لنجد الجواب في قوله جل جلاله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ [فاطر:11]، فالله قد خلق أصل البشرية وهو آدم عليه السلام من تراب، ثم خلق البشر بعد ذلك من نطفة، ثم جعلنا بعد ذلك أزواجاً ذكراً وأنثى، فزوج الذكر بالأنثى، ثم تتابع النسل؛ ليبقى أصل الجنس إلى أن يأتي أمر الله بفناء الكون فينتهي الإنسان والخلق بانتهاء الكون.
وقد مضى تفصيل خلق الله الإنسان من تراب في آيات ماضيات، وعلمنا كيف أن الله خلق الإنسان بيده، ثم نفخ فيه من روحه، ثم خلق زوجه من ضلع منه، وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف:189]، ثم حدث الزاوج بين آدم وحواء، فكانت الخلقة الثانية بعد التراب من نطفة من صلب الرجل إلى مكان مكين في رحم المرأة.
وهكذا تتابع الخلق إلى أن ينفخ الله في الصور، فالذي صنع ذلك ليس إلا الله جل جلاله، فلا الأصنام ولا المعبودون من غير الله من جمادات ومن ملائكة ومن جن ومن إنس قادرون على ذلك.
قال تعالى: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر:11]، أي: ما من أنثى في الكون من بنات حواء تحمل حين تسقط في رحمها نطفة الرجل من صلبه إلا وذلك بعلم الله، وبخلق الله، وبقدرة الله، وما تضع هذه النطفة جنيناً وليداً ذكراً كان أو أنثى إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر:11]، أي: إلا بخلقه وبإرادته جل جلاله.
ثم قال تعالى: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر:11]، أي: ولا يحيا وليد من بني الإنسان ذكراً كان أو أنثى، و(يعمر) أي: يطول به العمر وتمتد به الحياة، إلا وكان ذلك بعلم الله جل جلاله وبقدرته وإرادته، فمن هذه النطفة ما تسقط قبل تكوينها، ومنها ما تجهض وقد أصبحت جنيناً تجري فيها الروح، ومنها ما يذهب طفلاً، ومنها ما يذهب يافعاً.. وهكذا إلى أن يبلغوا أرذل العمر لمن كان بالغاً ذلك.
فمعنى قوله: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ [فاطر:11]، أي: ما يمتد به العمر، وتمتد به الشهور والأعوام والسنوات إلا وبعلم الله كان ذلك، وبقدرة الله كان ذلك، ولا ينقص من عمره إلا في كتاب.
نحن الآن نتدارس كتاب الله في هذه البنية المقدسة عند بيت الله الحرام قد عمرنا سنوات مضت، وتلك السنوات الماضية نقصت من أعمارنا، فالملائكة المكلفون كتبوا يوم زرعت الروح فينا ونحن أجنة في أرحام أمهاتنا، فقد كتب الملك بأمر الله تكويننا؛ ذكراً أو أنثى .. وشقياً أم سعيداً .. طويل عمر أم قصيره .. مؤمناً أم كافراً، ومن قدر له عمر مهما كان ذلك العمر فبمجرد خروجه للدنيا ومضي الأيام والأسابيع والشهور والسنين كان ذلك نقصاً من عمره.
قوله: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر:11]، أي: ما يعيش عمراً، ويمتد العمر بإنسان من الناس إلا كان ذلك بعلم الله وقدرته، ثم يأخذ بالعودة والرجوع وينتقص عمره، فكل يوم يكتب الملك المكلف بذلك: مضى من عمر فلان يوم، مضت جمعة، مضى عام، مضت شبيبة، مضت كهولة، مضت شيخوخة.. إلى أن يأتي ملك الموت، فما من معمر يعمر -يطول عمره- وما من سنوات تنقص من عمره إلا كان ذلك (في كتاب) أي: كان ذلك في اللوح المحفوظ يوم قدر الله الخلائق، فقدر أعمارهم وحياتهم، وقدر ما يرتبط بهم قبل خلقهم بألفي عام، كل ذلك كان مكتوباً في اللوح المحفوظ وفي الكتاب الخاص بذلك الإنسان: كم يعمر، ذكر أو أنثى، شقي أو سعيد.
وهكذا كل ذلك بقدر سابق، وبترتيب سابق، وبخلق سابق، وإنما هي أمور يبديها ولا يبتديها.. يظهرها ولا يخلقها إذ ذاك، فقد قدر خلقها يوم قدرت في اللوح المحفوظ قبل خلق الأكوان.
وفسر قوم الآية: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر:11]، أي: جنس الإنسان، ما من عمر كان طويلاً، وما من عمر كان قصيراً إلا وذلك في كتاب في علم الله، فعلم أن هذا سيعيش سنوات، والآخر سيصل للشبيبة، والآخر إلى الكهولة، والآخر إلى أن يكون شيخاً، والآخر إلى أن يكون شيخاً هرماً فانياً -يصل إلى أرذل العمر-، كل ذلك مكتوب في كتاب في اللوح المحفوظ.
وفي كتاب الإنسان ما قدر له يوم خلق، بل يوم زرعت الروح فيه وهو في بطن أمه في رحمها، والمؤدى واحد، فإذا ذكرت الأعمار فهي في كتاب، فتذكر أن كانت طويلة أو قصيرة، وإن نقص منها بأن انتهت منها سنوات وأوقات وأزمان هي كذلك بعلم الله وقدرته، فالمؤدى واحد، ومعنى ذلك أن كل ما في الكون من خلق الله ومن إرادته ومن عمله جل جلاله، لا الأصنام المعبودة تقدر على شيء من ذلك، سواء كانت الأصنام جمادات أو كانت أناسياً، أو كانت ملائكة، أو كانت جناً، فكل ما عبد من دون الله فهو صنم بالنسبة لعابده، وكل أولئك لا يقدرون على شيء، ولا يخلقون شيئاً، بل الله الخالق لهم، والخالق لعابديهم الكفرة الجاحدين.
قوله: إِلَّا فِي كِتَابٍ [فاطر:11]، أي: في اللوح المحفوظ، إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر:11]، أي: أن تقدير الأعمار الطويلة والقصيرة، وتقدير الأعمال خيراً كانت أم شراً كل ذلك يسير على الله لا يصعب عليه شيء، ولا يعز عليه شيء، ولا يحتاج لذلك أكثر من أن يقول: كن فيكون، ولا يحتاج إلا أن ترتبط إرادته بالشيء فيكون، انفرد بذلك وحده الخالق الرازق المحيي المميت جل جلاله.
الله يلفت أنظارنا إلى أن نتدبر وإلى أن نفكر وإلى أن نتساءل في أنفسنا كما تساءلنا عن أصلنا؛ كيف خلقنا لما جئنا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟
كذلك لفت أنظارنا وعقولنا لهذه البحار المالحة والحلوة، هذه البحار التي نستخرج منها لحماً طرياً، ونستخرج منها حلية نلبسها مفاخرين بها، ونسافر عبر البحار من قارة إلى قارة نختصر بذلك الطرائق الطويلة، نبتغي من فضل الله من التجارة ومن الربح ومن الضرب في الأرض للاسترزاق، وللخدمة للأولاد، ولرزق العيال ولما يقي به الإنسان وجهه عن السؤال والحاجة إلى الناس، قال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ [فاطر:12] أي: ليس البحران سواء، هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ [فاطر:12]، عذب: طيب حلو كمياه الأنهار ومياه الآبار ومياه الثلوج، وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [فاطر:12]، وذاك مالح، بل هو الملح نفسه، وأجاج: أي: شديد الملوحة، مر شديد المرارة، وهذه صفة لكل البحار، وما يتعلق بالفرات وبالنيل وأشباهها فهي ليست بحوراً ولكنها أنهار كبيرة واسعة، فهي أكبر من غيرها، وأما البحار فكالبحر الأبيض، والبحر الأحمر، والبحر المحيط، والبحر الهادي.. وتكون رقعتها ثلثي الأرض أو زيادة.
فيبين الله آيته في هذه المياه؛ الفرات الطيب الحلو عذب يستعذبه اللسان ويستسيغه الحلقوم ويستطيع الشارب شربه بلذة ورغبة، وهو يقول: هل من مزيد، وليس كذلك مياه البحر، فلو شرب منه شربة لوجد أثره في حلقه، ولما استساغه إلا بالرغم عنه وإلا بالإجبار وذاك يضره، وما خلقت مياه البحر للشرب، ولكن خلقت لشيء آخر، وإن كان إذا اضطر إليها ساكنو الصحاري وساكنو الفلوات فهم يزيلون منها ملوحتها ومرارتها فيشربونها، ومع ذلك فرق كبير بينها وبين الماء العذب بخلقته وفطرته التي فطره الله عليها، والأجسام التي لا تشرب إلا هذه المياه المصفاة لا تكتفي بها وتترك في الجسم أثراً، ولا تغني عن المياه العذبة رغم ما يزاد فيها من مواد لتحلو وتطيب، ولذا لا تكون مياه البحر العذب الطيب الزلال كمياه الآبار والعيون والأنهار سواء مع المياه المالحة المرة، ومن كلا البحرين -الماء العذب الفرات الطيب والماء المالح الأجاج المر الشديد المرارة والشديد الملوحية- نستخرج لحماً طرياً فنصطاد الحيتان أشكالاً وألواناً، وكل صيد البحر حوت مهما كان شكل هذا الحوت، حتى ولو كان في شكل الإنسان كما زعم الزاعمون ولم يصح ذلك.
سئل الإمام مالك : أحيتان البحر حلال؟ قال: نعم، قال السائل: كل صيد البحر؟ قال: نعم، قال: وخنزير البحر؟ قال: حرام، قال: أنت أحللت لي الآن كل صيد البحر! قال: نعم، قال: أنت الآن حرمت الخنزير؟ قال: أنت سميته خنزيراً، فأنا حرمت الاسم وليس في البحر خنزير ولا كلب.
وكل ما سمي بذلك هي أسماء جعلها الناس بما وجدوا من شبه بين بعض الحيتان وهذه المخلوقات المحرمة كالكلب والخنزير في البراري، وإلا فصيد البحر كله حلال، حيه وميته ما لم يطف على وجه الماء، نستخرج منه لحماً طرياً على غاية ما يكون من اللذة، وتختلف لذاذته ويختلف طعمه كما تختلف لحوم البر، قوله: وَمِنْ كُلٍّ [فاطر:12] يسمى التنوين في قوله: (كل) تنوين العوض، أي: يعوض به عن كلمة، والمعنى: من كل البحر العذب الفرات والبحر الملح الأجاج تستخرجون وتصطادون وتأكلون لَحْمًا طَرِيًّا [فاطر:12] حوتاً طرياً لا يزال على طراوته، فأنتم تأكلون كل ذلك وقد أحله الله لجميع البشر، وذكاته استخراجه من البحر، ثم قال سبحانه: وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [فاطر:12]، أي: تستخرجون من البحر الحلية كاللؤلؤ والمرجان، (تلبسونها) ولباس كل شيء بحسبه فنحن نضع الخاتم في الأصبع وهو لباس لها، ونجلس على الفراش وهو لباس له، نلبسه على أجسامنا وهو لباس، فكل ما ينتفع به الإنسان سواء وضعه على يده أو على بدنه أو اتخذه للجلوس فهو لباس.
قال أنس رضي الله عنه: لقد أخذت حصيراً أسود من كثرة ما لبسناه، ويعني بلبسه: الصلاة عليه، وسئل أحد السلف: الحرير الذي حرم الله على الرجال، هل لبسه فقط؟ قال: لبسه وفرشه، ففرشه لباس وجعله على البدن لباس، وكل ذلك لباس، ولباس كل شيء بحسبه، فنحن نضع الخاتم في اليد فهو لباس، وحين تضع المرأة العقد في عنقها والأخراص في آذانها والخلاخل في أقدامها يعتبر كل ذلك لباساً، وكذلك هنا نستخرج من البحر الحلية التي تتحلى بها المرأة من جواهر ولآلئ ومن مرجان، يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22].
(تستخرجونها) قال بعض مفسري الآية الكريمة: في البحر مياه عذبة، وعيون نابعة، فنحن نستخرج الحلية من هذه المياه العذبة والبحار، وهذا تكلف لا حاجة إليه ففي اللغة العربية الفصحى وفي كلام العرب البليغ -والقرآن نزل بلغة العرب وهو أبلغ كلام وأفصح كلام، بل هو الكلام المعجز أن يؤتى بمثله أبداً- تقول العرب: دخلت على الحسن والحجاج فدخلت على الخير والشر؛ الخير بالنسبة للحسن البصري والشر بالنسبة للحجاج ، وتقول: تعرفت على الكسائي وسيبويه فتعرفت على اللغة والنحو، اللغة للكسائي والنحو لـسيبويه .
وقد ذكر الله هنا البحرين فكان اللحم الطري لكلا البحرين: العذب الفرات والملح الأجاج، وكان اللؤلؤ والمرجان للبحر المالح المر، وهذه لغة فصيحة بليغة وإلا فليس من المعروف أن اللآلئ والجواهر والمرجان تستخرج من الأنهار وإنما تستخرج من البحار وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [فاطر:12]، قوله: (وترى الفلك فيه) أي: في البحر المالح، تراه مارجاً ماشياً مسرعاً، (وترى الفلك فيه مواخر) مخر البحر، أي: شقه، والمعنى: تجد هذه البواخر، وهذه السفن تشق البحر بجؤجئها الذي هو كصدر الطائر العائم أو الطائرة وما إلى ذلك، وخص الماء المالح في قوله: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ [فاطر:12]، لأنها بحار كبار واسعة، والفلك: جمع السفن من البواخر والبوارج وكل ما يجري على مياه البحر وعلى سطحها وعلى أديمها مَوَاخِرَ [فاطر:12]، جمع ماخرة أي: تشقها بصدرها وتسافر عليها وتقطع المراحل لتطوي المشارق والمغارب، ولتصل من قطر إلى قطر، ومن قارة إلى قارة، وهذه المياه التي تحمل الإنسان وما يركب عليه من أخشاب وحديد وما إليها كل ذلك بقدرة الله، ومن ركب البحر يدرك ذلك خاصة البحر المحيط الذي يسمى: بحر الظلمات، وهذه البحار عندما تتحرك -وأيامها جميعاً متحركة وخاصة في أيام الشتاء- ترى الأمواج كأنها الجبال تتلاطم، حينها تجد نفسك وأنت على الفلك من باخرة أو سفينة وكأنها مدينة على سطح الماء، وعندما تأتي الأمواج تصبح السفينة بين جبلين فإذا تلاطمت تجد الباخرة كما وصفها عمرو بن العاص : كدود على عود، فتراها تتأرجح وتتلاطم بها الأمواج يميناً وشمالاً أماماً وخلفاً، حتى تعتقد أن هذه الموجة ستغرق الباخرة بمن فيها من ركاب، وإذا بكل ذلك لا يقع فهي تصنع يوم تصنع على غاية ما يكون من التوازن بما تستطيع به شق البحار الهائجة المائجة وهي تمخر البحار المحيطة، وتمخر البحار الصغيرة، ونعني بالصغيرة: كالبحر الأحمر، والبحر الأبيض فهي صغيرة بالنسبة للمحيطات. ويعنون بالمحيط: أنه محيط للكرة الأرضية، ويسميه العرب بحر الظلمات أما الأجانب فيقولون له: البحر الأطلنطي، ومعناه: الظلمات، وكانوا يظنون قبل اكتشاف قارة أمريكا أنه ليس وراء هذه البحار إلا الظلام، وأنه ليس وراءها عمار إلى أن اكتشف أسلافنا في الأندلس أن وراء المحيط دنيا عريضة واسعة فذهب مجموعة من الشباب الجغرافيين وهم يظنون أول مرة ظناً قوياً أن وراء المحيط قارة وساعدهم بعض الأمراء على ذلك فأرسلوهم بمائتي سفينة ليكتشفوا ما وراء البحر المحيط، فلم يبق من المائتين إلا واحدة ودمرت تلك السفن كلها بعد أن ابتلعتها الأمواج، ووصلوا بعد ذلك إلى أرض وهم بين الحياة والموت فوجدوا فيها الأغنام وكأنها القطط، ووجدوا المياه العذبة ووجدوا الأشجار الباسقة بأنواع من الفواكه، وحينها استراحوا فشربوا من الماء ثم أخذوا يذبحون الشياه وإذا بهم يجدونها مرة، فذبحوا الثالثة والرابعة والخمسين مره فذهبوا يشبعون جوعتهم من الفواكه إلى أن اكتفوا وإذا بهم يخرج عليهم ناس من البلدة وهم هؤلاء الذين سموا الهنود الحمر، إذ هم سكان أمريكا الأصليون، وأما من جاء بعد ذلك فإنما هم مستعمرون تجمعوا من مختلف أقطار الأرض وخاصة من قارة أوربا، وبعد أن قبضوا أخذوا إلى أميرهم أو كبيرهم فسألهم: ماذا تريدون؟ فلم يتفاهموا وإذا بهم يجدون من يترجم لهم العربية، فقالوا: جئنا لنكتشف هذه الأرض وقد كنا ظننا ظناً قوياً أن بعد المحيط قارة، فقال لهم: أنتم شباب مغرورون فأركبوهم في سفينتين وغمضوا عيونهم وشدوا رباطهم وأبحروا بهم مسافة شهرين كما قدروا ورموهم إلى شاطئ، فلما فتحوا أعينهم أخذوا يسألون بعد أن وجدوا الناس: أين نحن؟ قالوا: أنتم على شاطئ أرض مسماة بالمغرب الأقصى، فصاحوا وقالوا: وا أسفي فهي مدينة لا تزال إلى اليوم كثيرة الخلجان كثيرة المصاب كثيرة المصانع للحوت المعلب تسمى آسفي.
ومن ذلك الوقت سميت بهذا الاسم ولم يكتشفها كولومبوس كما قالوا، وإنما كولومبوس سمع هذا تبعاً، وقبل سنوات كتب شاب ياباني أطروحة لنوال الدكتوراه يؤكد ويقطع فيها بأن مكتشفي قارة أمريكا هم عرب من الأندلس.
ثم بين بعض مهام هذه الفلك المسخرة فقال: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [فاطر:12]، أي: لتريدوا من فضل الله تجارة ومبايعة ومعاملة، فأنتم تركبون هذه السفن القاطعة بين القارات، والجائلة على المشارق والمغارب لنوال التجارة، ولنوال العلم، ولنوال السياحة، ولمعرفة الأرض وما فيها من غرائب وعجائب، وما فيها من صنع الله، فهلا سألتم: هذه السفن من الذي ألهمكم صنعها؟ من الذي أعطاكم من القدرة ما تستطيعون به أن تقطعوا هذه البحار وهذا المسافات؟ أليس الله وحده جل جلاله، فهذه المياه العذبة وهذه المياه المالحة، تلك العذبة لشربنا وطبخنا وحاجياتنا في الدور، وتلك المالحة للسفر عليها في البحار لفوائد كثيرة العالم والأرض في حاجة إليها.
خلق ذلك كله الله، ولا يقدر أن يخلق ذلك لا صنم متحرك ولا صنم جامد، ولذلك الله يدعونا ويلح علينا في غير ما آية وفي غير ما سورة أن نفكر في هذا الخلق، وأن نفكر في أشخاصنا وذواتنا: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].
كيف كان هذا الخلق وكيف وجد؟ كيف ولدنا؟ كيف خرجنا؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ ما هذا الذي يحرك أعضاءنا وحواسنا وخلايا جسومنا؟ قالوا: الروح، نعم الروح، وما هي الروح؟ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].
وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:14]، خلق الله ذلك رزقاً للعباد أكلاً وشرباً وتمتعاً.. شراباً للعباد ولا يستغني حي عن الماء وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]، والبحار المالحة الأجاج جعلها للسفر، ولابتغاء التجارة، وللضرب في الأرض مشارق ومغارب، ولاستخراج ما يلبس من لآلئ وجواهر، ومن حلية يلبسها الناس فيتفاخرون بامتلاكها، ذلك لنشكر الله عليه ويدوم حمدنا له، هذا بالنسبة لمن أكرمه الله بالإيمان والإسلام، وأكرمه الله بالعقل المفكر الذي يستطيع أن يصل به إلى حقائق الوجود، ويدرك عظمة الخالق وأنه وحده الخالق لا خالق معه سواه، وهو الرازق والمحيي والمميت، أرسل رسله للعباد ليأمروهم بالمعروف ولينهوهم عن المنكر، وليعلموا أنهم وجدوا على هذه البسيطة من الأرض لا عبثاً وإنما لعبادة الله الواحد الأحد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر