يقول تعالى لنبيه: بلّغ جميع عبادي العابدين: أليس الله بكاف عبده؟
الجواب: بلى، وهو استفهام تقريري جوابه فيه، فهذا الذي يخوف بعمل مخلوق وجبروته وظلمه، ويخوف بشؤم الأصنام والأوثان، فاكتف يا محمد! وهكذا يدافع الله تعالى عن الذين آمنوا ويكافئهم ويتولاهم.
قوله: (عَبْدَهُ): أي: عابده، فيدخل في الدرجة الأولى الأنبياء والملائكة ويدخل بعد ذلك المتقون الصالحون من عباد الله جناً وإنساً، والمعنى: أفلا يكفي إنسان أن يدافع الله عنه ويحميه ويتولى رعايته وكفايته ونصرته؛ وقد قال الله ذلك عندما قال الكفار لرسول الله: إنا نخاف عليك من آلهتنا وأنت تسبها وتزيفها، ألا تخاف أن تصيبك بخبال وجنون وتُمرضك؟ فهؤلاء يخوفون أولياء الله والعابدين بالأصنام والأوثان التي لا تنفع ولا تضر.
فقوله: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر:36] أي: يخوّفون رسول الله بمن هو دون الله من أوثان وأصنام لا تضر ولا تنفع، ولا تعي ولا تعقل.
ثبت في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر خالد بن الوليد أن في الطائف صنماً يؤلهونه وأمره أن يكسره، فوافق خالد وهو الأمير ليضرب هو ومن معه هذا الصنم ويفتتوه، فأخذوا يصيحون ويحذرونهم: إياكم أن تمسوه فيصيبكم خبال وبلاء، فقال خالد : ليس للصنم إلا أنا، فأخذ فأساً وارتفع في وجهه وكسر أنفه وعينه ورأسه ثم رمى به.
فالمشركون خوّفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما خوفوا خالداً وقد دخل مكة عليه الصلاة والسلام فاتحاً معززاً مظفراً، فأتى الكعبة وكان فيها ثلاثمائة وستون صنماً فأخذ يقول: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]) وفي يده عصاً يكسر بها هذه الأصنام فتسقط وتترامى، وأخذ من لا يزال على شركه يخوّفه مما يفعل صلى الله عليه وسلم، فيقول الله له وللقائمين بوحدانية الله، الكافرين بالشرك والأوثان: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:36].
فهؤلاء قد ضلوا وكفروا وخرجوا عن الحق، وأغرقوا أنفسهم في الباطل، فهم ضلوا عن علم، وضلوا بعد مجيء الرسالة ومجيء كتاب الله، وبعد أن علّمهم وعرّفهم بالأدلة الأصولية التي لا ينكرها إلا أعمى البصيرة قبل أن يكون أعمى البصر، فبقوا على أصنامهم وعلى أوثانهم، ومن ضل فلا هادي له من دون الله، وليس له من يهديه إلا الله، والرسل يهدون وإنما كلّفوا بالبلاغ وبالدعوة لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272].
قال تعالى: وحتى لو أمرت إنساناً فائتمر ونهيته فانتهى فإن منك البلاغ، أما الهداية فهي حيث شرح صدره للإسلام ووسع قلبه لقبول الحكمة؛ وإلا فقد تكون أبلغ وأفصح من ذلك، وأكثر دلالة من ذلك، ولكن الذين تدعوهم مصروفون عن قول الحق وسماع الصدق، ويأبون إلا الكفور والفجور، وقد يجدون أفضل من كلامك فيغلقون آذانهم ويقولون: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26].
فقوله: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر:36] أي: من دون الله وهم كل ما خلق الله مما اتخذوه وثناً وطاغوتاً شريكاً مع الله ونداً، قوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:36] أي: من أضله الله لا هادي له وسيبقى على ضلاله إلى أن يُخلّد في النار وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مُضِلٍّ [الزمر:37] أي: يشرح صدره لقبول الموعظة وسماع كلام الله وإدراك فهمه وفهم تفسير رسول الله عليه الصلاة والسلام، فمن هداه الله فلا يخاف ضلال أحد.
ثم قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ [الزمر:37] بلى يا ربنا! إنك أنت العزيز الذي لا ينال جنابه، والعزيز الذي من اعتز بك عز ومن اعتز بغيرك ذل، فالله يُعز المؤمن وينتقم من الكافر المشرك، وإنما العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون؛ فالمؤمن يشعر بالعزة وبالعظمة نتيجة إيمانه وتعلقه بالله، فلا عزيز إلا الله ولا عزيز إلا من أعزه الله، ومن يذلل الله فلا مُعز له، كما أن الله ينتقم من أعدائه الكفرة يهوداً ونصارى ومنافقين، ويدخلهم في نار جهنم خالدين فيها أبداً كلما نضجت جلودهم بدّلهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.
وقوله: (ذي انتقام) من الأسماء الخمسة التي تُرفع بالواو وتُنصب بالألف وتُجر بالياء، فتقول: جاء ذو مال، ورأيت ذا مال، ومررت بذي مال، وجاء ذو دين، ورأيت ذا دين، ومررت بذي دين.
يقول تعالى: سل هؤلاء المجانين الحمقى: من خلق السماوات والأرض؟
فإنك لو سألتهم لقالوا: الله (لئن) بالقسم مؤكدة بنون التوكيد الثقيلة، فلو أنت سألتهم من الذي خلق هذه السماوات العلا وهذه الأرضين السفلى لقالوا: بإن الله هو الذي خلقها، فهم مع وثنيتهم وشركهم يعترفون بأن الله خالق السماوات والأرض، ولكن لا يؤمنون بالبعث والنشور، فتراهم يعبدون أصناماً وأوثاناً ويقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] فمن جنونهم ووراثتهم الوثنية والصنمية يقولون: عبادتنا لهم هي عبادة شفاعة، لنتخذهم قربى وزلفى إلى الله، وهم بذلك يزيدون ضلالاً، وقد كانوا قبل الإسلام عندما يحجون ويلبون يقولون: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فهم يقولون له شركاء ولكن هذه الشركاء لا تملك شيئاً وهذا من تمام الضلال؛ ولذلك يقول الله لنبيه: قل لهؤلاء: من خلق السماوات والأرض، ودعهم يعترفون بأنهم حمقى لا عقول لهم، ولا منطق لهم من دليل ولا برهان عقلي ولا نقلي.
أي: فهل يستطيع هؤلاء الشركاء أن يكشفوا عني هذا الضر الذي أصابني الله به؟
أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر:38] أو لو أرادني الله برحمة فأكرمني بنعمة أو مال وجاه وعبادة وتقوى وسلطان وأمر بمعروف ونهي عن منكر، هل يستطيعون أن يمسكوا رحمة الله عني؟
الجواب: هم أعجز من ذلك، وهو مفهوم من السياق، ولذلك قال الله لنبيه: قُلْ حَسْبِيَ الله [الزمر:38] إذا كان هؤلاء الذين يدعون من دون الله مهما كانوا من بشر أو جن أو ملك، ليس بإمكانهم أن يمسكوا الرحمة عن أحد، فإذاً لم الخوف منهم؟ ولم هيبتهم؟ ولم الاهتمام بهم؟!
ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عباس وغيره قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، فإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
يخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم مبيناً لمثل هذه الآيات أن الخلائق كلها من آدم إلى آخر إنسان، ومن إبليس إلى آخر شيطان، ومن جبريل إلى آخر الملائكة، لو اجتمعوا وأرادوا ضُرّك بشيء لم يكتبه الله عليك لما استطاعوا، ولو اجتمعوا جميعاً على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك في صحيفتك لما استطاعوا جفّت الصحف بما هو كائن إلى يوم القيامة، لقد كتب الله في اللوح المحفوظ ما كان ويكون إلى قيام الساعة قبل خلق الخلق بألفي عام، واليوم فيها كألف سنة مما تعدون، أي ألف سنة تصبح ألف ألف مليون سنة.
يقول ربنا جل جلاله وهو يسائل نبيه عليه الصلاة والسلام ليظهر كذب المشركين وضلال الضالين أن من يدعى من دون الله لا يملك مع الله ضراً ولا نفعاً، فالجميع أعجز عن ذلك وأضعف من ذلك، فما كتبه الله لك من خير لن يستطيعوا إمساكه، وما قدر الله عليك من ضر لن يستطيعوا كشفه، ولذلك علّم الله نبينا أن يقول: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ [الزمر:38] أي: كفاني الله رازقاً وخالقاً، فحسبي الله جل جلاله في قدرته ووحدانيته وإرادته الخير إن شاء أو الضر إن شاء، فلا نفع بالمشركين ولا بالوثنيين ولا بأصنامهم وأوثانهم ولا بما هو غير الله.
فقوله: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ [الزمر:38] أي: حسبي ربي رازقاً ومعيناً ومؤازراً ومحامياً ومدافعاً، وكل أولئك هباء في هباء.
قوله: عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38] أي: يجعلون الله وكيلهم القائم بأمورهم، وعندما يأتي المؤمن ويفعل ذلك عن رضاً وقناعة وفهم وإدراك ووعي، يكون ذلك من كمال الإيمان والإيقان ويجازى على ذلك، وأحسن ما يجازى به المؤمنون الأتقياء المتوكلون مضمون قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] أي: كافيه وحاميه ورازقه، ومن يعتز بالله اعتز، ومن حاول أن يعتز بغيره ذل.
يا محمد! قل لقومك ولمن أمرت بدعوتهم للإيمان: اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ [الزمر:39] وهذا تهديد ووعيد، قل: اعملوا على دينكم وعلى مذهبكم وطريقتكم، وأنا سأعمل على طريقتي وديني كما أمرني الله.
قوله: (اعملوا)، ليس هو أمر بالعمل ولكنه ترك وإهمال ونسيان، ثم هو وعيد وتهديد، قال تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ [الزمر:39-40] فسوف هي للتسويف البعيد بالنسبة لهم، يعني: يوم القيامة ستعلمون من يحل عليه عذاب يخزيه في الدنيا والآخرة، فسوق تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه في الدنيا من ذل وهوان وقهر وغلبة واستعباد وقتل وأسر وتشريد وتدمير، وقد حدث كل هذا وما زال يحدث.
قال: وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ [الزمر:40] فيوم القيامة عذاب دائم، عذاب مقيم لا يزول أبداً؛ فهم في الدنيا في خزي وعذاب مهين، وفي الآخرة لهم عذاب مقيم دائم، كلما نضجت جلودهم بُدِّلوا غيرها ليزدادوا عذاباً.
يقول ربنا بأنه أنزل الكتاب على نبيه إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ [الزمر:41] أي: أنزلنا عليك الكتاب لتكون به بشيراً ونذيراً لجميع الناس، عرباً وعجماً، مشرقاً ومغرباً، من عاصرك في حياتك ومن جاء بعدك وإلى يوم القيامة، فلا نبي ولا رسول ولا دين بعدك ولا كتاب؛ وهذه من الآيات التي تؤكد وتتفتح لعلوم الأمثال الخالدة، كقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158].
فقد أنزل الله الكتاب على رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون للناس بشيراً ونذيراً معلماً ومبيناً، من اهتدى به فقد اهتدى، ومن أعرض عنه فقد ضل، أنزله الله بالحق، فكل ما فيه حقيقة بعقائده وأحكامه وآدابه وقصصه، وحقيقة بما قصّه علينا من أخبار الأولين، وبما يُخبرنا من أخبار الآتين إلى يوم القيامة.
قال تعالى: فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ [الزمر:41] بعد البيان والعلم، وبعد الرسالة وتمام البلاغ.
فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ [الزمر:41] من قبِل هداية القرآن ورسالته، فهداية محمد صلى الله عليه وسلم فلنفسه، والهداية يعود نفعها عليه، فهو الذي سيمتع برحمة الله ورضوانه وبالخلود في الجنان.
قال تعالى: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [الزمر:41] أي: ومن أبعد عن الطريق وضاع عنها، وسلك الطرق المعوجة وترك القرآن الكريم، وقبل ديانة النصارى وديانة اليهود وديانة عبدة الأوثان، وكل ذلك قد غُيّر وبُدّل وحُرّف، فمن ترك الحق فقد ضل ونفسه أضر وضلاله على نفسه عائد عليها بالضرر والهوان والخلود في النار، فهو أبعد ما يكون عن الهدى.
وقد بيّن الله الحق وأنزل الرسل وتبقى الحجة البالغة لله، فإذا سئل عند موته: من ربك؟ من نبيك؟ ولم يجب فلا يلومن إلا نفسه؛ لأنه سمع الكتاب المنزل عليه وقرأ السنة بياناً وشرحاً، سمعها من أبيه أو أخيه أو شيخه أو من مجتمعه أو من أي مكان.
سمع في الأرض أن إنساناً من جزيرة العرب اسمه محمد خرج من مكة ثم انتقل إلى المدينة، يقول: أنا رسول الله للناس جميعاً جئتكم بالهدى وبسعادة الدارين، جئت منذراً للكافرين بالنار ومبشِّراً المؤمنين بالجنة؛ فهو عندما يسمع ذلك ويبلغه يصبح ملزماً بالإيمان وبالإسلام، والجهل ليس عذراً، وعدم معرفة العربية ليس عذراً، فإن لم يعرفها فليتعلمها، فإن لم يتعلمها فليسأل أهل هذه اللغة ليفسروا له، أما أن يبقى على ضلال ويقول: ما علاقتنا! هذا نبي المسلمين! بل نبي العرب والكتاب منزل على العرب، فهذا يضحك الشيطان عليه حتى إذا جيء به يوم القيامة ووقف الملكان على رأسه وأخذا يسألانه من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ وأخذ يهذي ولا يجيب ويقول: سمعت ناساً يقولون وآخرين يقولون، لن ينفعه هذا من عذاب الله في شيء؛ ولذلك أنذر الله وبشر، وأمر نبيه الخاتم أن يبشّر وينذر بأمره وبنهجه؛ لذلك كثيراً ما كان يحذّرنا نبينا عليه الصلاة والسلام وينصحنا ويقول: اجتهدوا حياتكم قبل مماتكم، وشبابكم قبل شيخوختكم، وصحتكم قبل مرضكم، وفراغكم قبل شُغلكم، وإلا فالوقت كالسيف إن لم تقطعه بالعمل فيه وبالعبادة فيه وبالتفكر فيه فاتك الزمان، وإذا بك يوماً من الأيام ميت، وبعد الموت لن ينفعك شيء، قال تعالى: لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158].
قال تعالى: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر:41].
وقال تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود:12].
وقال تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد:40].
فوظيفة الأنبياء البلاغ وليست الهداية، الهداية بيد الله سبحانه وهذا القرآن جاء بلاغاً من رسول الله عن ربه جل جلاله، فلا حجة لنا ولا لمن سبقنا ولمن يأتي بعدنا ولا لأحد في الأرض في مغاربها ومشارقها، فكل من بلغه أن هناك عبداً لله قال أنا نبي الله، ودعا إلى القرآن الكريم وبالرسالة الهادية ثم أعرض عن ذلك إلا أصبح من المشركين الكافرين عليه عذاب الله الخالد ولا عذر له ولله الحجة البالغة.
يقول ربنا في هذه الآية الكريمة بأن الموت موتان: موت لا يبقى فيه حس ولا شعور في الإنسان، وهو الموت الذي يأخذ الله فيه الروح البتة، وموت يكون عند النوم.
فقوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ [الزمر:42] أي: تنتهي آجالها وأوقاتها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42] والإنسان مشتمل على نفس وروح، فالنْفس هو هذا النَفَس ولا يزال الإنسان في حركة ما دام هذا النفس، وهناك الروح؛ وقد تقف الروح ويبقى النفس، وإذا وقفت الروح فلا نفس، يقول تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر:42] أي: يأخذها ويستوفيها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ [الزمر:42] يستوفيها كذلك في منامها.
ولذلك نحن عندما ننام لا نحس ولا ندري ولا نعي فإذا صحونا زال المنام، وعندما ننام نكون قد أخذ الله الروح، فالله جل جلاله إذ ذاك من قضى عليها الموت من النفس أخذها إليه، ومن لم يقض عليها الموت أعادها إلى الجسد إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42] أي: إلى الأجل المقدر لكل مخلوق، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام إن الإنسان ينام كما يموت، ويستيقظ كما يبعث، فشبّه النوم بالموت، فالإنسان عندما يموت فجأة يفقد الإحساس والحركة، والنائم كذلك، وعندما يُبعث الإنسان يوم القيامة يُحس بالحركة كما نصحو بعد النوم.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا أراد أحدكم أن يضطجع على فراشه فلينزع داخلة إزاره ثم لينفض بها فراشه فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليضطجع على شقه الأيمن ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).
أي: إذا أخذت روحي وأنا نائم فارحمها، وإذا أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، أي: احفظها في دينها وصحتها من فتن العصر.
ومن المعلوم في السيرة النبوية أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينام على يمينه ويضع باطن يده اليمنى تحت خده الأيمن، وينام المسلم على جهته اليمنى والقلب في الجهة اليسرى؛ لأنه يكون أقرب للصحو والاستيقاظ لصلاة الفجر، وإن نام على الجهة اليسرى يكون أكثر في الاستغراق في النوم والتخلف عن صلاة الفجر في وقتها.
ويقول علي رضي الله عنه: تجتمع الأرواح عند الله -أرواح الموتى وأرواح النائمين- ثم تعود أرواح النائمين عندما يُرسلها الله؛ وفي هذه الحالة إذا رأى الإنسان حلماً وروحه في السماء لم تنزل بعد فستكون رؤيا صدق وحق، وإذا رأى رؤيا وقد أخذت روحه تنزل وهي في طريقها إليه تكون تلك الرؤيا من الشيطان، والأرواح الميتة في دار الحق، والذي يذكر عنها هو حق سواء كان خيراً أو كان شراً، وأهل النعيم في نعيم حق، وأهل الشقاوة في شقاوة حق، النار حق والجنة حق، ونحن نرى في المنام أشياء عجيبة إذ نرى موتى وهذا يكون كثيراً.
يقول تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64] سئل النبي عليه الصلاة والسلام: ما بشرى الدنيا يا رسول الله؟ قال: (الرؤيا الصالحة يراها المؤمن وترى له) ونفسّرها عنه بأن هذه الرؤيا الصالحة هي التي لا تزال في السماء مع الأرواح فما رآه الإنسان وهو في منامه وروحه لا تزال في السماء، فإن رؤياه حق إما بشارة بخير أو إنذار من سوء وهو كذلك حق.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا حديث نفس، ورؤيا من الشيطان) ويأتي ذلك عند تفاصلهما.
قال تعالى: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [الزمر:42] أي: التي أماتها والتي سبق في علمه أنها استوفت أيامها يقبضها الله إليه ويمسكها، بحيث لا تعود للبدن وَيُرْسِلُ الأُخْرَى [الزمر:42] التي لم يقض الله عليها بوفاء أجلها وبموتها فيرسلها إلى الجسد، يرسل النفس الأخرى والروح الأخرى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42] أي: إلى الأجل المكتوب.
ونحن لا نزال في أرحام أمهاتنا عندما يأتي الملك المكلف بزرع الأرواح يقول: ما أجله؟ فيكتب كم يعيش الإنسان حسب أمر الله وإرادته.
قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر:42] أي: إن في هذا لعلامات وأدلة قاطعة تدعو إلى الحق اليقين وإلى الإيمان.
قوله: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر:42] أي: لقوم سليمي العقول والإدراك ولا يصنع هذا إلا الله.
وقديماً تساءل الناس ما هي الروح؟ وحديثاً يتساءل الناس ما هي الروح؟ وسيبقون يخبطون خبط عشواء، فالروح مما استأثر الله بعلمها، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] وعلى دعوى الإنسان في العصور الماضية والعصور الحاضرة بالعلم والمعرفة أن الروح التي بين جنبينا تصاحبنا وتماشينا ومع ذلك لا نعلم ما هي؟ فإذا قال إنسان: نحن نقوم ونجلس ونأكل ونشرب ونحب، فهذه علامات وجود الروح.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر