يقول الله لنبيه مسلياً ومعزياً، وقد كفر به من كفر، وصد عن دينه من صد، وجابهه من جابهه من الكفار المعاندين، والمنافقين المفسدين: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر:4]، أي: إن يكذبك هؤلاء من أهل مكة والمدينة، ومن أرض جزيرة العرب وغيرها من بلاد العرب والعجم فليس ذلك خاصاً بك فالصالحون قليل، قال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
وقال سبحانه: ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14].
هكذا كان الأنبياء قبلك، آمنت بهم قلة وكفرت بهم كثرة، فعاقب الله هذه الكثرة في الدنيا والآخرة، فأغرق بعضهم وزلزل ببعضهم الأرض، وبعضهم أسقط عليه رجماً من السماء، وبعضهم جرده ومكر به، وهكذا كانت عاقبة كل كافر وجاحد وصاد عن الله ومكذب لرسله وكتبه ورسالاته.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر:4]، فقد كذب نوح وكذب إبراهيم ومن جاء بعده إلى عيسى عليهم السلام، وما آمن معهم إلا قليل.
قوله: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [فاطر:4].
فأمور الخلق كافة عائدة إلى الله يوم القيامة، يوم البعث والنشور، فمن جاء مؤمناً بالله ورسله فله من الله الجنة والرضا، ومن جاء كافراً بالله ورسله فله من الله الغضب والنار خالداً فيها أبداً، فقوله: (وإلى الله ترجع الأمور)، هو تهديد ووعيد لهؤلاء الذين كذبوا نبينا عليه الصلاة والسلام، وكذبوا غيره من الأنبياء السابقين، وما عادوا إلى الله، أن الله هو يفصل بينهم يوم القضاء والحساب إما إلى نار وإما إلى جنة.
تقدم في تفسير كتاب الله أن الله جل جلاله عندما يدعو الناس فإنه يخاطبهم جميعاً كفاراً ومؤمنين، وإذا قال: (يا أيها الذين آمنوا) فهو يخاطب المؤمنين في فروع الشريعة وتفاصيل الإسلام.
فقوله: (يا أيها الناس) أي: يا أبناء آدم وحواء، من كافر ومسلم.
قوله: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [فاطر:5]. وعد الله الذي وعده هو يوم القيامة، والمعنى: إن البعث حق، والعرض بعد الموت على الله حق، ومن أنكر ذلك كان كافراً خارجاً عن الإسلام.
وقد يكون معنى الوعد في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ [فاطر:5]، أي: الذي جاء به أنبياؤه، ونزلت به كتبه، وقرره للخلق كلهم، أن هذه الدنيا لم تخلق عبثاً، وإنما كانت دار بلاء كما كانت دار عبادة وطاعة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
حتى إذا عاشوا في الأرض ما شاء الله لهم عادوا إلى الله ليحاسب الصالح على صلاحه ويدخله الجنة، والطالح على فساده فيدخله النار.
ولن يفلت أحد من الحساب والعقاب، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن نوقش الحساب عذب). فمن لقي الله مؤمناً صادقاً مطيعاً تائباً فله من الله الرحمة والرضا والخلود في الجنة.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [فاطر:5] إن القيامة حق ليست بخيال، ولا بكلام يقال، ولكنها حقيقة من الحقائق، سيمر بها الناس كلهم، منذ خلق آدم وحواء إلى آخر إنسان في الأرض، أمر الأنبياء والرسل أن يبلغوا أممهم وشعوبهم ليعتقدوا ذلك ويستمسكوا به.
وقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5]، الغرور: أن يغتر الإنسان بالباطل من أوهام وخواطر لا حقيقة لها، ولا وجود لها في واقع الحال.
وغرور الدنيا في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [فاطر:5] خطاب من الله لبني البشر: أن الدنيا التي تعيشونها ما دمتم فيها فلا تغتروا بما فيها من شهوات ونزوات وأطماع ورفعة، فهي ليست دائمة بل هي فانية، فمهما عاش فيها من عاش فإن مآله إلى الموت، ثم إلى العرض على الله والحياة الأخرى.
وقد عمر نوح عمراً طويلاً، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً فمرت كأنها لم تكن، بل كانت كأنها حلم من الأحلام أو خواطر مرت ولم تبق، إذ بعد هذا الدهر الطويل والقرون المديدة كان مآله إلى الموت، ثم إلى العرض على الله، وهكذا مهما عمر من عمر، ونقص عمر من نقص، فالمآل إلى الله، فالدنيا دار غرور، فالله ينبهنا، ويأمر نبيه فيما أنزل عليه أن يأمرنا بعدم الاغترار بهذه الحياة الفانية مهما كان فيها من شهوات ونزوات، ورفعة وسلطان ومكاسب في النساء، وفي القصور، وفي المناصب، وفي المآكل والمشارب؛ لأن ذلك كله ينتهي بالموت وكأنه لم يكن.
فالله يدعو الناس -كل الناس- ألا تغتروا بالدنيا ولا بما فيها من أباطيل وأضاليل، وألا تغتروا بالغرور، وهو الشيطان، فمعنى الغرور في قوله: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5]، الشيطان، وسمي بذلك لأنه كثير الغرور، فالغرور هو الذي التزم وألزم نفسه أن يلزم الإنسان ضالاً مضلاً موسوساً صاداً عن الإيمان بالله، وعن الإيمان برسوله، وعن الإيمان بكتابه، وعن الإيمان بالحقائق من ربه.
فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [فاطر:5]، الدنيا هي الحياة الدنيئة القريبة إلى الزوال فكأنها لم تكن، وقوله: (يغرنكم) هو فعل مؤكد بنون التوكيد الثقيلة، أي: أن الله جل جلاله يؤكد علينا بصيغ التأكيد ألا نغتر بالشيطان ولا نغتر بوساوسه، وألا نغتر بالحياة الزائلة الدنيئة التي تزول وكأنها لم تكن.
ولنسأل أنفسنا: أين الآباء؟ أين الأجداد؟ أين الملوك؟ أين الطغاة والجبابرة؟ أين الأمم السابقة؟ أين من بنى وشيد؟ أين من قال: أنا ربكم الأعلى؟
أولئك أصبحوا تراباً، فكل من جاء من التراب إليه يعود، ثم يبعث للحساب، ولعرض الأعمال، ومن ثم يعرف المصير إما إلى جنة وإما إلى نار.
أمرنا الله في الآية السابقة بعدم الاغترار بالدنيا، وبحياتها، وبما فيها من شهوات ونزوات، كما حذرنا من أن نغتر بالشيطان ووساوسه، وقد جاء في الحديث: (إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم)، ولذا كان التحذير: ألا تغتروا به، فهو يدعوكم إلى الضلال والفساد، ثم أكد ذلك ربنا فقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6].
وهذا شأن العقلاء من الناس، إذ من عاداك علمت أن لا سبيل إلى مؤاخاته، ولا إلى مصافاته، سواء عاداك في الدين، أو عاداك في رفيع الأخلاق، أو عاداك حسداً وبغضاً وحقداً، فإنك إن قابلت عداوته وصده عن الدين، أو استعماره لبلدك، أو خبثه معك ومع قومك ومع وطنك، إن قابلت ذلك بالاستسلام وبالمودة والمؤاخاة تكون زيادة على كونك غير مؤمن غير عاقل؛ لأنك لم تستفد من عقلك، ولم تطع ما تدعو إليه العقول، إذ العقل ينهى عن السوء، وعن الفحشاء، وعن البغضاء، وما إلى ذلك.
أما عداوتنا للشيطان فهي منذ أن أخرج أبانا وأمنا من الجنة، وطلب أن ينظر إلى يوم القيامة، فأجابه ربه لذلك ابتلاء للناس، وليعلم المؤمن من الكافر.
فعند ذلك أطلق عداوته صراحة: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17]، وهو عندما قال ذلك نفذه، فقد أضل الناس وأفسدهم، وصدهم عن الإيمان وعن كتاب الله، وصدهم عن طاعة رسول الله، كما صدهم عن الحقائق، فصدهم عما يصلح الإنسان في نفسه وأسرته وأمته.
فهو في الدرجة الأولى: أفسده فيما بينه وبين ربه ونبيه ودينه، فهو العدو الأول، وبما أنه كذلك: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6].
واتخاذ الشيطان عدواً معناه: ألا يطاع في وساوسه، ولا يطاع في دعوته إلى معصيتك لربك، ولا إلى معصيتك لنبيك، ولا إلى ترك الأخلاق الفاضلة، ولا إلى القيام بالأخلاق الفاسدة، فشأن المؤمن التحلي بما يجب أن يكون عليه المؤمن المطيع الصالح الملتزم، وبذلك يغيض الشيطان ويزعجه، وبذلك يكون له عدواً حقيقة.
أما إذا كنت تعصي ربك، وتعصي نبيك، وتعصي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كنت عبداً للشيطان مستسلماً له، تفعل ما يأمرك به، فالعبادة الطاعة، ونحن إن أطعنا آباءنا وأطعنا حكامنا وأطعنا شيوخنا فنحن في الحقيقة نطيع ربنا ونبينا عليه الصلاة والسلام.
فنحن نطيع الآباء لأن الله أمرنا ببرهم والإحسان إليهم، ولذلك يقول ربنا لمن كان أهله عصاة كأن يكون أبوه كافراً: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [لقمان:15].
فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ونحن نطيع شيوخنا لأنهم السبيل السوي إلى تعلمنا دين ربنا من كتاب وسنة، فنحن في الحقيقة لا نطيعهم لذاتهم ولكننا نطيع الله فيهم.
أما من ارتكب الفواحش، وعصى الله جل جلاله، وعصى نبيه صلى الله عليه وسلم، فذلك يكون عبداً للشيطان ويكون مطيعاً له فيما صده عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو إنما يدعو من أطاعه ومن استسلم له،وهؤلاء هم حزبه، علماً أنه ليس في الأرض ثلاثة أحزاب، وإنما هما حزبان: حزب الله، وهم الأنبياء والمؤمنون وأتباعهم، وحزب الشيطان، وهم الكفرة والمنافقون.
فالمطيع لله ولرسله من حزب الله، والمطيع للشيطان من حزب الشيطان، و(إنما) في قوله: إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ [فاطر:6] أداة حصر، أي: حصر ربنا بأن الشيطان عندما يدعو أتباعه وأشياعه وأنصاره من الكافرين والمنافقين فهو إنما يدعوهم: لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، فهو يدعوهم ليرافقوه في النار، فيدخلون معه جهنم، والعذاب السعير: المتسعر المحترق الملتهب الذي يأكل بعضه بعضاً.
فمآل طاعة الشيطان دخول النار وغضب الله، ومآل الطاعة لله ولرسوله دخول الجنة ورضا الله، فالله يبين لنا بما أنزل على نبينا، ويأمر نبينا والعلماء والمؤمنين كل حسب قدرته وعلى حسب علمه أن يأمر أولاده وأنصاره وأصحابه وأقاربه وأسرهم أن يطيعوا الله ورسوله.
ولذلك كان يكثر عليه الصلاة والسلام من أن يقول: (نظر الله امرأ)، دعا له بالنظارة قبل أن يقول ما سيقول له، وذاك من لطف النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حسن أدبه وهو الرفيق مع أتباعه والمؤمنين به صلوات الله وسلامه عليه: (نظر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها -أي: حفظها وفهمها وأدركها- فأداها كما سمعها) أي: بلغها لمن لم يسمعها من ولد أو صديق أو زوجة، أو أي إنسان كان، وفي قوله: (فأداها كما سمعها)، تنبيه ليبلغ ذلك كما سمع من غير زيادة ولا نقصان (فرب مبلغ أوعى من سامع)، أي: قد يكون المبلغ الراوي أو المحدث حدث بشيء ففهم منه معنىً أو معنيين، ويكون السامع فهم مما سمع من هذا المبلغ معاني كثيرة.
وهكذا كان الأئمة الأربعة، وأئمة الاجتهاد، ومن قبلهم علماء الصحابة، فتجد المرء يسمع الحكمة، أو الآية، أو الحديث النبوي، وهو من الأميين أو من غير الأذكياء والنوابغ فيفهم معنىً أو معنيين، وإذا بالراسخين الأذكياء الواعين حين يسمعون ذات المقالة يفهمون من الكلمة الواحدة معان كثيرة، والفقه كله شرح وبيان لنصوص كتاب الله وحديث رسول الله، فتجد الكثيرين من علمائنا ومن سلفنا الصالح ومن كتبوا في الحديث الواحد والآية الواحدة المجلد والمجلدين والثلاثة بما فتح الله عليهم.
وقد سئل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: هل خصكم آل البيت نبي الله بشيء لم يخص به سواكم؟ فقال علي : لا وإنما هو الوعي والفهم؛ لأن علياً كان من أعلم الصحابة ومن أوسعهم إدراكاً ووعياً ومن أكثرهم فهماً.
فالكثير من الصحابة ومن الأتباع بعدهم كان يسمعه يتكلم على الحديث أو على الآية، وإذا به يتدفق تدفق البحر، فيعجب السامع ويتساءل: من أين هذه المعاني؟
فيقول له علي : ليس ذاك إلا الفهم والوعي والإدراك لما قاله لنا ربنا، ولما سمعنا فيه عن نبينا عليه الصلاة السلام.
قوله: إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، إخبار أن دعوة الشيطان للناس كل الناس بسبب عداوته لهم، وليكونوا في جهنم، ولكي لا يدخلوا الجنة، ولكي لا يرضى الله عنهم ولا يغفر الله لهم.
وهذا لا يكون إلا مع الكافر بالإيمان وبالتوحيد؛ لأنه كفر بالله رباً، وبالنبي رسولاً وخاتماً للرسل صلى الله عليه وعلى آله.
أما مجرد المخالفات والمعاصي من المؤمن الموحد، الذي آمن بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، فذاك يعيش بين مد وجزر، يعيش بين خرق ورقع، يعصي فيتمزق ثوبه، ثم يتوب إلى الله فيرقعه، يعصي الله ثم يندم ويئوب فيقول: رب! اغفر لي وهكذا، والله مع هذا يغفر للتواب الموحد المؤمن، ولا يغفر للكافر المشرك؛ لأن الله حرم الجنة على الكافرين: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
فمآل من مات على التوحيد الجنة، وقد يدخل النار عقاباً على ما قدم ولكن لا يخلد فيها، ولذلك أمرنا أن نكثر الاستغفار ونكثر التوبة لعل الله يغفر لنا ذنوبنا، كما ندعو ربنا ونلجأ إليه ونضرع.
يقرن الله دائماً العقاب بالرحمة في كتابه، ويقرن الكفر بالإيمان، وذلك ليعلم الكافر كم من درجة بينه وبين المؤمن، وليعلم المؤمن كم من درجة بينه وبين الكافر، فينذر هذا ويبشر هذا. وقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [فاطر:7]، أي: كفروا بالألوهية، وبالوحدانية، وبالقدرة الإلهية، وكفروا بالنبوءات، فهؤلاء لهم عذاب شديد أليم مخز دائم: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [فاطر:7].
وعندما يذكر الله الإيمان يذكر معه العمل الصالح؛ لأن الإيمان بلا عمل يكاد ألا يوصل صاحبه إلى الجنة، كما أن من كمال الإيمان وصدق الإيمان أن يصدق اللسان الجنان، ومعنى ذلك: أنه عندما ينطق الإنسان ويؤمن الجنان بكلمة: لا إله إلا الله، لا يكون مصداق ذلك إلا بعمل الجوارح والأركان، من صلاة وصيام وزكاة وحج وابتعاد عن المنكرات والفواحش كلها، وفعل الصالحات والقيام بالطيبات، وهكذا: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].
فالذي لا يصلي ليس له رادع من نفسه يردعه عن الشر والكفر، والكفر هنا: كفر المعصية؛ لأن من خصائص الصلاة للمصلي أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فبسببها يجد الإنسان من نفسه رادعاً ووازعاً وهادياً، وآمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر؛ لأنه عندما يقف بين يدي الله ويقرأ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ثم يهم بمعصية الله لعد أنه يكذب على الله، فتكون عبادته ليست خالصة وليست كاملة، واستعانته بالبشر لا بالله، فهو يعتمد عليهم ليرزقوه وليعطوه، والله أكثر رزقاً وإنما العبد سبب.
قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [فاطر:7].
أي: قاموا بالأركان الخمسة من الشهادتين إلى الحج لَهُمْ مَغْفِرَةٌ [فاطر:7]، فإن الله يغفر ذنوبهم، ويغفر نسيانهم، ويغفر خطأهم، ويغفر ما استكرهوا عليه: وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [فاطر:7]، الأجر من الله دخول الجنان، والأجر من الله رحمته الواسعة.
قوله: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ [فاطر:8].
استفهام إنكاري توبيخي تقريعي، واختلف في المزين فقيل: زين له الشيطان، وقيل: زكاه له رفقاء السوء، وحسنه له الكفرة والمنافقون، فأخذ يعمل أعمالاً خارجة عن الإسلام، ومع ذلك يحسب أنه يأتي بخير، وأنه يعمل عملاً صالحاً.
قوله: سُوءُ عَمَلِهِ [فاطر:8]، أي: عمله الفاسد الضال: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8]، هذا الذي عمل المنكرات وعمل السيئات وعمل الباطل زين له الشيطان عمله فظن أنه يفعل حسناً، ويصنع خيراً وقربة، وهكذا الكثيرون من أتباع هذه الأحزاب الضالة؛ الشيوعية والاشتراكية والماسونية والبهائية والوجودية، وكل مذهب وكل حزب وكل دين غير دين الإسلام: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فكل ذلك باطل فاسد ضلال، وقد تجد بعضهم يجود بحياته.. بماله.. بعرضه.. بشرفه.. بكرامته في سبيل الشيطان، ويظن أنه يصنع عملاً حسناً، أين الجواب؟ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ [فاطر:8].
قال مفسرو الآية: الجواب في الآية التي بعد هذه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]، فهناك مقدم ومؤخر، والمعنى: يا محمد هؤلاء الذين يعملون السوء، ويتبعون المذاهب الضالة، ويفعلون المنكرات والفواحش، ويبتعدون عن دين الله الحق، ونبيه الحق، وكتابه الحق، ثم يزين لهم ذلك في أنفسهم فيرونه حسناً، ويرونه جميلاً، ويرونه صواباً، أهؤلاء تحزن عليهم؟ أو تذهب نفسك عليهم حسرات؟ وحسرات: جمع حسرة، وهي الحزن الأليم الشديد الذي قد يوصل إلى الموت.
ولذا يقول الله لنبيه: لا تتعب نفسك مع هؤلاء، ولا تتحسر عليهم، ولا تحزن عليهم، وهذا كقوله تعالى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، أي: لعلك مهلك نفسك ومميتها حزناً وألماً لعدم إيمان بعض قومك وأهلك وأقاربك بك، بل حتى كل من دعوتهم من العرب والعجم، إذ ليست هذه بوظيفة لك، إنما عليك البلاغ: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272]، ولذلك يواسي الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام ويدعوه لعدم الحزن ولعدم الأسف والألم، لكون أمثال هؤلاء ممن زينت لهم أعمالهم وارتكبوا فيها الكفر والفواحش والمنكرات، فلا تحزن عليهم، ولا تتحسر لعدم إيمانهم، فلم نكلفك بالهداية، وإنما كلفت بالبلاغ، فالهداية بيد الله وليست وظيفة الرسل. هذا أحد تفسيري قوله تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8].
وفسر آخرون: أن الجواب مقدم: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8].
قد أضاع الصواب، وابتعد عن الحق، وهذا يفهم من سياق القول، وسواء قدمنا أم أخرنا، وسواء قدرنا بعض المقدر، فالمعنى ظاهر واضح. فيكون المعنى: هل الذي زين له عمله فرآه صواباً حسناً وهو كافر بالله غير مؤمن، أو مبتدع ضال، أيستوي هو والمؤمن الذي هو على الجادة المستقيم على السنة النبوية؟
أيستوي هو ومن جعل أسوته رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين والصحابة السابقين الأولين: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100].
هؤلاء هم الذين رضي الله أعمالهم، ورضوا هم عن الله، فرضوا بجزاء الله لهم، وقبلوا قضاءه مهما كان، وإن كانت النهاية والخاتمة لخيرهم ولرحمتهم ولدخولهم الجنان.
فهذا بينه رسول الله عليه الصلاة السلام عندما تحدث عن الفرق في الأمم السابقة وأن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقه، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وأن الأمة المحمدية ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، أي ممن يزعمون الإسلام ويدعونه، قال عليه الصلاة السلام (كل هذه الفرق في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).
ولذلك كانت دراسة السيرة النبوية والإلمام بالحياة النبوية والشمائل المحمدية فرضاً على كل إنسان، ولا يستفيد منها إلا المؤمن، لأنه يتعلم كيف يكون رسول الله عليه الصلاة السلام الأسوة له والقدوة له، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] ثم بعد رسول الله وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100].
أي: ممن جاء بعد الصحابة من التابعين، ثم تابعي التابعين ومن تبعهم إلى عصرنا، إلى آبائنا وشيوخنا، إلى من وجدناه على هدى من الله في كتابه، وعلى هدى من رسول الله في سنته وكلامه، فهو على الحق، وهو الذي بمنجاة، وهو الفرقة الناجية، وهو الفئة الناجية من عذاب الله وغضب الله، وبذلك حذرنا أسلافنا من البدع والمبتدعين، ومن كل من حاول أن يحرف كلام الله وكلام رسوله، وأن يبعدنا عن حبه وعن التعلق بأذياله وعن طاعته.
فكل من دعانا إلى ذلك وهو مبتدع ضال أمرنا بالإعراض عنه. فيكون تقدير معنى قوله تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8].
أمن كان كذلك يستوي هو ومن كان على محجة بيضاء، دليلها كتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة السلام وهديه وسيرته، هل أولئك سواء؟ الجواب ظاهر ومعناه: لا سواء، هيهات .. هيهات، أن بينهما كما بين السماء والأرض، ما بين الضب والنون، وما بين العالم والجاهل، وما بين المؤمن والكافر.
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8]، سبق في علم الله وفي الأزل، وفي اللوح المحفوظ أن الله حين خلق الكون -كما ورد عن النبي عليه والصلاة والسلام- خلقه في ظلمة، ثم أشرقت عليه أنوار الله، ثم خلق النور، فمن أصابه من نور الله اهتدى وسجل ودون في اللوح المحفوظ من الهادين المهديين، ومن لم يصبه من ذلك النور فلا نور له، ولا هادي له، خلق في ظلام وبقي في ظلام: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا [الأنفال:70]. (إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن)، (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله).
فإذا أنطوى ضمير الإنسان وقلبه على حب الله وطاعته، وحب رسوله وطاعته، وحب المؤمنين ومؤاخاتهم والإحسان إليهم، فليعلم أن ذلك نور من الله، وأنه مهما صدر عنه من ذنوب فإنه يجدد توبته سالكاً الطريق المستقيم.
ومن كان فاسد القلب فلا يكاد يتأثر قلبه بالمقدسات من كتاب الله، وسنة رسوله، مهما فعل ومهما تحركت جوارحه فمآله إلى سوء؛ لأنه لم يكن ذا نور من إشراق الله ونور الهداية في شيء، فقد عاش في ظلام وسيبقى في ظلام إلى أن يدخل نار جهنم في ظلام.
قوله: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8]، إخبار بأن الأمر بيد الله ومشيئته، فمن لم يصبه من نور الله شيء فلا نور له وهو من الضالين.
قوله: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8]، معناه: أن من أصابه من نور الله وإشراقه، أشرقت عليه تلك الأنوار، فاستنار قلبه وضميره وعقله، وأصبح مهيأً للطاعة، وللامتثال وللعمل بما في كتاب الله، وبما في سنة رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
قوله: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]، أي: فلا تذهب يا محمد نفسك عليهم ضياعاً ولا تهلكها؛ لأن هؤلاء لا يستحقون ذلك، ولكن الذين هم أهل لأن تكون رءوفاً بهم حريصاً عليهم هم المؤمنون المطيعون السابقون في إيمانهم وإسلامهم: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].
إن الله عليم من هؤلاء الذي عصوا ربهم وخرجوا عن طاعته وعصوا نبيهم وخرجوا عن طاعته، وأبوا إلا الكفر والجحود والعصيان، هؤلاء الله عليم بهم وبصنعهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر