هذه الآية الكريمة هي آية حجاب نساء وبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحجاب المؤمنات من كل لون وفي كل أرض وفي كل عصر، وبهذه الآية تم صراحة تحريم زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم والزواج بهن، فكما يقال عنها: آية الحجاب، يقال عنها: عدم إيذاء رسول الله في زواج نسائه بعده، ويقال عنها: آية الدخلاء.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ .
إذا قال الله: يا أيها الناس ، فالخطاب يشمل كل بني آدم رجالاً ونساءً، وإذا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، فهو خطاب للمسلمين فقط؛ لا لأن غير المسلمين ليس بمخاطب؛ ولكن لأنه إذا قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، ففي الأغلب يكون الخطاب في فروع الشريعة، وإذا كان: يا أيها الناس ، في أصولها، مثل: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والفروع من الأركان الأخرى: صلاةً، وزكاةً، وصياماً، وحجاً، يخاطب بها كل إنسان، ولكنها لا تصح إلا من المؤمن الذي شهد لله بالوحدانية، ولمحمد بالرسالة وختمها، ولذلك عندما يقول ربنا: يا أيها الذين آمنوا ، فلن تقبل الفروع إلا منهم إذا قاموا بها حق القيام.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب:53].
حرم الله على المؤمن أن يدخل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وغرفه وعلى نسائه وعياله بغير إذنه، وكان العادة في الجاهلية قبل الإسلام أن يدخل الناس الدور ولا يغلقونها، يبقى باب الدار مفتوحاً فيدخل كل إنسان سواء كان الرجل في البيت أو لم يكن، فبقي هذا زمناً بعد الإسلام إلى أن حرم الله ذلك، وفي الصحيح أن عمر رضي الله عنه قال: (وافقت ربي في ثلاث: قلت لنبي الله عليه الصلاة والسلام: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزل قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، وقلت: يا رسول الله إنه يدخل بيتك البر والفاجر فلو حجبت نساءك عن الناس، فما كان يجيبني أو يستجيب لي، فنزل قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53] وقلت لنسائه في قصة الغيرة وطلب النفقة وهجره لهن شهراً كاملاً دخلت عليهن فقلت لهن: والله لا تزلن على حالكن حتى يطلقكن أو يبدله الله خيراً منكن، فقالت أم سلمة : يا عمر أما كان لرسول الله أن يعظ نساءه وأن يأمرهن وينهاهن غيرك، فخجل عمر وخرج، فنزل قوله تعالى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ [التحريم:5]).
والإمام الحافظ العسقلاني له رسالة في موافقات عمر لله في كتابه، فعد منها أربعة عشر قضية، ومنها: قصة أسرى بدر.
فقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب:53] كان هذا في شهر ذي القعدة في السنة الخامسة من الهجرة في غزوة الأحزاب ونزول هذه السورة الكريمة.
وقوله: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب:53] أي: إلا أن يؤذن لكم في الدخول للطعام، أو إلى اجتماع إن طلبكم لسبب فادخلوا، وإلا فالمسجد هو النادي وهو دار الندوة وهو المجتمع.
فقوله: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب:53] من آن يئين إذا أدرك واستوى، أي: لا تدخلوا حتى إذا دعيتم لطعام إلا إذا نضج واستوى وأعد، أما أن تجلسوا عنده الساعات الطوال وتضيقوا عليه، أو تأتوا بلا دعوة تنتظرون نضج الطعام فلا، وهؤلاء اسمهم في اللغة العربية: طفيلية، والآية كذلك يقال عنها: آية التطفيل.
وللإمام الخطيب البغدادي رسالة مطبوعة في التطفيل والمتطفلين ذكر فيها غرائب وعجائب من هذه الآية إلى أحداث في عصر النبوة وبعده إلى القرن الخامس.
وقوله: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب:53]، أي: حال كونكم غير منتظرين ولا معدين الأنفس إلى أن تدخلوا قبل نضجه، بل لا تدخلوا إلا بعد النضج، فالله قال للمؤمنين يؤدبهم ويهذبهم ويدافع عن النبي عليه الصلاة والسلام الذي كان أكثر حياءً من العذراء في خدرها، قال: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب:53]، يعني: يأذن لكم النبي عليه الصلاة والسلام، إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب:53] أي: غير منتظرين نضجه.
وقوله: وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا [الأحزاب:53] أي: إذا دعيتم لدخول البيت للطعام فادخلوا.
فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ [الأحزاب:53] أي: لا تجلسوا بعد الطعام يأنس بعضكم ببعض، وتتذكرون الأحداث والقصص وعلل وهموم أولادكم وأزواجكم وأنتم في بيت رسول الله مثقلين عليه وعلى نسائه.
وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا [الأحزاب:53] أي: إذا أكلتم فاخرجوا، هذا أدب مع رسول الله، وأدب الدعوات عند جميع المسلمين، فالجلوس بعد الطعام والحديث قلة أدب وتثقيل على المسلمين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من دعي فليجب) ، عرساً أو غيره، (ولكن إذا دخلتم فخففوا) ، أي: خففوا على أهل البيت حتى إذا طعمتم فانتشروا، وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ [الأحزاب:53].
أي: أن دخولكم البيت بغير إذن، ومجيئكم للطعام بلا دعوة، وإتيانكم للطعام قبل نضجه بساعة أو ساعات، وبقاءكم بعد الطعام مدة طويلة أو قصيرة، كل هذا كان يتأذى منه النبي عليه الصلاة والسلام بليغ الإيذاء، قال تعالى: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ [الأحزاب:53]، إذا كان الكلام مع جماعة فالإضافة لاسم الإشارة يكون جماعة: إن ذلكم ، أي: يا هؤلاء الجماعة ذلك العمل من الدخول والمكث والانتظار طويلاً، وانتظار النضج والدخول قبله، إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ [الأحزاب:53].
أي: كان يتأذى منه، ولكنه كان يستحيي أن يقول لهم: اخرجوا؛ لأن الدار داره، والنبي صلى الله عليه وسلم كان سيد الكرماء، وكان كعادة قومه ضرب بهم المثل في الكرم، فكان يصعب عليه أن يقول لهم: اخرجوا عني، فكان يتحمل ذلك، ولكنه كان يتأذى في نفسه الأذى البالغ، ولا يتكلم ولا يشتكي حتى لا يبلغهم ذلك فيؤذيهم.
وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب:53]، أي: الله لا يستحيي أن يعلن الحق، فهو الآمر والناهي جل جلاله، وإن كان النبي له هذا الحق يأمر ويوجب وينهى ويحلل ويحرم بإذن الله وأمر الله، ولكن بما أن الأمر يمسه وفي داره وعلى طعامه كان يجد حياءً من نفسه أن يبعدهم فيقولون: طردنا رسول الله من بيته، وكان ذلك يؤذيه، وقد يفسرون ذلك تفسيراً قبيحاً فيصفونه بالبخل وما إلى ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم ضرب به المثل في الكرم، فقد كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، طالما أعطى المائة من الإبل وأعطى أكثر من ذلك وأقل صلى الله عليه وسلم، ولا يكاد يمسك بيده شيئاً.
ونزول هذه الآية في هذا وفي الحجاب، وذلك عندما تزوج النبي عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش الأسدية مطلقة زيد بن حارثة أولم عليها رسول الله عليه الصلاة والسلام باللحم والخبز، فهو عليه الصلاة والسلام عندما أصبح متزوجاً زينب أرسل أنساً وقال له: (ادع لي فلاناً وفلاناً وفلاناً للطعام في البيت لوليمة
فعندما أكل الناس من الطعام جلسوا يتحدثون، فتضايق منهم النبي عليه الصلاة والسلام والحجاب لم ينزل بعد، وكانت العروس جالسة في المكان الذي سيدخل فيه الرجال ووجهها إلى الحائط، وبقيت ساعات على هذه الحال.
فالنبي عليه الصلاة والسلام خرج بعد أن انتهت الوليمة ليشعرهم بذلك فيخرجون، يقول أنس : هم لم يقصدوا ولو انتبهوا للاموا أنفسهم ولندموا، ولكنها عادة كانت عند العرب, فلهذا ما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا منعهم، بل تركهم وخرج فطاف على نسائه، بدأ بـعائشة ، فقال لها: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقالت له: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك يا رسول الله؟ بارك الله لك فيها).
ثم عاد للغرفة التي فيها زينب بنت جحش فوجد البعض لا يزالون يتحدثون، فطاف على بقية أمهات المؤمنين يسلم على كل واحدة وتجيبه كل واحدة كيف وجدت أهلك يا رسول الله؟ بارك الله لك فيها.
ثم رجع فشعروا بدخول رسول الله وخروجه عليه الصلاة والسلام وأنه متضايق فبادروا إلى الخروج، وكان خلفه أنس ، وإذا بـأنس أراد الدخول معه، وإذا به عليه الصلاة والسلام يرخي الستر بينه وبين أنس ، وبعد ذلك بقليل تلا على أنس هذه الآية: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53] فكان يقول أنس : أنا أولكم سماعاً لهذه الآية الكريمة عندما نزلت من جبريل عن رب العزة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ [الأحزاب:53] هذه الآية في فقراتها الأولى تسمى آية الثقلاء، أي: الآية التي نزلت في الذين أثقلوا على رسول الله عليه الصلاة والسلام بمكثهم في داره وهو متضايق منهم، ومع ذلك انتظر طويلاً إلى أن خرجوا، ولكن الله تعالى أنزل هذه الآية أدباً للصحابة مع النبي عليه الصلاة والسلام وأدباً لجميع المسلمين، وهي من آداب الجلوس على الموائد بين المسلمين.
أي: إذا أردتم ما يتمتع به من آنية أو آلة أو أردتم فتوى أو سؤالاً علمياً فاسألوهن من خلف الحجاب، والحجاب يجب أن يكون كاملاً بحيث يحرم رؤية نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شخوصهن من وراء النقاب، فلا ترى شخوصهن ألبتة، لا بد أن يكن مستورات خلف حائط أو ستار، ولذلك أمرهن الله بعدم الخروج، ولذلك عندما ذهبت عائشة إلى الكوفة وقصدها الصلح ركبت على هودج، فكانت مستورة لا يرى منها شيء.
وفي حياة عمر رضي الله عنه ماتت سودة فأمر عمر ألا يحضر جنازتها إلا محارمها؛ لكي لا ترى جثتها تحت الكفن؛ لأنه يحرم على الرجال أن يروا من نساء النبي عليه الصلاة والسلام حتى شخوصهن وهن متسترات، ولو تحت النقاب، فالتفتت إليه أم حبيبة وكانت في أرض الحبشة فقالت له: يا أمير المؤمنين لما كنا في الحبشة مهاجرين رأيناهم يضعون النساء عند موتهن في صندوق من خشب، فلو فعلت ذلك، فأعجبت الفكرة عمر ، فوضع سودة في صندوق من الخشب، ووضع الصندوق في التراب ودفنت به؛ لكي لا ترى ألبتة.
وهذه العادة أن المرأة تكون في صندوق ويحمل الصندوق الرجال ولا يرون جثة المرأة، لا تزال في المغرب إلى اليوم منذ ألف وأربعمائة عام، منذ عهد المؤسس الأول للدولة الإدريسية: إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي ، وفاطمة عليهم السلام، وأخذ هذه العادة من الحجاز، وهو مدني أخذها من المدينة المنورة، ولا تزال هذه العادة هنا كذلك، ولكن لا أدري هل تدفن بصندوقها أو إنما توضع على النعش كذلك مستورة ولا تدفن في صندوقها؟ أما المغاربة فهم أكثر اهتماماً بهذه السنة لأمهات المؤمنين.
وقوله: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53] أي: أطهر أكرم وأشرف وأبعد عن الريبة والسوء والأطماع، سواء كان هذا في الحياة النبوية أو بعده، خاصة وستذكر المعاني المسندة لهذا في آخر الآية.
بعد أن نزل الحجاب قال البعض: لماذا نحجب عن بنات عمنا وعن بنات عشيرتنا؟ لو مات رسول الله لتزوجنا عائشة وكل صار يقول كلاماً، فحرم الله الكلام معها ومع غيرها من أمهات المؤمنين، قال تعالى: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53] أي: أطهر لقلوب السائلين والرجال المتكلمين، ومن تكلم معهن من أمهات المؤمنين أطهر وأبعد عن الريب والقيل والقال.
زعموا أنه عندما نزل الحجاب قال طلحة بن عبيد الله وهو تيمي من عشيرة عائشة : لم يحجب عنا بنات عمنا؟ لو مات رسول الله لتزوجت عائشة .
فكان هذا القول عظيماً، وإن كان هذا الكلام عن طلحة نفاه البعض من السلف والإمام السيوطي ذكر: أن رجلاً يسمى طلحة بن عبيد الله وليس هو طلحة بن عبيد الله الذي هو أحد الستة المرشحين للخلافة، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وهو الذي شلت يده يوم أحد دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقيت معطلة لم يستفد بها.
وقال بعضهم: عندما قال طلحة هذا إنما قاله على العادة من أن العرب المسلمين كانوا يتزوجون من مات عنهن أزواجهن ومن طلقهن أزواجهن، فاعتبروا هذه حسب العادة، ولكن عندما نزلت الآية وقال الله عن هذا إنه إذاية لرسول الله، وأن الزواج بنسائه بعده أمر عظيم وخطر عظيم وبلاء عظيم في الإسلام، تركوا هذا القول وتابوا إلى الله منه.
وفي حياة أبي بكر تزوجت امرأة طلقها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الدخول بها، فانزعج أبو بكر وهم بقتلها وقتل من تزوجها، فقال له عمر : أربع على نفسك، لم ينزل عليها حجاب ولم يدخل بها رسول الله، ولم يتم له عقد عليها ولم تسم بأم المؤمنين، وبالتالي فليست زوجة لرسول الله. بعد هذا هدأت نفس أبي بكر .
أما لو حاولت إحداهن وحاشاها من ذلك أن تتزوج أو حاول أحد أن يخطبهن لقتله أبو بكر والمؤمنون.
قال تعالى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب:53] سواء الإذاية بالإثقال عليه بالكلام أو بقلة الأدب معه، أو بمخالفته وعصيانه، أو غيرها من أنواع الإيذاء.
ومن الإيذاء الزواج بإحدى أمهات المؤمنين، وما سماهن الله أمهات للمؤمنين إلا لأنهن محرمات على الرجال تحريم الأم أدباً واحتراماً، ولسن بأمهات حقيقة، ولا يجوز للمؤمنين أن يجلسوا معهن أو أن يكلموهن إلا من وراء حجاب.
وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا [الأحزاب:53] والنكاح يقصد به العقد والخطبة وما سوى ذلك، فكل ذلك قد حرمه الله.
وقوله: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا [الأحزاب:53]، أي: كان هذا الأمر شيئاً فظيعاً عظيم الإثم، من الكبائر ومن الجرائم لمن فكر فيه، فضلاً عن أن يطلبه أو يسعى فيه، سواء من الرجال أو من أمهات المؤمنين أنفسهن.
هل هذا الحجاب خاص بأمهات المؤمنين أو عام لكل المؤمنات؟ الحجاب عام لكل المؤمنات، ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر إلا وكان ذلك أمراً عاماً لجميع الرجال والنساء، إلا ما خص الله به نبيه دون المؤمنين، كما قال عن الواهبة نفسها، وكما خصه الله بتسع نسوة، وكما خصه الله بالتهجد ليلاً فرضاً، وكما خصه بتحريم أكل الثوم والبصل والكراث وما فيه رائحة كريهة، وهو حلال لكل المؤمنين، ولكن إذا أكلوه وكان نيئاً وكانت رائحته ظاهرة يخرجون من المسجد إن دخلوه، حتى تنقطع منهم تلك الروائح الكريهة.
إذاً: الحجاب حسب هذه الآية يشمل بدن المرأة، وكما قال ابن عباس وابن مسعود : (المرأة كلها عورة، وإنما أذن لها بكشف عين واحدة أو عينين للنظر).
ومن باب أولى إن خرجت لشغلها أو للضرورة من الدين والدنيا أن تخرج غير متبرجة ولا متعطرة ولا متزينة ولا مظهرة محاسنها لأحد، ولا متكسرة في مشيتها في الشوارع، شأن من يعرضن أنفسهن على الرجال من الفساق والفخار.
قالوا عن طلحة عندما ذكر ما ذكر وقال ما قال: من التزوج بـعائشة رضي الله عنها بعد موت رسول الله: إنه بعد نزول الآية حج على رجليه وهو كبير يتجاوز الأربعين توبة لله ورجاء مغفرته، وإنه أعتق جميع عبيده وإمائه طلباً للمغفرة من الله من هذه القولة التي قالها، وفعل الكثير من الحسنات عسى الله أن يتوب عليه وأن يغفر له قولته، إن كان قالها فهي قولة عظيمة، ولكن الله يتوب على من تاب، على أن السلف قالوا: لم يقل ذلك طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
وقد ذكرنا أن السيوطي أكد في رسالة مستقلة أن الذي قال ذلك رجل اسمه طلحة بن عبيد الله وهو غير طلحة بن عبيد الله الذي هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، والذي شلت يده يوم أحد دفاعاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ [الأحزاب:54] أي: إن تظهروا ما أضمرتم في نفوسكم أو تخفوه عن الله، فإن الله بكل شيء عليماً.
فمن أخفى الزواج بأمهات المؤمنين، ومن أخفى الرغبة فيهن، ومن حدثته نفسه بما لا يليق مع رسول الله ومع مقام رسول الله عليه الصلاة والسلام فالله عالم بذلك لا تخفى عليه خافية جل جلاله وعلا مقامه.
وهذه الآية خرجت مخرج التهديد والوعيد والنذير لمن تحدثه نفسه بأمثال هذه الأشياء من إيذاء رسول الله فيما لا يرضي رسول الله، سواء كان حياً أو ميتاً؛ لقولة يقولها أو بعمل يعمله، أو بمخالفة له في أوامره ونواهيه، فالله يعلم ذلك من نفس الإنسان أخفى ذلك أو أعلنه.
أي: بعد أن منع الرجال من أن يتكلموا مع أمهات المؤمنين إلا من وراء حجاب، استثنى هؤلاء فقال: لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ [الأحزاب:55] أي: لا إثم ولا ملامة ولا حرج أن يراهن آباؤهن، أن يرى عائشة أبو بكر ، وأن يرى حفصة عمر ، وهكذا بقية نساء النبي عليه الصلاة والسلام.
وقوله: وَلا أَبْنَائِهِنَّ [الأحزاب:55].
كان لأكثر أمهات المؤمنين أولاد، وكلهن أرامل سوى عائشة وكان لبعضهن أولاد من غير رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأذن الله لهن ولهم أن يرى بعضهم بعضاً؛ لأن هؤلاء محارم.
وقوله: وَلا إِخْوَانِهِنَّ [الأحزاب:55].
أي: الأخ من الأب والأم أو من الأب فقط أو من الأم فقط، لا مانع من أن يرى محمداً وعبد الرحمن عائشة، ولا مانع من أن يرى معاوية بن أبي سفيان أخته أم حبيبة، وهكذا قل في بقية أمهات المؤمنين.
وقوله: وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ [الأحزاب:55].
أي: أبناء محمد بن أبي بكر ، وأبناء عبد الرحمن بالنسبة لـعائشة ، وأبناء معاوية وأبناء الباقي من الإخوة الذكور بالنسبة لـأم حبيبة.
وقوله: وَلا أَبْنَاءِ أِخْوَاتِهِنَّ [الأحزاب:55] أبناء الأخوات كأبناء أسماء أخت عائشة وهم عروة وإخوته.
وقوله: وَلا نِسَائِهِنَّ [الأحزاب:55] قال أكثر المفسرين: لا يحل لأمهات المؤمنين كما لا يحل للمؤمنات عموماً أن يتكشفن أمام امرأة غير مسلمة، ويعتبرنها كالرجل تماماً؛ كي لا تصف هذه المرأة المشركة أمهات المؤمنين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر