إسلام ويب

تفسير سورة الأحزاب [23-28]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن المؤمنين الصادقين الذين ثبتوا مع الحبيب صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق قد أثنى الله عليهم وكافأهم فنصرهم على عدوهم، ومكنهم من رقاب اليهود الغادرين، فأنزلهم من حصونهم وأورث المؤمنين أرضهم وديارهم.
    قال الله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].

    لا يزال ربنا يشيد بأحوال الصادقين من المؤمنين الثابتين الراسخين.

    قوله: (من المؤمنين).

    (من) للتبعيض، أي: من المؤمنين بالله وبرسوله (رجال) مؤمنون صادقون.

    وقوله: (صدقوا ما عاهدوا الله عليه).

    أي: عاهدوا الله وأعطوه من أنفسهم ذمتها وعهدها والثبات في دين الله، والطاعة لكتابه، والطاعة لرسوله، والاقتداء به صلى الله وعليه وسلم.

    فهؤلاء المؤمنون عاهدوا الله على الوفاء، وعلى الثبات، وعلى الإخلاص ما داموا أحياءً.

    وقوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ).

    أي: من هؤلاء من قضى نذره، ووفى بعهده واستشهد في سبيل الله، عاهد الله ووفى بعهده، وآمن وصدق في إيمانه، وقاتل وثبت في قتاله، وابتلي في نفسه وفي ماله وفي أرضه فثبت في كل ذلك ثبوت الجبال الرواسخ، فمن هؤلاء الصادقين من قضى نحبه، والنحب: قيل: النذر، وقيل: العهد، وقيل: الحياة والموت، وكل ذلك صحيح، فهؤلاء قد وفوا نذورهم، ووفوا عهودهم وعهودهم بالصدق والثبات، وجاهدوا في سبيل إعلاء كلمة الله، حتى استشهدوا في سبيل الله.

    وممن قضى نحبه حمزة بن عبد المطلب عم النبي عليه الصلاة والسلام، ومنهم مصعب بن عمير وغيرهما ممن استشهد في أحد وغيرها.

    فجميع الصحابة تحملوا الشدائد والرزايا والبلايا في سبيل الله، ومن أجل إعلاء كلمة الله، فكل هؤلاء ممن صدقوا الله ما عاهدوه، وقضوا نحبهم وعهودهم إلى أن استشهدوا في سبيل الله، ومنهم من بقي على عهده إلى أن مات.

    سبب نزول قوله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه...)

    ورد في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: (هذه الآية ما أظن إلا أنها نزلت في عمي أنس بن النضر ، وبه سميت أنساً ، فاتته معركة بدر ولم يعلم بها؛ لأنها لم تحدث إلا اتفاقاً، وعندما لم يحضرها تألم في نفسه وتوجع وقال: معركة يحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وأغيب عنها، فعلي عهد الله إن كانت هناك معركة وحضرها الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه ليرين الله مني ما أصنع).

    لم يرد أن يزكي نفسه، ويقول: سأقاتل وسأعطي وسأفعل، وإنما قال: (ليرين الله مني ما أصنع)، أي: من قتال وجهاد في سبيله سبحانه، قال أنس بن مالك : فجاءت معركة أحد فبذل من نفسه، ولقي في طريقه سعد بن معاذ فقال: واهاً يا سعد ، إني لأجد ريح الجنة دون أحد.

    وإذا بـأنس بن النضر يدخل المعركة ويقاتل قتال المريد للموت والشهادة إلى أن سقط في المعركة شهيداً، وبه بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، ومثل به أعداء الله من المشركين الكافرين، حتى قال أنس وغيره من الرواة عندما بحث عنه في الأموات وجثثهم: لم تعرف جثة أنس بن النضر إلا أخته الربيع عرفته ببنانه من كثرة الجراح، ولتمثيل وتشويه جثته من قبل أعداء الله من المشركين الوثنيين.

    وورد أن هذه الآية نزلت في طلحة بن عبيد الله كذلك، وقد كانت شلت يده في غزوة أحد؛ دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهاداً في سبيله.

    ومنهم أيضاً مصعب بن عمير القرشي الذي كان شاباً مترفاً بمكة، وعندما أسلم وكان من المسلمين الأول أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لتعليم الناس الإسلام والدين في المدينة، فعاش عيشة الزهد، وكان إذا وجد تمرات أكلها وشرب عليها جرعة ماء وحمد الله، حتى عندما استشهد لم يجدوا له ثوباً يكفنونه به إلا نمرة فكفنوه بها، فكانوا إذا غطوا رأسه تنكشف قدماه، وإذا غطوا قدميه ينكشف رأسه، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (استروا رأسه، وضعوا على رجليه الإذخر).

    فكان من هؤلاء الصحابة من استشهد في سبيل الله، كما قال الله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ [الأحزاب:23] أي: أوفوا بنذورهم وبعهودهم وبذلوا أنفسهم وأرواحهم رخيصة في سبيل الله.

    وقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ [الأحزاب:23].

    أي: من هؤلاء الرجال المؤمنين الذين صدقوا الله ما عاهدوه من قاتل ولم يمت، ومنهم خالد بن الوليد الذي ما حضر معركة إلا وخرج منها منتصراً مظفراً، فـخالد بن الوليد جاءه الموت وهو على فراشه، وما من موضع في بدنه إلا وأصابته سهام وأصابته طعون بالسيوف، فأخذ يبكي ويقول: هأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء!

    قال ذلك تواضعاً وهضماً لنفسه، وإلا فـخالد قد ارتمى على الموت فأباه الموت، وقذف نفسه في كل معركة ليموت، ولكن الموت لم يرده، إلى أن مات على فراشه، وكان ممن ينتظر مع الكثير من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذه الآية وإن كانت نزلت في غزوة الأحزاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إلا أنها تشمل كل المؤمنين الصادقين الذين صدقوا الله عهودهم، وبذلوا أنفسهم رخيصة في سبيل الله، فذهبوا شهداء في سبيله.

    قوله: وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].

    أي: من يوم أن قالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قالوها لساناً وأيقنوا بها جناناً، وعملوا بمقتضاها أركاناً، إلى أن بذلوا الأرواح والأموال، وبذلوا كل عزيز وحبيب على النفس في هذه الحياة الدنيا لم يبدلوا ولم يغيروا، وهذا من أعظم الإشادة بهؤلاء رضوان الله عليهم، وقد قال عنهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).

    فما كان عليه صلى الله عليه وسلم هو موضع القدوة بأمر الله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] وكذلك السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، فهؤلاء رضي الله عنهم ورضي أعمالهم وطاعتهم، وهم كذلك رضوا عن الله بقضائه ورضوا برزقه، ورضوا بأمره، ورضوا ببلائه إلى أن ذهبوا إلى الله قريرة أعينهم ودخلوا جنان الخلد مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

    وكذلك صدقوا الله ما عاهدوه عليه إلى أن قضوا نحبهم وأنهوا حياتهم، إلى أن أوفوا بنذورهم وعهودهم، رضي الله عنهم وألحقنا بهم لا مبدلين ولا مغيرين.

    وقوله: وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].

    أي: لم يغيروا دين الله، ولم يبتدعوا فيه، ولم يرتدوا عنه، ولم يخرجوا عما عاهدوا الله عليه من الثبات في دينه، والثبات على طاعته وطاعة نبيه صلى الله عليه وعلى آله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088536255

    عدد مرات الحفظ

    777190530