قوله جل جلاله: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [الدخان:8] جاء جواباً لشركهم وكفرهم، فهم مع اعترافهم بأن الله خالقهم وبأن الله ربهم ورازقهم اتخذوا معه شريكاً من ولد وصنم ووثن مما لم ينزل به سلطان ولم يأت به دليل من عقل أو نقل فيقول الله تعالى: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [الدخان:8] فلا إله في الكون معبود بحق إلا الله الواحد الذي لا ثاني له في صفاته ولا أسمائه ولا أفعاله، فهو الذي يحيي ويميت، وكل ما عداه أباطيل وأضاليل وأكاذيب، فالذين عبدوا من دونه لن ينفعوا أنفسهم أو يضروها، فضلاً عن أن ينفعوا غيرهم أو يضروه.
قال تعالى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ [الدخان:8].
فهو الله الواحد الذي هو رب الأولين من الآباء والأجداد ورب الآخرين من الأحفاد والأسباط، وهو رب الكل وخالق الكل، لا ثاني معه، وكل من يدعي سوى ذلك فقد ادعى الشرك والباطل، ولن يأتي على ذلك بسلطان بين.
قال تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدخان:9].
أي: بل هؤلاء الذين يشركون مع الله غيره يلعبون بأنفسهم ويلعبون بحياتهم لعب الأطفال؛ حيث لم يأتوا بما يفيدهم أو يصلحهم أو يكون حقاً أو يتفق مع أدلة العقل وأدلة الكتاب، فما أقوالهم إلا أكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان.
قال تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:10-12].
الارتقاب: الانتظار، أي: انتظر - يا رسولنا - يوم تأتي السماء بدخان يغشى الناس ويغمرهم ويغطيهم، فلا يكاد أحد يرى أحداً؛ لكثرة هذا الدخان وغشيانه الناس والخلق، فيملأ ما بين السماء والأرض، إذا أخرج الرجل يده لم يكد يراها، فيقول هؤلاء الناس: هذا عذاب مؤلم، وهذا هو العذاب المخزي، وهذا هو العذاب الذي لا يحتمل ولا يقاوم.
وقد ذهب ابن مسعود ، - وروي عن ابن عباس - إلى أن هذا الدخان قد كان نزل بقريش عندما دعا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام بأن يصيبهم الله بسنين كسني يوسف، أي: يبتليهم بسنوات من الجوع والقحط، وسنوات من المرض والشقاء، فاستجاب الله دعاءه، فمرض هؤلاء وجاعوا وابتأسوا وعجزوا عن إصلاح أنفسهم، فأخذوا يستغيثون ويستجيرون، واشتد بهم البلاء والجوع حتى كانوا يرون الفضاء دخاناً نتيجة جوعهم ومرضهم وبؤسهم، حتى جاء كبيرهم أبو سفيان بن حرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! جئت بصلة الرحم، وهأنت ذا تدعو على قومك، فادع الله لهم أن يرفع عنهم ما هم فيه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه فزالت سنوات القحط والجوع والبؤس وعاد عليهم الخير العميم والأرزاق الدارة.
قال تعالى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:12] فطلبوا من الله أن يكشف عنهم عذاب الدخان، وعذاب الجوع وعذاب القحط، فدعا لهم رسول الله بزوال ذلك وزعموا أنهم سيؤمنون فقالوا: إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:12]، ولكنهم وعدوا بذلك ولم ينجزوه، ولم يصدقوا فيه، وقالوا: إنا عائدون، وكانت العودة إلى الكفر والشرك ولم تكن إلى الإيمان، وإنما كان الإيمان قولاً.
فهذا قول ابن مسعود في تفسير الآية.
الدخان سيكون علامة من علامات الساعة؛ لقول الله: يَغْشَى النَّاسَ [الدخان:11] وليس قريشاً وحدها، فيسلطه الله على الخلق كلهم ويغشى الناس كلهم.
ولقوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ) ودخان قريش هذا إنما كان تخيلات نتيجة الجوع والقحط، وليس هو دخاناً في الواقع، كشأن من يجوع وشأن من يكاد يغمى عليه، فيظهر له أن الجو أصبح دخاناً، والأمر ليس كذلك، وإنما هي خيالات وأوهام صادرة من نفس ذلك الجائع والبائس والممتحن، وإلا فالسماء ليس فيها دخان.
أما أن الدخان سيكون في آخر الزمان علامة من علامات الساعة الكبرى؛ فذلك ما ثبتت به الأحاديث المتواترة المستفيضة عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقد روي (أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج من بيته فإذا به يرى قوماً يتذاكرون، فوقف عليهم فقال: فيم تتحاورون؟ فقالوا: في الساعة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: بينكم وبين الساعة عشر علامات: خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، وخسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وخروج الدابة، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس تبيت معهم وتصبح معهم، ونزول الدخان من السماء يبقى أربعين يوماً وأربعين ليلة يغشى الناس يجدون له عذاباً أليماً، لا يشعر المؤمن منه إلا كما يشعر المزكوم بالزكام، والكافر والمنافق يأتيه هذا الدخان فيدخل خياشيمه وآذانه وفمه وعينيه ودبره وجميع منافذ بدنه فيلقى منه عذاباً أليماً).
وهذا الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يتفق مع ظاهر الآية: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ [الدخان:10-11]، ليس قريشاً وحدها، ولكن يغشى الناس كلها في مشارق الأرض ومغاربها، ويكون عذاباً أليماً وعذاباً مهيناً، وأما الدخان الذي وصفه ابن مسعود فهو - في الحقيقة - ليس عذاباً؛ لأنه لا وجود له، وإنما هو متوهم، ولكن العذاب هو نتيجة جوعهم وبؤسهم ومرضهم، وليس نتيجة دخان ينزل من السماء.
قوله تعالى: يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان:11].
أي: فيصيحون له ويتألمون ويقولون: هذا عذاب مؤلم موجع.
ثم يرفعون الأيدي ضارعين صارخين: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:12]، فيضرعون إلى الله يرجون أن يرفع عنهم غضبه وعقابه ونقمته بأن يرفع هذا الدخان المؤلم الموجع.
كيف يتذكر هؤلاء؟! ومن أين ستأتيهم الفكرة والندم على ما فات منهم والعودة إلى الحق وإلى الإيمان الصحيح وقد جاءهم رسول الله والكتاب المنزل عليه، وكان رسولاً مبيناً صادق الرسالة صادق القول مصدقاً منذ تربى ونشأ في أهله، صادقاً في قوله: أنزل علي هذا الكتاب، نزل علي به الروح الأمين جبريل، فكيف يتذكرون وقد جاءهم هذا الرسول ومع ذلك لم يتفكروا، ولم يعودوا إلى لحق من أجله، بل كذبوه ولم يؤمنوا به ولم يؤمنوا بما جاء به.
قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدخان:14].
أي: فمع بيان رسالته وصدق معجزاته وتصديق الكتاب المنزل عليه بأقواله وأعماله أعرضوا عنه وكفروا به، وأعرضوا عن الإيمان برسالته وبالكتاب المنزل عليه، وأبوا إلا الفسوق والشرك والعصيان، ثم تولوا، ولم يكتفوا بأن أعرضوا بعد مجيئه إليهم وبعد دعوته لهم وإظهاره لهم رسالته بما فيها من صدق وبما فيها من حق، بل زادوا فقالوا: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدخان:14].
قالوا: لم ينزل عليه وحي، وإنما علمه بشر ولقنه ذلك، وهو - مع ذلك - مجنون في دعواه النبوءة والرسالة وأنه انفرد بالوحي من الله دون هؤلاء الخلق، فازدادوا كفراً وازدادوا شركاً وازدادوا لعنة وازدادوا استحقاقاً للنقمة والعذاب المحيط الأليم.
فهؤلاء سيعاقبهم الله في الدنيا قبل الآخرة بنزع خيره ورحمته عنهم، وابتلائهم بهذه العلامات وهذا المعجزات وهذه الأمارات قبل قيام الساعة من الخسف وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى الذي سيقتل كل كافر، ولا يقبل يهوديةً ولا نصرانيةً ولا نفاقاً، وسيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويهدم البيع، ويخرب الكنائس، ويدعو إلى الله الواحد وإلى الإيمان بخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم.
ويبتليهم بالدابة تخرج من مكة المكرمة تجرح الناس وتضربهم في جباههم في وجناتهم، فيكتب على الوجوه: هذا كافر، هذا مؤمن، يقرأ ذلك من يقرأ ومن لا يقرأ، فهذه الدابة تكشف الباطن من ضمائر الناس وتظهر النفاق بكتابتها.
ثم تخرج من قعر عدن نار تسوق الناس سوقاً وهم يتسابقون في الإفلات من حريق هذه النار، وقلما يفلت منها كافر، وقلما يفلت منها منافق.
فهؤلاء الذين جاءهم النبي المبين البين الرسالة بالكتاب المنزل عليه البين في صدقه وفي أمانته وفي معجزاته، ومع ذلك أعرضوا عنه وتولوا عن رسالته وقالوا عنه ما قالوا من كفر وشرك وخروج عن الآداب البشرية كلها، هؤلاء إذا لم يؤمنوا فمصيرهم جهنم.
فما قالوه هو الكفر البين والعداء الواضح والإصرار على معاندة الله ومعاندة رسوله والعناد في وجه الحق.
هؤلاء دعوا الله من قبل فقالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:12] أي: يسألونه أن يكشف عنهم عذاب الدخان الذي دخل في خياشيمهم وفي آذانهم وفي أعينهم، أي: اكشف عنا هذا، فنؤمن بك، ونؤمن برسالتك، ونؤمن بالكتاب الذي أنزلت على رسولك.
فاستجاب لهم، فقال لهم: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا [الدخان:15] سنكشف عنكم هذا العذاب مدة قليلة؛ لنرى صدق قولكم من كذب ادعائكم.
والله هو بهم أعلم، ولكن لتكون الحجة البالغة لله عليهم، لذلك استجاب لدعائهم، وقد يستجيب الله لدعاء الكافر، ليكون ذلك زيادة في الحجية وزيادة في الانتقام والعذاب فيما إذا لم يف بالعهد وبالوعد.
فعندما طلبوا رفع العذاب أجاب الله ذلك فقال: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان:15]، أي: سنكشف عنكم العذاب فترة من الزمن، ولكننا مع ذلك نعلم أنكم عائدون إلى الكفر، وراجعون إلى ما زعمتم أنكم تبتم منه، وعائدون إلى الكفر بالله والكفر برسوله والكفر بكتابه، ولكن بعد ذلك سيكون الانتقام الذي لا يبقي ولا يذر.
يقول الله: سيكون العذاب وستكون النقمة يوم البطشة الكبرى، وما البطشة الكبرى إلا يوم القيامة في الآخرة بعد الحساب والعرض على الله، وهي دخول هؤلاء وأمثالهم إلى الجحيم معذبين خالدين فيها أبداً.
فقوله جل جلاله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:16] أي: إنا ننتقم منكم - لكذبكم وشرككم - يوم نبطش البطشة الكبرى، والبطشة الكبرى هي يوم القيامة، يوم العرض على الله، يوم الحساب العسير ودخول النيران.
وابن مسعود يرى أن البطشة الكبرى كانت يوم بدر، حيث بطش الله بهؤلاء الذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنين كسني يوسف، فعذبوا وأجيعوا وذلوا، ثم جاء بعد ذلك أبو سفيان يرجو رفع ذلك الغضب وذلك المقت عنهم، فرفعه الله فترة من الزمن، ولكنه قال: (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) فعادوا إلى الكفر، فبطش الله بهم يوم بدر بين قتيل وشريد وأسير ومصاب.
نقول: نعم كان يوم بدر بطشة، ولكنها ليست البطشة الكبرى، فالبطشة الكبرى في يوم القيامة، يوم يدخلون النار معذبين مهانين أذلاء أبد الآبدين، بعد تلك البطشات في الدنيا، من بطشة بدر إلى بطشة الأحزاب، إلى أخذ أموالهم وأسرهم عبيداً وإماء، إلى تشريدهم وطردهم، ثم بقوا على الكفر مصرين مقيمين.
وعندما نزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] اختبرهم الله آمراً بذلك رسوله حتى يُعلِم المؤمنين بأن الشرك نجس لا تطهره البحار كلها، فلا يدخل مكة مشرك.
وهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة عندما هاجر إليها فقال: (إن إبراهيم حرم مكة وأنا أحرم المدينة) فأصبحت مكة والمدينة الحرمين الشريفين اللذين لا يجوز فيهما كثير مما يجوز في غيرهما.
والحسنة في مكة بمائة ألف، والسيئة بمائة ألف، وفي المدينة الحسنة بألف والسيئة بألف، والغرم بالغنم، وهذا ما حمل الصحابيين الجليلين العالمين الكبيرين عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو على أن يسكنا الطائف، وكانا يترددان على مكة المكرمة، حيث رأيا أن السكنى بمكة صعبة على من يراعي الأدب فيها بلا ذنوب كبائر ولا صغائر، ومهما كانت الحسنات التي هي بمائة ألف فإن الذنوب التي لا يكاد يخلو منها إنسان قد تمحو الحسنات كلها، فرأيا من أجل ذلك أن يكونا في الطائف حتى إذا حصلت سيئة تكون بواحدة، وإذا جاء إلى مكة للصلاة وللتلاوة وللذكر وللمقام في بيت الله الحرام تكون الحسنة بمائة ألف، ويكون ذلك أربح لهم.
فإن قال هذا مثل هذين الصحابيين الجليلين الكبيرين فما عسانا أن نقول نحن وذنوبنا مستفيضة ومتكاثرة؟! غفر الله لنا ما علمنا وما لم نعلم، وجازانا بالحسنات بفضله وكرمه جل جلاله.
يقول تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:16]، والنقمة العقاب والعذاب نتيجة المعصية والمخالفة والذنب، فكان ذلك انتقاماً وعقاباً وعذاباً لهؤلاء، لمخالفة أمر الله، وعصيان أوامر رسوله، والخروج عن كتاب الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر