فالله جل جلاله يقول: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
أي: الله جل جلاله يعلم المؤمنين الأدب مع النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه أولى بهم من أنفسهم وبأن تطاع أوامر النبي صلى الله عليه وسلم وتجتنب نواهيه، وتقدم رغباته على رغبات الإنسان نفسه، فالنبي عليه الصلاة والسلام عزيز عليه عنت قومه، حريص على إيمانهم، رءوف رحيم بهم أكثر من أنفسهم لأنفسهم.
ولذلك فإن الله جل جلاله جعل النبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم أمراً ونهياً، تحليلاً وتحريماً، وقال سبحانه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] أي: لن يتم إيمان المؤمن ما لم يجعل النبي عليه الصلاة والسلام الحكم المفوض له، يأمر وينهى بما يراه، إشارته أمر، وإشارته نهي، وطاعة الله في طاعته، ومن عصاه فقد عصى الله.
ونبينا خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام هو أولى الناس بالمؤمنين، أولى الأنبياء بالطاعة والولاء والإخلاص، وهكذا جعل الله جل جلاله نبينا محل القدوة والأسوة، ومحل التحريم والتحليل، وينبغي أن يقدم على نفس الإنسان ورغباته وخواطر نفسه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه، ومن ولده ووالده ومن الناس أجمعين، فقال
والنبي عليه الصلاة والسلام عندما يكون أولى بالناس من أنفسهم وأولاهم بالطاعة، وأولاهم بالحب والولاء، عند ذلك يكون المؤمن مؤمناً حقاً، مطيعاً حقاً، تابعاً حقاً.
أي: أن زوجات النبي عليه الصلاة والسلام هن بالنسبة لكل مسلم كالأم احتراماً وكالأم براً وكالأم تقديراً، ويحرم الزواج بهن بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام في أنفسهن فقط، وليس أخواتهن ولا بناتهن كأخوات وبنات الأم الحقيقية؛ لأن الأم الحقيقية أخواتها خالات لولدها، وليس كذلك زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، فزوجاته يحل الزواج ببناتهن منه ومن ربائب النبي عليه الصلاة والسلام، كما يحل الزواج بأخواتهن وليس كذلك الأم الحقيقة؛ لأن الزبير بن العوام تزوج أسماء بنت أبي بكر وهي أخت عائشة أم المؤمنين، ولم يقل عنها: هي خالة، وتزوج هند بن أبي هالة من بنات المسلمين، وهو ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم المؤمنين الأولى خديجة ، ولم يقل أحد: إنه خال المؤمنين، كما لا يقال لأخواتهن: خالات، ولا لأولادهن أخوال.
ومن هنا لم يقل لـمعاوية : خال وهو أخو أم حبيبة ، كذلك من كان أخاً لبقية أمهات المؤمنين كإخوة عائشة محمد وعبد الرحمن لم يقل لهما أحد: يا خال، أو أنت خالي، وإنما الأمومة هي في كونهن لا يزوجن لأحد قط بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يحل الخلوة بهن، ولا يحل كلامهن إلا من وراء حجاب، وقد قال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53].
ولم تكن أماً للمؤمنين إلا التي دخل بها صلى الله عليه وسلم، أما التي طلقت قبل الدخول فهي لا تعتبر أماً، وليست لها حرمة الأمهات في تحريم الزواج بها.
وفي قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وهو أب لهم).
وكون النبي صلى الله عليه وسلم أباً للمؤمنين إنما هي أبوة احترام وتعظيم وعطف، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام ليس أبا أحد من الرجال أبناء الصلب؛ فأولاده ماتوا أطفالاً، مات القاسم طفلاً، ومات إبراهيم طفلاً ولم يبلغا مبلغ الرجال، مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، وإن كان يقال للأحفاد وللأسباط: أبناء، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام عن الحسن بن علي عليه السلام: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).
وقال عن الحسن والحسين : (ابناي هذان ريحانتي من الدنيا، وهما سيدا شباب أهل الجنة)، وهذا أمر مجمع عليه، فإنه يقال لأولاد فاطمة الحسن والحسين وأم كلثوم: أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنوة سلالة، بنوة ابن البنت، بنوة السبط.
وقد قال عليه الصلاة والسلام لـأنس بن مالك خادمه: (يا بني)، وقال لغلمة من بني عبد المطلب: (أنتم بني)، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (أنا لكم كالوالد أعلمكم).
فالنبي عليه الصلاة والسلام هو أب للمؤمنين أبوة احترام وتعظيم، مع أن من عادة العرب أن تقول للكبير عماً، وتقول للكبير أباً، أبوة احترام وعمومة احترام، والنبي أولى بذلك من عموم المؤمنين.
أي: كان التوارث في صدر الإسلام بالأخوة وبالحلف، وذلك عندما هاجر المؤمنون من مكة للمدينة، وكان قد سبقهم بالإيمان بعض سكانها من الأوس والخزرج ممن أطلق الله عليهم بعد ذلك الأنصار، فقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة:100].
فسمى الله المهاجرين بدينهم من مكة للمدينة مهاجرين؛ لأنهم هاجروا إلى الله ورسوله، هجروا الأوطان والمساكن والأموال، فراراً بدينهم من الكفر وأعداء الله.
فعندما هاجر أهل مكة للمدينة آخى النبي عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار أخوة خاصة زيادة على الأخوة العامة، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وكانوا بهذه الأخوة يتوارثون، فيرث المهاجري الأنصاري، ويرث الأنصاري المهاجري، وكان هذا في صدر الإسلام، ثم نسخ الله جل جلاله ذلك وقال: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأحزاب:6].
الأرحام: الأقارب كالأولاد بالنسبة للأب والأم، والأبوان بالنسبة للأولاد، فهم أولى بالإرث من بقية الأرحام والعصبة، وهم أولى بالإرث مما كان في صدر الإسلام من التوارث بالإيمان وبالأخوة الدينية، وهذه الآية نسخت ما كان قبل.
قال تعالى: كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الأحزاب:6] أي: كان هذا الأمر في التوارث بين ذوي القرابات وذوي الأرحام هو الأصل في كتاب الله في اللوح المحفوظ، ولكن ذلك نسخ بعد هذا، وكما سبق أن قلت أكثر من مرة: الكتاب كتابان: كتاب من قبل الحق، وكتاب من قبل الملائكة، فما كان من قبل الله لا يبدل ولا يغير، قال تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق:29]، وما كان من قبل الملائكة يبدل ويغير، قال تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] وأم الكتاب هو أصل اللوح المحفوظ، وهو ما كان من قبل الله جل جلاله، ولا يراه غيره.
والملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون إنما يرون اللوح الذي من قبلهم، فيمتثلون ما وجدوا فيه من تحليل وتحريم، ومن أمر ونهي، من التوارث بين المؤمنين من أنصار ومهاجرين قد كان ذلك في الكتاب الذي من قبل الملائكة فأمروا به ونهوا، ونزل جبريل على النبي عليه الصلاة والسلام في الأمر بذلك، ولكن الذي في أم الكتاب هو ما قال الله عنه: كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الأحزاب:6].
أي: في اللوح المحفوظ الذي هو من قبل الله أن التوارث لا يكون إلا بين الأرحام، بحيث يرث بعضهم بعضاً، ويتولى بعضهم بعضاً غرماً وغنماً، والغنم بالغرم، فعلى الأولياء أن يقوموا بأوليائهم عند الحاجة، ومن هاهنا يقع التوارث بين الأرحام.
فقوله: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا [الأحزاب:6] فلا يجوز التوارث بين الأباعد بمجرد الإيمان وأخوة الإسلام، وإنما التوارث يكون بين الأرحام، وَأُوْلُو الأَرْحَامِ أي: من المؤمنين؛ ولذلك لا توارث بين دينين كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يرث مؤمن كافراً، ولا يرث كافر مؤمناً) وإنما التوارث بين الأرحام من المؤمنين.
وقوله: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا .
أي: إلا أن يأتوا إلى الأولياء الأقارب، ويفعلوا إليهم معروفاً، والمعروف: هو الوصية بالثلث، أو العطية يداً بيد، والإحسان والنفقة، إن كان ميتاً فوصية، وإن كان حياً فعطية ومنحة وهبة، ولم يمنع الله الوصية والمعروف والعطية والمنحة بين الأرحام المؤمنين الأقارب، وإنما حرم التوارث بالإيمان والإسلام مع البعد عن الرحم، وعن القرابة.
أولاً: كون النبي صلى الله عليه وسلم أولى بنا من أنفسنا أمراً ونهياً، وتحليلاً وتحريماً.
ثانياً: كون زوجات النبي عليه الصلاة والسلام هن أمهات المؤمنين رجالاً ونساء، فبالنسبة للنساء هي أمومة محبة وتقدير وتعظيم، وبالنسبة للرجال كذلك مع تحريم الزواج منهن ألبتة، احتراماً لمكانة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لا يجوز الخلوة بهن، ولا يجوز الكلام كفاحاً مواجهة، قال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، وقال سبحانه: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] أي: لا تخضع الأم من أمهات المؤمنين بالقول اللطيف اللين للرجال من المؤمنين.
والتحدث بغير لين ولا تكسر في القول هو أمر لجميع الأجنبيات مع الرجال، ويزداد ذلك ويتأكد من زوجات النبي عليه الصلاة والسلام مع عموم المؤمنين.
وقالت امرأة لـعائشة : يا أماه، أي: يا أمي، فقالت لها السيدة عائشة: لست لك بأم إنما أنا أم الرجال، وهو رأي لـعائشة ورأي لجماعة من الصحابة والتابعين والأئمة، ولكن عموم الآية يدل على أن الأمومة هي أمومة الاحترام والتقدير، وهي تعم الرجال والنساء، بدليل القراءة التي هي خارجة عن السبع: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) فالأبوة أبوة احترام وتقدير، كالأمومة أمومة احترام وتقدير، وعدم الزواج للتقدير والاحترام ولحفظ مكانة النبي عليه الصلاة والسلام.
ثالثاً: تجوز الوصية والمنحة والعطية للأباعد من المؤمنين، والذي لا يجوز هو التوارث فقط، ولا تجوز الوصية بأكثر من الثلث، بل كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الثلث والثلث كثير).
وعندما أراد سعد بن أبي وقاص أن يوصي بجميع ماله، وكان إذ ذاك مريضاً يظن الموت، ولم يكن له وارث إلا ابنة له، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام: (أأوصي بجميع مالي؟ قال: لا، فإن كان لا بد فالثلث والثلث كثير، لأن تترك أولادك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
وفي هذا إشارة إلى أن سعداً لن يموت إلا وله أولاد وورثة، وكان الأمر كذلك، وكان هذا الخبر لـسعد من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام، ومن الإخبار بالغيب.
رابعاً: أن عدم التوارث إلا بالقرابات والأرحام هو ما كان في الكتاب المحفوظ، وهو الذي كان مسطوراً ومكتوباً، وهو الأصل، وإنما أبيح التوارث بالأخوة لوقت خاص لحكمة ظاهرة، وهي أن الذين آمنوا كانوا قلة في الصدر الأول، وكان أكثر أقربائهم وأرحامهم لم يسلموا، ولا توارث بين مؤمن وكافر، فالمال سيبقى بلا وارث، إذ الورثة من الأنصار أو المهاجرين أكثرهم لم يؤمنوا بعد، وأكثرهم لا يزالون على دين الكفر، فالله جل جلاله أذن بالتوارث بالإيمان وأذن بالتوارث بالأخوة الدينية، وكان ذلك موقوتاً إلا أن أصبح الأقارب والأرحام مؤمنين كبقية مورثيهم ووارثيهم.
يقول تعالى: اذكر يا محمد إذ أخذ الله من النبيين ميثاقهم وعهدهم ألا يتوارث إلا الأرحام، وألا توارث بين مؤمن وكافر، واذكر يا محمد إذ أخذ الله من النبيين مواثيقهم بالوفاء بالتبليغ، وبالدعوة إلى الله، ومن ذلك التوارث بالأرحام لا بالأخوة الدينية.
فقوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ .
أي: كما أخذ من النبيين قبلك عهودهم ومواثيقهم المؤكدة المشددة المحلوف عليها المجتمع عليها أن يبلغوا دين الله، وألا يتوارث كافر مع مؤمن، وألا يتوارث بعيد مع وجود القريب، وأن يبلغوا دين الله الحق، وأن يوفوا بما أمروا بتبليغه.
كذلك فقد أخذ منك العهد المشدد المؤكد باليمين الثابتة على أن تبلغ دين الله، وأن تدعو إلى الله، وأن تحرم ما حرم الله، وأن تحل ما أحل الله، وأن المؤمنين إخوة بعضهم أولياء بعض، وأن الكفرة أعداء للمؤمنين وبعضهم أولياء بعض.
إذاً: أخذ منك العهد والميثاق كما أخذ من نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم.
وهؤلاء الخمسة الذين ذكروا في غير ما آية هم أولو العزم من الرسل، وهم أصحاب الشرائع والرسالات، وقد تكبدوا في دين الله ما لم يتكبده غيرهم من الرسل، وهؤلاء كانت لهم رسالات خاصة دعوا إليها أقوامهم، فقد دعا نوح بشريعة خاصة، ودعا بعده إبراهيم، وبعده موسى، وبعده عيسى، ودعا بعدهم محمد صلى الله عليه وسلم، أما الأنبياء الآخرون فقد كانت شرائعهم ورسالاتهم بعضها مأخوذ من بعض، لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48].
أما الدعوة للتوحيد فدعوتهم جميعاً واحدة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء أبناء علات أبونا واحد، وأمهاتنا شتى).
أبناء العلات هم أبناء الضرائر الذين تكون أمهاتهم شتى متعددات ويكون الأب واحداً، وهو ما يعبر عنهم بالإخوة غير الأشقاء؛ والأب واحد، أي: الدين واحد، والدعوة إلى توحيد الله واحدة، فكلهم أتوا يدعون الناس إلى عبادة الله الواحد الذي لا شريك له: أن اتقوه، وأن وحدوه، وأن خصوه بالعبادة ولا تعبدوا معه غيره.
أما الشرائع فقد تكون مختلفة حسب الزمان والمكان، وحسب الإنسان وعصره، فقد كانت بعض الشرائع متشددة، وبعضها سهلة، ودين الإسلام أقرب الأديان يسراً، وأبعدها عن العسر، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78] وكذلك كانت ملة إبراهيم لم يكن فيها عسر، بل كانت كلها يسراً.
قدم الله تعالى في هذه الآية الكلام مع النبي عليه الصلاة والسلام قبل نوح وقبل إبراهيم وموسى وعيسى.
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ [الأحزاب:7] ثم ذكر بعد ذلك: وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى [الأحزاب:7] فما الحكمة في تقديم ذكر نبينا على غيره وكلهم أولو العزم من الرسل، وكلهم صلوات الله عليهم أصحاب شرائع خاصة وديانات خاصة؟
أقول: كان ذلك لأفضلية النبي صلى الله عليه وسلم عليهم جميعاً، ولإمامته عليهم جميعاً، وقد قال الله جل جلاله: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] وكان أفضل الكل محمداً صلى الله عليه وعلى آله؛ ولذلك قال في هذه الآية: (ومنك ومن نوح) فقدم ذكره على نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وهم كلهم أولو العزم من الرسل.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث) أي: كان النبي عليه الصلاة والسلام المخلوق الأول في صلب آدم، خلقه الله قبل خلق بقية الأنبياء، وإن كانت بعثته آخر البعثات، وهذا معنى إمامة النبي عليه الصلاة والسلام بالأنبياء ليلة أسري به في المسجد الأقصى.
إذاً: قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7].
هذه المواثيق المشددة والعهود المؤكدة والأيمان المغلظة على الوفاء بالعهد وبلاغ الرسالة وأدائها كما أمر الله، وأخذ الله ذلك من الأنبياء عموماً ومن أولي العزم الخمسة خصوصاً، ومن نبينا عليه الصلاة والسلام نبي الكل، وهو الرسول المرسل إلى الخلق كافة، والأنبياء حتى أولو العزم الخمسة لم يكونوا أنبياء إلا إلى أقوامهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خصصت بخمس: كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة).
وقوله: وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا .
أي: أخذ منك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى المواثيق المغلظة المؤكدة المشددة بالوفاء بالعهد وتبليغ الرسالة كما أمر الله، وكان من ذلك: ألا توارث إلا بين الأرحام من المؤمنين، وكان من ذلك بقية الأوامر والنواهي، وتبليغ الرسالة في الحلال والحرام والآداب والرقائق، وكل رسالة بحسبها، وكل على طريقته ومنهاجه.
أي: أخذ العهود المؤكدة المغلظة؛ ليكون ذلك سبباً لسؤال الأنبياء والرسل عما بلغوه وعمن بلغوه، من آمن ممن بلغوه ومن كفر.
فقوله: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ أي: ليسأل الأنبياء الصادقين الذين لا يعصون الله ما أمرهم عن صدقهم الذي أرسلوا به، وعن الرسالات والشرائع.
وما الحكمة من سؤال الله جل جلاله لأنبيائه وهو يعلم صدقهم ويعلم تبليغهم؟
أقول: الحكمة من ذلك ظاهرة إذ كذبهم الكثير من أتباعهم وممن أرسلوا إليهم، فعندما يسألون ويجيبون بما أرسلهم الله به يكون ذلك تبكيتاً لهؤلاء الكفرة من الأتباع الذين كذبوا، والذين لم يصدقوا، والذين أبوا إلا الجحود والكفران.
وقد فسرت الآية: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ أي: ليسأل الأتباع من المؤمنين: هل صدقوا الله ما وعدوه عندما آمنوا وأسلموا؟ هل صدقوا الرسل وما جاءوا به؟ هل بلغوا ذلك بدورهم؟ وفي الحديث: (والعلماء ورثة الأنبياء).
وفي آخر: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع).
والآية تشمل أن الله يسأل الرسل والأنبياء تبكيتاً لمن كذبهم ولم يؤمن بهم، ويسأل المؤمنين من الأتباع زيادة في الإحسان إليهم، وأن من آمن فله الجنة والرضا والرحمة، ومن لم يؤمن فله الجحيم واللعنة والغضب.
وقوله: وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الأحزاب:8]، أي: أعد للكافرين الذين كفروا بالرسالات وجحدوها، ولم يعملوا بما جاء به الأنبياء، أعد الله لهم يوم القيامة العذاب الأليم.
وقد يكون العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، في الدنيا عذاب الأسر والعقوبة، والأمراض، والقحط، والذل والغلبة والقهر، ويوم القيامة أشد وأنكى من دخول النار ولعنة الله وغضبه الدائم.
إذاً: هؤلاء الذين لم يؤمنوا بالرسالات التي أرسلوا بها فإن الله يعد لهم ويهيئ لهم العذاب الأليم في الدنيا بما شاء، وفي الآخرة العذاب الأليم الخالد الدائم، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:56].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر