لا نزال نتتبع آيات الله جل جلاله في دلائل قدرته ووحدانيته، وفي نسق الآيات الكريمات خطاب للعقل والفهم والوعي، ولا يعرض عنها إلا من فقد دينه وعقله وفهمه ووعيه وإدراكه.
ومن آيات الله وعلامات قدرته ومعجزات بيانه ومخاطبته لقوم عالمين سامعين أن الله جل جلاله خاطب الناس بلغة عقولهم وبفهمهم، فلفت الأنظار بقوله: (ومن آياته) أي: ألا يرون هذه الآيات فيتساءلون: من خلق السماوات والأرض؟ ومن الذي يستطيع خلق هذا؟ فهذه السماء في علوها، والكواكب وأفلاكها وما فيها من خلق، أطت السماء من أجل ذلك وحق لها أن تئط، ومن الذي يستطيع خلق هذه الأرض بما عليها من جبال راسيات، وبحار جاريات، وخلق الخلق من كل لون وشكل جناً وإنساً، وطيراً وحيواناً؟ فمن الذي يستطيع رزقهم والقيام عليهم، وإحياء من يحيا وإماتة من يموت؟ وهذه الألسن المختلفات من عرب وعجم إلى مختلف لغات الأرض ولهجاتها، كيف لا يشبه بعضها بعضاً؟ واختلاف الألوان من أبيض وأصفر وأحمر وأسود، من خلقها ونوعها؟ إنه الله جل جلاله.
هذا خلق الله فأروني ماذا خلق العباد؟ وهم يكادون يعجزون حتى عن فهم خلق الله وقدرة الله وآياته المنوعة.
وقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم:22]، قرئ (العالَمين) والعالِم من علم ما جهل، وعمل بما علم، والعالِمون هم العارفون بالله وبقدرته وآياته ومعجزاته وأنبيائه ورسله وكتبه.
لو لم يخلق الله جل جلاله هذا الليل لينام الإنسان فيه ويستريح، ويسكن من أشغال النهار وتعبه جسداً وأعضاء وروحاً ونفساً، لعجز عن الحياة بعد بضع سنوات، وبالتالي لكف عن العمل، ولما قدر أن يقوم بما يجب عليه أن يقوم به عياءً وجهداً وتعباً، ولكن الله جل وعلا خلق الليل للمنام والراحة، وخلق النهار للتجارة والعمل والسعي والضرب في الأرض.
فمن آياته الدالة على قدرته أن خلق لكم الليل لتناموا وتستريحوا فيه، قالوا: وفي الآية تقديم وتأخير، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الروم:23]، أي: يكون النهار للتجارة، والعمل والسعي والضرب في الأرض، فجعل النهار ليبتغي الإنسان فيه ما يرجوه من فضل الله من نماء ومال وعمل وحياة، فكان النهار معاشاً وكان الليل لباساً سباتاً، ذكر النهار عن ابتغاء الفضل لفهم ذلك من خلال الكلام، ويصح التقديم والتأخير إذا لم يحدث لبس في المعاني، والتقدير: وابتغاؤكم من فضل الله بالنهار.
وقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [الروم:23] ، (لآيات) أي: لدلائل وبراهين قاطعة لقوم يعون ويتفكرون ويسمعون، يعني: السمع الذي يكون معه وعي وفهم وإدراك.
أي: من قدرة الله وآيات وحدانيته ودلائل ألوهيته فيما خلق وذكر من نسق هذه الآي المتتابعات: البرق الذي يرى في أجواء السماء، الذي خلقه خوفاً وطمعاً.
فالإنسان حين يرى البرق يخاف أن يكون بداية لصواعق، أو زلازل ومصائب، فتجده يخاف ويرهب من شكله ووميضه، كما يكون هذا البرق رجاء وطمعاً حيث يكون بداية مطر وغيث، يكسو الأرض بالخضرة بعد جدبها وجفافها، فيحيي الله به بلدة ميتاً قاحلاً، فتصبح الأرض وقد اهتزت بأنواع الأرزاق والحبوب والفواكه والثمرات.
وهكذا يلفت الله جل جلاله أنظار من له عقل وسمع وفهم وإدراك بالنظر في هذه الطبيعة، التي هي من خلق الله ليلاً ونهاراً، سماء وأرضاً، برقاً ومطراً، حياة للأرض بعد الجدب، ثم هي بعد ذلك تؤتي أكلها من كل زوج بهيج.
إذاً: الله سبحانه يخاطب من يدرك ويعقل ويعي بعرض هذه الآيات منسقة متتابعة، لعل السامع يكون ممن يعي ويدرك، ويؤمن ويأخذ العبر، فهذه الأمطار تنزل إلى الأرض وقد أجدبت ويبست ولا نبات فيها ولا خضرة ولا ماء، وإذا بها حية بأمر الله، وإذا بالشجر يورق ويخضر، وإذا بالثمار تزهر، وإذا بها تبدو أشكالاً وأنواعاً وألواناً من الحب الذي نأكله والحيوان والطير، ومن الفواكه أشكالاً وأنواعاً، ومع أن الماء واحد إلا أن الزهر والثمرات أنواع.
وقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم:24]، أي: إن في ما أراد الله مما تراه العين وتسمعه الأذن ويعيه القلب لآيات بينات لمن رزق العقل والوعي والفهم، أما من مشى في الأرض بعين لا يرى بها، أو سمع لا يسمع به، أو قلب لا يفقه به فهو كالأنعام، بل هو أضل.
أي: ومن آيات الله وعلامات قدرته ووحدانيته وأنه القادر على كل شيء وحده هذه السماء التي نراها فوقنا، وهذه الأرض التي نحن عليها، فمن الذي أمر بقيام هذه السماء بلا عمد تحملها وتتكئ عليها وتعتمد عليها؟ إنه الله جل جلاله القادر على حملها وخلقها وبقائها بغير عمد، ما دام يريد ذلك إلى أن تنتهي السماء والأرض بالقيامة، بأن تصبح كالعهن المنفوش، ويفنى كل شيء إلا وجه ربنا ذو الجلال والإكرام، فيفنى الخلق ويبقى الخالق وحده.
وهذه الأرض وما عليها من جبال راسيات، وبحور جاريات، وأرزاق متتابعة، وخلق فيها من كل شكل ونوع، ومن إنس وجن، وطير وحشرات، من الذي قام بذلك؟ وبأمر من قام كل ذلك؟ وكيف بقي ذلك كل هذه القرون وإلى أن تفنى الدنيا؟ إنه الله جل جلاله الذي خلق ذلك ودبره ونظمه جل جلاله، فلا يقدر أحد أن يفعل ذلك سواه، فكل ذلك يدل على وحدانيته وقدرته وإرادته، وصور هذه الحقيقة ذلك الشاعر العربي الحكيم:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
في كل شيء من إنسان وحيوان، ومن جماد سماء وجماد أرض، ومن فصول مختلفة، ومن أمطار وجدب، ومن غيث وصواعق وزلازل، وكل ما تراه العين وتسمعه الأذن ويعيه القلب، كل ذلك يدل على قدرة الواحد الأحد الذي لا شبيه له في ذات ولا في صفة ولا في فعل، تعالى الله وجل، فهو القادر على كل شيء.
وقوله: ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم:25]، أي: ثم بعد الموت والفناء والذهاب والاضمحلال يدعو الله الخلق بما فيهم عباده، فيأمرهم بالعودة بعد الموت، وبأن يخرجوا من الأرض التي عاشوا عليها وخلقوا منها ثم رجعوا لها تراباً، ثم إذا بهم يخرجون منها كما ماتوا في حال الدنيا قوة وضعفاً، وذكورة وأنوثة، وصغراً وكبراً، فيمتثل الكل أمام الله للعرض عليه، فيجازي المحسن على إحسانه بالجنة، والمسيء على إساءته بالسوء والعذاب والنقمة.
أي: أن الخلق كلهم لله، و(من) اسم موصول يطلق على العاقل فقط، ويطلق على العاقل ومعه غير العاقل، كما أن (ما) تختص بغير العاقل وقد تطلق على غير العاقل مع العاقل، فالله عندما يقول لنا: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الروم:26] أي: من عاقل وغير عاقل، من ملك وإنس وجن وحيوان وطير وحشرات ودواب، الكل لله، فالأرض والسماء وما بينهما وما عليهما وما فيهما لله وحده، الكل آت عبداً له وملكاً من أملاكه وخلقاً من خلقه وعبيداً من عبيده، يتصرف فيها كما يتصرف المالك في ملكه فلا يسأل عما يفعل، فكل ذلك لله، وهو الذي ما في الكون لعباده المؤمنين، بل لبني آدم جميعهم كافرهم ومؤمنهم، فيجازي المؤمن على شكره وحمده، ويجازي الكافر على جحوده وكفره بهذه النعم المتتالية، ولتبقى حجة الله عليه هي البالغة.
وقوله: كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [الروم:26].
(كل) هذا التنوين يسمى في لغة العرب تنوين العوض، ويعوض به عن كلمة مفردة أو عن جملة، والمعنى: كل خلقه المذكورين من سماء وأرض ومن فيهما قانت لله، والقانت: هو المطيع، فكل خلق الله مطيع له سبحانه طاعة كونية، وإنما تكون معصية الكافر في الطاعة الشرعية، وإلا ففي سوى ذلك يكون الكل مطيعاً، المؤمن والكافر، فإذا قيل للكافر: مت فإنه يموت، وإذا قيل للكافر: قم بإذن الله فإنه يقوم، وحين ينزل الكافر نطفة من صلب أبيه إلى رحم أمه وأمر أن يتخلق بعد النطفة مضغة فعلقة فعظاماً فلحماً فجنيناً كاملاً فوليداً ثم يخرج للوجود ثم يكون شاباً، ثم يكون شيخاً، ثم يعود إلى الأرض ليكون تراباً، ثم يقوم مرة ثانية.. كان في كل ذلك سميعاً مطيعاً.
وهذه الكلمة (قانتون) إذا وردت في القرآن فهي بمعنى (مطيعون)، سواء كانت مفردة أو جمعاً أو مصدراً، والآية تحمل على أن كل من في السماوات والأرض هم ملك عبيد له، وأن الكل طائع له، وأنهم تحت أمره ونهيه وتحت جلاله وقهره.
أي: هو الذي أنشأنا وأنشأ أمثالنا من خلقه وعباده على غير مثال سابق، بل أخرجهم للوجود من العدم، فالذي بدأهم سيعيدهم تارة أخرى، فلا يعجزه أن يعيد حياتنا بأشباحنا وذواتنا وأجسامنا وأرواحنا.
وقوله: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]، أي: أهون بالنسبة لله جل جلاله، وأهون بمعنى: هين، فالبدء عليه هين، و(أفعل) هنا ليست على بابها؛ لأن (أفعل التفضيل) في لغة العرب تقتضي المشاركة والزيادة، أي: بدء الخلق هين على الله ويسير وسهل، وعودته بعد الفناء أهون وأيسر عليه، فقد يكون بالنسبة لعمل الخلق هذا هين وهذا أهون، وهذا صعب وهذا أصعب، وهذا كبير وهذا أكبر، أما بالنسبة للخالق الكبير المتعال، فإن خلق كل شيء هين عليه بداية وإعادة.
وقد تكلم قوم فقالوا: (أهون عليه) أي: الخلق، فالمعنى: خلقنا مرة ثانية أهون علينا من المشقة الأولى والتعب، ويعنون بذلك: ما لقيناه في الخلقة الأولى من كوننا خلقنا في أصلاب الآباء وتسلسل ذلك إلى الأب المباشر، ثم نزول النطفة في رحم الأم، ثم تخلق بعد ذلك في أطوار ومراحل فكان علقة فمضغة فعظاماً، ثم خلقاً سوياً كاملاً، فذلك أصعب على الإنسان ولكن في الحياة الثانية سيكون أسهل على الخلق، فما أن يأمر الله الأرض بأن تخرج ما في بطونها ويأمر الخلق أن يعودوا مرة ثانية إلا قاموا مستجيبين لله دون حاجة لتلك الأطوار الأولى من نطفة فعلقة، ومن حياة صلب فرحم فحمل فبيت فأسرة مستقلة، فعودة إلى التراب، ولكن هذا الذي قالوه نحن لا نشعر به سواء كان هيناً أو كان أهون، أو كان صعباً أو كان أصعب، والمعنى هنا كما قال ابن عباس : وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27] الكلام متعلق بالله جل جلاله.
وقوله: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم:27]، أي: هو خالق الخلق وخالق كل شيء من الليل، والنهار، والنوم في الليل، والسعي في النهار، والمطر، والرعود والبروق، والسماء والأرض، ومختلف الألوان واللغات، ومما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وهو الله الموصوف بالخلق والإيجاد والإعادة سبحانه وتعالى.
وقوله: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الروم:27].
المثل: الشبه، ولا شبه لله، وإنما المعنى: (وله المثل الأعلى)، أي: له الصفة العالية في أنه الواحد في ألوهيته وربوبيته وصفاته، وهو المثل الأعلى الذي لا يصل إليه خلق من خلقه، ومنه قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] .
وقوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، والمعنى: لا كفء له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
وقوله: فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الروم:27]، أي: هو الله في السماء، وهو الله في الأرض لا إله إلا هو، له خلق السماوات كما له خلق الأرض، وهو المنفرد بتدبير السماوات كما انفرد بتدبير الأرض، وإلا فهو مستوٍ على عرشه، كما قال سبحانه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]
وقوله: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم:27]، أي: العزيز الذي لا يغالب ولا ينازع، وهو ذو العزة والجبروت، الخاضع لعزته ولجلاله كل من في السماوات ومن في الأرض، الحكيم في خلقه وأمره ونهيه، والحكيم هو من يضع الأمور في مواضعها، فالله هو الحكيم جل جلاله في سماواته وفي أرضه، وفي أوامره ونواهيه جل جلاله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر