ربنا جل جلاله يؤدب عباده المؤمنين من أتباع نبيه صلى الله عليه وسلم الصالحين منهم والمتذبذبين والمنافقين عندما حضروا غزوة الخندق، فزاغت منهم الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وزلزلوا زلالاً شديداً، فأخذوا يتداعون في أن يتركوا الغزوة ويعودوا إلى يثرب كما سموها، وأخذوا يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في ترك الغزوة، ويزعمون أن بيوتهم عورة، وكذبهم الله بقوله: وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب:13].
بعد ذلك قال الله لهم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
أي: لقد كان لكم أيها المؤمنون في رسول الله قدوة حسنة.
وقد صبر عليه الصلاة والسلام على لأواء الغزوة وشدتها، وعلى شدة عداوة الأعداء، فقد شتم وهجر وكسرت رباعيته، وأسيل دمه فداه النفس والولد والمال صلى الله وعليه وعلى آله، وكان في ذلك الصابر المحتسب في أقواله وأفعاله وأحواله، وكما أن الجبال لا تتزحزح فهو عليه الصلاة والسلام كذلك لم يتزحزح، وقد قاد الغزوة بنفسه وبإشرافه، فعندما عجزوا عن الصبر والمصابرة كان عليهم أن يتخذوا رسول الله عليه الصلاة والسلام الأسوة والقدوة، ومكان الإمامة، ومكان التأسي، ولكنهم لم يفعلوا إلا القليل منهم ممن سيصفهم الله جل جلاله ويثني على أفعالهم في الآية الآتية.
وسبب نزول هذه الآية ما حصل في هذه الغزوة، ولكن كما في أصول الفقه: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالله يأمر المؤمنين جميعاً من حضر الغزوة ومن لم يحضرها، من عاصره ومن لم يعاصره، وإلى عصرنا وإلى يوم القيامة، أن يتخذ محمداً صلى الله عليه وعلى آله الإمام القدوة، والأسوة الحسنة في الأقوال والأفعال والأحوال، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلمنا مجامع الدين، حيث علمنا أن نقول: الله ربنا، ومحمد نبينا، والقرآن إمامنا، والإسلام ديننا، والقبلة كعبتنا، والمؤمنون إخوتنا.
فالنبي عليه الصلاة والسلام هو القدوة الحسنة الطيبة لكل مؤمن، فإذا اختلف المسلمون في نصوص من القرآن والسنة، وكانت تحتمل وتحتمل، فالمحتم في الفهم والقول والعمل هو نبينا عليه الصلاة والسلام، ومن أجل ذلك كانت هذه الآية خاصة بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وباتخاذه وحده عليه الصلاة والسلام القدوة والأسوة بين البشر جميعهم في مشارق الأرض ومغاربها، بين العرب والعجم، بين من عاصره ومن أتى بعده وإلى يوم القيامة.
وقوله: لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
أي: من كان يصدق في دينه وفي إيمانه بربه، ولم يكن منافقاً متذبذباً هالكاً ضائعاً، ومن كان يؤمن باليوم الآخر الدائم يوم الحساب، يوم العرض على الله، وكان قد ذكر الله كثيراً في سفره وحضره، في منشطه ومكرهه، كما كان صلى الله عليه وسلم صابراً مصابراً يتحمل كل شيء من الأعداء، وهو لا ينسى ربه على جميع الأحوال، يذكره قائماً وقاعداً، محارباً ومسالماً، يذكره باللسان، ويذكره بالجنان، ويذكره بالأركان.
وهكذا كل من زعم الإسلام وكان مسلماً حقاً يؤمن بالله وحده، ويؤمن بيوم القيامة، ويذكر الله على كل أحواله، فلا يستقيم له ذلك ما لم يتخذ المصطفى عليه الصلاة والسلام الأسوة والقدوة في جميع أحواله، وهذه الأسوة في العبادات وفي الدين واجبة وجوب الإسلام، وتكون سنة، وتكون مستحبة، وتكون أدباً، فنلبس ما كان يلبسه صلى الله عليه وسلم، ونصلي حيث كان يصلي عليه الصلاة والسلام، ونسر بسروره عليه الصلاة والسلام، ونحزن بحزنه عليه الصلاة والسلام، ونزهد في هذه الدنيا التي لا تسوى عند الله جناح بعوضة، كما كان يزهد فيها عليه الصلاة والسلام.
ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يلتزمون كل ذلك في أحوالهم العامة، قولاً وفعلاً وهدياً، حتى لقد كانوا يتتبعون الأمكنة التي حج فيها عليه الصلاة والسلام من حيث القيام والقعود والمنام واليقظة، ومن حيث الحديث بصوت مرتفع وبصوت منخفض، وحين كان يتهجد، ومتى كان يرضى على نسائه، ومتى كان يغضب عليهن، وهكذا في كل الأحوال.
وقد اشتهر عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بأنه كان يلتزم ذلك التزاماً دقيقاً، حتى إنه كان إذا حج يتتبع كل مكان وقف فيه عليه الصلاة والسلام، أو أقام وقعد، وإذا دخل المسجد كان يلتزم أن يصلي فرائضه وسننه وتهجده حيث كان يصلي عليه الصلاة والسلام، والله أمر بأن يجعل نبينا القدوة والأسوة في أقواله وفي أفعاله وفي جميع أحواله، وألا يتخذ سواه في شيء من ذلك إلا ما كان من أصحابه؛ لأن أصحابه التزموا هديه وسيرته، وكانوا ألسنة ناطقة وأحوالاً كاشفة لسنته رضوان الله عليهم.
وصف الله حال المنافقين في الآية السابقة كيف كان قتالهم في غزوة الخندق أو الأحزاب، وفي هذه الآية الكريمة يصف سبحانه حال المؤمنين من الرعيل الأول، من السابقين من المهاجرين والأنصار، كيف كان موقفهم عندما رأوا الأحزاب قد تجمعوا عليهم من قريش وغطفان، ويهود المدينة، لما رأى المؤمنون الصادقون ذلك لم يتزحزحوا ولم يضجروا، بل قبلوا كل ذلك بقلب ثابت وبيقين راسخ، وقالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:22].
وقد وعد الله بذلك حيث قال جل جلاله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
فالله سبحانه يبتلي خلقه وعباده؛ ليرى صدق الصادق وكذب الكاذب، وهو يعلم ذلك قبل أن يكون.
فقوله: (أم حسبتم) أيك أحسب وظن المؤمنون أن الله لا يبتليهم ويختبرهم بما اختبر وابتلى به المؤمنين السابقين من أتباع الرسل أولي العزم وغيرهم من رسل الله؟ لقد ابتلوا في أنفسهم، وفي أوطانهم، وفي أموالهم، فما زادهم ذلك إلا إيماناً ورسوخاً وثباتاً، وهكذا أتباع خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم عندما رأوا الأحزاب لم يتزعزعوا ولم يضجروا ولم يملوا ولم يكلوا، وإنما قالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:22].
وعد الله في كتابه في غير ما آية كما ذكرت كائن لا محالة.
ودعا صلى الله عليه وسلم في العديد من الأحاديث الصحيحة والمتواترة والمستفيضة المؤمنين إلى الصبر والمصابرة والثبات؛ لأن الله يبتلي عباده في هذه الدنيا الدنية الزائلة غير الدائمة، والتي هي الطريق إلى الجنة لمن أطاع وأناب.
وقوله: وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:22].
أي: لا يقول ربنا إلا صدقاً، ولا يقول نبينا صلى الله عليه وسلم إلا صدقاً، قال تعالى: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ [آل عمران:95] وقال سبحانه عن نبيه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].
فما قاله الله كائن لا محالة، وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم واقع لا محالة، ذلك من علم الله ومن إخبار الله، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27].
فالمؤمنون قبل ذلك كانوا يهيئون أنفسهم ويعدونها لهذا البلاء والاختبار، فلم يدخلوا الإسلام اعتباطاً، ولم يدخلوا الإسلام على أنهم دخلوا نزهة يلعبون فيها، ولكن دخلوا ليبذلوا النفس والنفيس، والعزيز والحبيب في سبيل الله ونصرة للإسلام ودفاعاً على أوطانه.
قال ربنا في وصف المؤمنين: وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22].
أي: هذا البلاء والاختبار، وهذه المحنة التي من أجلها غزاهم الأعداء إلى عقر دارهم، حتى كادت تتزلزل الأرض من تحت أقدامهم، وحتى ظهر النفاق، وحتى تزعزعت قلوب ضعاف الإيمان، أما الثابتون والراسخون من الرعيل الأول من المهاجرين والأنصار ما زادهم هذا الابتلاء والاختبار إلا إيماناً وتسليماً وتصديقاً بوعد الله، وتصديقاً بالله وبالقرآن كلام الله، وبمحمد خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه.
وهنا في ذكر الإيمان دليل لأهل السنة والجماعة على أن الإسلام والإيمان يزيد وينقص، يزيد بالثبات والطاعة والرسوخ والصبر على البلوى والاختبار، وينقص عند ضعاف النفوس والمزعزعين عندما يرون أي ابتلاء كان، فهؤلاء الراسخون ما زادهم هذا البلاء والابتلاء والاختبار إلا إيماناً ويقيناً وتصديقاً بأن الله مرسل نبيه محمداً ليبلغ عنه الخلق، منذ ظهر في بلاد مكة المقدسة في أرض الحجاز، وإلى يوم القيامة.
وما زادهم ذلك إلا تصديقاً بما أخبروا به في كتاب الله وسنة رسوله، وما زادهم ذلك إلا تسليماً واستسلاماً لله ولقضائه ولأمره ولبلائه، يخرجون من مثل هذا الابتلاء كما يخرج الذهب من النار وقد زالت شوائبه، وهكذا البلاء لا يزيد المؤمن إلا إيماناً، ولا يزيد المسلم إلا تصديقاً واستسلاماً لله ولقضاء الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر