هذه الآية الكريمة هي أحكام متتابعة متعلقة بنبي الله عليه الصلاة والسلام، وكما أنه رسول إلى الناس كافة فهو مرسل إلى نفسه كذلك، فما أمره الله أمراً خاصاً فعليه أن يقوم به، وإذا لم يذكر في الأمر أو النهي على أنه خاص به كما ذُكر في هذه الآية الطويلة، فكل الأوامر والنواهي تشمله عليه الصلاة والسلام كما تشمل المؤمنين من أتباعه.
فقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ [الأحزاب:50].
أي: أحل الله له من النساء من آتاهن مهورهن وصدقاتهن، هذا نوع وفئة من زوجات النبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوج كما يتزوج المؤمنون بمهر وولي وبشاهدي عدل، إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ [الأحزاب:50] أي: من دخل بهن ومن يرغب فيهن بعد، وقد كان للنبي عليه الصلاة والسلام ثلاث عشرة زوجة، اجتمع عنده منهن تسع، وماتت إحداهن، وطُلِّقت إحداهن قبل الدخول، وواحدة من الأصل ذُكرت ثم تركها، عُرضت عليه فقبلها النبي عليه الصلاة والسلام، فأخذت أمها تثني على جمالها وعلى كمالها وعلى صحتها وقوتها.. إلى أن قالت: لم تصرع قط ولم تمرض قط، فقال لها: (لا حاجة لي فيها) فالمؤمن يُشاك شوكة ويمرض ويكون ذلك كفارة له، والذي ليس كذلك قد يكون ذلك استدراجاً كما يستدرج الكفار والمنافقون، ويجمع الله له العذاب إما في أخريات أيامه عند الموت أو يوم القيامة.
وكان عنده من القرشيات ست: خديجة أم المؤمنين الأولى، وعائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة ، وأم سلمة وكان عنده زينب بنت جحش الأسدية بنت عمته.
وأخذ من أسرى خيبر صفية بنت حيي بن أخطب فأعتقها وجعل عتقها صداقها، وجاءت أمة كان ملكها في الأسرى وهي جويرية بنت الحارث المصطلقية الخزاعية فكاتبت مالكها ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه أو ابن عم له فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أو خير من ذلك أُؤدي عنكِ كتابتك وأتزوجكِ؟ قالت: نعم).
وهؤلاء كان مهرهن ما يعادل خمسمائة درهم، أي: ما يعادل أربعمائة ريال تزيد قليلاً، إلا أم حبيبة فأنكحه إياها النجاشي ملك الحبشة وأصدقها عن نبي الله عليه الصلاة والسلام أربعمائة دينار، وجويرية وصفية أعتقهما صلى الله عليه وسلم وكانتا أمتين، وجعل عتقهما صداقهما.
وكان له من الإماء مارية القبطية وريحانة وغيرهما.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ [الأحزاب:50] أي: مهورهن وصدقاتهن.
وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ [الأحزاب:50] كما أحل الله له ملك اليمين، وهن الإماء والجواري اللاتي يؤخذن نتيجة معركة ظفر فيها المسلمون وأخذوا النساء جواري وإماء، بعد موافقة رئيس الدولة الإمام.
وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم مع نبوته إمام المسلمين ورئيس دولتهم، وقائد جيشهم، والحاكم لمحاكمهم، والمعيّن والعازل لموظفيهم، ولكنه يسمى بأحب الأسماء إليه وأشرفها، قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] أي: لا نناديه إلا نبي الله ورسول الله، وإذا ذكرناه لا نذكره إلا ونصلي عليه: (البخيل من ذكرت عنده ولم يصل عليَّ) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
فقوله: وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ [الأحزاب:50].
ملك اليمين كلمة تقال في التملك، وإلا فهي ملك لليمين ولليسار وللشخص كله، لكن جرت العادة أن يقال لغة: فلان ملك بيمينه كذا، وعقد بيمينه على كذا، والقرآن نزل بلغة العرب.
مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ [الأحزاب:50].
أي: مما أعاده الله إليك، والفيء: هو العودة والإعادة، ومعناه أن الله جعل الكون يوم خلقه للمؤمنين الموحدين، فإن خرج بعض ذلك عن أيديهم فلمعصية أو خلاف منهم، فإذا عادوا إلى الله وقاتلوا وانتصروا فما يعود لهم من أرض وعقار وأموال وإماء وجوار فذلك قد عاد إلى أصله وعاد إلى المؤمنين.
ثم قال ربنا: وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ [الأحزاب:50].
أي: أباح له الله جل جلاله أن يتزوج من شاء من بنات عمه وبنات عماته، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يتزوج من بنات عمه المباشر الملاصق، ويقال لكل كبير من العشيرة: عم، ولكل كبيرة منها: عمّة، أي: قد أبحنا لك زواج القرشيات، فبنات عمه قرشيات وبنات عماته قرشيات، فأذن الله له أن يتزوج من هذه الفئة من القرشيات من بنات العم وبنات العمة.
ثم قال ربنا: وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ [الأحزاب:50].
أي: كما قد أذن له في بنات العم وبنات العمّة، أذن له في بنات الخال وبنات الخالة، وأمه آمنة كانت من بني زهرة بن عبد مناف، فيكون قد أباح الله له أن يتزوج من بنات خاله وخالاته من بنات زهرة بن عبد مناف ، وهن قرشيات.
فقيّد الله كل ذلك بقوله: اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ [الأحزاب:50] وفسّر بعض المفسّرين ذلك بالمسلمات، أي: لا يحل لك أن تتزوج من هؤلاء إلا مسلمة موحدة؛ لقوله تعالى: اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ [الأحزاب:50] ولا تهاجر معه إلا من أسلمت، أما من بقيت على كفرها فهي لم تهاجر، ومن يقبل هجرتها؟
فتفسير ذلك بالإسلام اللازم للهجرة على أن المعنى أعم من ذلك؛ لأن بعض المضطهدات من بنات عمه وبنات عمّاته، وبنات خاله وبنات خالاته، بقين في مكة، وفي هذه الحالة لم يأذن الله له ولم يحل له الزواج بهن؛ لأنه قيّد ذلك بالهجرة معه، فإذا لم يهاجرن معه فهن محرمات عليه، وكان هذا عندما كانت مكة لا تزال دار كفر، أما بعد أن فتحت وأصبحت دار إسلام فهذا الشرط قد سقط بطبيعة الحال؛ لأنها أصبحت دار إسلام وسكانها مسلمون، وأرجئوا قبل ذلك أربعة أشهر ثم فر وهرب منها من هرب وأسلم الباقون.
ومن خصائص مكة ومسلميها أنه لم يكن فيهم منافق لا ذكر ولا أنثى، وإن كان فيهم بعد الإسلام الطلقاء الذين قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام يوم الفتح: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) فسمح لهم وعفا عن ذنوبهم فأصبحوا من ساعتها يقال عنهم: الطلقاء، ولم يكن فيهم منافق ولكن فيهم المؤلفة قلوبهم الذين لم يدخل الإسلام ويتمكن من القلوب، وبقي هذا زمناً ثم حسن إسلام الكل.
كما أحل له بنات العم وبنات العمة، وبنات الخال وبنات الخالة إن هاجرن معه، وما ملكت يمينه بلا حد، أباح له خاصة دون غيره من الناس -وهذا من خصائصه- امرأة مؤمنة وموحدة مسلمة.
إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ [الأحزاب:50] أي: جاءت تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أهبك نفسي.
إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا [الأحزاب:50] السين والتاء للطلب، أي: إن وافق وقبل الزواج بها والعقد عليها، ولذلك هناك شرطان في هذا:
الشرط الأول: أن تكون مؤمنة.
الشرط الثاني: إذا وافق.
إذا لم تكن مؤمنة فلا تحل له وإذا لم يقبلها لا يجبر ويكره عليها.
قوله: خَالِصَةً [الأحزاب:50] أي: حالة كون هذه الواهبة نفسها خالصة لك من دون المؤمنين، فللنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج من وهبت نفسها له بلا مهر ولا ولي ولا شهود.
أما المؤمنون فلا بد من مهر قليلاً كان أو كثيراً، ولا بد من ولي يعقد عليها، ولا بد من شاهدي عدل؛ ومن هنا كانت الخصوصية أن تهب نفسها حال كونها مؤمنة، وحال كون النبي عليه الصلاة والسلام قد أراد ذلك، وفي حال الموافقة والإيمان لا حاجة لمهر ولا لموافقة ولي ولا حاجة لشهود عدول.
(كان النبي عليه الصلاة والسلام في مجلسه فجاءته امرأة وقالت له: يا رسول الله إني أهبك نفسي، فصعّد فيها البصر وصوّبه وسكت عنها فطال مقامها، وكان في المجلس أحد فقراء الصحابة، فبادر وقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها قال: ما معك لتصدقها؟ قال: إزاري، قال: وما يغني عنك الإزار، هل معك غيره؟ قال: لا يا رسول الله، قال: التمس ولو خاتماً من حديد، فذهب وعاد وقال: يا رسول الله لم يوجد ولا خاتم حديد، قال: فما معك من القرآن؟ قال: أحفظ سورة كذا وسورة كذا وذكر سوراً قال: قد زوجتك بما معك من القرآن) معناه: قد زوجتها لك على أن تعلمها هذه السور، وكان مهرها وصداقها هو أن يعلمها هذه السور، وكفى بذلك مهراً وصداقاً.
إذاً: هذه الخصوصية هي أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج من وهبت نفسها له، قال ابن عباس والزهري والمفسرون: هذا الحق لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم قط، ولم يتزوج امرأة وهبت نفسها له أبداً، والكثيرات عندما تلون هذه الآية تشوفن وتطلّعن بأن يصبحن أمهات المؤمنين وزوجات سيد البشر أجمعين عليه صلوات الله وسلامه، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأبى ولم يفعل.
وزعم البعض أن منهن زينب أم المساكين ، ولكن كل ذلك ليس بصحيح، فإنه لم يقبل من وهبت نفسها له، وتنازل عن هذا الحق الذي خصه الله به.
وكان أنس بن مالك يتحدث بقصة هذه المرأة وفي مجلسه إحدى بناته وقال: (إن امرأة جاءت النبي عليه الصلاة والسلام فوهبت نفسها للنبي وإذا بابنته تصيح وتقول: أوه ما أقل حياءها، أتعرض نفسها زوجاً؟ قال: اسكتي يا قليلة الأدب، إنها رغبت في رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبت نفسها له) أي: ومن لا يرغب في رسول الله عليه الصلاة والسلام والصلة به بأي شكل من الأشكال؟
أما إذا جاءت امرأة لإنسان ما وقالت: أهبك نفسي تعرض نفسها للزواج به، فعليه المهر وعليه ولي وعليه الشهود، وبغير ذلك لا يصح نكاح ولا زواج.
أي: قد علمنا وعلّمنا المؤمنين ما جعلنا من فرائض وأحكام وواجبات في زواجهم، وذلك أنه حصر زواج المسلم بألا يزيد عن أربع، وحرّم عليه الواهبة نفسها بلا مهر ولا ولي ولا شهود، في الوقت الذي أباح للنبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوج بلا حد وبلا حصر، ولم يجتمع عنده أكثر من تسع.
وفي ذلك حكم بليغة، فنقول لأعداء الإسلام وللمنافقين من أدعياء الإسلام، الذين حاولوا أن يتكلموا في رسول الله عليه الصلاة والسلام: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتزوج حتى بلغت سنه خمساً وعشرين سنة، وكان في منتهى القوة والجمال، فلو كان شهوانياً -وحاشاه من ذلك ولعن الله من زعم ذلك- لتزوج قبل العشرين، ولتزوج على عادة قومه العشر والعشرين لكنه لم يفعل، وعندما تزوج وهو ابن خمس وعشرين سنة لم يكن هو الراغب الطالب الخاطب، ولكنه كان المرغوب فيه والمقصود والمطلوب، وكل ذلك قبل النبوة بخمسة عشر عاماً، وكان متولياً التجارة للسيدة خديجة إلى أرض الشام فربحت وبلّغها غلامها ميسرة عن حالات النبي عليه الصلاة والسلام في رحلته للشام في تجارتها، فغبطته، وأرسلت له بأنها ترغب التزوج به، فخطبها له عمه أبو طالب فرضيت؛ لأنها كانت حريصة ومغتبطة بالزواج منه.
وعندما تزوجها كانت ابنة أربعين سنة، فبينه وبينها خمسة عشر عاماً، وكونها عجوزاً أقرب.
وأقول مبيناً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عما زعموه: لقد قنع صلى الله عليه وسلم وهو شاب قوي رائع الجمال أن يتزوج أرملة سبقه إليها زوجان وولدت منهما كليهما، وعندما تزوجها صلى الله عليه وسلم قنع بها ولم يتزوج عليها قط، وقد ماتت في السنة الثامنة من النبوة أو السابعة، ومعنى ذلك: أنها ماتت وسن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد شارف الخمسين، أي: عاشت معه خمساً وعشرين سنة، أي: أن زهرة شبابه وزهرة قوته وزهرة جماله قصرها على هذه الأرملة، ولم يتشوف للزواج عليها قط وإنما تزوج بعد موتها وبعد الهجرة، ومن هنا ندرك ونعلم أنه صلى الله عليه وسلم ليس شهوانياً وحاشاه من ذلك.
وهو لم يتزوج بكراً قط إلا عائشة ، وزوجه الله بها، نزل إليه جبريل وهي مصورة في قطعة حرير فقال: (هذه زوجتك، فلما بحث عن الصورة وجدها بنت
وكان زواجه بهؤلاء النسوة ليربط العلائق مع العشائر العربية والقبائل العربية؛ ليكون ذلك داعياً إلى إسلامهم وإلى كسر عداوتهم، ولقد قلنا أكثر من مرة إن أبا سفيان وكان الحاقد الناقم على رسول الله وعلى دينه وعلى جميع بني هاشم، ومع ذلك عندما آمنت ابنته أم حبيبة وهاجرت الهجرة الأولى للحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش ، فارتد هذا الزوج وبقيت متمسكة بإسلامها، فخطبها النبي عليه الصلاة والسلام من النجاشي وكان قد أسلم، وكان هو الولي للمسلمين في الحبشة، فعندما تزوجها صلى الله عليه وسلم وأرسلت إليه إلى المدينة بلغ ذلك أبا سفيان وهو على غاية ما يكون من الحرب والعداوة، وإذا بـأبي سفيان يقابل ذلك بارتياح وبسعادة وغبطة ويقول عن النبي عليه الصلاة والسلام: هو الفحل.
فكان هذا الفعل من رسول الله عليه الصلاة والسلام جمعاً له وكسراً لعداوته وتأليفاً لقلبه، وكانت النتيجة أن أبا سفيان بن حرب آمن وأسلم، فتزوج صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرها من قبائل العرب، وكل هذه القبائل آمنت وأسلمت وآزرت النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الحكمة من تعدد زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، وهي واضحة وضوح الشمس، ولا ينكرها إلا مشرك أو منافق ومن في قلبه مرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دين الإسلام.
قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [الأحزاب:50] أي: قد علم الله ما فرض عليهم وهو الآمر وهو الذي علمهم ذلك وحصر الزواج بالنسبة لعموم المسلمين في أربع حرائر، أما ما ملكت يمينهم فلا عد ولا حصر.
وتتبين الحكمة من كون ملك اليمين بلا عدد إذا عرفنا المثال الآتي: في الحربين العالميتين اللتين جرتا في هذا القرن، وقع من الأسرى عند الدول التي انتصرت على ألمانيا ما يزيد على خمسة وعشرين مليوناً من الخلق.
فهؤلاء الأسرى كان ثلاثة أرباعهم من النساء ولم يقاتلن، فماذا يصنع بهؤلاء النساء، خربت بيوتهن، وقتل آباؤهن وأولادهن وإخوتهن وأزواجهن، فأخذوهن ووزعوهن على العالم للبغاء والزنا والفساد، فانتشر في العالم عشرات الآلاف من أولاد البغايا، وأدخلوا الفساد لكل دار وكل بلدة وقطر، وأصبحت ألمانيا بعد ذلك ثلاثة أرباع سكانها من النساء ممن سلمن من الأسر، فهؤلاء النسوة لم يجدن زواجاً ولم يجدن حتى الحرام لا خليلاً ولا زانياً، وأصبن بسعار الجنس وشدته فقمن بالمظاهرات، وطلبت فئة منهن بتعدد الزوجات كما عند المسلمين، فالبعض حصر ذلك في أربع كالمسلمين، والبعض الآخر طلب أن يكون ذلك بلا حد، واكتفت فئة منهن بإعارة الأزواج كما يعار الفحل للبهائم.
وكتب كبير ألمانيا إذ ذاك إلى رؤساء العالم الإسلامي، وطلب تقارير عن تعدد الزوجات في الشريعة الإسلامية، ومع الأسف كان المسلمون قد تراجعوا عن تعدد الزوجات، وأصبحوا يستحون أن يذكروا تعدد الزوجات، وأخذوا يقلدون الكفار في عدم التعدد ومنعه حلالاً وإباحته حراماً، كقوانين دول الكفر كلها، ودخل ذلك في قوانين جميع المسلمين، سوى بلادنا المقدسة هذه.
فجميع القوانين التي يتحاكم إليها المسلمون أباحت الزنا من المرأة والرجل إذا بلغا سن الرشد، إذا تراضيا على ذلك، ولا حق لأحد أن يشتكي، إلا إذا اشتكى الزوج بالزوجة أو الزوجة بالزوج، فلا حق لأب ولا لأخ ولا لزعيم ولا لنائب ولا لمجتمع.
وقد جاء الإسلام من الله وهو أعلم بالحكمة التي تصلح المسلمين، وقد فرض الجهاد لإعزاز دين الله، وللدفاع عن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، وهو يعلم سبحانه أن الحروب لا تنتهي إلا بالقتل والتدمير والخراب وموت مئات الآلاف وعشرات الملايين من البشر، فنساء هؤلاء الملايين ستؤخذ أسرى فما يصنع بهن؟ إنهن يحتجن للأكل والشرب واللباس وإلى ما تحتاجه النساء من الشهوة، فعندما أباح الله التسري والتملك بلا عد ولا حصر فمعنى ذلك أن يقوم الناس متضامنين لخدمة هؤلاء الأسرى نفقةً ولباساً وسكناً وكفايةً وشهوة تكفهن عن الشر وعن نشر الفساد في الأرض، ولا يترك ذلك كما ترك لأوروبا في أسراها في الحربين.
فهؤلاء الأسرى كانوا يعاملون أقل من معاملة الكلاب، فكانوا يقتلون لأي سبب، ويذلون لأي سبب، ويجاعون إلى حد الموت، وتنتهك حرمات الأسيرات ضرباً وإيذاءً وتفنناً في التعذيب، ولا أحد يرفع صوته.
أما الإسلام فقد أباح ذلك خدمة لهن ورعايةً لمصالحهن، والوصايا في هذا كثيرة جداً، ومنها قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إخوانكم خولكم)، أي: خولكم إخوانكم، وهذا يستشهد به في النحو من تأخير المبتدأ على الخبر وكلاهما معرفة، وأن المعنى يدل على أن هذا مبتدأ وهذا خبر.
(إخوانكم خولكم) لو ذهبنا نعرب (إخوانكم) مبتدأ، و(خولكم) خبراً، فإن المبتدأ مسند إليه والخبر مسند فيكون المعنى: إخوانكم أشقاؤكم هم عبيدكم وخولكم، والإسلام لا يريد هذا، لكن معنى الكلام فيه تقديم وتأخير فتكون الجملة: (خولكم إخوانكم) أي: خدمكم.
وقد منع النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول الإنسان: عبدي أو أمتي بل يقول: فتاي وفتاتي، كلمة أشبه بالدلال: يا غلامي كأنك تنادي: يا ولدي، ويا بنيتي عندما يقول لها: يا فتاتي، والإسلام اعتبر الإنسانية في الصلة.
فقال صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم، أطعموهم مما تطعمون، وألبسوهم مما تلبسون، وإذا كلفتموهم ما لا يطيقون فأعينوهم)، أي: اعتبرهم صلى الله عليه وسلم إخواننا، فأمر أن يطعموا معنا مما نطعم، وأن يأكلوا من أكلنا، ويلبسوا من لباسنا، ويسكنوا سكنانا، ويعيشوا عيشتنا، وإذا حملناهم ما لا يطيقون أن نعينهم كما نعين أولادنا لأصلابنا.
من الذي أتى بهذا؟ حضارة ماركس خاب وخسر هو وأنصاره وأتباعه!
أم حضارة نابليون، وهو الذي وضع القانون الذي نسب إليه!
أم أمريكا وأوروبا خابوا جميعاً وخسروا، فبلادهم بلاد الفواحش والمنكرات والفساد والظلم والقسوة وسفك الدماء، وبلاد نشر الفواحش بجميع أشكالها، ومع ذلك نرسل أولادنا إليهم بلا رقابة ولا إشراف ورعاية ولا عناية، يذهبون بدين الإسلام ويعودون بلا دين، يذهبون برجولتهم ويعودون بلا رجولة، يذهبون أصحاء الأبدان ويأتون منهوكين ضائعين، ترى ابن العشرين وكأنه ابن الستين والسبعين، نتيجة إسرافه على نفسه، هذه هي الحضارة الأمريكية والأوروبية.
قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ [الأحزاب:50] هذه متعلقة بالكلام الأول عن النبي: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ [الأحزاب:50] إلى وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ [الأحزاب:50] فقوله: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أباح له ذلك ووسعه عليه، ليتبع حكمته وسياسته وطريقة دعوته.
ليس كذلك رؤساء الأرض قديماً ولا حديثاً، بل تجد لهم شخصيات مزدوجة، فأمام الناس يتظاهرون بالتقوى وفي داخل دورهم فسقة فجرة، وأمام الناس يتظاهرون بالإسلام وفي داخل دورهم منافقون دجالون أعداء الإسلام والمسلمين.
والنبي عليه الصلاة والسلام بدا لغير المؤمنين أنه ملك وزعيم للعرب، وهؤلاء كانوا يراقبون حركاته ويراقبون سكناته، وقد فعلوا، فقد كان مع أصحابه في الحرب والسلم في السفر والحضر، في المساجد وبين أتباعه، أما داخل الدار فكيف يعرفون سيرته؟ فكان هؤلاء النساء التسع من قبائل شتى ومن أسنان مختلفة هن اللاتي يحكين لنا سيرته الداخلية، ولو رأين ما يسوء وما يؤذي لتكلمت إحداهن.
وقد قالوا في الأمثال: إذا أردت أن تذيع سراً وأن ينتشر بين الناس فاذكره لامرأة وأوصها بالحفاظ على السر، فهي بطبيعتها سواء كانت أماً أو زوجةً أو بنتاً، تنشر ذلك السر؛ لأن الإيصاء بالسر كأنك تحضها على الإعلان، وهؤلاء النساء كن يتخاصمن كالنساء، فلو رأين من رسول الله ما يسيء وما يخالف الظاهر لذكرن ذلك.
وعلى كثرة أعدائه عليه الصلاة والسلام، وعلى كثرة المتربصين به في عصره وبعد عصره وإلى عصرنا هذا، وعلى كثرة الأكاذيب التي كذب بها عليه صلى الله عليه وسلم لم يدع أحد قبل ولا بعد أن النساء رأين عليه شيئاً داخل البيت، لا خديجة الأولى ولا عائشة الصغيرة ولا الزوجة المسنة ولا ولا، فكلهن لم يذكرن إلا خيراً وأكثر من ذلك، فنشرن شريعة الله داخل الأسر، كيف يعيش أباً في داره؟! كيف يعيش زوجاً في داره؟! كيف يعيش جداً بين أحفاده؟! ما الذي يصنع في داره؟! هل كل ذلك نوم وراحة؟ لا، بل مما بلغننا عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يقوم أكثر الليل يتهجد فيه، وكان يعين نساءه على شئون البيت عليه الصلاة والسلام، فقد كان يرقع نعله، ويكون في مهنة أهله، وكان يذبح الشاة ويسلخها بيده ويجعلها في أواني الطبخ والعمل، وكان إذا كلفهن لا يكلفهن بما يعجزن عنه.
هذا الذي تواتر وهذا الذي نشر، وهذا الذي رواه المؤمن والكافر، ورواه المخلص والمنافق، فأي كلام بقي لمن يقول: لم تزوج النبي تسع زوجات؟ فهؤلاء قبل أن يفقدوا الدين والشرف والكرامة فقدوا العقول، فعقولهم لا تدرك، ونفوسهم لا تعي، يهرفون بما لا يعرفون، ومن كان كذلك فما جزاؤه إلا الإغفال والإهمال والدوس بالأقدام.
والقافلة سائرة، ودع الكلاب تنبح.
قال تعالى: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ [الأحزاب:50] هذه الآية بخصوصيات النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أباح له ما أباح لكيلا يتحرج ولا يضيق ولا يتبرم ولا يظن أن في ذلك إثماً، بل كل ذلك فعله الله له للتوسعة عليه.
ثم قال: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:50].
أي: كان الله غفوراً لعباده، غفوراً لذنوبهم وإساءاتهم، مع ما فرض لهم من أربع زوجات ومن مهر وشهود وولي، ومن إماء إن شاءوا بلا حصر، ومع ذلك قد يقصرون وقد يخالفون، لكنهم إن تحروا الأسوة برسول الله فيما كان عاماً، وأطاعوا ربهم ونبيهم، ثم ما يصدر عنهم بعد ذلك من شيء لم يقصدوه أو جاء عن جهالة ثم تابوا وأنابوا فالله يغفر ذلك ويرحمهم، ويلحقهم بالرعيل الأول من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه.
قوله: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ).
الإرجاء التأخير، ومعناه: أن الله جل جلاله رفع الضيق والحرج عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأباح له عدم القسم بين نسائه، وأن له أن يختص واحدة بليال وأن يترك واحدة ألبتة، وأن يعطي هذه ولا يعطي هذه، فالأمر له وهو المخير بين كل ذلك.
فقوله: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) أي: تؤخرها ولا تجعل لها نوبة، أو تنام معها قليلاً.
(وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) أي: تضم إليك منهن من تشاء وتقرب.
(ومن ابتغيت عزلت فلا جناح عليك) أي: ومن أردت وطلبت ممن عزلت وأرجأت منهن وشئت أن ترجع إليها مرة أخرى فلا حرج ولا مانع من ذلك.
قال ربنا: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ أي: هذا العمل في الإرجاء والتأخير وذلك العمل في أن تضم إليك من شئت ومن ابتغيت ممن أبعدت عندما يعلمن أن هذا أمر الله وأن النبي عليه الصلاة والسلام يفعل ما أمره الله به دون قيد ولا شرط يكون ذلك أقرب لأن تقر أعينهن بأن يكن مسرورات، وقرار العين برودتها، ولا تبرد العين إلا عند السرور والانشراح، أما من سخنت عينه فقد اشتد حزنه، أي: دمعت عينه حتى سخنت.
وقوله: (ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن) أي: لا يدخلهن حزن عندما يعلمن أن هذا أمر الله.
وقوله: (ويرضين بما آتيتهن كلهن) أي: يقبلن ذلك عن رضاً وعن انشراح وارتياح.
وقوله: (والله يعلم ما في قلوبكم) أي: يعلم ما في قلوب العباد من محبة وكراهة، ومن ميل وعدم ميل، ومن طاعة ومخالفة.
وقوله: (وكان الله عليماً حليماً) أي: عليماً بأحوال عباده الظاهرة والباطنة، حليماً بهم، يغفر زلاتهم ويشفق عليهم، ويتوب عليهم إن تابوا وأنابوا.
وهذه الآية لم يفعلها النبي عليه الصلاة والسلام وهي خاصة من خواصه، بل كان يعدل بين نسائه، تفضلاً منه وتكرماً، وكان يبيت كل ليلة عند واحدة، وإذا زار إحداهن نهاراً يمر على الكل ويزورهن، وكان يقسم بينهن بالعدل والسوية، ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، أي: في القلب.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر