يوجه الله زوجات نبيه صلى الله عليه وسلم بما يجب عليهن من الأدب، وأن الله تعالى قد فضلهن على غيرهن من النساء، فمن أتت منهن بفاحشة ضوعف لها العذاب؛ وإذا اتقين الله ولزمن بيوتهن فلهن الأجر العظيم.
قال الله تعالى:
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا 
[الأحزاب:30].
بعد أن اخترن الله ورسوله نزلت الآيات في نسق واحد، فقد توعدهن الله وأنذرهن أن يؤذين رسول الله من غيرة بعضهن من بعض، حتى لقد كانت عائشة تهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم كله، وكلهن يهجرن رسول الله اليوم واليومين والثلاثة؛ لشدة غيرتهن، بل لقد كانت عائشة تهجر الحديث معه، فقال لها يوماً عليه الصلاة والسلام: (يا عائشة إني لأعلم عندما تكونين عني راضية وعندما تكونين عني غضبى، قالت: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا غضبت قلت: لا ورب إبراهيم، وإذا رضيت قلتِ: لا ورب محمد، فقالت: والله يا رسول الله لا أهجر إلا اسمك).
فهن يردن الدلال عليه، وهذا حق الزوجات على الأزواج، ولكن لا يصل الدلال إلى الإيذاء لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
وكان شيخ أعرابي متزوجاً صغيرة ففرت منه وذهبت عند أهلها وامتنعوا أن يردوها عليه، فجاء يشتكي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام بقطعة شعرية بليغة ختم القصيدة والشكوى الشعرية بقوله: وهن شر غالب لمن غلب، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يكرر معه هذا الشطر من البيت فيقول: (وهن شر غالب لمن غلب).
فهو صلى الله عليه وسلم قد قاسى من غلبة فيهن، ومن كثرة دلالهن عليه لكن الله غار عليه أكثر من غيرته على نفسه صلى الله عليه وسلم، فأدبهن وأنذرهن، وأمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يراجعهن فيما إذا أصررن على أن يعشن ملكات مترفات أن يطلقهن ويمتعهن، ويذهبن إلى حال سبيلهن، ولكنهن رضي الله عنهن كن جميعاً من التقوى والإيمان ومن الحب لله والطاعة لرسول الله في الدرجة القصوى، بحيث لم تستشر إحداهن أباً ولا أماً، ومن أول مرة قلن له: أفيك نستشير أبوينا يا رسول الله؟ نحن نختار الله ورسوله والدار الآخرة، وبعد هذا لم يعدن أبداً إلى طلب شيء من رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فالله يتوعدهن بقوله:
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ
[الأحزاب:30].
والفاحشة هنا فسرت بالنشوز على رسول الله، وبمخالفته المخالفة الدلالية التي تكون بين الزوج والزوجة، لا المخالفة التي تكون بين المؤمن ورسول الله فهي ردة وكفر، وهي خروج عن طاعة رسول الله، وخاصة عندما يأمر كفاحاً ومواجهة فيعتبر ذلك تمرداً، لكن فسّروا الفاحشة هنا بسوء الخلق والنشوز والإيذاء بكثرة المطالب وشدة الغيرة.
وننقل ما قاله القرطبي وغيره: حتى لو كان الإنذار بالفاحشة المعروفة من الفساد والزنا وحاشاهن من ذلك، فالشرط لا يلزم منه الوقوع، وقد قال الله لنبيه:
لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ
[الزمر:65] ورسول الله معصوم من الذنوب صغارها وكبارها، ولكن إذا قيل هذا للرسول عليه الصلاة والسلام فغيره ممن ليس معصوماً من باب أولى.
ولم يكد يموت رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى ارتد الكثير من العرب، وتنبأ أربعة من الكذبة وادعوا النبوة، وامتنع الكثيرون من أداء الزكاة ممن بقوا على الإسلامه، وقد أنذرهم الله قبل أن يكون ذلك فقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ
[المائدة:54].
أعني أن الشرك والكفر يكون من غير الأنبياء وقد كان، أما من الأنبياء الذين عصمهم الله فلا، وتكريماً للأنبياء ولرسول الله في الدرجة الأولى لم تصدر الفاحشة من إحدى زوجاته، ولن يكون ذلك، وهو يبقى شرط، والشرط لا يلزم منه الوقوع، وأمهات المؤمنين لا يأتين الفاحشة، وبالتالي لا يعاقبن لا ضعفاً ولا ضعفين، ولا مرة ولا مرتين، ولكنه وعيد وإنذار ليعلمن أنه لا يوجد عبد من عبيد الله من الأنبياء فمن دونهم فوق حساب الله وعقاب الله، وأن الخروج عن أمر الله جزاؤه العذاب.
والله أراد أن يجعل من أمهات المؤمنين مثالاً لباقي المؤمنين والمؤمنات، فقال:
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ
[الأحزاب:30] أي: يضاعف فيما لو فعل مثل ذلك غيرهن مرتين في الدنيا والآخرة.
وقوله:
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا
[الأحزاب:30].
أي: أن مضاعفة العذاب لهن -إن صدر منهن ذلك- هين على الله ويسير عليه؛ لأنهن إن فعلن ذلك لم يكن لهن عند الله مقام ولا اعتبار، فيعذبهن ويضاعف لهن العذاب في الدنيا والآخرة، ومن إكرام الله للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن إكرامه لهن لم يصدر ذلك عنهن، وبالتالي لم تكن عقوبة لا مرة ولا مضاعفة.
نكون قد ختمنا من كتاب الله واحداً وعشرين جزءاً ولله الحمد والشكر والمنة، أي: بقي علينا تسعة أجزاء، وهي أقل من الثلث، وندعو الله ونرجوه ضارعين كما أعاننا على تفسير كتابه إلى حيث وصلنا، أن يعيننا على إتمامه، وأن يقبله فضلاً منه وشكراً له جل جلاله.
وقد مضى على هذا تسع سنوات، ومما أشكر الله عليه وأشكر عليه أخانا الشيخ محمد ناظرين؛ لأنه قد سجّل جميع ما مضى معنا من تفسير في أشرطة، فأصبح لنا تفسير منطوق به، وكون القرآن سجِّل متلواً فهذا عرفه كثير، أما أنه سجِّل التفسير من البداية إلى النهاية لم أسمع بهذا، وتسجيل واحد وعشرين جزءاً نعمة أشكر الله عليها.
وقد كنت أكتب التفسير في أيامي الأولى وكتبت بضعة أجزاء، ثم توقفت عن الكتابة عندما شعرت بأن أخانا الملازم لنا منذ تسع سنوات يسجّل ذلك ويتكلف له مالاً، ويتكلف له زمناً وعملاً، فحمدت الله أولاً، ثم شكرته على صنيعه.
قال الله تعالى:
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا 
[الأحزاب:31].
أي: يا نساء النبي! من عاشت منكن مطيعة لربها ومطيعة لزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاملة للصالح من الأعمال، نؤتها أجرها مرتين.
وطاعة الله طاعته في كتابه، وطاعة رسول الله طاعته في سنته، وفعل الصالح القيام بالأركان وما يتعلق بها من واجبات وسنن وآداب ومستحبات.
والواجب لا يترك بحال أبداً، والسنة مأجور فاعلها، قد يعاتب تاركها إن تركها ألبتة، والمستحبات زيادة نوافل، والإحسان: هو الرتبة العليا كما في حديث جبريل الذي رواه عمر وغيره عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان، فقال: (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ومن يعبد الله يره بعين القلب والبصيرة:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
عندما يرى نفسه وخلقه يرى الله في ذلك، ويقول: كيف خلقني ربي؟ من الذي يستطيع أن يخلق مثل هذا الخلق الناطق الناظر السامع المتحرك العاقل المدرك؟
عندما يريد الضالون أن يصنعوا تماثيل من أحجار أو أخشاب أو من أي شيء تجد أنهم بعد أن يصنعوها يتباهون بعملهم، وأن فلاناً مبدع؛ لأنه صنع هذه الصورة الجميلة، ولكن مع ذلك قل له: دعها تنطق أو تتحرك أو تعقل، ومن صنع ما حرمه الله عليه فسيقال له يوم القيامة: أحي ما صنعت؟ ولن يفعل، وأين ذاك من خلق الله، عندما يخلق إنساناً أو حيواناً أو أي شيء، كيف ترى حركات هذا المخلوق ووعيه وإدراكه، من الذي يستطيع أن يفعل ذلك سوى الله جل جلاله؟!
فأمهات المؤمنين يحضهن الله على فعل الخيرات وأعلاها، فيقول:
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا
[الأحزاب:31] وفعل الصالحات وفعل الإحسان يأتي من المحسنات، قال سبحانه:
فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا
[الأحزاب:29].
والمحسنات هن القائمات بالإسلام حركات وأركاناً وعبادة وواجبات، والقائمات بالإيمان تصديقاً قلبياً لا شائبة شك فيه، والقائمات بالإحسان اللاتي يعبدن الله كأنهن يرينه، فإن لم يصلن لهذه الدرجة فليعبدنه وهن يعلمن أنه يراهن، ومن عبد الله هكذا تجده على غاية ما يكون من الخشوع ومن السكون ومن الحضور ومن الفكر فيما يتلو ويقرأ، وهو على غاية ما يكون من الهيبة والأدب مع الله.
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا
[الأحزاب:31] (من): اسم موصول يطلق على المفرد المذكر والمؤنث، وعلى المثنى المذكر والمؤنث، وعلى جمع الذكور والإناث، فتقول: من جاء من الرجال؟ من جاء من النساء؟ وهكذا هنا.
فقوله:
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا
[الأحزاب:31] أي: من أطاعت الله ورسوله وعملت الصالح، فإن الله أعد للمحسنات منهن أجراً عظيما.
وقوله:
نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا
[الأحزاب:31].
أي: يؤتيها الله أجرها مرتين: أجر الدنيا ببقائها زوجة في عصمة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأجر كونها قدوة للمؤمنات والمؤمنين بسماعها لرسول الله ولحكمته، وبسماعها للآيات المنزلة عليه صلى الله عليه وعلى آله.
وأجرها يوم القيامة في الدار الآخرة بجعلها في أعلى مقام مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، وأي أجر وأي ثواب أعظم من أن يكن مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في الفردوس الأعلى.