يخاطب الله الكافرين الجاحدين لينظروا في عواقب أمرهم، وأن الله قد أهلك قبلهم من القرون كثيراً فلم يعودوا إلى الدنيا، ولكنهم سيبعثون يوم القيامة ويعرضون على الله للجزاء، ومن كان مكذبا بالبعث فلينظر في آيات الله وأنه يحيي الأرض بعد موتها، فكذلك يحييهم بعد موتهم.
قال تعالى:
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ 
[يس:32].
يقول ربنا:
وَإِنْ كُلٌّ
[يس:32].
أي: كل الخلق من البشر والجن والملائكة والمخلوقات.
لَمَّا جَمِيعٌ
[يس:32].
(لما) بمعنى إلا، أي: ليس كل الناس إلا يوم القيامة محضرون بين يدينا، وعائدون إلى قضاء الله والفصل بين الخلق، فللظالم جزاؤه، وللعادل جزاؤه، فهذا إلى الجنة وهذا إلى النار.
وذكر الله عن هؤلاء الذين هلكوا في القرون الغابرة أنهم ستتبعهم قرون، ثم الكل ممن مضى قبل ومن لا يزال في عصرنا ومن سيأتي بعدنا كلهم محضرون، وكلهم ستحضرهم الملائكة بين يدي الله يوم القيامة للحساب والقضاء والفصل بينهم في أنفسهم بالنسبة لمن مات مؤمناً ومن مات كافراً، وبينهم وبين غيرهم بالنسبة لمن ظلم ولمن جار وسفك الدماء وهتك الأعراض وأكل الأموال بالباطل.
قال تعالى:
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ
[يس:32] أي: وليس كل هؤلاء إلا محضرون جميعاً بين يدينا، وسيبعثون ويعيشون بعد الموت، ويأتون يوم القيامة راضين أو كارهين للحساب، ليوم كان مقدراه ألف سنة مما تعدون.
قال تعالى:
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ *
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ 
[يس:34-35].
يذكر ربنا أنه جعل لنا من الأرض جنات وبساتين، فيها من الأشجار من كل نوع من الحب والفواكه والخضروات والثمار وكل ما يرجوه الإنسان ويشتهيه في الأرض، كما قال تعالى:
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ
[يس:34].
وذكر النخيل والأعناب لأنها ثمارها سيدة الفواكه، فالتمر طعام وفاكهة لنا ولدوابنا، وقد أثنى عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما سأل يوماً في المجلس: (أي الشجر هو كالإنسان لا فُضل فيه؟)، أو كما عليه الصلاة والسلام، وكان في المجلس عبد الله بن عمر وهو أصغرهم، فأخذ الحاضرون يقعون في شجر البوادي وكانوا من كبار القوم، كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الرعيل الأول يذكرون أنواع الشجر إلا النخلة لم يذكروها، إلى أن قال لهم عليه الصلاة والسلام: (هي عمتكم النخلة)، فقال عبد الله لأبيه عمر : والله يا أبي! لقد خطرت ببالي، ولكنني استحييت أن أقولها، قال: لو قلتها لكان أحب إلي من حمر النعم.
فقد أراد عمر أن يقول ولده هذه الكلمة؛ لتدل على ذكائه ونبوغه.
وقوله: (عمتكم النخلة) قالوا: لأن أبانا آدم خلق من تراب، وما بقي من صنعه وخلقه خلقت منه النخلة، فكانت أختاً لأبينا آدم.
والنخلة كلها: شجرها وجمارها وسعفها ينتفع منه، فالتمر يؤكل فاكهة لذيذة وحلوى، وما سوى ذلك يتخذ حطباً، والنوى تعلف به الإبل فتسمن منه وتقوى، وليس في التمرة ولا النخلة فضول أو زائد.
قال تعالى:
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ
[يس:34]، فذكر النخلة لرفعتها والأعناب تأتي بعدها،
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ
، أي: ومن باقي الثمرات والفواكه كلها.
قال تعالى:
وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ
[يس:34].
فجر الله الأرض عيوناً؛ لتسقي هذه الثمرات، وليعيش بها الإنسان، ويتقوى عليها إلى أن يموت كما يموت كل حي.
قوله تعالى:
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ
[يس:35].
خلق الله هذه البساتين والجنات والحبوب؛ ليأكل الناس من ثمرها -والثمر جمع ثمرة- ومن فواكهها ومن نتائجها ومما تنبت وتعطي، كما قال تعالى:
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ
[يس:35].
فهم لم يصنعوا ذلك بأيديهم وإنما الله هو الذي خلق التمر والثمر وكل نوع، والماء الذي نسقي به هو الذي خلقه، والتراب الذي ينبت هو الذي خلقه، واليد التي تحرثه وتستنبته هو الذي خلقها، والعقل الذي يفكر ويدبر ويخطط هو الذي خلقه، فالكل إذاً خلق الله، وليس لنا من ذلك شيء. وإذا أراد الله أن يظهر فضله عليك خلق ونسبه إليك، كما قال تعالى:
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ
[يس:35]. أي: قل لهؤلاء: إن هذه الثمار والجمال والسماء والأرض وما في أنفسكم وما رزقتم به؛ كل هذا من خلقه وصنعه، وإذا كان كذلك ولا يستطيعون جحوداً لذلك ولا إنكاراً أفلا يشكرون؟ وهو استفهام تقريري، أي: ينبغي أن يشكروه، والشكر يكون بالعمل وبالقول، ومن القول: لا إله إلا الله، وهي أعظم الشكر، والحمد لله، والشكر لله، ويكون بالعمل، مثل: الصلاة والصيام والزكاة والحج، وجميع الأعمال الصالحة التي هي عبادة لله، وكذلك ما كان خدمة لعباد الله وسعياً لمصالحهم.
قال تعالى:
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ 
[يس:36].
يقول تعالى: ( سبحان ) يسبح نفسه وينزهها عن قول الكافرين والجاحدين، أو يتعجب، والعربي إذا أراد العجب قال: يا سبحان الله! أو سبحان الله! فإذا كانت بمعنى العجب فهي صحيحة، وإذا كانت للتسبيح والتمجيد فهي صحيحة.
فينزه الله نفسه ويتعجب: أمع كل هذا الذي تراه العين وتسمعه الأذن ويحسه البدن لا يزال هؤلاء على الكفر والجحود والفرار عن دين الله ودين رسوله صلى الله عليه وسلم وكتاب الله المنزل ورسوله المرسل صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟! يا عجباً لهؤلاء!
أو أن الله يعظم نفسه، ويعلمنا أن نسبحه جل جلاله، ونصفه بكل كمال وننزهه عن كل نقص، وهو ربنا جل جلاله لا يشبه أحداً من خلقه ولا يشبهه أحد من خلقه، فليس كمثله شيء، ولم يكن له كفواً أحد.
والأزواج هنا: الأصناف والأنواع. فالله خلق من كل صنف من مخلوقاته زوجين، مثل صنف البشر، وصنف الجن، وصنف الدواب، وصنف الحيوانات، وصنف الطير، وصنف الحشرات، وصنف الجمادات جبالاً ووهاداً وبراراً وبحاراً وسماءً وأرضاً، وخلق أول ما خلق الماء، وكان عرشه على الماء، ثم خلق بعد ذلك الأرض، وخلق من الأرض الكل، فأنبت من الأرض الإنسان والحيوان والنبات والثمر، وخلق أبانا آدم من تراب، وأمنا حواء من ضلع من أضلاعه، ثم بعد ذلك خلقنا نحن من نطفة، وخلقنا ذكراً وأنثى، وهكذا خلق كل الخلق، كما قال ربنا:
مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ
[يس:36].
وخلق السماء وكانت جزءاً من الأرض.
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا
[الأنبياء:30]، وهؤلاء الضالون من أوروبا وأمريكا صعدوا إلى القمر، وأنزلوا بعض ترابه وحللوه فوجدوا أن التراب هي مادة القمر.
وقد أخبرنا الله منذ ألف وأربعمائة سنة وعلمنا أن السماء والأرض كانتا رتقاً، أي: قطعة واحدة وجزءاً واحداً، ففتقهما، أي: خلق منها السماء، وخلق السماء الثانية من الأولى، والثالثة من الثانية، وهكذا، والكل من الأرض من التراب.
قال تعالى:
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ
[يس:36].
وكذلك الله تعالى خلق منا نحن أزواجاً، فخلق من أبينا آدم زوجته حواء، ثم خلق منهما بواسطة النطفة ذرياتهما وأولادهما، وتزاوج الذكور والإناث، وهكذا دواليك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
قوله:
وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ
[يس:36].
أي: خلق الله في الأرض خلقاً بعضه في قعر البحار، وبعضها في السموات مما لا نعلمه، ولم يره الآباء والأجداد ولم يحدثونا عنه البتة؛ إذ الدخول إلى قعر البحار إن تيسر في جهة لم يتيسر في الباقي، وإذا تيسر في الجهة التي ليست شديدة العمق فإنه يكون في لحظات لا تتجاوز وقتاً قصيراً، فما في البحار من خلق لا يعلمه إلا الله. وقد قال ربنا:
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ
[الشورى:29]، أي: ما أودع في السموات وفي الأرض من دابة، والدابة ما يدب على وجه الأرض، ومعناه: أن في الأفلاك والسموات العلا خلقاً من خلق الله تدب على الأرض، وليست هذه صفة الملائكة، إذ الملائكة ذوو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وما شاء الله بعد، ولا تطلق الدابة إلا على من دب على وجه الأرض، على اثنتين أو على أربع أو على أكثر من ذلك.
قال تعالى:
وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ
[يس:36] فقد خلق من الخلق ما لا نعلمه نحن ولا آباؤنا ولا أجدادنا، وإن عرف ذلك البعض فلا يعلمه البعض الآخر، ولا شك أن الكثير من خلق الله لا يعلمه جميع الخلق، والله يلفت أنظارنا لنعلم ذلك، ونزداد لله تسبيحاً وعبادة وإيماناًً بقدرته، وأنه القادر على كل شيء، فهذه الأزواج والأصناف من أنواع المخلوقات الذي خلقها ورزقها ودبرها الله جل جلاله، ولم يخلقها رئيس ولا شريف.
قال تعالى:
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ 
[يس:37].
أي: ومن آيات الله على قدرته وعلى إرادته وعلى وحدانيته، الليل وسلخ النهار منه.
وقوله:
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ
[يس:37].
أي: نكشف وننزع ونأخذ ونزيل، فالآية لهؤلاء الكافرين الجاحدين أننا نأتي إلى الليل والظلام الدامس فننزع عنه نوره وضياءه، فإذا الناس مظلمون، أي: في ظلام.
يقال: أظلم إذا دخل في الظلام، وأظهر إذا دخل في وقت الظهر، وأمسى إذا دخل في وقت المساء، وأصبح إذا دخل في وقت الصباح، قال تعالى:
فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ
[يس:37]، أي: إذا هم يعيشون في ظلام، إذا أخرج الرجل يده لم يكد يراها، ومع ذلك أولج الله الليل في النهار والنهار في الليل، وذكر الليل، وأن الله نزع منه ضياءه ونوره.
فقوله تعالى:
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ
[يس:37].
أي: ننتزع ونستخرج ونأخذ، فهو يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، فيأخذ النهار والضياء والنور وينزعه عن الليل فيصبح ظلاماً، ويصبح الناس في ظلام، وهذا لا يفعله إلا الله، ولا يستطيع أحد من الخلق أن يفعله.