أما إذاية الله فكانت بجعل الولد والصاحبة له، كما زعمت اليهود والنصارى، فقد أخبر الله عنهم بقوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] وغير ذلك من صور الإيذاء.
أما إذاية رسول الله عليه الصلاة والسلام فكانت بإخراجه من بلدته مكة المكرمة، وبقولهم عنه: ساحر ومجنون، وبرمي رجليه بالحجارة، وبكسر رباعيته وجرح خده الشريف في المعركة، وبمخالفة أمره وارتكاب نهيه.
ومن الإيذاء: قلة الأدب مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهلا نتأدب معه؟ وهلا نصلي ونسلم عليه؟ وهلا نعظمه ونحترمه؟ وهلا نجازيه خيراً عما أكرمنا الله به على يده من إيمان وإسلام.
وقد قال عليه الصلاة والسلام لـعلي : (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس) فكيف بمن هدى الله على يديه هؤلاء البشر جميعهم من عاصروه ومن جاءوا بعده إلى عصرنا؟!
فهو صلى الله عليه وسلم صاحب الفضل الأكبر في إيماننا وإسلامنا واتباعنا له، فكان ذلك موجباً علينا الأدب معه، والصلاة عليه، والتزام احترامه صلى الله عليه وعلى آله.
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [الأحزاب:57].
أي: طردهم الله من رحمته، فهم في دنياهم كفرة تحت ذل المؤمنين واستعبادهم، وفي الآخرة هم في النار خالدين فيها أبداً، إن ماتوا على نصرانيتهم وعلى شركهم ويهوديتهم، إن لم يتوبوا قبل الموت ويتوب الله على من تاب.
وقوله: وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57] أي: هيأ وأوجد لهم العذاب المهين في الدنيا من الذل والاستعباد، ومن حبهم وعشرتهم للكلاب والخنازير وأمثالها من القاذورات.
والعذاب المهين في الآخرة من دخول النار والخلود فيها أبداً سرمداً، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].
أي: كما حرم الله إيذاءه بالقذف والقول بما لا يليق بعزته وجلاله من نسبة الولد والصاحبة له، وحرم إيذاء رسوله صلى الله عليه وسلم، كذلك حرم الله إيذاء المسلمين.
وإيذاء الله ورسوله كفر وردة، وجزاء فاعل ذلك القتل، وأخذ المال غنيمة، وإيذاء المؤمنين إن كان بحق كأن يرتكب جريمة يستحق عليها الحد من قتل أو زنا أو سرقة أو قذف أو شرب خمر أو ما إلى ذلك؛ فهذا يكون إيذاءً بحق، وبما اكتسب هؤلاء من جرائم وذنوب ومعاص.
أما إذا لم يصنعوا شيئاً من ذلك وأوذوا بغير سبب موجب، أو أوذوا بشيء لم يكتسبه المؤمن ولا المؤمنة، فلا يستحق إيذاء ولا يستحق ضرباً ولا يستحق عقاباً ولا يستحق شتيمة، فمن فعل ذلك أخزاه الله وعاقبه الله.
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58] المؤذون للمؤمنين والمؤمنات حملوا في صحائفهم إثماً مبيناً وذنباً ظاهراً، وجريمة بينة، وسيعاقبون عليها في الآخرة، وقد يعاقبون في الدنيا الآخرة إذا لم يسترضوا من آذوه وسامحهم؛ لأن الله يسمح ما يتعلق به، أما ما يتعلق بالعباد فلا بد أن يغفروه ويتنازلوا عنه، كما قال الشاعر:
كن كيف شئت فإن الله ذو كرم وانف الهموم فما في الأمر من بأس
سوى اثنتين فلا تقربهما أبداً الشرك بالله والإضرار بالناس
فالإضرار بالناس لا يغفره الله إلا إذا غفره من أوذي، والشرك بالله إذا مات المرء عليه فلا مغفرة ألبتة، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] .
فإذاية المؤمن والمؤمنة كبيرة من الكبائر وجريمة من الجرائم، وكل ذلك بحسبه، فإن سرقه قطع، وإن قذفه جلد، وإن انتهك حرمته عزر، وإن قال عنه ما ليس فيه كان أفاكاً آثماً.
وفي الحديث: (جاء رجل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قال: فإن كان فيه؟ قال: إن كان فيه فهو غيبة، أما إن ذكرته بما ليس فيه فهو البهتان) والبهت هو أشد الكذب.
فمن ذكر أخاه المؤمن بما ليس فيه فلا يعتبر مغتاباً فقط بل يعتبر كذاباً قاذفاً، فالبهت أكبر من الغيبة، ذاك كبيرة وهذا أكبر من الكبيرة وعليه تعزير وتأديب، فقد يصل إلى حد القذف فيجلد الحد.
فقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأحزاب:59] لا يزال الله جل جلاله ينادي عبده بلقبه الشريف المكرم، وهكذا منذ البداية وإلى ختم القرآن.
الآية الأولى التي درسناها وشرحناها وفسرناها آنفاً في حجاب أمهات المؤمنين، وهذه الآية أصرح، فهي في نساء النبي عليه الصلاة والسلام وبناته والنساء المؤمنات عموماً.
يقول الله لنبيه: يا محمد، يا رسول الله: قل لهؤلاء زوجة وبنتاً وامرأة مسلمة: يدنين عليهن من جلابيبهن، والإدناء هو التقريب، والجلباب هو الرداء، أو العباية، أو الملحفة.
ويكون عادة أقرب لما يصنعه أهل الحجاز، يكون على الخمار فوق الرأس يستر به الوجه وجميع البدن، بحيث ترى المرأة ولا يراها أحد، إن كان ذلك الحجاب صفيقاً.
أما ما يجري الآن فالحجاب يكاد يكون في رقة قشر البيضة ولا يستر، فهو إلى الزينة أقرب، وكان مثل هذا الحجاب كما هو حاصل في بعض الأقطار الأخرى، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
فأمر الله نبيه أن يأمر نساءه وبناته وأن يأمر نساء المؤمنين إن خرجن لضرورة دينية أو دنيوية كذهاب إلى المسجد أو صلة رحم لأبوين، أو سبب ما قد أذن به فليخرجن غير متبرجات، كما أمرن من قبل، وأن يخرجن بجلباب تام يستر البدن كله الجسد والوجه.
قال ابن عباس: أن يحجبن جميع البدن إلا عيناً واحدة.
وكان النساء الجزائريات منذ سنوات على هذه الطريقة، ولكنهن الآن ممن رفعن الحجاب ألبتة، وكان في المغرب كذلك في الجبال وفي البدو.
أما الحضريات فكن يحجبن البدن كله ويكشفن العينين معاً، وكان المسلمات في الأرض كلها يحتجبن لا يبتعدن من الحجاب.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59].
أي: إن كن لا يحتجبن، ومع ذلك كن في الجاهلية يلبسن الجلباب والعباءة ويضعنها على الأكتاف كالرجال، فأمر الله أن يوضع هذا الجلباب على الرأس، وأن يغطى به الوجه والبدن كله.
قال تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59].
أي: حجابهن أقرب أن يعرفن فلا يؤذين، فقد كان المنافقون واليهود والفساق والفجار في المدينة، عندما يخرج النساء ليلاً لقضاء الحاجة؛ لأن البيوت ليس بها مراحض وليس هناك مجار، فكن لكي لا يفسدن روائح البيت يصبرن إلى الليل فيخرجن إلى قضاء الحاجة، فكان هؤلاء المنافقون والفجار يتبعوهن، فكانت الإماء لا يحتجبن، فأمر الله الحرائر أن يحتجبن، فإذا جاء المنافقون والفساق فرأوها محتجبة ابتعدوا عنها لا ديناً، ولكن خوفاً من زوجها أو أبيها.
أما الأمة فلم يعتبروها، وكانوا يقولون: إذا تجاوزت حدها بيعت أو أعتقت وخلي سبيلها.
فالله أمر الحرائر بالحجاب حتى يميزن ويعرفن عن الإماء، فيهابها المنافقون ولا يمسونها ولا يكلمونها ولا يجرءن عليها، فكانوا يخافون من الحرة ومن زوجها ومن أبيها، وممن يتصل بها من رجالها.
فالله أكد هنا وأمر أمهات المؤمنين وبنات رسول الله عليه الصلاة والسلام والمؤمنات عموماً بالحجاب، وخص أمهات المؤمنين وبنات رسول الله عليه الصلاة والسلام بالذكر لشرفهن ومقامهن، ثم نساء المؤمنين كذلك، والأمر واحد أن يحتجبن إذا خرجن لضرورة.
وقوله: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59].
غفوراً للمؤمنات فيما مضى في الجاهلية من تعرية الوجه وعدم حجابه، رحيماً بهن في السنوات التي لم ينزل فيها الحجاب بعد، وكانت جميع سنوات مكة وخمس سنوات من الهجرة في المدينة على ذلك؛ لأنه لم يصدر أمر خلالها بالحجاب.
وقال الله لأمهات المؤمنين: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33] الأمر لأمهات المؤمنين في الدرجة الأولى أن يبقين في البيوت ولا يخرجن، فإذا اضطررن فلا يخرجن متبرجات لا مظهرات لزينة ولا متطيبات، بل يخرجن تفلات، ويلبسن الجلابيب ويغطين بها جميع أبدانهن.
قال أمهات المؤمنين: رحم الله الأنصاريات! عندما نزلت هذه الآية أصبحن في المسجد وكأنما على رءوسهن الغربان.
كن يلبسن الملاحف والجلابيب السوداء كما لا زالت تلبس هنا، وكما لا تزال سنة في الشام بالنسبة لمن لا يزال يلبسها.
أما جلابيب المغربيات فكن يلبسن الثياب البيضاء الخشنة.
فهنا بين تعالى أن الجلباب ليس خاصاً بأمهات المؤمنين وليس خاصاً ببنات رسول الله ولكنه عام في الجميع.
وعندما قال جل جلاله: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53] كان من المعلوم أن السؤال لا يكون من وراء حجاب إلا وهن محتجبات، وفسر المفسرون الآية الماضية بخصوص أمهات المؤمنين، وأنه لا يجوز أن ترى جسومهن حتى مع الجلباب والنقاب، وأنه لا بد أن يكون هناك ستار قائم، حتى لا يعرف طولهن من عرضهن، ولا صغرهن من كبرهن.
كما فعل عمر لما ماتت إحدى أمهات المؤمنين أمر ألا يحضر جنازتها إلا محرم، فقالت له أم حبيبة أم المؤمنين: يا أمير المؤمنين، رأيت في الحبشة إذا ماتت المرأة منهم وضعت في صندوق ودفنت، فسرّ هذا الرأي عمر وأمر به، فكانت المرأة من أمهات المؤمنين وغيرها توضع في صندوق من الخشب وتدفن به.
وفي الحجاز تدفن بغيره، وفي المغرب كانت ولا تزال توضع في صندوق من الخشب يحمل في النعش بحيث لا يرى شخصها كله، وتدفن بهذا الصندوق، ويحمل الصندوق بالحبال من هنا وهنا ويوضع ويبقى معها كذلك.
وكان له إبراهيم من مارية القبطية المصرية الأمة.
ومن المحقق أن القاسم كان يكنى به عليه الصلاة والسلام قبل النبوة وبعدها.
أما الطاهر والطيب وعبد الله فقد قال البعض: ليسوا إلا واحداً، الطاهر يقال له: الطيب ويقال له: عبد الله .
إذاً: لم يكن له من خديجة إلا ولدان في رأي بعض أهل السير وبعض الأئمة.
والمشهور أنهم ثلاثة: القاسم والطاهر والطيب وإبراهيم ابن مارية .
وكان له أربع بنات عليه الصلاة والسلام: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة .
أما زينب فزوجت للعاص بن الربيع ، ورقية وأم كلثوم زوجتا معاً لـعثمان، تزوج الأولى ثم ماتت، ثم الثانية ثم ماتت، وقال رسول الله: (لو كان عندي ثالثة لزوجتك بها) وهؤلاء الثلاث توفين في حياة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
أما فاطمة فقد ولدت قبل النبوة بخمس سنوات، وقيل: أكثر، وليس هناك تأكيد، وتزوجها علي بن أبي طالب ، ولم يكن لرسول الله ذرية ولا سلالة إلا من فاطمة ، ولم يكن من أولادها سلالة إلا من الحسن والحسين ، وكان هناك المحسن ولكنه مات صغيراً.
وهناك من كفار مكة من عيروا رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالوا: محمد أبتر، أي: لا سلالة له ولا ذرية، فالله قال لهم: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] أي: مبغضك وشاتمك هو الأبتر، وهو الذي سيبتر الله سلالته وذريته، وكان لبعض هؤلاء أولاد وأسباط وبعضهم أسلم، ومع ذلك محق الله ذريتهم لا قبل الإسلام ولا بعده وبقيت ذرية رسول الله عليه الصلاة والسلام وإلى يوم القيامة؛ لأن الله قال عمن قال عنه أبتر: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3] .
فمن قال: محمد لا ذرية له ولا سلالة له يكون جزاؤه جزاء من قال ذلك من أهل الجاهلية أن يبتره الله من الذرية والسلالة، وأن يفقده الأولاد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر