أما بعد ..
فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الثانية والثلاثون في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة أو عن الموت وما بعده، وهي الحلقة الحادية عشرة في الحديث عن الجنة.
اللهم! اجعل الجنة مآلنا، ومصيرنا، ومكاننا يا رب العالمين، بدون سابقة عذاب.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، واجعل اللهم جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل بيننا شقياً ولا محروماً.
اللهم تب على كل عاصٍ واهد كل ضال، واشف كل مريض، واشرح صدر كل ذي صدر ضيق، وارحم أمواتنا، وأموات المسلمين.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم من أراد بمسلم كيداً فاجعل كيده في نحره، وأوقع الكافرين بالكافرين، وأوقع الظالمين في الظالمين، وأخرجنا من بينهم سالمين.
اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك معافين غير فاتنين ولا مفتونين، وغير خزايا ولا ندامى ولا مبدلين.
اجعل هذه الجلسات خالصة لوجهك الكريم، ثقل بها موازيننا يوم القيامة.
اللهم أظلنا في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، اللهم أبعدنا عن النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وثبت أقدامنا على الصراط يوم تزل الأقدام، واسقنا من حوض الكوثر شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، واختم لنا منك بخاتمة السعادة أجمعين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
إن الحديث عن الجنة يشرح الصدور الضيقة، وصدورنا تضيق بالدنيا وما فيها ومن فيها، ومن لم يحزن على نفسه فليحزن على دين الله عز وجل الذي يُستهزأ به عند الكبير وعند الصغير.
فالمسلم يغار على دين الله، والمؤمن القوي هو الذي يغار عندما يرى حرمة من حرمات الله تنتهك، ويحدث في قلبه ثورة، وما عليه عند ذلك إلا أن يحسن المعاملة بينه وبين ربه، وأن يدعو الله مخلصاً له الدين، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3]، بقلب تقي نقي، من الشيطان بريء، ولله ولي، نسأل الله أن ينصر الإسلام وأن يعز المسلمين، وأن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
قلنا من قبل ونكرر كلام الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (عجبت للجنة كيف نام طالبها، وعجبت للنار كيف نام هاربها)، فمن يريد الجنة قد نام، ومن يهرب من النار قد نام، مع أن الإنسان لو طلب شيئاً لحث في سبيل الوصول إلى هذا الشيء، ولو خاف من شيء لرفع المحاذير أمامه كي لا يقع ولا يتورط في هذا الشيء، على سبيل المثال: لكي تصل بابنك إلى بر السلامة لغرض المؤهل فإنك تتعب من أجله، وتقوم بتدريسه دروساً خصوصية، وتأتي له بمدرسين جيدين، وتختار له المدرسة الجيدة، وتظل تواصل الليل بالنهار حتى يكبر الابن ويتخرج ويصبح في يده عمل يستطيع أن يأكل منه لقمة العيش، وفي المقابل تحمي نفسك، وابنك، وزوجتك عن كل سوء قد يقع فيه، فهناك محاذير تضعها نصب عينيك لكي لا تقع في المحظور، فهل يا ترى في مسألة الجنة والنار نصنع هذا؟
هل المسلم يصنع ما يرضي الله عنه حتى يدخل الجنة، ويبعد عن كل ما يغضب الله حتى يبتعد أيضاً عن النار؛ لأننا قلنا: إن الله عز وجل لن يدخل أحداً الجنة بعمله ولكن دخول الجنة برحمة الله عز وجل، فكلنا تحت عنوان: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:149].
والناس صارت لا تستحي من الله فلو كان عنده حياء من الله لم يكن ليأخذ منك خمسة جنيهات كي يمشي لك المصلحة، وما كان لأصحاب المهن الذي يأتي ليصلح لك الآلة ألّا يقوم بإصلاحها بشكل تام لكي تستدعيه مرة ثانية، وهذا كله مال حرام، والأموال الحرام لا تُصرف إلا في الحرام، فإنه لا يوجد مال يؤخذ بالحرام فيُصرف بالحلال.
وإن أنفقها في حلال كانت زاده إلى النار يوم القيامة، فقليل من يحصل اليوم على مال ويتحرى مصدره، وعلى سبيل المثال: استخدام تلفون المصلحة من قبل الموظفين فيتصل للبيت ولخالته ولعمته، ولو كان التلفون فيه اشتراك دولي وإلا اشتراك محلي فإنه يتصل بعمته في أسيوط، وبخالته في الإسكندرية، وبأخيه الذي في الكويت، وابن أخته التي في أمريكا وكل هذا على حساب المصلحة، وفي يوم القيامة يقال: من أخذ من حق أخيه دانقاً -والدانق جزء من الدرهم كالفلس أو المليم- أي أنك لا تستطيع أن تشتري به شيئاً.
من أخذ من أخيه دانقاً بغير وجه حق لكن هذا الدانق لا يُعلم كم من الحسنات سيأخذ، فهل تكون بمقدار الحسنات الناتجة عن قول: سبحان الله، أم أنه يساوي سبعمائة صلاة مكتوبة مقبولة، فلا يتهاون الإنسان في حقوق العباد، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: إن الله يقول يوم القيامة: (يا عبادي! ما بيني وبينكم قد غفرته لكم فتغافروا)، وفي رواية الإمام الترمذي قال: (فتصالحوا).
وإن الإنسان لن يرفض حسنة تأتيه يوم القيامة، وخصوصاً إذا كان ذاهباً إلى النار والعياذ بالله، فإذا كان يذهب إلى النار وقيل له: إن فلاناً من الناس عليه لك مئات أو ملايين من الحسنات فإنه سيأخذ ذلك.
فإن الإنسان يوم القيامة يهرب من ابنه ومن زوجته ومن صديقه ومن جاره ومن أبيه ومن أمه، وتقول الأم مذكرة ابنها: يا بني! كانت بطني لك وعاء، وصدري لك سقاء، وحجري لك وطاء، هل من حسنة عندك تنفعني في مثل هذا اليوم؟ فيقول: يا أماه! أنا لا أنكر شيئاً من ذلك، ولكني أشكو مما تشكين منه، أوَ ليس عندك أنت من حسنة؟ فالأمومة في مثل هذا الموقف والبنوة انتهت، والأب يقول للابن: أعطني، فيقول الابن: أعطني أنت يا أبي! أتذكر كم كنت شفيقاً عليك، وباراً بك، وقد خدمتك لغاية ما مت، فيقول له: يا بني! أنا لم أنسَ ولكني أشكو مما تشكو أنت منه، أليس عندك أنت من حسنة؟
يوم يقول فيه عيسى: يا رب! لا أسألك عن مريم بنت عمران وإنما نفسي نفسي، سيدنا إبراهيم الخليل، وسيدنا موسى الكليم وهم من أولي العزم وسيدنا موسى آخذ بإحدى قوائم العرش، ودعوة الأنبياء جميعاً والملائكة في ذلك اليوم: يا رب سلم! يا ربِ سلم.
فـأبو بكر لم تحتمل بطنه -التي لا تتعود إلا على الحلال- جرعة لبن شك في مصدرها، فبعد ما شرب قال له خادمه: يا خليفة رسول الله! ألا تسألني من أين أتيت به؟ فسأله عن ذلك فقال: تكهنت لقوم في الجاهلية، أي: كنت أعمل كعراف يقرأ الحظ أو كعبقري الفلك أو شيئاً من هذا القبيل فلما مررت عليهم وكان عندهم عرس أعطوني قليلاً من اللبن، فوضع أبو بكر أصبعه في فمه فتقيأ ما شرب ثم نظر إلى السماء وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما علق باللحم والعروق.
فكيف الحال بمن يأخذ مال أخته، أو يغتصب أرض أخيه، فيجب أن يُسمع مثل هذا الكلام بأذن القلب لا بأذن الرأس، ويجب أن ينفتح القلب لمثل هذا الكلام.
والله! لو أدرك المسلمون مسألة هول المطلع يوم القيامة لصلح حالهم كما قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: ثلاث أحزنتني حتى أبكتني: فراق الأحبة محمد عليه الصلاة والسلام وحزبه، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الله عز وجل.
ويروى أن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه عندما يرى امرأته قد أشعلت النار يقرب إصبعه من النار ويقول: يا ابن الخطاب ! ألك صبر على مثل هذا؟ ويبكي حتى تظن زوجته أنه لن يسكت.
والإنسان الذي يدمن شرب الدخان قد يشعر بالحرارة على أصبعه أفلا يتذكر مثل هذا الشخص دخان النار يوم القيامة؟! فالنار أمام فيه ولو نسي نفسه بالكلام ستحرق السيجارة يديه، فهو بذلك يحرق جسمه ويحرق فلوسه ويحرق صحته ويحرق نعمة الله عز وجل، ويدعي أن الشيخ يقول: إنها مكروهة، وهذا خطأ فادح فهي حرام؛ لأن أصل التدخين يلوث الأخلاق ويلوث هواء البيئة الخلقي، فضلاً عن تلويث الهواء النقي على الآخرين، وبعضهم يقول: إن التدخين حرام لكن الشيشة ليست حراماً؛ لأن الشيخ الفلاني أفتى بذلك، فيقتطع ما أعجبه من الفتوى.
ومن الغريب أن نجد في أوساط المسلمين أعداداً كثيرة ممن يدعون الفقه ويتصدرون الفتوى وهم لا يجيدون ولا يتقنون ما يتكلمون فيه، فإن الإنسان -لا قدر الله- إذا أراد أن يؤلف قطعة موسيقى فإنه لا يستطيع إلا إذا أتقن فن الموسيقى، وكذلك في اللعب وفي غيرها.
فالعبد لو وضع الآخرة نصب عينيه لما ظلم الظالم ولما ارتشى المرتشي، ولما اختلس المختلس، ولما كذب الكذاب، فالكذاب يكذب لأنه ظن أن ربنا ما سمعه، والعبد يعصي لأنه يظن أن الله لا يراه، وهذا بسبب انعدام المراقبة التي كانت موجودة في قلوب الصحابة ومنهم أبو بكر الذي سئل: كيف خوفك من الله؟ قال: ما خطوت خطوة إلا ورأيت الله أمامي، وكان رضي الله عنه لا يتحلل من ثيابه بمفرده في الحجرة، فسئل: لماذا تفعل هذا يا خليفة رسول الله؟! قال: أستحي إن ربي معي.
وبهذا تحقق معنى الإحسان الذي هو: (أن تعبد الله كأنك تراك فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، والمصيبة أن يحفظ الإنسان هذا الكلام دون العمل به.
وقد يهتم الناس بالمظاهر فلا يراقبون الله، ومثال ذلك: إذا جاء ولد صغير مع أبيه فإن الناس يمدحون الولد ويمسحون رأسه، بينما لو جاء ولد فدخل الصف الأول ووالده لم يكن معه فإنه سيُنهر ويُزجر.
وكذلك قد يأتي صاحب سيارة أجرة يريد البنزين فيصادف أن يكون العامل مشغولاً، فلا يُجيب صاحب السيارة، وإن أتى صاحب سيارة فخمة فإن العامل سينتفض من عمله ويرحب فيه، وهذا بسبب التلوث الأخلاقي الذي أصابنا، فنحن لا نعاني من تلوث في الهواء فإن هذا قد حمانا الله من عواقبه بأن منحنا مناعات قوية، لكننا نعاني من تلوث خلقي نسأل الله أن يعافينا.
رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال
ومن لا عنده مال فعنه الناس قد مالوا
رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة
ومن لا عنده فضة فعنه الناس منفضة
رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب
ومن لا عنده ذهب فعنه الناس قد ذهبوا
يجب أن نضع الدار الآخرة نصب أعيننا، ونضع مسألة مظالم العباد نصب أعيننا، ويجب على الإنسان أن يذكر نفسه بهول المطلع والوقوف بين يدي الله بين الآونة والأخرى، ويوم ينادي المنادي: تعال هذا فلان ابن فلان من كان له عنده مظلمة فليأتِ يأخذها منه، سواءًَ كانت هذه المظلمة غيبة أو نميمة أو غيرها، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا انتهت حسناته يؤخذ من سيئات المظلومين وتوضع على سيئات الظالم، وهذا هو المفلس الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، ثم يطرح على وجهه في النار والعياذ بالله رب العالمين.
فلهذا يجب أن ينتبه الإنسان فقد يتقبل الله منه في الدنيا عملاً عمله كالصلاة مثلاً فهو يصليها بإتقان وبخشوع وفي جماعة ويحاول ألا يسهو ويبكي فيتقبلها الله، وتكتب في ميزان حسناته، فيأتي شخص يأخذ أجرها بسبب أنه ظلمه، فإن المظلوم يبحث عن الحسنة الخالصة للظالم، وعندما يأخذ حسناتك المظلومون فإنك تصبح مفلساً، فالمسألة تريد مراجعة، فليس المقصود من هذه الحلقات مجرد الاستماع فقط وإنما العمل مطلوب. نسأل الله أن يكون هذا العلم لنا لا علينا.
وبسبب التباعد عن عصر النبوة تغيرت بعض الأمور، فقد قال سيدنا علي رضي الله عنه في سنة ستة وثلاثين هجرية: كان الرجل يأتي -أي في أيام سيدنا رسول الله- فيدخل إلى السوق فيقول: من أعامل؟ فيقال له: عامل من شئت.
وهذا يدل على أن كل التجار في السوق يتصفون بالأمانة!
ثم جاء زمن فيسأل الرجل: من أعامل؟ فيقال: عامل من شئت إلا فلاناً وفلاناً! والبعض قد يقول لك: هذه غيبة، وهذا خطأ ففرق بين الغيبة والنصيحة فعندما أراك تمشي مع واحد ليس بجيد فليس لي أن أسكت، بل من الواجب أن أنصحك، (الدين النصيحة)، فإذاً: هذه ليست غيبة.
فالسوق كله فيه مئات التجار الصالحين ولكن فيهم من هو ليس كذلك، ثم جاء زمن فيسأل الرجل: من أعامل؟ فيقال له: لا تعامل أحداً إلا فلاناً أو فلاناً!
فصار معظم تجار السوق من السيئين، هذا سيدنا علي في سنة ستة وثلاثين هجرية فكيف لو جاء سنة 1412هـ فماذا سيقول؟!
وأبو حنيفة رضي الله عليه كان أكبر تاجر حرير في أرض العراق، عندما باع ابن أخيه ثوباً بأكثر من ثمنه، فرجع أبو حنيفة من الصلاة فلقي الرجل معه الثوب الذي اشتراه من ابن أخيه فقال له: من أين هذا؟ قال له: أتيت به من متجر أبي حنيفة -وما يعرف أن الذي يملكه هو أبو حنيفة - قال له: بكم هذا؟ قال له: بأربعمائة، فقال أبو حنيفة : هذا غالٍ فهو لا يساوي إلا مائتين؛ قال هذا لأنه عارف بضاعته، قال: في بلدتنا يساوي ستمائة، فهو الرابح. فالبعض يقول: ما هي المشلكة، فإنه يذهب في الليل إلى البقال المسكين الذي يشكو نظره ويعطيه جنيهاً شبه ممزق، ويبقى الجنيه السليم في جيبه، وهذا قد آثر نفسه وترك الشر لأخيه، ولن يكمل إيمان أحدنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
فذهب أبو حنيفة وقال لابن أخيه: الثوب هذا لا يساوي إلا مائتين، فكيف تبيعه بأربعمائة، فقال: يا عم هو راضٍ وأنا راضٍ، قال: إذا كان هو قد رضي فإن الله لم يرضَ.
ولهذا قال سيدنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم -والكلام هذا لإخواننا التجار-: (الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون) والجالب هو الذي يجلب السلعة لكي يبعيها بالحلال فإن ربنا يوسع عليه، والمحتكر هو الذي يسمع خبر الغلاء فيخبئ السلع، سواء كانت دواء أو غيره، فإذا جاء المريض إلى صاحب الصيدلية فإنه يكذب بأن الدواء غير موجود بل وقد يحلف، ولكن عندما يقول له: أنا من طرف فلان من الناس ويخرج البطاقة فإنه يقول: كانت آخر واحدة وسأعطيها لك.
فالمحتكر ملعون ومحتكر السلعة كإبليس مطرود من رحمة الله.
ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التناجش فقال: (لا تناجشوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض)، والتناجش هو أن يأتي البائع بمن يزيد له في السلعة وهو لا يريد الشراء بغرض أن يزيد في سعر السلعة على المشتري.
فالسابقون وهم جيل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا رهبان الليل، فرسان النهار رضي الله عنهم، والواحد منهم تكون الآخرة أمامه دائماً ولا تغيب عنه أبداً.
سيدنا أبو بكر في يوم أن مات نادى عائشة ، فقالت: نعم يا أبتي! قال لها: خذي إلى بيت المال الأشياء التي كنت أملكها، فوجدوا عنده زيراً يضع فيه ماء، ورحى يُطحن فيها، وسجادة قديمة من الصوف كان يفرش نصفها ويتغطى هو وزوجته بنصفها، فقال: يا عائشة ! عندما أموت قومي بإرجاع هذا لبيت المال لكي أعود إلى الله كما خرجت إلى الدنيا.
وعمر رضي الله عنه يقول وهو ينازع سكرات الموت: وددت أن كنت قد عشت كفافاً لا عليَّ ولا لي ولا ألي أمر المسلمين يوماً واحداً، وكان يمسك تبنة ويقول: ليتني كنت تبنة، ليت أم عمر لم تلد عمر ، يا ليتني كنت نسياً منسياً.
وكان سيدنا عثمان رضي الله عنه في حجرته في الدور العلوي وكان يقرأ من أواخر سورة التوبة فدخلوا عليه وهو يقرأ: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:128-129]، فقتلوه وسالت دماؤه الزكية على المصحف، وذهب إلى الله عز وجل شهيداً.
ثم جاء علي كرم الله وجهه في ليلة السابع عشر من رمضان وهو ذاهب يصلي الفجر فطعنه ابن ملجم .
وغيرهم أمثال: عمار بن ياسر وبلال وأبو ذر وعبد الرحمن بن عوف فهؤلاء طبقة السابقين.
و سهل بن عبد الله رضي الله عنه قعد مع جماعة أتوا ببطيخ فقالوا له: كل يا سهل ، فامتنع عن الأكل، فسئل إذا ما كان البطيخ فيه شيء فقال: لا أدري كيف كان يأكله رسول الله، أي: لا أعرف الطريقة التي كان يأكل بها.
وكان أنس لا يأكل هو وأمه من إناء واحد، فذهبت تشتكيه إلى رسول الله، فسأله رسول الله عن ذلك فقال: يا رسول الله! أخاف أن تمتد يدي إلى جزء في الصحفة قد وقعت عليه عين أمي فأكون عاقاً لها.
يقول أبو حنيفة : رأينا هذا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، فمن رأى غير ما رأينا فله ما رأى ولنا ما رأينا.
ويقول: مذهبي هو الحديث الصحيح، فإن رأيت مذهبي يخالف الحديث الصحيح فقل بالحديث الصحيح ودع مذهبي.
وكان الإمام الشافعي يقول: ما حاججت أحداً إلا ودعوت الله عز وجل أن يجعل الحجة على لسانه.
يقول الله عز وجل: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ [الواقعة:27-28]، والسدر نوع من الشجر الخالي من الشوك وليس كسدر الدنيا.
ونحن قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في أخراكم من دنياكم إلا الأسماء)، يعني: مجرد مسميات وسأضرب لك مثالاً أوضح: عندما يصعد رواد الفضاء إلى الفضاء فإنهم يريدون تغذية وتغذيتهم ليست كأهل الأرض وإنما يعطونهم مادة فيها بروتين، وكربوهيدرات، وفيتامينات مختلفة، وهذه تغني عن الطعام، فإذا كنا في الدنيا قد عرفنا أشياء بالشكل هذا، فما بالك بما يصنعه الملك سبحانه لأهل الجنة، يقول تعالى عن ثمار أهل الجنة: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25]، ويقال: كل يا ولي الرحمن! إن اللون واحد ولكن الطعم مختلف.
في الجنة ما لا أذن سمعت ولا عين رأت ولا خطر على قلب بشر.
و(المنضود) معناه أنه خالٍ من الشوك، فهو أصلاً فيه شوك في الدنيا، لكنه في الجنة منزوع شوكه، لأنه لا يوجد أي نوع من الألم في الجنة.
حتى امرأتك في الجنة لن تسمع منها إلا كل كلام سوي طيب.
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الواقعة:29]، الطلح هو الموز المنتظم في شكله، حلو لا تراب فيه ولا أي شيء من شوائب موز الدنيا.
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة:30]، وقد يقول قائل: من أين يأتي الله به.
وربنا يوم القيامة يبدل الأرض غير الأرض والسماوات، والشمس تترك مدارها الدنيوي ولكن الظل في الجنة نوع من النعيم في الجنة يعني: ربنا جعل من آياته في الدنيا الظل، وجعل الشمس عليه دليلاً، فيبدأ الظل يكبر ثم يصغر منذ طلوع الشمس إلى غروبها لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس:5]، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، لكن ظل الجنة نعيم من نعيمها.
وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ [الواقعة:31]، سبحان الذي سكبه وسبحان من حده، هو مسكوب يجري في مجرى لا يعكر صفو طعمه، قال الله عنه في سورة محمد: أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد:15].
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ [الواقعة:32]، وربنا عندما يقول: كثيرة فلا يمكن للإنسان أن يتصور كميتها لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة:33]، أي: أن الفاكهة التي لا يجدها الإنسان في الشتاء موجودة بشكل دائم في الجنة، فأي فاكهة تتخيلها موجودة في جنة الرحمن، اللهم لا تحرمنا منها يا رب العالمين.
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة:34]، الفرش هنا كناية عن الزوجات لكن القرآن يتحدث بأدب رفيع، وليس مثل جماعة الأدب الذين ما عندهم أدب في الدنيا الذين يكتبون القصة وغيرها.
إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً [الواقعة:35]، وهذا يدل على أن الله يغير خلقة زوجتك، (فلو بصقت في البحر الملح الأجاج لحولته عذباً فراتاً). (لو خرج أنملها يعني: طرف سبابتها إلى الناس في ليلة داجية لحولته نهاراً مضيئاً)، ترى بياض وجهك في صفحة وجهها، كلامها طيب، وشكلها طيب.
ربنا يقول: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:35-38]، عرب: جمع عروب، والعروب هي المتحببة لزوجها، وليست صاحبة شك في زوجها، فلا وجود للشك في الجنة وإنما اطمئنان؛ لأن الله يقول: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:49]، مكنون لا يحل إلا لصاحبه، وهذا جزاء تستر النساء المسلمات في الدنيا.
إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:35-40]، لكن في السابقين قال: ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14].
وفي آخر السورة تحدث حالة نزع الروح وهي أصعب اللحظات عند المؤمن.
قال تعالى: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة:83]، أي: الروح وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ [الواقعة:84]، أي: الميت والناس حوله ينظرون إليه كيف تنفس بصعوبة، وكيف أنه لا يستطيع الكلام وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الواقعة:85]، فنحن مجتمعون حوله وأقرب ما نكون إلى جسمه، ولكن الله أقرب منا إليه.
فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:86-87]، فلا يستطيع أحد أن يرجع الروح إلى صاحبها بعد إخراجها منة.
عجز الطب والطبيب الحكيمُ وخطى الموت أسرعت لا تريمُ
فما دام الله عز وجل أقرب إليه منا والملائكة قد نزلت لقبض روحه فقد أصبح في عالم غير عالمنا، ويمكن أن يكون مفتوح العينين لكنه ليس قادراً على أن يتكلم، ولو نطق لقال لنا: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
فهذه هي أصعب اللحظات، ولكن رسول الله يقول: (من أحب لقاء الله أحب لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)، ويحب لقاء الله بأن يقدم سابقة أعمال طيبة، ومن كان هذا حاله فإنه يقول للملكين: ألدار الهموم والأحزان تريدان أن ترجعاني؟ قدماني إلى ربي قدماني، فقد تركت الدنيا والمال والعيال، وجئت هنا برحمة الله، أما من كان عاصياً لا يعرف الله في الدنيا فإنه يقول: أرجعوني لعلي أعمال صالحاً فيما تركت، وقد كان في مهلة ثلاثين سنة وأربعين سنة وستين سنة، وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]، فالله يعلم ما توسوس به نفسك، قال تعالى: وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16].
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الواقعة:85-89]، الروح: هو الراحة.
وكان سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام عندما يزور المقابر يقول: (يا خالق هذه الأجسام البالية! أدخل عليها روحاً من عندك وسلاماً من عندي) وكان يقول هذا عليه الصلاة والسلام: (إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن كان يسيراً فما بعده أيسر وإن كان عسيراً فما بعده أشد)، أي: أن الكتاب يقرأ من عنوانه، فأما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الواقعة:89]، أي: أنه يفتح له باب يرى مقعده من الجنة فيقول: يا رب! عجل بالساعة.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:90-91]، سلم أصحاب اليمين من كل سوء؛ لأن حسناتهم غلبت سيئاتهم والله سبحانه وتعالى قد تولاهم بفضله وبرحمته.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ [الواقعة:92]، أي: مكذبين بالآخرة، ومكذبين للعلماء، ومكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكذبين لكل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (الضالين) أي: البعيدين عن طريق الصواب وطريق الهداية.
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ [الواقعة:93]، وفي بعض البلاد العربية يسمى الفندق: نزلاً، فالنزل هو المكان الذي سيبيت ويقعد ويعيش فيه.
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:94-96]، ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في ركوعكم)، ولما نزل قول الله عز وجل: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، قال: (اجعلوها في سجودكم)، لكن بعض الناس قد يزيد من الدعاء في السجود فتسمع كلاماً غريباً وكذلك في الركوع، وهذا لا يجوز وهو محرم، قال عليه الصلاة والسلام: (من جاء في دينه هذا بشيء من عنده فهو عليه رد)، والاقتصاد في السنة أحسن من الاجتهاد في البدعة، والزيادة في الدين كالنقص فيه، لأن الدين قد رضيه الله لنا قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
لكن يوجد نوع آخر: كأن تعمل معاصي وأنت تعجب بستر الله عليك فهذا اسمه استدراج، فيتركك مرة ومرتين وعشراً وعشرين، فإما أنك تستهزئ بمقام الله عز وجل والعياذ بالله، وإما أنك لست موقناً أن عذاب ربك لشديد، ففي هذه الحالة تفضح على رءوس الأشهاد يوم القيامة.
وقوله: لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، كقوله تعالى: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]، مكتوبة سواء كانت كبيرة أو صغيرة.
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19]، وقد ضربنا المثل بأن هذا مثل الولد الذي أخذ الشهادة وفيها الدرجات النهائية فكلما يقابل أحداً يخبره بالنتيجة الرائعة.
إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20]، أي: أني أيقنت وليس ظن شك وريبة.
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة:21]، فالعيشة نفسها راضية فكيف بصاحبها؟!
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [الحاقة:22-23]، يعني على سبيل المثال: أنك نمت على سريرك في الجنة، والتفاحة بعيدة عنك فتقول: أنا أريد التفاحة تلك، فيميل الغصن إلى فمك، لكي لا تتعب وتمد يدك.
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، أي: من صيام رمضان؟ وصيام كل إثنين وخميس؟ وقيام الليل، أي فقد تعبتم وتعذبتم والناس لا يشعرون بشيء مما تتعبون فيه بل وقد يسخرون منكم، ولكنكم اليوم في الراحة الأبدية، يا أهل الجنة! خلود بلا موت، يا أهل النار! خلود بلا موت.
إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:22-24]، أي: عندما تنظر في وجهه فإن البشر والنضارة ينطق في الوجه وقد جاءته هذه النضارة منذ دخوله الجنة، فقد سقوه شربة من حوض الكوثر فحصل له أشياء منها أنه: نزع الغل والحقد والحسد من القلب فما يحقد على أحد في الجنة، وأن وجهه يصبح نضراً، ويرضى عن الله ويرضى الله عنه.
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ [المطففين:25]، الرحيق هو صفوة الخمر، من الخمر التي لا تختل العقول ولا يسكر ولا يهذي ولا يخرف صاحبها.
خِتَامُهُ مِسْكٌ [المطففين:26]، أي: طعم فمه مسك في آخر ما يشرب.
ومن ذهب إلى مكة وقبل الحجر الأسود فإنه يشم رائحة زكية هي رائحة المسك، والجرام من هذا المسك الدنيوي بسبعة آلاف ريال، فما بالك بمسك الجنة؟!!
وفي الجنة عندما يمطر السحاب فوقك فإنها تمطر مسكاً، والجدران يوم القيامة مبنية من لبنة من فضة ولبنة من ذهب.
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، هو التنافس الحقيقي.
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:27-28]، أي: يشرب منها المقربون، وتسنيم من سنام الجمل أي أنها عين منتفخة مثل سنام الجمل، والله أعلم برزقه وفضله سبحانه وتعالى، أي: أن الرحيق الذي آخره مسك ممزوج بعين التسنيم.
آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الذاريات:16]، وإليك صفات المحسنين عسى أن نكون مثلهم: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17].
فالعجب ممن يقول: أنا أنام ثمان ساعات في اليوم وهذا ضروري، ومثل هذا لو عاش ستين سنة فإنه قد نام من عمره عشرين سنة، فيبقى من الستين أربعين سنة منها خمس عشرة سنة مع عيالك، فتبقى خمس وعشرون وهكذا يضيع العمر.
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، فالاستثناء هو النوم، والقاعدة هي القيام.
وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18]، أول الليل ينادي المنادي: ألا ليحكم العابدون. وفي آخر الليل ينادي: ألا ليحكم المستغفرون بالأسحار، وبعد أن يأذن الفجر ينادي: ألا ليحكم الغافلون.
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19]، أي: حق له سبحانه لا يأتي به الإنسان من نفسه وإنما هو حق واجب السداد.
وفي سورة السجدة ما يعضد الآيات السابقة: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16]، تتجافى جاءت من الفعل جفى ومعناه: عدم القبول والبعد.
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، فهم قاموا بمثل هذا العمل بسبب خوفهم، فحاول أن تجعل خوفك أكبر من الرجاء؛ لأنك عندما تخاف اليوم تأمن غداً بإذن الله، ولو أمنت الله اليوم فستخاف غداً، قال تعالى في الحديث القدسي: (لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين).
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:16-17]، فلا أحد يعرف كم مقدار الخير الذي أعده للمؤمنين في الآخرة جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17].
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ [الطور:20]، أي: موصولة ببعضها البعض؛ لأن الاجتماع مع الإخوان فيه سرور وفرح، ولذلك قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (المسافر شيطان)؛ لأنه لوحده فيمكن أن يضله الشيطان في الطريق، لكن عندما يكون معه شخص آخر فإنه سيدله على الخير ويعينه على الصلاة.
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:20-21]، فنفرض أن الأسرة كلها صالحة ودخلت الجنة فكان الأب والأم في درجة عالية عن الأولاد أو العكس فالأولاد كانت أعمالهم طيبة لدرجة أنهم أخذوا درجة عالية أعلى من الأب والأم، وهذا قد يحصل في الدنيا.
ويريد أفراد الأسرة أن يأتلفوا ويجلسوا مع بعض كما كانوا في الدنيا، فيأذن الله للذين في الدرجة الأقل إلى الدرجة الأعلى، فيرفع الدني إلى العلي وليس فيها دني.
ولهذا يسأل أبو ذر الرسول عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! كل من قال: لا إله إلا الله يدخل الجنة؟ فقال: نعم، قال: وإن سرق وإن زنى -فأعادها
وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21]، أي ما أنقصنا من أجور أعمالهم شيئاً كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21].
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الطور:22]، فليست ميتة، وهي طرية لم تمر عليها فترة كبيرة بعد ما ذبحت.
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ [الطور:23]، أي: لا تجعلهم آثمين، فالكأس لا يقال في اللغة العربية إلا عندما يكون مليئاً بالخمر، وليس المقصود بقوله: يَتَنَازَعُونَ [الطور:23]، أن في الجنة نزاعاً ومضاربات، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتنازعون البطيخ، أي يقومون بتناقلها من واحد إلى واحد والذي تسقط منه هو الذي يدفع ثمنها، وهذا نوع من الترفيه المشروع، ولكنهم كانوا رجالاً في الوغى وأي رجال.
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [الطور:24]، يا سلام، الغلمان هم الخدم الذين في الجنة مثل: اللؤلؤ، فكيف يكون المخدوم؟!
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الطور:25]، أي: أهل النعيم، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26]، أي: أنهم كانوا خائفين في الدنيا من الله.
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27]، أبعدنا عن نار جهنم، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:28]، وفي قراءة: أَنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:28]، يعني: هو اللطيف الرحيم، اللهم كن براً بنا يا رب العالمين ورحيماً بنا.
أَتْرَابًا [النبأ:33]، وجاءت امرأة عجوز إلى سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! ادع الله أن أكون معك في الجنة، قال لها: لن يدخل الجنة عجوز)، فجلست تبكي فقال: ألم تقرئي قول الله عز وجل: وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا [النبأ:33] أي: الكل في سن واحد.
وَكَأْسًا دِهَاقًا [النبأ:34]، الكأس الدهاق هو المعبأ، الذي يتعبأ على قدر حاجته، ويشرب أهل الجنة لا عن عطش لكن عن تلذذ، ويأكل أهل الجنة لا عن جوع بل عن تلذذ، ولو ظل أهل الجنة يأكلون ألف سنة فإن ذلك بقدرتهم.
لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا [النبأ:35]، أي: لا يوجد فيها لغو وهو الكلام الفارغ، ولا كذب، والكذب صعب أعاذنا الله.
جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا [النبأ:36]، كل هذا رحمة من الله عز وجل، رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ [النبأ:37-38]، الروح: هو سيدنا جبريل، والملائكة صف لا يصدرون أي كلمة إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا [النبأ:38-39]، الذي يريد أن ينجو يتخذ مرجعاً إلى الله عز وجل في كل عمله في الدنيا، إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]، وهو يقول ذلك عندما يرى الحيوانات قد قضى الله بينها فيأمرها أن تكون تراباً، فيتمنى الكافر ذلك.
إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:39-42]، ما الذي أدخلكم سقر؟ وما الذي وضعكم في المكان السيئ هذا؟
قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:43]، يعني: أن أي واحد كان لا يصلي في الدنيا فلازم يوضع في مثل هذا المكان وسميت سقر بهذا الاسم؛ لأنها تسلط على لحوم المعذبين في النار حتى لا تبقي إلا العظم، يعني: أنها تشوي اللحم وتنضجه ويتساقط وبعد ذلك يعود اللحم مرة أخرى فيكسو العظم وهكذا، هذا هو العذاب في سقر والعياذ بالله.
فالصلاة أمرها عظيم وكل شيء يتأجل إلا الصلاة، ما عدا حالات الضرورة الماسة كأن يكون طبيباً قد فتح بطن المريض لعمل عملية له ففات وقت الصلاة وهو يعمل العملية فلا بأس، وكذلك مراقب الطائرات في برج المراقبة الذي إن قام للصلاة قد تتعرض الطائرات للتصادم فلا بأس.
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر:44]، أي: كنا نمنع الزكاة ولا نتصدق، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر:45]، فكل من جاء برأي أو فتوى باطلة سمعه، وإن كان فيها تحليل لما حرم الله.
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:46-47]، وهو الموت، فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، صدق الله، وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر