إن الله عز وجل وعد من آمن به وبكتبه وصدق رسله صلوات الله وسلامه عليهم بجنات عدن يخلدون فيها أبداً، وجعل لهم فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومن تمام إنعامه عليهم أن يلحق بهم أزواجهم وذرياتهم المؤمنين ليتم سعدهم ويكتمل فرحهم.
قال الله جل جلاله:
الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ 
[الزخرف:67].
الأخلاء: جمع خليل، وهم الأصدقاء والأحباب المتحابون في الدنيا، فإنهم في الآخرة بعضهم أعداء لبعض إلا المتقين.
فالأخلاء والأحباب الذين تكون محبتهم ومودتهم مقصورة على الدنيا، في يوم القيامة ينقلب بعضهم على بعض عدواً، فيشتم بعضهم بعضاً، ويهجر بعضهم بعضاً، ويسب بعضهم بعضاً بأقبح الصفات والنعوت.
لكن الإخلاء المتقون، والأحباب في الله، والإخوان في الله تبقى أخوتهم وخلتهم في الدنيا والآخرة، بل وتزداد في الآخرة؛ لأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (المتحابون في الله هم على منابر من نور يوم القيامة)، وفي الحديث الشريف: (سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر منهم- أخوان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه)، فاللذان تحابا في الله واتفقا عليه يكونان يوم القيامة في ظل العرش مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه والصالحين من أتباعهم.
يقول علي كرم الله وجهه: هنالك خليلان مؤمنان وخليلان كافران: أما الخليلان المؤمنان فيموت أحدهما فيقول: يا رب إن خليلي فلاناً كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويخبرني بيوم لقائك، ويدعوني إلى الطاعة والحسنات، ويأمرني بالبعد عن الشر والمخالفات والسيئات فيا رب كما أكرمتني أكرمه، وكما أحسنت إليّ فأحسن إليه، فيأتي خليل هذا المؤمن، ويلتقي وإياه في الآخرة فيسأل: كيف خليلك؟
فيقول: كان نعم الصاحب لي، وكان نعم الخليل لي، كان يأمرني بطاعة الله ورسوله، ويخبرني بلقاء ربي، ويبعدني عن أهل الأدواء والأشرار، ويقول الثاني له مثل ذلك.
والخليلان الكافران يموت أحدهما فيقول: يا رب إن خليلي فلاناً كان يبعدني عنك، ويأمرني بالمنكر، وينهاني عن المعروف، ويأمرني بالباطل وبمصاحبة الأشرار، فخذه إليك وعامله كما عاملني، فيلتقيان يوم القيامة، فينعت أحدهما الآخر بأنه كان بئس الصاحب والخليل.
ففي يوم القيامة الأخلاء الكفرة أعداء بعضهم لبعض حينما كانت خلتهم للشيطان، فكم من غريب في يوم القيامة إلا المتقين الصالحين المؤمنين، فخلتهم وأخوتهم ستدوم بدوام الآخرة، ويكونون على منابر من نور كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم.
يقول ربنا جل جلاله:
يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ 
[الزخرف:68]، في يوم القيامة يعرض العباد على الله فيصيبهم الفزع وهم لا يدرون أللجنة مآلهم أم إلى النار مصيرهم، فتنادي الملائكة بأمر الله:
يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ 
[الزخرف:68]، فتطاول أعناق المسلمين والكافرين والمنافقين فيقولون: نحن عباد ربنا فلا خوف علينا ولا حزن، ولكن عندما يقول الله جل جلاله:
الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ 
[الزخرف:69]، يفزع الكفار والمنافقون لرعبهم، فلا ينتفع بهذا النداء غير المؤمنين بآيات الله ورسله وكتبه، بما جاء عن الله من الآيات البينات، وما جاء من أدلة واضحات تقطع بصدق الرسل والأنبياء، وما جاء عن الله من أوامر ونواه.
وكان المسلمون مستسلمين لأمر الله، مطيعين له، حيث أمرهم بالخير فعلوه جهد طاقتهم، وحيث نهاهم عن المنكر تركوه بكل ما يستطيعون.
فالمؤمنون بالله ورسله وكتبه يؤمنهم الله من الفزع الأكبر، فلا هم ولا حزن ولا خوف بتطمين الله لهم حينما يحزن الناس ويفزعون ويخافون على أنفسهم أن يكونوا في العذاب خالدين.
والمراد بـ
الْيَوْمَ
[الزخرف:68] أي: يوم القيامة، يوم العرض على الله.
فعباد الرحمن المؤمنون به المحسنون لا يخافون الفزع الأكبر، ولا يخافون الحزن، ولا يخافون الآلام، فالله قد أمنهم، وأنزل هذا الكتاب الكريم المعجز على خاتم الأنبياء ليبشرهم بهذا التأمين من الدنيا إلى الآخرة.
وكل إنسان على نفسه بصيرة، فالإنسان أدرى بنفسه، أمؤمن حقاً؟ أمخلص في إيمانه حقاً؟ فيعبد الله مخلصاً دون رياء ولا تسميع، فإن كان كذلك ومات على هذا فيرجو كل خير وكل فوز وكل نصر، فيدخل تحت قوله تعالى:
يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ
[الزخرف:68-69].
و(الذين آمنوا) بدل عن (يا عبادِ) أي: يا عبادي الذين آمنوا بآياتنا، فهم الذين نودوا، وهم الذين شرفوا وكرموا بالنداء الإلهي، والتأمين الإلهي، فهم عباد الله المسلمون المؤمنون، الذين أمنهم الله في الدنيا مبشراً لهم على لسان آخر الأنبياء فيما أنزله في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هؤلاء العباد المؤمنون بآيات ربهم المحسنون المسلمون الدائنون بدين الحق، المؤمنون برسول الله خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام ومن جاء قبله من الأنبياء والرسل؛ تفصيلاً بمن ذكر اسمه، وإجمالاً بمن لم يذكر.
فالله ينادي عباده المؤمنين، ناسباً إياهم إلى ذاته الشريفة ومقامه العظيم، بأن يطمئنوا ولا يحزنوا ولا يخافوا.
ويقال لهم نتيجة ذلك يوم القيامة:
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ
[الزخرف:70].
فالجنة لكم خلقت، ولكم أعدت، وأنتم فيها خالدون خلوداً لا موت فيه ولا حزن ولا ملل ولا سأم، ادخلوها أنتم وأزواجكم المؤمنات بالله مثل إيمانكم، المسلمات بالله مثل إسلامكم، فكما اجتمعتم في الدنيا على طاعة الله والإيمان بالله ورسوله، كذلك تجتمعون في الجنة غير مكلفين بشيء، إن هي إلا اللذائذ، ولكم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون أبداً سرمداً.
وفسروا الأزواج بالنظراء، أي: ادخلوا أنتم ونظراؤكم، والأصل في معنى الزوج النظير، ويقال للزوجة زوج، كما يقال للرجل زوج، أي: أنهما اشتركا في الأولاد والحياة، واشتركا في قيام البيت، واشتركا في القيام بشئون الدنيا والآخرة، فكما اشتركا في ذلك في الدنيا، فإنهما يشتركان كذلك في الآخرة في الجنان.
اللهم اجعلنا منهم، وأكرمنا بما أكرمتهم، وأحينا مسلمين، وأمتنا كذلك محسنين لنفوز بهذا النداء الكريم:
يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ
[الزخرف:68-70].
ومعنى: (تحبرون) أي: تنعمون، وتكرمون، وتفرحون، وهو مأخوذ من الحبور والسرور والبهجة، كما وصفهم الله بقوله:
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ
[المطففين:24] أي: ترى في وجوههم نضرتها وجمالها وبهاء النعمة، والرضا الإلهي والرحمة الإلهية.
قال تعالى:
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 
[الزخرف:72].
يقول جل جلاله: تلك الجنة التي أصبحت من أملاكهم، وداراً من دارهم.
ونحن نقول: نرجو فضل الله وكرمه فتكون داراً من دارنا، فنحن نوحد الله، ونؤمن بخاتم الأنبياء وبالرسل قبله، فنرجو الله أن نكون من أهلها فضلاً وكرماً.
يقول تعالى:
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ
[الزخرف:72] أي: التي وصفها بما وصفها به، أن فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين بما فيها من صحاف الذهب وأكواب الذهب والغلمان الذين كأنهم اللؤلؤ المكنون، وما فيها من الحور العين، ومن الزوجات المؤمنات الصالحات اللاتي كن في دار الدنيا كذلك.
وقوله تعالى:
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
[الزخرف:72]، أي: بسبب أعمالكم فضلاً من الله وكرماً، وبسبب توحيدكم وإيمانكم وإسلامكم، ولكن هذا السبب كان بفضل الله، وكان بكرم الله، وكما يقول الحكيم: إذا أراد أن يظهر فضله عليك خلق ونسب إليك.
فالله خلقك ووفقك للإيمان وللهداية، ووفقك للدوام على ذلك والرسوخ فيه، ثم وعدك على ما أعطاك وأنعم عليك لأنك عملت وعملت، فلك الجنة خالداً فيها، فأنت أحد وارثيها، وأحد ملاكها، وأحد قطانها والمقيمين فيها.
والمعروف في الإرث أنه يقال: يرث الولد أباه، ويرث العالم رسول الله في الدعوة إلى الله وفي العلوم والمعارف، وورثت الدولة أراضي غيرها، فالجنة ورثناها عن الكفار، قال عليه الصلاة والسلام: (لكل إنسان منزله من الجنة والنار).
أما المؤمن فيأخذ منزله من الجنة ويرث منزل الكافر من الجنة؛ لأن هذه المنزلة لا يدخلها الكافر، فالله قد حرم الجنة على الكافرين، قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
[النساء:48] فمكانه في الجنة يرثه المؤمن فيزيده على مكانه، والكافر يأخذ مكانه الأصلي في النار ويرث مكان المسلم فيها كذلك.
فإذاً: الإرث يكون إرثاً لمن كان يمكن أن يؤمن ويسلم ولكنه كفر ومات على الكفر، فلا ترجى له مغفرة ويحرم عليه دخول الجنة.