إسلام ويب

تفسير سورة فاطر [19-26]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يضرب الله عز وجل الأمثال للناس في كتابه العزيز ليبين لهم الفرق بين حال المؤمن بربه، القائم بأوامره، المنتهي عن نواهيه، وبين حال الكافر المعرض المتخبط في ظلمات الشرك، المنغمس في مستنقعات الشهوات والملذات، فبين الله عز وجل أن فرق ما بينهما كالفرق بين البصير في مقابلة الأعمى، أو كمثل الحي في مقابلة الميت، أو كمثل النور في مقابلة الظلام، أو كمثل الظل والفيء في مقابلة وهج الشمس وحرها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما يستوي الأعمى والبصير ...)

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    قال الله جل جلاله: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر:19-23].

    يضرب الله الأمثال للناس ليستبين لهم الفرق، ومن ذلك مثل الكافر والمؤمن، ومثل الجاهل والعالم، ومثل الضال والمهتدي، فقال: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [فاطر:19]، أي: لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر، وذو العينين الذي يبصر، ذاك لا يرى الدنيا إلا ظلاماً في ظلام، وذاك يرى الضياء كما يرى الظلام، يرى المتحدث القريب منه كما يرى المتحدث البعيد عنه، وهذا مثل ضرب للكافر مع المؤمن، فالكافر أعمى القلب، والمؤمن مفتح البصيرة، ذاك قد عمي عن رؤية الحقائق من الإلهيات والنبوات، وعن أسرار هذا الكون، وكيف خلق؟ ومن خلقه؟ ولم خلق؟

    فالكافر أعمى عن كل هذا، فهو أعمى البصيرة أعمى القلب لا يرى إلا الدنيا، وكأنها خلقت بلا موحد، وأنه وجد عبثاً في هذه الأرض.

    وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ [فاطر:19-20].

    كذلك ضرب هذا مثلاً في الكفر والإيمان، فالكفر كله ظلمات بعضها فوق بعض، ظلمات في العقل، وظلمات في القلب، وظلمات في النفس، وظلمات في العقيدة والدين والحياة والسلوك، أما المؤمن فله نور في بصره، ونور في بصيرته وعقله، ونور في سلوكه، فهو يرى نور الله جل جلاله وقد أشرقت به السماوات والأرض، فهو يرى الله في كل أثر من آثاره، وفي كل خلق من خلقه.

    وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد

    قوله: وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ [فاطر:21].

    الظل: الجنة، والحرور: جهنم، وللتقريب فإن المستظل تحت شجرة أو سقيفة ليس كمن هو تحت الشمس تحرقه.

    وظل يوم القيامة ظل دائم: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا [الرعد:35]، لا حرارة ولا برد، لا شقاء ولا تعب.

    فالظلال التي تظل الإنسان من حر الشمس، والحرور: الحر الشديد الذي يحرق الإنسان، ولم تستو الجنة ولا النار، فالجنة للمؤمنين، والنار للكافرين، فالظل للمسلم، والحرور للكافر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما يستوي الأحياء ولا الأموات ...)

    وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ [فاطر:22].

    دليل الحياة في الحي أنه يسمعك وتسمعه، ويراك وتراه، ويحاورك وتحاوره، أما الميت فهو جماد لا يستطيع ذلك كله، أصبح جماداً من الجمادات، كان تراباً ثم عاد إلى التراب، وهو مثل ضرب فيه المؤمن والكافر، فالمؤمن حي ولو كان ميتاً، والكافر ميت ولو كان حياً، المؤمن حي بنفسه.. بفكره.. بقلبه. يدرك ما في هذا الوجود.. يعبد الله كما أمر.. يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته.. يحرص على أن يمتثل لأوامر ربه، كما يمتثل لأوامر نبيه، حتى إذا مات كانت حياته حياة الشهداء والأبرار ممن يمتعون ويرزقون، ويحسبون أمواتاً وهم أحياء يرزقون عند ربهم، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران:170].

    أما الكافر فهو ميت ولو مشى على قدميه، والمؤمن حي ولو كان ميتاً، قد عاش بدينه وطاعته لربه، عاش بإحسانه وبالخير الذي قدمه، ولذا سيبقى حياً ذكره إلى يوم القيامة وإلى أن يحيا مرة ثانية ويدخل الجنة، وبالمقابل ضرب الله الأمثال لهؤلاء الكفرة بأنهم عمي يتخبطون في الظلمات أموات غير أحياء، وبأنهم في العذاب الدائم في نار جهنم، ثم قال الله عن نفسه مخبراً لنبيه: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ [فاطر:22]، أي: إن الله يهدي من يشاء وليست الهداية بيدك، وليست من وظيفتك، فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]، لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3].

    فهؤلاء لو شاء الله لأسمعهم، ولو أسمعهم لاهتدوا، ولكن الله لم يسمعهم؛ لأنه علم ما في قلوبهم من فساد، (وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

    وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]، ففي الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! لست أنت بمسمع الموتى الذين هم في قبورهم، بمعنى: أن هؤلاء الكفرة الذين سبق في علم الله بقاؤهم على الكفر كالأموات الذين في القبور، وهؤلاء الذين في القبور لا يسمعون؛ لأنهم موتى، ولا يكلفون لأن الدنيا من حياتهم انتهت، فمن قدم خيراً وجده، ومن قدم شراً وجده.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن أنت إلا نذير ...)

    إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر:23].

    أي: ليست الهداية لك، فأنت لم تكلف بمخاطبة الموتى، ولا ببلاغهم، وإنما كلفت بالبلاغ للأحياء، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر:23] (إن) هنا نافية، والمعنى: أنت لست إلا منذراً ورسولاً جئت مبشراً أقواماً اهتدوا فصاروا إلى الجنة، وجئت منذراً أقواماً خرجوا عن الطاعات وظلوا في الكفر فأنت تنذرهم بعذاب الله وعقابه وخلودهم في النيران.

    قوله: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24]. الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك يا محمد (بالحق) أي: بالقرآن، فالقرآن حق، وهو وحي الله وكلامه، وبالسنة، فالسنة حق وهي بيان للقرآن وشرح وتفسير له. وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله: كل هدي للنبي عليه الصلاة والسلام ما كان منها من عمل، وما كان منها من قول، وما كان منها من إقرار فهو بيان وتفسير لكلام الله، إطلاقاً أو تقييداً، تخصيصاً أو تعميماً، أو بياناً للناسخ والمنسوخ والمحكم.

    ويفهم من قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ [فاطر:24]، أي: لتدعو الناس للحق، ولترشد الناس إلى الحق، والله هو الحق جل جلاله، وأنزل الكتاب المنزل وهو القرآن الكريم بالحق، وأرسل نبينا عليه الصلاة والسلام بالحق مبيناً وشارحاً ومفسراً، بَشِيرًا وَنَذِيرًا [فاطر:24]، مبشراً المؤمن بالجنة، ومنذراً الكافر بالنار، فتبشر المؤمن لأنه آمن واستسلم لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم برضا الله ورحمته وجنانه، وتنذر من كفر بالله، فخرج عن أمر الله بالنار والعذاب والغضب إن هو دام على ذلك، ومات عليه.

    وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].

    (من أمة) من: حرف جر دخل على نكرة، فدل على العموم أي: ما من أمة خرجت في هذه الدنيا، وما نحن بين الأمم كما قال عليه الصلاة والسلام: (إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود).

    أي: ما مضى من الأمم هي في عددها وفي كثرتها كعدد شعر الثور الأسود، وما الأمة المحمدية وأمة الإسلام إلا كالشعرة البيضاء بين هذه الكتل المتكتلة من الشعر الأسود في هذا الثور، ومع ذلك ما من أمة من هذه الأمم إلا أرسل الله لها نذيراً، يبشرها بالجنة إن هي أطاعت، وينذرها بالنار إن هي عصت وتمردت، ولذلك كانت حجج الله على الأمم كلها قائمة، فلا يوجد أمة من الأمم إلا وأرسل الله لها بشيراً ونذيراً، يبشرها وينذرها ويعلمها بالخالق الواحد، المتصف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، الذي لا أول له ولا آخر له، كان ولا شيء معه، وسيبقى كما كان ولا شيء معه، خالق الكل ورازق الكل، ومدبر الكل، له الأمر وله النهي جل جلاله وعلا مقامه، ويجدر التنبيه إلى أن الأنبياء جميعاً كانوا رسلاً قوميين، أي: أرسلوا إلى أقوامهم، فنحن نقول على أنبياء بني إسرائيل منذ إسحاق إلى عيسى خاتمهم أنبياء بني إسرائيل، أي: أنبياء قوميون لم يرسلوا إلا إلى بني إسرائيل، ولكن محمداً سيد البشر، وخاتم الأنبياء العربي المكي المدني الهاشمي مرسل وحده إلى جميع الخلائق، فلا نبي بعده ولا رسول، فقد أرسل إلى الأبيض والأسود والأحمر، وأرسل إلى العرب والعجم، وإن مات عليه الصلاة والسلام فرسالته قائمة، مأمور بتنفيذها، وبالإيمان بها، وبالعمل وفقها، قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وقال سبحانه: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1].

    فهو منذر ومبشر ورسول لكل العوالم من الإنس والجن، في الشرق والغرب، من العرب والعجم، منذ العوالم الذين عاصروه إلى من سيأتون بعده إلى يوم القيامة، كل أولئك أمة محمدية، من استجاب وأطاع فهو من أمة الإجابة، ومن تمرد وعصى فهو من الأمة المحمدية التي تمردت على محمد ودين محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك لم يبق للنصرانية ذكر، ولا لليهودية ذكر، ولا للأديان السابقة ذكر، فقد كانت أدياناً كلف بها من أرسلوا إليهم حال حياتهم، فعندما رفع عيسى بقيت نبوءته إلى وقت إرسال نبينا، ولكن رسولنا عليه الصلاة والسلام ما كاد يخرج لهذا الوجود ساعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً حتى كانت الأديان السابقة قد نسخت برسالته، وإن كانت قد نسخت بالتبديل والتغيير والتحريف قبل بعثته، فكان قول الله لرسوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]، ناسخاً لكل ديانة قبله.

    لم يكن أحد يقول: الله إلا هو، وعندما نزل من غار حراء إلى السيدة الطاهرة أم المؤمنين الأولى رضوان الله عليها، وحدثها بما حدثها، فقال لها: (دثروني دثروني، وقص عليها قصته فقالت: لا تخف إنك تحمل الكل وتعين على الزمان، وتقري الضيف، وتصدق الحديث)، وذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ، وكان شيخاً هرماً كبيراً مسناً وكان من العرب الموحدين، فقالت له: (اسمع يا ابن عم إلى ابن أخيك. فقص عليه النبي قصته صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة : ذاك والله الناموس الذي أرسل إلى موسى وعيسى، ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك -أي: ليتني أكون شاباً عندما تدعو قومك إلى عبادة الله فيحاربوك ويقاتلوك ويرموك عن قوس واحدة، فليتني أكون شاباً كالمهر قوة وشبوبية لقاتلت عنك ونافحت عن دينك- قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم. ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا وقاتلوه وأخرجوه)، وهذا قد كان.

    ومن هنا ترجم علماؤنا ممن كتب في تراجم الصحابة لـورقة على أنه مسلم وصاحبي جليل؛ لأنه تمنى أن لو كان شاباً عندما يطرده قومه ليحارب معه ويدافع عن دينه، فهو إذاً قد آمن به.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم ...)

    قال تعالى يسلي نبيه ويصبره ويعزيه: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [فاطر:25].

    أي: لا تبتئس يا محمد ولا تحزن، تلك سنة وطريقة الأنبياء قبلك، فقد أرسلوا إلى أقوامهم وكذبوا كما كذبك قومك، فكما كذبك الناس من المشارق والمغارب ممن لم يؤمن بك، كذلك الذين من قبل أمتك كذبوا أنبياءهم، ولم يطيعوا أنبياءهم إلا قليل منهم، مع ما جاءتهم به أنبياؤهم من بينات ومعجزات واضحات، ومع ذلك لم يؤمنوا بهم لا بمعجزة ولا بغير معجزة ولم يصدقوهم، بل أبوا إلا البقاء على الكفر ودين الآباء من عبادة الأوثان والأحجار والأصنام والشرك بالله، جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [فاطر:25] بالدلائل الواضحات، والمعجزات الدالة على صدقهم، والدالة على صدق ما يقولون، وَبِالزُّبُرِ [فاطر:25]، الزبر: جمع زبور وهو الكتاب، ومنه: زبور داود، أي: الكتاب الذي أرسل به داود، وعلى كل فقد كفروا بالأنبياء وبمعجزاتهم وكفروا بالكتب المرسلة عليهم، كفروا بصحائف إبراهيم، وبزبور داود وبتوراة موسى وبإنجيل عيسى.

    ثم أردف الكتاب المنير بعد ذكر الآيات والزبر فقال: جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [فاطر:25].

    وذكره الكتاب بعد الزبر تأكيد، فالكتاب هو: الزبر، ووصف بأنه منير، والمنير هو: النير الواضح البين بالدلائل القاطعة على أنه وحي من الله، وأنه أرسل على من قالوا: قد أرسلنا بذلك، فقد قال موسى: أرسلت بالتوراة فصدقت، وقال عيسى: أرسلت بالإنجيل وصدقت، وقال داود: أرسلت بالزبور وصدقت، وقال إبراهيم خليل الرحمن: أرسلت بصحائف وصدقت، ولكن أولئك كذبوهم كما كذبك هؤلاء، فلا تبتئس ولا تحزن، فلست مكلفاً بهدايتهم وإنما أمرت بتبليغهم فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35].

    لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير)

    قال تعالى: ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [فاطر:26].

    ثم إن هؤلاء الذين كذبوا أنبياءهم من الأمم السابقة؛ من قوم نوح، وقوم عاد، وقوم ثمود، وقوم صالح، وقوم موسى، وقوم لوط، وقوم إبراهيم أخذتهم وانتقمت منهم، فهو إنذار من الله وتذكير بالأمم المكذبة وأنه قضى عليهم وعاقبهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

    والاستفهام في قوله تعالى: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [فاطر:26]، استفهام تقريري، أي: كان عقابي نكراً من النكر، فضيعاً من الفضائع، أليماً شديداً ساحقاً، وهكذا جزاء كل كافر بالله وبأنبيائه وكتبه ورسله؛ أغرق من أغرق، ورمى بالحجارة من السماء من رمى، وزلزل الأرض بمن زلزل وجعل عليهم عاليها سافلها، ومسخ من مسخ قردة وخنازير، وهكذا عاقب الله أولئك في دار الدنيا، وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:127]، أي: من عذاب الدنيا، وهذا معناه: تهديد ووعيد للأمة المحمدية لمن يكفر منهم، ولمن لم يصدق رسول الله منهم، ولمن أبى إلا أن يعيش كافراً عاصياً، والمعنى: كما فعلنا بالسابقين سنفعل باللاحقين.

    ومن هنا: كان الذل الذي أصاب من أصاب من اليهود، والضلال الذي أصاب من أصاب من النصارى، وما أصاب المسلمين من استعباد واستعمار من الذين كانوا مسلمين يوماً، فعصوا وارتكبوا الكبائر، وارتد منهم من ارتد، وغير دين الله بدين ماركس من دين اليهود، وألحد فأصبح يقول: هو شيوعي.. هو اشتراكي.. هو بهائي.. هو ماسوني.. هو وجودي، وهكذا كل فرقة ضالة من نحل اليهود على وجه الأرض، فهؤلاء مكر الله بهم، واستعبدهم وملكهم لمن لا يرحمهم ممن أذلهم، وكتب عليهم الذل والهوان إلى يوم القيامة، وقطعهم في الأرض أمماً، وما من عصر وما من وقت وزمان إلا ويرسل الله عليهم من يهلكهم ومن يقضي عليهم، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167].

    والذي نراه ليس إلا سحابة صيف، وهو استدراك للقضاء عليهم قضاءً مبرماً كاملاً ساحقاً، فهم لم يعطوا من فرص الفساد إلا فسادين: فساد قد مضى، وفساد نعيش نحن اليوم فيه، أما الفساد الماضي فقتلوا فيه الأنبياء، وسفكوا الدماء، وخربوا العمار ونشروا الفساد في الأرض.

    والفساد الثاني الجديد الذي نعيش فيه: نشروا كذلك الفساد بكل أشكاله، فنشروا الفواحش بكل أنواعها، ونشروا الإلحاد والكفر بين الكبار والصغار في المشارق والمغارب، ودان لهم من لم يؤمن بالله، وهي الأكثرية الساحقة من المشارق والمغارب، والمسلمون عندما قلدوا غيرهم من الشرق والغرب وخرج من خرج منهم عن دين الله، وارتكب من ارتكب منهم الكبائر ولم يند لهم جبين، سلط الله عليهم ما سلط عسى أن يعودوا إلى دينه.

    ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [فاطر:26]، أي: فكيف رأيت يا محمد عقوبتي ونكيري على هؤلاء ممن أغرقوا، وممن رجموا، وممن مسخوا، وكما عاقبنا الأولين سنعاقب الآخرين إذا ارتكبوا ما ارتكب أسلافهم، وكفروا كفرهم وعصوا عصيانهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765795447