر أنهم هم سيموتون شر ميتة، فلا يبقى لهم بلد ولا اسم ولا ذكر إلا أحاديث يتحدث بها السمار في المجالس كقصص الأولين، فانتقلوا عن كونهم أناساً أحياء إلى قوم قد فنوا وقتلوا شر قتلة، وأصبح الناس يتخذونهم قصصاً وسمراً.
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي: به حمق وجنون.
فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي: انتظروا به فسيموت يوماً وتبقى لكم أصنامكم وتبقى لكم دياناتكم وعقائدكم، ومن سخف المشركين وضياع عقولهم أنهم قبلوا أن يكون الحجر إلهاً ومعبوداً واستبعدوا عن بشر أن يكون نبياً رسولاً، فمن الذي يقبل هذا ويجعله حقيقة مسلمة يدافع ويقاتل من أجلها ولو ذهبوا مع الذاهبين وهلكوا مع الهالكين؟! أنكروا على نوح -وهو بشر- أن يكون نبياً رسولاً، وهم في ذات الوقت قد آمنوا واعتقدوا في الحجر أنه إله يعبدونه دون الله ومع الله، أهناك سخافات في العقول وضلال في النفوس أكثر من هذا؟!
أي: قال نوح ذلك عندما بهته قومه، وبعد أن انتظر بهم القرون تتبعها القرون وهم بين مكذب ومستهزئ ومشرك مصر على الشرك.
(فقال الملأ) الملأ: هم أشراف القوم وقادتهم وزعماؤهم، وهم الذين يكونون عادة أهل الكفر وأهل الشقاق وأهل الاستعلاء على أهل الحق من الأنبياء والرسل والدعاة إلى الله، فيأخذهم الغرور بما أكرمهم الله به من صحة وجاه وملك وسلطان ومال ورفاهية ونعمة، ويبقى هؤلاء المساكين الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، يبقون هم أهل الحق إلى أن يسودوا بعد ذلك، وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام عن دين الإسلام: (يرفع الله به قوماً ويضع به آخرين)، وكما هو وصف الحال في كل الأديان جميعاً فهؤلاء الذين اعتبروهم أقلهم واعتبروهم دونهم كانوا هم السادة والقادة، وكانوا هم الأئمة، وكانوا هم المبلغين عن الله وعن رسل الله، وذل أولئك وحقروا في الدنيا قبل الآخرة.
قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قال نوح: يا رب انصرني على هؤلاء؛ بسبب كذبهم وتكذيبهم، كذبهم علي فيما زعموه من جنة، وتكذيبهم للحق حين جاءهم، فانصرني عليهم، واكشف حالهم، وعاقبهم بما أنت أهل له، وأظهرني عليهم، ومكني من رقابهم بما أنت وحدك تقدر عليه؛ لأن الناس كلهم أبوا إلا الشرك والكفر والعصيان، وإذا بالله الكريم يستجيب له بعد اصطباره وبعد محنته مع قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً.
بعد أن انتظر نوح ما انتظر، وبعد أن تحمل من قومه ما تحمل، أخذ يطلب من ربه النصرة، ويطلبه الفوز، ويطلبه النقمة على أعدائه، فاستجاب الله له وأوحى إليه أن اصنع الفلك -وهي السفينة- لتحملك أنت ومن آمن معك، فذهب يشتغل بها سنوات، وقال: يا رب لست نجاراً، كيف أصنع السفينة وأنا لا أعرف؟ وزعموا أن نوحاً كان نجاراً بذلك، ولم يكن، وقالوا: إن السفن قبله لم تكن معروفة، ولا شيء يدل على حقيقة ذلك، والذي ترك قومه يستغربون ويتعجبون لا من صنع السفينة نفسها، ولكنه عندما كان يصنعها في أرض ليس فيها بحر ولا شاطئ، فأخذوا يتعجبون وهم يمرون عليه هازئين وضاحكين: أتصنع سفينة وأنت على البر والتراب؟! ماذا تصنع بها؟! فكانوا وهم يهزءون يقول لهم نوح: ونحن كذلك سنستهزئ بكم في العاقبة.
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ أي: أن اصنع السفينة، فأخذ يصنعها بتعليم الملائكة له، وأخذ لها الأخشاب من كل جانب، وزعموا أن ذلك كان من جبال لبنان ومن غير جبال لبنان إلى أن أتم صنعها وأصبحت قائمة، وجعل لها أبواباً من جوانبها ومن فوقها، وجعل لها طبقات: طبقة للآدميين من المؤمنين أتباعه، وطبقة للحيوانات المفترسة، وطبقة للحيوانات الدواجن، وطبقة للطيور وهكذا، فقال الله له: اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا أي: تحت نظرنا وعوننا وإرادتنا وقدرتنا وتعليمنا، وقد كان ذلك، (ووحينا) أي: بما أوحاه الله إليه من صنعها.
فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا إذا جاء أمر الله بالطوفان وتفجير العيون والأرض عيوناً ومياهاً ليغرق كل من عليها.
فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ تفجرت المياه من التنور، والتنور قيل: هو سطح الأرض، وقيل: أعالي التلال والجبال، وقيل: هو التنور كما يطلق عليه اليوم، وهو مكان طبخ الخبز، وكان ذلك أعجز في التعبير، كما قالوا: إن مواضع النار التي يخبز عليها الخبز -وهي شأنها أن تكون نيراناً متصلة- تفجرت منها الأنهار، على أن الأنهار تفجرت من البراكين وتفجرت من مختلف أقطار الأرض، وفار التنور فوراناً وتفجرت الأرض جبالاً ووهاداً، تفجرت عيوناً وأنهاراً، وتفجرت بحاراً حتى غرق الكل وذهب الكل، وتفصيل ذلك قد مضى في سورة هود وسيأتي في مناسباته كذلك.
فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا أي: أدخل في الفلك، يقال: سلك وأسلك بمعنى واحد، أي: دخل وأدخل، فَاسْلُكْ فِيهَا فأدخل في السفينة من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي: من كل ذكر وأنثى على وجه الأرض، فخذ معك زوجين ذكراً وأنثى وأدخلهما معك في السفينة؛ لتعاد الحياة بعد الطوفان على هؤلاء الكافرين الجاحدين، فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ أي: وخذ كذلك من آمن بك من أهلك ومن أتباعك، وقد قال الله عنه: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40].
إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ إلا من سبق القول عليه بأنه يبقي على الكفر والشرك، فكفر الولد بأبيه، وكفرت الزوجة بزوجها نوح، وكان له أربعة أولاد أسلم ثلاثة منهم وأصر واحد على الكفر.
فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا علم الله جل جلاله أن نوحاً ستأخذه الرأفة والرحمة بولده وهو يغرق، فيقول: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [هود:45]، وكما قال الله عنه فقد طلب إنقاذ ابنه على شركه وكفره، وقد طلب نوح من ولده أن يلحق به، فأخذ يقول: إن الجبل سيعصمني من الماء، فقال له أبوه: لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود:43]، ولم يرحم الله إلا المؤمن الموحد التابع لنوح في نبوءته ورسالته.
وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: في الذين أشركوا وظلموا أنفسهم من هؤلاء سواء كانوا أهلاً، أو كانوا أتباعاً، أو على أي صفة كانت، إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ سبق في علم الله وإرادته بعد أن دعاهم نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً، وبعد أن أمهلهم الله كل هذه القرون، فكانت إرادته التي لا ترد ولا يقف دونها خلق من خلقه أن يغرق كل هؤلاء، سواء كانوا أقارب أو أباعد لنوح، وكان ممن غرق زوجه وولده.
هكذا قال الله لنوح بعد أن نصره في دعوته، حيث قال لربه: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26]، فقد دعا نوح بعد أن صبر ما صبر ألا يدع كافراً على الأرض يملك داراً أو يسكن داراً أو يعيش من أجل ذلك.
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27] أي: لا خير فيهم ولا في ذريتهم وسلالاتهم، فاستجاب الله دعوته وأغرق الكل وعاقب الكل في الدنيا قبل الآخرة، ولعذاب الله أشد، وهذا قصه الله على قريش، وقصه الله على العرب، وقصه الله على من آمن بالإسلام وبنبي الإسلام بعد ذلك؛ لينبههم على أن الله عندما يأمر عباده بالإيمان به، وبتوحيده، وبعدم ظلم أنفسهم بالشرك وبالوثنية: أنه يمهلهم، ولكن الله يمهل ولا يهمل، فهو يصبر كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أصبر من الله، فهو يرزقهم وهم ينسبون له الولد)، ولكن الله يمهل ولا يهمل، ولا يترك من عقابه مشركاً؛ إذ المشرك لا مغفرة له ولا تقبل له دعوى.
فأنت يا نوح عندما تستوي على السفينة، وعندما تركبها ويركبها من آمن معك من قومك، وعندما تجد نفسك قد أنقذت من أهلك وأنقذت من قومك وطالما تربصوا بك الدوائر، وعندما يكونون غرقى وأنت قد أنقذت ونجيت فاحمد الله على أن نجاك وأنقذك من القوم الظالمين، الذين ما ضروا إلا أنفسهم ولم يضروا أحداً، وقد أركب نوح معه من كل ما على وجه الأرض من حيوان مفترس وغير مفترس، ومن دابة وطير، وأركب معه من كل نوع زوجين: ذكراً وأنثى، حتى إذا غرق الكافرون وعوقب المجرمون تجددت الحياة بعد ذلك بنوح، ولذلك يعتبر نوح أبانا الثاني بعد آدم.
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ أي: استقررت وأصبحت مستوياً وقائماً ومستقراً في الفلك وهي السفينة.
فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، ولذلك ينبغي على كل مسلم عندما يدعو على أعدائه وأعداء الله ويستجيب الله دعاءه أن يحمد الله على ذلك، وأن يشكر الله على ذلك، وما أمر الله نبيه نوحاً بذلك، وأوحى ذلك إلى نبينا إلا ليكون ذلك لنا أسوة وقدوة، فبهداهم اهتده كما قال الله لنبيه، وهو قول لنا كذلك بالتبع لهم، فعندما يكرمنا الله بفضل، ويكرمنا بمكرمة فإننا نشكره ونحمده؛ لأن الشكر يديم النعم، لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، فجحود النعمة يوشك أن يسلبها المنعم عليه، وبالشكر عليها يزيدها الله ويضاعفها.
أي: عندما تستوي على السفينة وتجد نفسك ومن معك قد أنقذك الله ونجاك ونصرك كما طلبت على عدوك الظالم لنفسه المشرك بربه، فاشكر نعمة الله عليك، فإذا غاضت المياه وغارت ونزلت إلى البر مرة ثانية فاطلب من ربك وادعه وقل: رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا أي نزولاً، وقرئ: (منزلاً) أي: مكاناً أنزل فيه، (مباركاً) أي: تبارك لي فيه وفي ذريتي وذرية من معي، وتبارك لي فيه بالخيرات والأرزاق المتوالية المتتابعة، فقد علمه الله أن يدعوه، واستجاب لدعائه جل جلاله وعلا مقامه، فالدنيا من بعد نوح جددت كما كانت أيام آدم، وزادها الله بركات ويمناً، وزادها خيرات ونماء، فقد أخذ زوجين اثنين من كل نوع وأصبحوا الآن بما لا يعد ولا يحصى عداً لا في البشر، ولا في الحيوان، ولا في الطير، ولا في كل ما خلق الله من قبل.
وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ أي: أنت خير من ينزل، وخير من يكرم، وخير من يجعل للإنسان منزلاً مباركاً يبارك فيه، فالإنسان قد يستضيف والضيافة لا تكاد تكفي مهما كانت، ولكنك القادر على أن تضيف كل خلقك، وأن تنزل كل خلقك، وأن تبارك لهم في الذرية والرزق والعطاء وكل ما هم في حاجة إليه في الحياة الدنيا.
ومن هنا استحب فقهاؤنا أن الإنسان عندما يركب مركباً يقول هذا الدعاء في الركوب، وعندما ينزل يقول: رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا ، وقريء: ( منزلاً مباركاً) وكلها قراءات متواترة نزل بها الوحي القاطع.
فعند الركوب دعوات منها: باسم الله مجراها ومرساها، ونوح أيضاً قد ذكر ذلك عندما ركب السفينة، وحمد الله على أن أنجاه كذلك، فقال: (باسم الله مجراها) أي: جريانها وسفرها وقطعها لهذه البحار والمياه، بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا [هود:41] باسم الله والتيمن به أركب وأسير، وباسم الله أنزل وأرسو على البر بعد أن غاضت المياه وظهر وجه الأرض.
إِنَّ فِي ذَلِكَ أي: في قصة نوح وكفر قومه به، وصبر نوح على قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وتحدي قومه له بالشتائم والنقائص والكذب والافتراء، واتهامه بالجنون وبأنه يريد العلو والسيادة عليهم، ثم بكون الله أنقذ نوحاً واستجاب دعوته في نصرته، فعلمه صنع السفينة، وأغرق كل الظالمين المشركين، وعاد فجدد الدنيا من جديد بذرية جديدة، ومنازل جديدة، وخيرات جديدة بما نسي به ما كان قبل نوح، وما كان وقت المشركين من قومه.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لعلامات على قدرة الله على كل شيء، فالله هو الذي يرزق، والله هو الذي يوقف رزقه، والله هو الذي يحيي وهو الذي يميت، والله هو الذي يأمر، فإذا عصي عاقب بالفناء والدمار وبالغرق وبما يريد جل جلاله.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ولقد كنا مبتلين، أي: مختبرين وممتحنين هل إذا أرسلنا لهم رسولاً منهم يعرفونه ويؤمنون به؟ وهل سيؤمنون بالرسالة والمرسل بها أو سيبقون على شركهم ويصرون على ذلك؟ فالله ابتلاهم، فلم ينجح في الابتلاء والاختبار إلا قلة قليلة، وهم في أكثر ما قال المفسرون لم يتجاوزوا السبعين رجلاً وامرأة، وقال قوم: اثنا عشر أو ثلاثة عشر، أي: دون العشرين، فعلى العموم كما قال الله: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40]، فقد آمنت به قلة، ولكن الله زكاها وزادها، وهم الذين لا يزالون الآن الذين يعدون بالملايين في مختلف أقطار الأرض وفي القارات الخمس، ولكنهم عادوا بعد أزمان إلى الشرك والكفر، ونسوا ما عاقب الله به أجدادهم من الغرق والخسف والتدمير من السماء والأرض.
وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ وما كنا إلا مبتلين، وقد كنا مبتلين، أي: مختبرين ممتحنين، وبكل ذلك قد فسر، وكل ذلك تشمله الآية ولفظها.
قال تعالى: ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [المؤمنون:31] يذكر الله جل جلاله أنه بعد دمار قوم نوح بالغرق وبعد قوم نوح الذين أنقذوا بآبائهم الذين آمنوا انتهوا كذلك وذهبوا في أمس الدابر، وبادوا مع من بادوا، أنشأ الله بعدهم قوماً آخرين، ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [المؤمنون:31] ثم أنشأ الله بعد هؤلاء الذين أنقذوا من الغرق وعاشوا ما قدر لهم ثم ماتوا، هؤلاء بعد موت نوح أرسل الله إليهم كذلك نبياً رسولاً، وقد أشركوا أيضاً وكفروا، وقد نسوا إفضال الله على آبائهم من قبل كما نسي قوم نوح إفضال الله على أجدادهم من قوم إدريس وقوم آدم الأولين.
ثُمَّ أَنشَأْنَا وابتكرنا وأحدثنا، ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ أي: من بعد هؤلاء الذين أنقذوا من الغرق وماتوا مع من مات وبادوا مع من باد، أنشأ الله قرناً آخر، والقرن يطلق على العدد من السنين وهي مائة عام، ويطلق على الأمة من الناس.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر