يقول ابن عباس رضي الله عنه: كنت لا أعلم ما معنى فاطر، إلى أن جاءني يوماً أعرابيان يشتكيان إلي في بئر تنازعاها، فقال أحد الأعرابيين: أنا فطرتها -أي: بدأت حفرها، واخترعت ذلك وسبقت خصمي- فقال ابن عباس: جاءا يأخذان مني الحكمة وفصل الخطاب، فأخذت منهما بيان كتاب الله.
فمعنى الفاطر: المبدئ الخالق المخترع على غير مثال سابق. هذا بالنسبة لله، وبالنسبة للخلق: من ابتدأ الشيء ابتداء نسبياً.
فالحمد لله في البداية والحمد لله في النهاية، وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10].
فحمد الله هو الأول عند شروع الأعمال، وهو النهاية عند ختم الأعمال، ونحن أولاء نبدأ الآية بما بدأ به الله.
فالحمد لله أي: الحمد الكامل لله لا لأحد سواه.
فلو أحسن إلي إنسان بكلمة طيبة أو بخدمة قدمها أو بعطاء أعطاه فأنا أقول: الحمد لله؛ لأن الله هو الذي حرك قلبه لأن يقول هذه الكلمة، ولأن يخدم هذه الخدمة، ولأن يعطي هذا العطاء، وقد أدبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله).
والمحمود حمداً مطلقاً هو الله جل جلاله، فهل نحن عندما نقول: الحمد لله نعني بذلك الحمد الكامل بكل أنواع المحامد، وأشكالها المرئية والخفية؟ فنحن نحمده على أن خلقنا أسوياء في أجسامنا، أصحاء في خلقنا، ونحمده على كل خلايا أجسامنا، ونحمده أن جعلنا مسلمين، ومن آباء مسلمين، ثم نحمده جل جلاله بعد الإسلام أن وفقنا لملازمة الصلاة، وملازمة الطاعة، ومدارسة كتابه، ومدارسة سنة نبيه، ومحامد الله لا تحصى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
على كل ذلك نقول: الحمد لله.
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1].
الحمد لله المنعوت بأنه فاطر السماوات والأرض، الخالق بغير مثال سابق، فلم يخلق ما نراه من خلقه على مثال سبقه، بل هو المبدئ وهو المعيد.
والفطر: الشق، والفطر: الابتداء، كما فهم ابن عباس من الأعرابيين، فالله هو الذي ابتدأ الخلق، وأخرجهم من العدم إلى الوجود.
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1] أي: الكون كله، فهناك السماوات بما عليها من خلق الله أعلم بحقيقتهم.
ومن الملائكة الذين أطت السماء بحملهم، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ( أطت السماء وحق لها أن تئط ما من موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع).
وقد ورد في آثار أخرى أن عملهم بالليل والنهار هو تسبيح الله وتمجيده، فهذا ذكرهم لله لا يفترون عنه، بل نفسهم هو الذكر لو انقطع الذكر لماتوا، كما أن الإنسان لو انقطع نفسه لمات، فكلهم يذكر الله بما ألهمه الله إليه وفطره عليه.
ومنهم الرسل إلى الأرض قال تعالى: جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر:1]، أي: جعل الملائكة رسلاً إلى البشر، فهم رسل الله إلى الأنبياء والرسل من البشر، إذ الله لا يكلم أحداً من البشر وجهاً لوجه، فكان جبريل الروح الأمين هو رسول الله إلى رسله من البشر، فهو الذي نزل بالوحي على جميع الأنبياء والمرسلين الذين بلغ عددهم 310 نبياً رسولاً، وهؤلاء الرسل فقط.
وهم الذين جاءوا إلى آدم بما جاءوا به من وحي ورسالة، وإلى نوح ومن قبله إدريس وشيث وإلى سلالة نوح، وإلى إبراهيم وولدي إبراهيم، وإلى عيسى وإلى محمد، عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
فكانوا رسلاً إلى الأنبياء من البشر، وهم رسل كذلك للبشر، فبعضهم يرسل لقبض الأرواح، وبعضهم بالرياح، وبعضهم بالبوق، وبعضهم بالقطر، وهكذا لكل ملك عمل ووظيفة، وجند ربك لا يحيط بها وبعددها ولا يحصيها إلا الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر