الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فنسأل الله عز وجل أن يجعل هذه الجلسة خالصة لوجهه الكريم، وأن يجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل بيننا شقياً ولا محروماً.
اللهم تب على كل عاص، واهد كل ضال، واشف كل مريض، وارحم كل ميت، واشرح صدر كل ذي صدر ضيق.
اللهم اغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، واجعل -اللهم- خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.
اللهم اطرد عن بيوتنا وذرياتنا شياطين الإنس والجن، واجعل بيوتنا ذاكرة لك آناء الليل وأطراف النهار، وأكرمنا بالإيمان يا أرحم الرحمين.
اللهم كما رزقتنا الإسلام من غير أن نسألك ارزقنا الجنة ونحن نسألك، اللهم أدخلنا الجنة دون سابقة عذاب.
ما زلنا مع ابن قيم الجوزية رضوان الله عليه تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم الذي كله فوائد، وهو كتاب الفوائد، ولعل هذا الكتاب بفضل الله عز وجل قد شرح الله به صدوراً كثيرة، وأضاء لنا علامات على طريق الهداية لعلها تكون معالم بداية في السير إلى الله عز وجل.
ولعلنا نقول: إن كتاب الفوائد يتحدث -علاوة على مسألة العقيدة- عن صلاح القلوب، فالذي يلاحظ كلمات ابن قيم الجوزية رضوان الله عليه وجزاه الله عن الإسلام خيراً، يجد أنه يركز على مسألة صلاح القلوب؛ لأن القلب إذا صلح صلح الجسد، فهو كالسلطان الذي تصلح الرعية بصلاحه وتفسد بفساده: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
طهارة الظاهر من النجاسات، وطهارة الجوارح من المعاصي، وطهارة المعدة من الحرام، ثم طهارة القلب من الأنجاس والأخباث والرذائل التي تعلق بالقلب، ولا يطهر القلب الذي اختلط حلاله بحرامه، وصار الذي يدعو إلى الله عز وجل ويأخذ بأيدي الناس إلى طريق قويم يتهم باتهامات شتى.
ولكننا نحاول أن نسلك إلى الله عز وجل طريقاً مستقيماً وصراطاً قويماً، فقد قدر علينا أن نسبح ضد التيار، والسباحة ضد التيار ليست أمراً ميسوراً، وإنما هي أمر له تبعاته وله عقباته، والطريق ليس ممهداً بالورود، بل هو كما قال ابن قيم الجوزية : طريق تعب فيه آدم، وناح من أجله نوح، وقاسى فيه الضر أيوب، ولاقى أنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم.
وإن الجنة حفت بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، فأصبح دخول النار سهلاً؛ لأنها محاطة بالشهوات، محاطة بما تحبه النفس وبما تشتهيه.
وطريق الجنة محفوف بالمكاره، والمكاره أشياء تكون دائماً ضد النفس الإنسانية، والنفس الإنسانية دائماً تحب الراحة، ولذلك سئل ابن قيم الجوزية مرة عن قصة الطريق إلى الله، فذكر قصة حدثت أمامه بين أحد المرجئة وابن تيمية شيخ الإسلام، فقد قال لـابن تيمية : يا ابن تيمية ! كم تتعب نفسك؟! يعني: ليست لك راحة، وليس لك ليل تنام فيه، وليس لك نهار ترتاح فيه، فكل حياتك للناس وللدعوة. قال: راحتها أريد. يعني: كل هذا التعب من أجل الراحة.
فهذا إنسان فقه ما وراء الموت وما عند الله عز وجل وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64] فدار الآخرة هي الدار الحقة، فالله عز وجل يقول: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:27-28]، فهذه النفس يقول الله لها: ارجعي، وما قال لها: تعالي، أو: اجلسي، ولكن قال: ارْجِعِي ، والرجوع يكون إلى المكان الأساسي الذي هو البيت، فربنا عندما يقول للنفس المؤمنة: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ يدل قوله على مكانها الأساسي، فالدنيا كلها دار ضيافة، والضيافة أيام قليلة، ثم نعود إلى رب العباد، فاللهم ارجعنا إليك مؤمنين مسلمين مخبتين منيبين يا رب العالمين.
يقول ابن القيم : ألقى بذر الصبر في مزرعة: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، وكأن الصبر له جذور، وجذور الصبر تنتج الإيمان، وتنتج رضاً، وتنتج يقيناً، وتنتج ثقة بالله عز وجل، كما قالت السيدة عائشة في أبي بكر : لقد كنت ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله كالجبل الأشم لا تزيلك العواصف ولا تزحزحك.
وكأن الرسل لهم مزرعة، وكل رسول يبذر الصبر فيها، ووالله لا يصلح الإيمان بدون صبر أبداً، كما قال سيدنا علي :
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري سأصبر حتى يحكم الله في أمري
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني صبور على شيء أمر من الصبر
يعني: أنه سيكون صابراً إلى درجة أن يصير الاسم صفة.
فالرسل لهم مزرعة، وابن القيم يتكلم عن مزرعة الدعوة، فكل رسول يأتي بواجبه، والرسول بذر كما بذر أولو العزم.
قال تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ، ولما بذر أولو العزم من الرسل الصبر حصدوا النصر، ففي الحديث: (إن النصر مع الصبر).
فإذا كانت هناك امرأة أتعبها زوجها وأرادت أن تنتصر في الدنيا والآخرة فبالصبر، وقد قال سيدنا علي : من أصيب بمصيبة فصبر كان له الأجر وقد نفذ أمر الله، ومن أصيب بمصيبة فلم يصبر كان عليه الوزر وقد نفذ أمر الله.
فالصبر مسألة مهمة جداً، وهو يعطي ثقة للإنسان، فبعدما تذهب الأزمة يكون الإنسان فخوراً أمام نفسه، فيقول: الحمد لله، ولكن عندما ينهزم يشعر بالإحباط.
والخزامى عبارة عن نباتات في جزيرة العرب لها رائحة طيبة.
إذاً: والحرمات قصاص، فدخل مكة دخولاً ما دخله أحد قبله ولا بعده، دخلها وحوله المهاجرون والأنصار لا يبين منهم إلا الحدق، أي: أعينهم، وهذا دليل على أنهم كانوا متغطين بالأسلحة والدروع، فدخلوا مكة منتصرين بفضل الله بعد أن خرجوا منها مقهورين.
وكان الصحابة على مراتبهم، والملائكة فوق رءوسهم، وجبريل يتردد بينه وبين ربه، وقد أباح له حرمه الذي لم يحله لأحد سواه.
فربنا أباح مكة لسيدنا الحبيب ساعة، ولم يبحها لأحد من بعده فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن مكة بعد ذلك حرام، فلا أحد يستطيع أن يدخلها، فالبيت له رب يحميه، ولو أن المسلمين كلهم لم يستطيعوا أن يدافعوا عن البيت الحرام فإن ربنا سيدافع عنه؛ لأن هناك ملائكة تطوف ليل نهار تحرس البيت الحرام.
يقول: فلما قايس بين هذا اليوم -الذي هو يوم فتح مكة- وبين يوم: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ يوم اجتمعوا ليروا ما يعملونه به، فأنزل تعالى قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
والمكر من العبد صفة غير جيدة، فمكر العبد لف ودوران؛ لأنك عندما تمكر تلف وتدور، ولكن المكر من الرب تدبير وإحاطة.
ويعني بذلك قياس يوم خروجه من مكة بيوم دخولها، وشتان بين اليومين، فدائماً ينصر الله الرسل، وفي البدايات تكون القوى العامة هي الغالبة، والعبرة بالنهاية.
فسيدنا موسى خرج من مصر كما قال تعالى: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21]، وعندما عاد دخل على فرعون وقال له: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ [طه:46-47]، وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه:47] وكل ذلك كلام قوي.
وهكذا الحبيب المصطفى خرج من مكة؛ لأن الله أذن له بالهجرة؛ لأنها ليست مكاناً للدعوة، وذهب إلى المدينة ورجع بعد ثمان سنوات منتصراً فاتحاً ولحيته تمس قربوس سرجه خضوعاً وذلاً لمن ألبسه ثوب هذا العز الذي رفعت إليه فيه الخليقة رءوسها ومدت إليه الملوك أعناقها، فدخل مكة مالكاً مؤيداً منصوراً وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يجر في الرمضاء على جمر الفتنة.
ويروى: أن الحجاج قال يوماً لمن معه: ائتوا بأعرابي يأكل معي فجاء الأعرابي، فقال له: تعال فاجلس لتأكل معي، فقال له: دعاني من هو خير منك، قال له: من؟ قال: دعاني ربي إلى الصيام فصمت، فأنا صائم اليوم. قال له: كل اليوم وصم غداً، قال: هل يضمن لي الأمير أن أعيش إلى الغد، فقال له: إنه طعام طيب، فقال: والله ما طيبه خبازك ولا عجانك ولا طباخك، ولكن طيبته العافية، فقال له: إن اليوم شديد الحرارة، فقال: لقد صمت ليوم هو أشد منه حراً، قال: أتحفظ شيئاً من القرآن يا أعرابي؟ قال له: نعم، قال له: اقرأ، قال له: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجاً.
فقال له: ويحك، يدخلون في دين الله. فقال: كان ذلك في عهد النبي وعهد صحابته، أما في عهدكم أنتم فيخرجون من دين الله. وهذه كلمة حق عند سلطان جائر.
يقول: فلما جلس الرسول صلى الله عليه وسلم على منبر العلم وما نزل عنه قط مدت الملوك أعناقها بالخضوع إليه، فمنهم من سلم إليه مفاتيح البلاد، ومنهم من سأله الموادعة والصلح، ومنهم من أقر بالجزية والصغار، ومنهم من أخذ في الجمع والتأهب للحرب، ولم يدر أنه لم يزد على جمع الغنائم وسوق الأسارى إليه.
يعني أن الذي كان يجمع من أجل أن يحارب الرسول لم يدر أنه لا يجمع إلا الغنائم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والأسرى.
فهو منشور، والمنشور في آخره توقيع: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:1-2] جاءه رسول ربه ليخيره بين المقام في الدنيا وبين لقائه، فاختار لقاء ربه شوقاً إليه، فتزينت الجنان ليوم قدوم روحه الكريمة لا كزينة المدينة يوم قدوم الملك.
وإذا كان عرش الرحمن قد اهتز لموت بعض أتباعه واستبشاراً بقدوم روحه، فكيف بروح سيد الخلائق؟!
ستعلم يوم الحشر أي سريرة تكون عليها يوم تبلى السرائر
يعني: أن يوم تمتحن ضمائر العباد، فانظر ما الذي أوقفك بغير بابه، وما الذي جعلك بعيداً عن جنابه، ولعل الجملة مأخوذة من كلام سيدنا عمر عندما كان يقول: يا رب! لائذ ببابك عائذ بجنابك، لا تطردني من رحابك.
قال رحمه الله تعالى: يا مغروراً بالأماني! لعن إبليس وأهبط من منزل العز لترك سجدة واحدة أمر بها.
يعني: أن إبليس امتنع عن سجدة، فأخذ بسببها بالغضب والعياذ بالله، يريد أن يوضح لنا أنه قد يحبط عمل العبد من غير أن يعرف، ولذلك قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، فالعمل قد يحبط وأنا أرفع صوتي على صوت رسول الله، وهذا مثال، فالرسول يقول ويأمر، وقد قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فتقول: لا، اترك هذا الكلام.
فإبليس أهبط من منزل العز بترك سجدة أمر بها، ونحن كم أمرً ضيعناه؟!
قال: وأخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها.
حيث قال الله تعالى له: لا تأكل من الشجرة، فوضع في فمه أول لقمة فأخرج منها.
قال: حجب القاتل عنها بعد أن رآها عياناً بملء كف من دم.
يعني أن القاتل المسيل لدم بمقدار الكف لن يدخل الجنة والعياذ بالله رب العالمين، فكيف بمن يقتل الشعوب؟!
وقد قيل:
ربما الزاني يتوب ربما الماء يروب
ربما يحمل زيت في ثقوب
ربما يهدى العاصي فيعفو عنه غفار الذنوب
لكن لن يبرأ الحكام في كل بلاد العرب من دم الشعوب
يقول: حجب القاتل عنها بعد أن رآها عياناً بملء كف من دم، وأمر بقتل الزاني أشنع القتلات بإيلاج قدر الأنملة فيما لا يحل، وأمر بإيساع الظهر سياطاً بكلمة قذف أو بقطرة من سكر.
فلو كنا نطبق الأحكام فسمعنا في الشارع شخصاً يقول لآخر: يا ابن كذا، فإنا نأتي به فنقول له: أمعك أربعة شهود على هذا الكلام الذي تقوله؟ فإن قال: لا، قلنا: اجلدوه ثمانين جلدة، فهذا حد القذف.
ولو أن شخصاً شرب ملعقة خمر فإنا نجلده ثمانين جلدة.
يقول: لا تستهن بالأعمال، القضية عسيرة.
قال: وأبان عضواً من أعضائك بثلاثة دراهم.
يعني: عندما تسرق ثلاثة دراهم تقطع يدك.
قال: فلا تأمنه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيه ولا يخاف عقباها.
فقد دخلت امرأة النار في هرة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، وإن الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة، فإذا كان عند الموت جار في الوصية فيختم له بسوء عمله فيدخل النار.
وفي موسم حج قريب كان رجل يطوف، وبعد أن أكمل الطواف دخل في حجر إسماعيل وسجد سجدة تحت الميزاب، وأطال السجدة، وكان أمير مكة يصلي، فرأى هذا الرجل قد أطال كثيراً، فلمس الرجل فوقع ميتاً على الأرض وقد فاضت روحه، فاهتم الأمير بالمسألة، وقال: أريد أن أعرف اسم هذا الرجل، فعلم أن هذا الرجل جزائري، فبعث إلى اثنين من أهله ليأتيا على حسابه إلى مكة، فقال الأمير: احكوا لي حكاية هذا الرجل. فقالا: إن هذا الرجل له اثنتان وستون سنة، وقد أحيل على المعاش منذ سنتين، ولم يركع ركعة لله، وقبل موسم الحج قام في الليل فجأة وقال: أنا تبت إلى الله، وبدأ يصلي، فلما وقف يصلي دخلت النورانية قلبه، فقال: أريد أن أحج، فقالوا: كيف تحج، إنك في عمرك لم تصل؟! فقال: أنا أريد أن أحج، أريد أن يتوب الله علي، ولعل الله يكرمني فأموت هنالك في جانب الكعبة.
فالأعمال بخواتيمها، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب.
فالعمر بآخره والعمل بخاتمته، ومن أحدث قبل السلام بطل ما مضى من صلاته، ومن أفطر قبل غروب الشمس ذهب صيامه ضائعاً، ومن أساء في آخر عمره لقي ربه بذلك الوجه.
كم جاء الثواب يسعى إليك، فوقف بالباب، فرده بواب (سوف) و(لعل) و(عسى).
ومعنى هذا الكلام كحال شخص منكم مر على صاحبه، فقال: يا فلان! إن هنالك درساً في النادي الأهلي ليس له نظير، وهناك شيخ في المنطقة الفلانية، فقال له: سآتي في الأسبوع الآتي. فهذا هو بواب (سوف) و(لعل)، فضاع عليه الخير.
يقول: كيف يطلب الفلاح بين إيمان ناقص، وكيف تعرف أن الإيمان ناقص؟ انظر إلى كلمات الشكوى من الدنيا كم مقدارها، وكلمات الشكوى من الذنوب كم مقدارها، والإيمان الناقص تعرفه بشدة تحت الأزمات.
وكيف يطلب الفلاح مع أمل زائد، فكله أمل، كما قال تعالى: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ [المعارج:38]، ومرض لا طبيب له ولا عائد، وهو مرض البعد عن الله، وهوى مستيقظ، وعقل راقد لا يفكر.
إخواني! لو أن شخصاً مسافراً إلى الإسكندرية مدة يومين فإنه يحجز ويجهز التذكرة ويجهز أمتعته ويذهب إلى المحطة مبكراً؛ لأنه ذاهب إلى الإسكندرية يومين، فكيف بذاهب إلى مكان لن يرجع منه مرة أخرى؟!
يقول: سابحاً في لجة جهله، فعنده جهل؛ لأن المعاصي تعمي وتصم، مستوحشاً من ربه مستأنساً بخلقه، فعندما يجلس في درس علم يقول: ما هذا؟! إن وراءنا شغلاً، ولو جلس أمام المباراة أو أمام المسرحية ثلاث ساعات لجلس وهو مرتاح؛ لأن هذه جامعة هوى النفس.
وذكر الناس فاكهته وقوته، وذكر الله حبسه وموته، فإن قيل له: هناك درس علم، يقول: هناك فلانة بطلة المسلسل الأخير.
يقول: لله منه جزء يسير من ظاهره، وليس له جزء يسير من قلبه، بل جزء يسير من ظاهره. ولذلك نجد أنفسنا كاذبين في الصلاة حين نقول: الله أكبر، فما معنى (الله أكبر)،؟! إنه تعالى أكبر من كل شيء.
فعندما آتي إلى الصلاة وتأتيني المشكلة والأولاد والمال والمرأة والجار والبيت يكون قد صار هناك في الصلاة شيء أكبر من الله.
يقول: لله منه جزء يسير من ظاهره، وقلبه ويقينه لغيره.
فلماذا كان آدم آخر المخلوقات؟! فالله عز وجل خلق الأرض وما فيها، والسماء وما فيها، والبحار والمحيطات والجن والحيوانات والأشجار والهواء والماء، وبعد هذا كله خلق آدم عليه السلام؛ وذلك كله من باب تمهيد الدار قبل الساكن، فهذا أولاً.
ثانياً: أن خلق السماوات والأرض والقمر والبر والبحر كان من أجل الإنسان، فلنا مكانة عند الله، ألسنا نحن الخلفاء؟! ولكن -يا ترى- هل نحن خلفاء بالحق أو بالباطل؟! نسأل الله أن يجعلنا خلفاء بالحق.
ثالثاً: أن أحذق الصناع يختم عمله بأحسنه وغايته، كما يبدؤه بأساسه ومبادئه.
فأنت تجهز لابنك الشقة بعمل الخرسانة ونحوها، وآخر شيء هو ما يعمله النقاش، فأجمل شيء في الشقة البياض والنقش الذي فيها.
فـابن القيم يقول: أحذق الصناع يختم عمله بأحسنه.
رابعاً: أن النفوس متطلعة إلى النهايات والأواخر دائماً، ولهذا قال موسى للسحرة: أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ [يونس:80]، فلما رأى الناس فعلهم تطلعوا إلى ما يأتي بعده.
ولذلك في الإعلام عندما يصعد الممثلون ليحيوا الجمهور يصعد بعدهم البطل، فالنفوس متطلعة للنهايات، فلما رأى الناس فعلهم تطلعوا إليه.
خامساً: أن الله سبحانه أخر أفضل الكتب والأنبياء والأمم إلى آخر الزمان، وجعل الآخرة خيراً من الأولى، والنهايات أكمل من البدايات.
فانظر إلى التوافق الغريب، وأكاد أقول: إن هذا إلهام من الله لـابن القيم .
فكم بين قول الملك للرسول: اقرأ، فيقول: ما أنا بقارئ، وبين قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3].
فانظر إلى البداية كيف كانت والنهاية كيف هي، ففي البداية يقال له: اقرأ، فيقول: ما أنا بقارئ.
في سنة ثمانية وسبعين كان هناك إحصائية تقول: عندما نتحلل إلى عناصرنا الأساسية نعود إلى عناصر الصوديوم والكالسيوم والحديد والفسفور والكبريت والماء والدهون، فوجدوا ابن آدم فيه كمية من الكالسيوم أو الجير تكفي لتبييض عش دجاج صغير، وفيه كمية من الدهون تصنع أربع قطع صابون من القطع المتوسطة، وفيه كمية الفسفور تصنع ثلاثين رأس عود كبريت، وفيه كمية من الماء تبلع عشرة جالونات ماء، وكمية من الكبريت تكفي لتطهير جلد كلب من البراغيث، فقوموا هذه المواد بالفلوس فوجدوا أنها تساوي جنيهاً ونصفاً، فأنت كمادة لا تساوي كيلو من اللحم كمادة، ولكنك بالروح تساوي عند الله شيئاً عظيماً، وانظر إلى حديث رسول الله: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
وفي منطق الناس يقال: بطل كمال الأجسام! والله عز وجل يقول: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]، ولقد كان سيدنا ابن مسعود نحيفاً، ولما ضحك الصحابة من دقة ساقه قال الحبيب: (أتضحكون من دقة ساق
سادساً: أنه سبحانه جمع ما فرقه في العالم في آدم، فهو العالم الصغير، وفيه ما في العالم الكبير.
ولذلك قال الإمام علي :
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
فالعالم كله موجود في ابن آدم، فإذا ارتقى صار سماء، وإذا سفل صار أرضاً.
سابعاً: أنه خلاصة الوجود وثمرته، فناسب أن يكون خلقه بعد المخلوقات.
فهو ثمرة الموجودات كلها.
ثامناً: إن من كرامته على خالقه أنه هيأ له مصالحه وحوائجه وآلات معيشته وأسباب حياته، فما رفع رأسه إلا وذلك كله حاضر.
فربنا هيأ الأرض بالذي فيها من أجل آدم.
تاسعاً: أنه سبحانه أراد أن يظهر شرفه وفضله على سائر المخلوقات، فقدمها عليه في الخلق، ولهذا قالت الملائكة: ليخلق ربنا ما شاء، فلن يخلق خلقاً أكرم عليه منا. فلما خلق آدم وأمرهم بالسجود له ظهر فضله وشرفه عليهم بالعلم والمعرفة، فلما وقع في الذنب ظنت الملائكة أن ذلك الفضل قد نسخ ولم تطلع على عبودية التوبة الكامنة، فلما تاب إلى ربه وأتى بتلك العبودية علمت الملائكة أن لله في خلقه سراً لا يعلمه إلا هو.
يقول: هذا لم يقصده، فالأم وهي من أشد الناس حباً لولدها، لو عصاها وأراد الأب تأديبه، تشفع له وتقول: هو لا يقصد معصيتي.
ويذكر أن شاعراً عربياً أحب امرأة سوداء فسطر حبه شعراً فقال:
أحب لحبها السودان حتى أحب لحبها سود الكلاب
والسودان: جمع أسود.
ومن ذلك ما ذكر أن كثير عزة دخل على عبد الملك بن مروان فقال له: أنت كثير عزة ؟ قال له: نعم، قال له: ألم تر أحداً أكثر منك عشقاً وحباً؟ قال له: نعم رأيت يا أمير المؤمنين، قال له: من؟ قال له: ذات مرة مررت بالصحراء فوجدت رجلاً مختبئاً خلف صخرة، فسألته: ما لك؟ فقال: زوجتي وأبنائي منذ ثلاثة أيام ما دخل أجوافهم طعام، فقلت له: ما العمل إذاً؟ قال: ننصب شركاً لعل غزالة أو ظبياً يقع فيها، فما لبثنا إلا يسيراً حتى وقع في الشرك ظبي عينيه مثل المها -والمها بقر الوحش، وكم أعجب وأنا أسمع الآباء يسمون بناتهم مها- فذهب إليها الرجل وفك شركها وتركها تذهب، فقلت له منكراً: لماذا أطلقتها؟ قال: إن عينيها تشبه عيني ليلى ، ثم قال:
أيا مثل ليلى لا تراعي فإنني لمن مثل ليلى ما حييت طليقاً
والتاريخ بمثل هذه اللطائف مليء، وأعجب كثيراً عندما أجد أن القائمين على أمر التربية والتعليم لا يدرسون كل هذا التاريخ، وإنما يقع اختيارهم على أصعب ما فيه، مما يجعل الطلاب يكرهون النصوص والأدب، مثلاً في الثالث الثانوي تدرس عوامل نهوض الأدب في العصر الحديث.. السينما.. المسرح وغيرها من الأشياء التي لا تساعد على بناء جيل متشبع ناضج.
قال ابن القيم رحمه الله: [ فالمحب يقيم عذر المحبوب قبل جنايته، فلما صوره ألقاه على باب الجنة أربعين سنة ] ففي الحديث (أن الله لما صور آدم من طين وضعه على باب الجنة أربعين سنة، فكان إبليس يمر عليه ويقول: لابد أن هذا قد خلق لشيء ما) يعني: هناك علة لخلق هذا.
ثم قال: [ لأن دأب المحب الوقوف على باب الحبيب، رمي به في طريق ذل لم يكن شيئاً، لئلا يعجب -أي: يداخله العجب- وفي الحديث (كان إبليس يمر على جسده عليه السلام فيعجب منه، ويقول: لأمر قد خلقت، ثم يدخل من فيه ويخرج من دبره، ويقول: لئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علي لأعصينك) ولم يعلم أن هلاكه على يده، فقد رأى طيناً مجموعاً فاحتقره، فلما صور الطين صورة دب فيه داء الحسد، فلما نفخ فيه الروح مات الحاسد، فلما بسط له بساط العز عرضت عليه المخلوقات فاستحضر مدعي وَنَحْنُ نُسَبِّحُ [البقرة:30] يعني الملائكة في قولهم: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [البقرة:30] إلى حاكم أَنْبِئُونِي [البقرة:31] ].
أي: أن هناك قاضياً يجلس في مجلس القضاء وهناك مدع أتى بدعواه وهي: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، إلى حاكم أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ [البقرة:31]، والمعنى: لماذا تخلق ونحن نعبدك؟ فكان الرد: قولوا لي هذه أسماء ماذا إذاً؟
[ وقد أخفى الوكيل عنه بينة وَعَلَّمَ [البقرة:31]، أي: آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31]، فالمدعي وهم الملائكة لم يروا أمر التعليم من الله لآدم.
ولذلك ادعوا، ولو عرفوا أن الله علمه، ما كانوا سيدعون، ولذلك من رحمة الله بآدم أن لقنه الحجة وعلمه إياها [ فنكسوا رءوس الدعاوى على صدور الإقرار، فقام منادي التفضيل في أندية الملائكة ينادي: اسجدوا، فتطهروا من حديث دعوى ونحن بماء العذر في آنية لا عِلْمَ لَنَا [البقرة:32]، فسجدوا على طهارة التسليم، وقام إبليس ناحية لم يسجد؛ لأنه خبث، وقد تلوث بنجاسة الاعتراض، وما كانت نجاسته تتلافى بالتطهير؛ لأنها عينية، فلما تم كمال آدم قيل: لابد من خال جمال على وجه اسْجُدُوا [البقرة:34].
فجرى القدر بالذنب؛ ليتبين أثر العبودية في الذل. يا آدم! لو عفا لك عن تلك اللقمة لقال الحاسدون: كيف فضل ذو شره لم يصبر على شجرة] أي: لو أن الله سامحك وعفا عنك لقيل: مخلوق لم يستطع أن يصبر حين قلت له: لا تأكل، فأكل، فالله يريد أن يبين العز في أن آدم يعصي ثم يرجع فيقبل الله توبته، وفي الحديث: (يا ابن آدم! لو جئتني بقراب الأرض ذنوباً وجئتني لا تشرك بي شيئاً جئتك بقرابها مغفرة).
ثم يقول: [ لولا نزولك ما تصاعدت صعداء الأنفاس ولا نزلت رسائل: (هل من سائل) ]. يريد بالرسائل ما جاء في الحديث: (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يكون ثلث الليل الآخر فينادي: هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له)
[ ولا فاحت روائح (ولخلوف فم الصائم أحب إلى الله من ريح المسك) ]، أي: لولا ما حصل من أبينا آدم، لم يكن هذا العز كله قد ظهر لنا، فتبين حينئذ أن ذلك التناول لم يكن عن شره، [ يا آدم! ضحكك في الجنة لك وبكاؤك في دار التكليف لنا ] أي: أنت عندما تضحك فالضحك لك، لكن عندما تبكي فبكاؤك لنا؛ لأنه يكون لك في ميزان الحسنات [ ما ضر من كسره عزي إذا جبره فضلي ] فمن كسره عز الله وجبره فضل الله ما ضره شيء.
[ إنما تليق خلعة العز ببدن الانكسار، أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ] فالله وهو الرب تعالى يقول: أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي [ مازالت تلك الأكلة تعاوده حتى استولى داؤه على أولاده ] أي أن كل واحد يريد أن يرتكب المحرم كما صنع أبوهم، [ فأرسل إليهم اللطيف الخبير الدواء على أيدي أطباء الوجود: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] ] أي: لما حصل المرض بعث لهم الدواء على يد الخبير فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] [ فحماهم الطبيب بالمناهي، وحفظ القوة بالأوامر، واستفرغ أخلاطهم الرديئة بالتوبة فجاءت العافية من كل ناحية ].
اللهم عافنا فيمن عافيت يا رب.
[ فيا من ضيع القوة -الإيمانية- ولم يحفظها، وخلط في مرضه وما احتمى ] أي: تناوشته الأمراض كمن أصيب بالفشل الكلوي، ومرض الكبد، والرئة والقلب وغيرها -والأمراض هي الذنوب، فالمعنى: لا ينظر للحرام فقط، بل يسمع الخبيث، ويقول الخبيث، ويذهب إلى أماكن الخباثة، بل هتك الأستار كلها.
[ وما احتمى ولا صبر على مرارة الاستفراغ، لا تنكر قرب الهلاك، فالداء مترام إلى الفساد، لو ساعد القدر فأعنت الطبيب على نفسك بالحمية من شهوة خسيسة ظفرت بأنواع اللذات وأصناف المشتهيات، ولكن بخار الشهوة غطى عين البصيرة، فظننت أن الحزم بيع الوعد بالنقد ] أي فكرت أن النقد الذي هو الحاضر أنفع من الوعد الذي هو التأخير، فكأن النقد الدنيا والوعد الآخرة، فيا خسارة من باع الآخرة بالدنيا.
[ يا لها من بصيرة عمياء جزعت من صبر ساعة، واحتملت ذل الأبد، سافرت في طلب الدنيا وهي عنها زائلة، وقعدت عن السفر إلى الآخرة وهي إليها راحلة، إذا رأيت الرجل يشتري الخسيس بالنفيس، ويبيع العظيم بالحقير، فاعلم بأنه سفيه ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر