بعد أن أبطل الله تعالى التبني الذي كان قبل الإسلام وكان ممن فعله رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأبطله بالقول وأبطله بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب:5]، وقال: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ [الأحزاب:5].
والله جل جلاله أمر نبينا عليه الصلاة والسلام بعد أن أبطل بنوة زيد ، وطلق زوجته أن يتزوج زينب ؛ لكي يكون إبطال البنوة أمراً إلهياً عملياً، فكان عملاً نبوياً.
فأكد الله ذلك في هذه الآية الكريمة فقال: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40].
أي: لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم أباً لأحد من الرجال، فلم يكن أباً لـزيد ولا لغير زيد من الرجال، وإنما كان أباً لمثل القاسم والطيب ، والطاهر ، والحسن ، والحسين وكانوا جميعاً أطفالاً، فالثلاثة الأولاد الذين من صلب النبي صلى الله عليه وسلم: القاسم ، والطيب ، والطاهر ماتوا أطفالاً فلم يبلغوا الحلم؛ أما والداه الحسن والحسين فهما ولدا بنته وهما سبطاه، فقد قال عن الحسن : (إن ابني هذا سيد) ولكن مع ذلك مات عليه الصلاة والسلام وهما صغيران، وإنما كبرا بعد ذلك.
وإنما نفى في عصر زيد وفي الوقت الذي نزلت فيه هذه الآية أن يكون أباً لرجل، والآية من سورة الأحزاب التي لا نزال ندرسها وهي سورة مدنية، وغزوة الأحزاب التي كانت مناط هذه السورة كانت في السنة الخامسة من الهجرة، أي: نزلت هذه السورة الكريمة في السنة الخامسة من الهجرة.
والنبي عليه الصلاة والسلام مات في بداية السنة الحادية عشرة من الهجرة، فكان الحسن والحسين لا يزالان في الطفولة لم يصلا حد المراهقة.
فلم يكن محمد صلى الله عليه وسلم أباً لـزيد ، هذا هو المقصود من الآية، وأن زيداً يدعى لأبيه، فإن لم تعلموا أباه فادعوه بالأخوة الإسلامية، وبأنه مولى الإسلام، وهكذا كان سالم الذي تبناه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة لا يعرف له أب.
فعندما أبطلت البنوة قيل عنه: سالم مولى أبي حذيفة ودعي زيد بن حارثة باسم أبيه؛ لأنه كان معروفاً، فأصبح يعرف بـزيد بن حارثة .
قوله: وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40].
ولكنه كان منذ أرسل ونادى في هذه البطاح المقدسة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة هو رسول الله وخاتم رسله وأنبيائه أرسل للناس كافة عربها وعجمها، من عاصروه ومن سيأتون بعده وإلى يوم القيامة.
والنبي من أوحي إليه بالشرع ولم يؤمر بتبليغه.
والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بالتبليغ، وهو لن يكون رسولاً حتى يكون نبياً، فإذا انتفت النبوة الخاتمة عن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى ختمت الرسالة كذلك به، فلا نبي ولا رسول.
هذا مما أجمع عليه المسلمون ولم يتنازع فيه مسلمان، ومن خرج عنه كان كافراً مرتداً حلال الدم، فمن العقيدة الرئيسية التي يجب أن يؤمن بها كل مسلم وكل إنسان أراد الدخول في الإسلام أن محمداً رسول الله أن يشهد أنه خاتم الأنبياء والرسل، وكل من ادعى النبوة بعده أو الرسالة بعده فهو ضال مضل كاذب فاجر كافر حلال الدم.
وقد ادعى مسيلمة الكذاب النبوة في الحياة النبوية، وكذبه حاله وسيرته وأضاليله وأباطيله، ثم قضي عليه أيام خلافة أبي بكر ، وادعى الأسود العنسي النبوة قبل الوفاة النبوية فقاتله أهل اليمن فهلك كافراً.
ومن المعجزات التي شهدناها بعد مرور ألف وأربعمائة عام على الإسلام أنه لم يدع النبوة أحد خلال هذه القرون الأربعة عشر، ومن ادعاها كذبته حاله، وأتى بسخيف من القول والعمل، وعلم الحاضر والغائب من أتى بعده بأنه ضال مضل، ومن ذلك منذ ثمانين سنة في بداية هذا القرن ادعى دجال هندي الذي سمى نفسه غلام أحمد أي: عبد أحمد، فكان عبد الشيطان وكان عبد الإنجليز وكان جاسوساً خبيثاً لعيناً، ادعى أولاً أنه مجدد، ثم ادعى بعد ذلك أنه نبي، ثم ادعى بعد ذلك الألوهية، ووضع لنفسه خزعبلات وكلاماً مضحكاً سخيفاً سماه قرآنه وكتابه، ومع ذلك وجد من الناس قلة آمنت به ولا تزال، ولم يوجد إمام حاكم في الهند يؤدبه وأتباعه، فيفصل جسده عن رأسه هو وكل من آمن به واعتقد نبوته.
وفعلت دولتنا هنا حسناً عندما منعت هؤلاء الأخباث القاديانيين بقرار من رابطة العالم الإسلامي كما يمنع الكفار من الدخول لمكة والمدينة، وكانوا قبل يأتون ويزعمون الإسلام ويحجون، وهم ليس لهم دين ولا حج ولا صلاة، وإنما هم كفرة ودجالون ضالون.
وفي هذه القرون الأربعة عشر كل من ادعى فيها النبوة وهم قلة معدودة على الأصابع كشفوا وافتضحوا في حياتهم؛ لأنهم كذبة فجرة، فكان عليه الصلاة والسلام هو النبي الخاتم والرسول الخاتم، وهذا مما علم من الدين بالضرورة، وكل من اعتقد خلاف ذلك يعتبر كافراً مرتداً حلال الدم، هذا نص القرآن ونص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تجاوزت حد التواتر عن جماهير من الأصحاب رضوان الله عليهم، وكمل ذلك وأتمه إجماع المسلمين بجميع فرقهم على ذلك، من عهد الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إلى يومنا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فعن أنس بن مالك ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي هريرة الدوسي وعن جماهير من الصحابة قالوا: قال عليه الصلاة والسلام: (إنما مثلي ومثل الأنبياء قبلي كقصور بنيت فأتم بانوها بناءها وأحسنوا وأتقنوا، إلا موضع لبنة، فدخل الناس ينظرون في هذه القصور، فقالوا: ما أجملها وما أتقنها إلا مكان هذه اللبنة، قال عليه الصلاة والسلام: فكنت أنا تلك اللبنة).
فبه تم الأنبياء وختم المرسلون، وأرسل النبي عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب وأبا موسى الأشعري أميرين على اليمن وقال لهما: (بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا، فإني أرسلت مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله وخاتم النبيين).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا نبي بعدي ولا رسول).
وقال عليه الصلاة والسلام: (إني لخاتم الأنبياء عند الله وآدم لا يزال منجدلاً في طينته)، أي: كان في علم الله الأزلي أن محمداً سيظهر وهو آخر الأنبياء والرسل، وآدم لم ينفخ فيه الروح، بل كان لا يزال هيكلاً من تراب مطروحاً على الأرض، بقي مدة أربعين عاماً قبل أن ينفخ الله فيه من روحه، وقبل أن يقول له: كن بشراً فكان، ونبوة النبي عليه الصلاة والسلام خاتمة ورسالته خاتمة، وهذا معلوم من الدين بالضرورة.
وقال عليه الصلاة والسلام: (خصصت بصفة، كان الناس قبلي يبعثون إلى أقوامهم خاصة وأرسلت إلى الناس عامة، وكنت خاتم الأنبياء والمرسلين) وهذه الخصائص النبوية قد تجاوزت المائتين جمعها الإمام السيوطي في كتابه (الخصائص) في مجلدين.
فقوله: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] أي: لا رسول إلا بعد أن يكون نبياً، فكونه لا نبي بعده أي: لا رسول كذلك، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً؛ لأن النبي قد يكون كلف بشرع وأوحي إليه به ولم يؤمر بالتبليغ، كإسحاق ابن إبراهيم أبي النبي وأبي الأنبياء وأبي العرب عليه وعليهم جميعاً صلاة الله وسلامه.
فكان إسماعيل وهو جد النبي الأعلى نبياً رسولاً، وكان إسحاق نبياً فقط ولم يؤمر بالتبليغ، وهو جد أنبياء بني إسرائيل، أما إبراهيم الذي حاول أحفاد القردة والخنازير أن ينتسبوا إليه، ويقولون عنه: قال لنا وقال عنا وأمر بنا. وقد قال الله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67]، هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78] وشريعتنا تعتبر تجديداً لشريعة إبراهيم في الأصل وفي السماحة وفي اليسر، مع ما كلف الله به خاتم أنبيائه من تمامها، لتصلح لكل عربي وعجمي من عاصره ومن أتى بعده وإلى يوم القيامة.
وقوله: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:40] أي: كان الله عليماً بمحمد قبل أن يخلقه، وبآدم قبل أن يصنعه، وبالناس برهم وفاجرهم، كان الله جل جلاله عليماً بكل شيء، الخالق لكل شيء، المعلم لرسله ولأنبيائه ما يهدون به أنفسهم وأتباعهم من المؤمنين الموحدين.
هذه الآية كالآية السابقة في تعداد المؤمنين والمؤمنات وصفاتهم الصالحة نساء ورجالاً، في ذلك النسق المتسلسل الذي ختمه الله في تلك الآية المطولة بقوله: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، وهنا دعا الله المؤمنين وناداهم، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، أي: يا من آمن بالله الواحد وآمن بمحمد خاتم النبيين، اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41].
وذكر الله يكون باللسان والجنان والأركان، فالصلاة ذكر والصيام ذكر، والحج ذكر، والتفكر والاعتبار بالقلب ذكر، والنطق باللسان ذكر، وهكذا الذكر يكون بكل خلايا الإنسان وبكل حواسه قال عبد الله بن عباس حبر الأمة رضي الله عنهما: إن الله أمر أوامره فجعل لها حدوداً وأوقات، أمر بالحج وحدد له زمناً، وأمر بالصيام وحدد له وقتاً، وأمر بالصلاة وحدد لها أوقاتاً، إلا الذكر فلم يحد له حداً، قال: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، أي: اذكروا الله براً وبحراً، واذكروا الله حضراً وسفراً، واذكروا الله في اليقظة وعند النوم، واذكروا الله في الصحة والمرض، واذكروا الله عند الغنى والفقر، واذكروا الله تعالى في الكبر والصغر وفي جميع الأحوال.
فلم يحد له زمناً ولا وقتاً ولا عذر لتاركه، لكن عذر المصلي فأذن له إن عجز أن يصلي جالساً، الحاج إن لم يجد زاداً وراحلة فعذره في تأجيل الحج، وعذر الفطر في الصيام للمريض والحائض والنفساء على أن يؤجلوا ذلك ويرجئوه، أما الذكر لم يعذر فيه أحد إلا من غاب عقله، وإلا فمن عجز باللسان ذكر الله بالقلب، ومن عجز في وقت من الأوقات فالأوقات كثيرة في الحضر والسفر، وعلى ذلك فالذكر يكون في جميع الأحوال.
وتذكر السيرة النبوية العطرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله في جميع أحواله، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اذكر الله حتى يقال إنك مجنون) أي: اذكر الله في نفسك واذكر الله في الملأ، واذكر الله سراً وجهراً.
أمرنا الله بذكره وبتسبيحه وبتمجيده وبتعظيمه في جميع الأحوال، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
وقال عليه الصلاة والسلام: (ألا أعلمكم بخير أموركم، وأرفعها عند ربكم، وأعلاها درجة في آخرتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تضربوا رقاب أعدائكم وأن يضربوكم؟ قالوا: بلى! قال: ذكر الله).
والقتال فيه ذكر الله كذلك؛ لأن المقاتل يقاتل وهو ذاكر، ويبذل حياته رخيصة إعلاء لكلمة الله، ودفاعاً عن المسلمين وعن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان.
وقال نبي الله عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن ستشتد حسرته يوم القيامة عندما ينسى ويترك ذكر الله في مجلس)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وفي الحديث القدسي: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه).
والمسلم إذا ذكر الله متدارساً كتابه وسنة نبيه بينه وبين إخوانه المسلمين يذكره الله في ملأ خير منه، يذكره بين الملائكة ومع الملائكة.
وذكر الله عبادة دائمة لا تحتاج إلى قبلة، ولا تحتاج إلى وضوء، ولا تحتاج إلى زمن، ولا يعجز عن ذلك مريض ولا مسافر ولا شيخ هرم ولا رجل ولا امرأة.
وقد كتب وخصص المؤلفات في الأذكار الإمام النسائي والإمام العمري والكثير منها مطبوع، وأجمعها وأكملها وأشملها كتاب (الأذكار) للإمام النووي .
فقوله: ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أيقظ الرجل أو الزوجة أحدهما الآخر ليلاً فصليا ركعتين من الليل كتبا عند الله من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).
قال الله تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:42].
التسبيح: هو التعظيم والتمجيد والذكر بصفة عامة، أي: اذكروا الله يا أيها المؤمنون! ومجدوه وعظموه ونزهوه عن المثلية في الذات والصفة والأفعال، وسبحوه صباحاً ومساء، وقالوا: يشمل الصباح صلاة الصبح إلى صلاة الظهر، والمساء من الظهر إلى العصر إلى المغرب إلى العشاء، وكل من صلى هذه الصلوات في أوقاتها بأركانها وواجباتها وسننها يكون قد ذكر الله كثيراً، ولكن الذكر لا وقت له كما قاله ابن عباس ، والصلوات تنتهي بأوقاتها، ولا تعاد الصلوات إلا لحاجة أو ضرورة.
والذكر يشمل جميع أنواع العبادات، يشمل الذكر: لا إله إلا الله، والله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
فقوله: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:42]، الأصيل: العشي مفرد آصال، والبكرة بداية اليوم، وكما في الحديث (بورك لأمتي في بكورها) جمع بكرة.
والبركة في البكور والصباح وقت العبادة ووقت الذكر إلى شروق الشمس، فصلاة الضحى، ثم بعد ذلك يذهب كل إلى عمله، سواء كان يدوياً أو فكرياً أو أي شيء كان هذا العمل، وقد يكون العمل إذا كان لله ذكراً؛ لأن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قد حضا على العمل الصالح، فالعمل الصالح هو ما صحبته نية صالحة، حتى إن سائلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أيأتي أحدنا شهوته فيكون له بذلك أجر؟ قال له النبي عليه الصلاة والسلام: أرأيت لو وضعها في حرام هل يكون عليه وزر؟ قال: نعم، فقال عليه الصلاة والسلام: كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر).
وإذا صحبت النية المباحات تتحول إلى عبادات، فمن أكل ليقوى على ذكر الله، ومن سافر ليعتبر ويتفكر في خلق الله في مشارق الأرض ومغاربها يكون ذاكراً لله، وهكذا قل عن جميع أنواع العبادات.
أي: اذكروا الذكر الكثير وكونوا مؤمنين، مسلمين، صادقين، صابرين، خاشعين، متصدقين، حافظين لفروجكم، ذاكرين الله كثيراً، وكل ذلك للرجال والنساء كما مضى.
فإذا كنتم من الذاكرين الله كثيراً، والمسبحين لله بكرة وأصيلاً، فإنه ينشأ عن ذلك أن يصلي عليكم الله جل جلاله، وأن تصلي عليكم ملائكة الله عليهم سلام الله.
وصلاة الله على عبده ذكره والثناء عليه بين ملائكته، كما في الحديث السابق: (من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) أي: أثنيت عليه وأشدت بذكره عند الملائكة.
وقيل: الصلاة على العبد الرحمة. والمعنى واحد، فمن ذكره الله رحمه، ومن رحمه ذكره ولم ينسه، وأي درجة وأي مقام أسمى وأعظم للعبد المؤمن من أن يذكره الله ويثني عليه وأن يرحمه.
وصلاة الملائكة الدعاء والاستغفار للمؤمنين، فالملائكة تستغفر ربها أن يغفر للمؤمنين وأن يعفو عنهم، وأن يرضى عليهم، وأن يرحمهم، وأن يدخلهم الجنان، وأن يبتعد بهم عن النيران، فهذا جزاء الله ومكافأته لكل من أكثر من ذكره صباح مساء، ولكل من ذكره كثيراً في سره وعلانيته مع الناس ووحده، وفي الصحة والمرض، وفي الحضر والسفر، وفي البراري والأجواء والبحار، وفي كل الأحوال، كما كان عليه الصلاة والسلام يذكر الله على كل أحواله.
وقوله: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب:43].
ما صلى الله على عبد إلا ورحمه وأثنى عليه، وإذا رحمه وأثنى عليه أخرجه من ظلمات الكفر والجهل والشرك والشك والريب والضياع إلى نور التوحيد والإسلام والهداية، وإلى نور الحكمة والموعظة والاقتداء برسول الله خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
وقوله: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43].
كان رحيماً بمن آمن به إلهاً واحداً رازقاً لا ثاني له في ذات ولا صفات ولا أفعال، ورحيماً بمن آمن بأنبيائه جميعاً وبنبيه وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا رحم الله العبد أخرجه من الظلمات إلى النور وأدخله الجنان، وغفر ذنوبه ورفع درجاته، والله جل جلاله أرحم بعباده من الوالد بولده، ولذلك أسرت امرأة في غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا بهذه المرأة يراها النبي عليه الصلاة والسلام والأصحاب رضوان الله عليهم ومعها رضيع تأخذه وتضمه إلى صدرها وترضعه وهي وجلة عليه خائفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه تلقي وليدها في النار؟ قالوا: لا، قال: لله أرحم بعباده المؤمنين من هذه بولدها)، والحبيب لا يعذب حبيبه.
إذا رحم الله عبداً أحبه، إذا صلى عليه وأشاد بذكره عند ملائكته فقد أحبه، إذا استغفرت الملائكة للمؤمن فقد أحبته، ومن أحبه الله رحمه، ومن أحبه لا يدخله النار، زعم اليهود والنصارى كما قال ربنا في كتابه: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، قال الله لنبيه: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة:18].
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الحبيب لا يعذب حبيبه)، أي: لو كانوا أبناءه لكانوا أحبابه، ولو كانوا مؤمنين لأحبهم ولو أحبهم لما عذبهم، ولكنهم في العذاب خالدون، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
قوله: (تحيتهم) الضمير يعود للمؤمنين المذكورين في الآية السابقة، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43] أي: تحية الله للمؤمنين يوم يدخلون الجنان سلام، يقول الله لهم: (سلام) أي: لكم السلام من الغضب ومن العذاب، ومن الخروج من الجنة ألبتة.
وقد فسر البعض قوله: (سلام) أي: تحية بعضهم لبعض سلام، ولكن الله تعالى قد أعاد هذا المعنى في سورة (يس) فقال: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، فالسلام من الله والسلام هو الله، وقد سلم سبحانه في الدنيا فيما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم على السيدة الأولى أم المؤمنين خديجة رضوان الله عليها، فقال لها رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن ربك ليبلغك السلام، ويبشرك بقصر في الجنة)، فكانت خديجة عارفة بالله، كيف لا وهي تربية بيت النبوة، وأم أولاد النبوة، والزوجة الأولى لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فردت السلام فقالت: هو السلام وإليه السلام ومنه السلام.
فلم تقل كما يقول الناس لبعضهم: وعليكم السلام؛ لأن السلام اسم من أسماء الله، فهو السلام جل جلاله ومنه السلام، هو الذي يسلم عباده الصالحين من العذاب والخلود في النيران.
وقوله: وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [الأحزاب:44].
أي: أعد للمؤمنين يوم القيامة أجراً كريماً، والأجر هو الثواب والمكافأة والجزاء الكريم، وهو الخلود في الجنة أبداً، ولهم فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، هذه المعاني الكريمة الإلهية والنبوية هي التي استحقت أن توصف بكريمة من الله في كتابه: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [الأحزاب:44].
ها نحن نرى باستمرار أن الله لا ينادي خاتم أنبيائه إلا بلقب من نبي أو رسول، وعجيب أمر بعض الناس ممن لم يتأدبوا بأدب القرآن مع النبوة، فتجدهم يسمون النبي عليه الصلاة والسلام محمداً دون صلاة ودون سلام، ودون تلقيبه بالنبوة والرسالة.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:45-46].
هذه صفات من صفات النبي صلى الله عليه وسلم وأسماء من أسمائه صلى الله عليه وآله، وأسماؤه كثر فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحاح: (أنا محمد وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي محا الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي لا نبي بعدي) أي: الذي يعقب الأنبياء، فهو خاتمهم، فلا نبي ولا رسول بعده.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا [الأحزاب:45]، يخاطب الله نبيه بأنه أرسله للناس شاهداً يشهد عليهم بالتوحيد إذا آمنوا، ويشهد عليهم بالكفر والمعصية إذا عصوا وكفروا، فجعله الله شهيداً عليهم في الخير والشر.
وقد أدى الرسالة كما أمره ربه، وفي حجة الوداع أشهد الحجاج وهم مائة وعشرون ألفاً فقال: (هل بلغت؟ هل بلغت؟ فيقولون: اللهم نعم، فيشير بسبابته إلى السماء: اللهم اشهد ثم يشير بها على من شهدوا بذلك).
وقوله: وَمُبَشِّرًا أي: يبشر المؤمنين بالجنة وبالرضا وبالرحمة.
وقوله: وَنَذِيرًا متوعداً بالنار لمن عصاه وكفر به وأشرك، وهو البشير النذير المبشر بالجنة للمؤمنين، والنذير بالنار للكافرين، والشاهد عليهم بالخير والشر.
قال تعالى: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:46]، أي: داعياً يدعو الخلق إلى عبادة الله وتوحيده وطاعته، وإلى العمل بما أمر، وإلى ترك ما نهى عنه، يدعو إلى طاعة الله وطاعة نفسه صلى الله عليه وسلم، فطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر