وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
أما بعد:
المرجئة مأخوذة من الإرجاء، والإرجاء هو: التأخير؛ وسميت بذلك؛ لأنهم يؤخرون العمل عن حقيقة الإيمان، وأول ما نشأ الإرجاء نشأ كرد فعل للخوارج الذين يكفرون الناس بالكبائر؛ غلواً منهم في منزلة العمل، فظهر الإرجاء كرد فعل لهذه العقيدة المغالية، فهونت من شأن العمل، وأول ما بدأ الإرجاء تاريخياً بدأ في صفوف فقهاء الكوفة، وكان إرجاؤهم: هو تأخير العمل عن مسمى الإيمان، واعتبار أن الإقرار والتصديق القلبي هما حقيقة الإيمان، ثم ظهر الجهم بن صفوان في أوائل الدولة العباسية، وكان يتبنى مذهب الجعد بن درهم في تأويل أو في إنكار أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته.
وظهر الجهم بمقالة أخرى في موضوع الإيمان، حيث اعتبر أن الإيمان هو: المعرفة بالله عز وجل فقط.
وسار على طريقة الجهم الجهمية الأولون، كـبشر المريسي وغيره من الجهمية، ثم أخذ عقيدة الجهمية الأشاعرة، حيث اعتبروا أن الإيمان هو: التصديق القلبي فقط، وأن قول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح خارجاً عن حقيقة الإيمان.
واختلفوا في قول اللسان هل هو جزء من الإيمان؟ فصحح أكثرهم: أن قول اللسان مجرد إجراء للأحكام الدنيوية على الإنسان، يعني: أنه يعتبر مسلماً في الدنيا، وأما في أحكام الآخرة فإنه لا يعتبر متمكناً من حقيقة الإيمان، ولهذا لو أن إنساناً لم يقل: لا إله إلا الله محمداً رسول الله، ولم يعمل الأعمال القلبية، أو أعمال الجوارح، وإنما صدق بقلبه فقط فإنه يكون ناجياً يوم القيامة عندهم.
وقد سار على هذه الطريقة أيضاً أبو منصور الماتريدي وأتباعه من الماتريدية، وهم من الأحناف المتأخرين، وأما متقدمي الأحناف فإنهم كانوا يقولون بمقالة فقهاء الكوفة، حيث يرون أن الإيمان: هو تصديق القلب مع إقرار اللسان.
وأما العمل فإنه ينقسم إلى قسمين: عمل القلب، وعمل الجوارح.
فعمل القلب هو: إرادته، كمحبة الله عز وجل، والخوف منه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، ونحو ذلك من الأعمال التي تكون متعلقة بالقلب.
وعمل الجوارح هي: الأعمال التي تكون بالجوارح: كالصلاة والصيام والحج والجهاد في سبيل الله، ونحو ذلك من الأعمال التي تؤدى بالجوارح.
فإذا بينّا حقيقة الإيمان على أعضاء الإنسان نجد أن منها ما يتعلق بلسان الإنسان، وهو قول اللسان ومنها ما يتعلق بقلبه وهو التصديق والعمل، والتصديق هو: نسبة الصدق إلى الخبر، يعني: إلى ما أخبر الله به أو ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم من الأمور الماضية أو الأمور المستقبلية، فقد أخبر الله عز وجل وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بأمور ماضية: كبدء الوحي وأخبار الأنبياء والملائكة، ونحو ذلك من الأمور الماضية.
وكذلك ما أخبر به من الأمور المستقبلية كأشراط الساعة، والقيامة، والجنة والنار، وأحداث المحشر، ونحو ذلك.
ونسبة الصدق إلى المخبر به وهو الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا بالنسبة إلى تصديق القلب، وأما عمل القلب فهو أشمل من ذلك، وهو قدر زائد على مجرد التصديق، فيدخل في ذلك: محبة الله عز وجل، والتوكل عليه سبحانه وتعالى، والخوف منه عز وجل، ونحو ذلك من الأعمال التي تكون في القلب.
وأما بالنسبة للجوارح الظاهرية: فهي عمل الجوارح، وحينئذ يمكن أن يقال: إن الإيمان قول وعمل، أو يقال: إن الإيمان قول باللسان، وتصديق وإقرار بالقلب، وعمل بالأركان. أو: قول باللسان، وتصديق وإقرار بالجنان، وعمل بالأركان.
ولهذا اختلفت عبارات السلف الصالح رضوان الله عليهم في تعريف الإيمان، والمعنى واحد لم يختلف فتجد أن بعضهم قال: إن الإيمان قول وعمل، ويكتفي بهذا.
وقال بعضهم: إن الإيمان قول وعمل ونية؛ فيزيد كلمة نية، والنية هي عمل القلب، وقد زاد بعض السلف في تعريف الإيمان كلمة: نية لما رأوا أن كلمة عمل لا يفهم منها إلا العمل الذي يكون بالجوارح، فزادوا كلمة نية ليتبين أن عمل القلب داخل في حقيقة الإيمان.
وقال بعضهم: إنه قول وعمل ونية واتباع للسنة؛ والسبب في زيادة اتباع السنة هو: أن الأعمال والأقوال والإرادات إذا كانت على غير السنة فإنها لا تنسب إلى الإيمان الشرعي الذي أمر الله به أو أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويدخل في الإيمان ترك ما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، فإن الأمر الذي نهى الله عنه إذا تركه الإنسان قصداً كان من الإيمان والترك إذا كان مقصوداً فإنه يسمى فعلاً، كما قال الله عز وجل: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79]، يعني: لبئس ما كانوا يفعلون ترك التناهي فسمى الترك فعلاً، فهو داخل في عموم العمل.
فإذا ترك الزنا فقد حقق شعبة من الإيمان، وإذا ترك السرقة والشرك وأنواع المنهيات فإنه يكون قد حقق من الإيمان بقدر هذه الشعب التي فعلها، وهي ترك هذا المنكر.
هذا هو تعريف الإيمان عند السلف رضوان الله عليهم.
وتعريفات السلف رضوان الله عليهم للإيمان هي مثل وصف الصادقين لأمر من الأمور فيتفقون في المعنى، ويختلفون في اللفظ، وإن كان الاختلاف في اللفظ ليس كبيراً، ويمكن مراجعة أدلة أقوال السلف الصالح رضوان الله عليهم في حقيقة الإيمان في كتاب الإيمان من صحيح البخاري ، وأيضاً كتاب الإيمان من صحيح مسلم ، وكتاب الإيمان لـأبي عبيد القاسم بن سلام ، وكتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
و البخاري رحمه الله عندما صنف كتابه الصحيح جعله جامعاً لعدة كتب بشكل موضوعي، فمن هذه الكتب: كتاب الإيمان.
وبوب البخاري في كتاب الإيمان: باب: أن الإيمان هو العمل، أو: باب من رأى أن الإيمان هو العمل واستدل بالحديث الوارد في هذا الباب، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عندما سئل: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله)، فاعتبر الإيمان بالله ورسوله من العمل ويقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، والمقصود بها: الصلوات التي كان يصليها الصحابة إلى بيت المقدس فبعد أن أمروا بأن يتوجهوا إلى البيت الحرام تكلم بعض الناس على هذه الصلوات التي كانوا يصلونها إلى بيت المقدس، فأنزل الله عز وجل هذه الآية واعتبر الصلاة إيماناً.
فالعمل عند السلف الصالح رضوان الله عليهم جزء أساسي من الإيمان، والإيمان مركب من هذه الأمور جميعاً، فهو مركب من قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح, وهو مركب منها تركيباً مزجياً لا ينفك أحدهما عن الآخر إلا بانفكاك الحقيقة بالكلية، فإذا عُدم قول اللسان بالكلية فلا يكون مسلماً ولا مؤمناً، وإذا عدم قول القلب بالكلية فكذلك لا يكون مؤمناً، وإذا عدم عمل بالجوارح بالكلية فكذلك لا يكون مؤمناً، وإذا عدم عمل القلب فإنه لا يكون مؤمناً كذلك.
والمقصود: إذا انعدم الركن جميعه، وأما إن كان يعمل بعضه ويترك بعضه، فيكون بحسب هذا البعض المتروك، فقد يكون ناقضاً للإيمان، يعني: من التروك ما يكون مزيلاً لاسم الإيمان بالكلية كترك الشهادتين مثلاً, أو كترك الصلاة, أو كترك محبة الله عز وجل بالكلية.
ومنه ما لا يكون مزيلاً لاسم الإيمان كمن ترك قراءة القرآن أو الذكر مثلاً, أو كمن ترك شيئاً من الأعمال التي تكون بالجوارح ونحوها, أو كمن ضعف توكله أو يقينه إلى درجة لا يذهب اليقين كله، فإنه ما زال مؤمناً، ولكنه ناقص الإيمان.
وأما المرجئة فإنهم لما جاءوا إلى الإيمان أخرجوا عنه العمل بأكمله، واعتبروا أن الإيمان هو مجرد القول فقط، ولو رجعنا إلى آثار السلف الصالح رضوان الله عليهم في تعريف الإيمان ومنزلة العمل منه لوجدنا أنهم يعبرون عنه بما يلي:
لا يصلح القول إلا بالعمل، أو لا يصلح الإيمان إلا بالعمل، وبعضهم يقول: لا ينفع الإيمان إلا بالعمل، وبعضهم يقول: لا يكون الإيمان إلا بالعمل.
وبعضهم يعتبر تارك العمل كافراً ويصرح بكفره. ويمكن مراجعة أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي ، وكتاب الإبانة لـابن بطة ، وكتاب الشريعة للآجري ، فنصوصهم كثيرة في هذا الموضوع.
فقوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، فهنا علق الأمر بالمقاتلة على غاية معينة وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأيضاً إقام الصلاة وإيتاء الزكاة فإذا قيل: إن المقاتلة لا يشترط أن تكون لكافر فقد تقاتل الطائفة الباغية، كما قال الله عز وجل: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، فوصفهم بالإيمان ثم قال: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]، فأمر بقتال الطائفة الباغية مع وصفهم بالإيمان، وهذا الكلام صحيح، فليست كل مقاتلة تكون مقاتلة كفر، ولكن في الحديث بيان على أن القتال على هذه الأمور الثلاثة، وبالذات شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يكون قتالاً على حقيقة الإسلام، يعني: أنهم إن قوتلوا فإنهم يقاتلون مقاتلة الكفار، والدليل على ذلك: هو تعليق عصمة الدم والمال على قولها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فإن فعلوا ذلك فقد عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، وعصمة الدم والمال تكون للمسلم، فإذا لم يقل: لا إله إلا الله فمعنى هذا أنه ليس معصوم الدم والمال.
ومن الأدلة أيضاً على ذلك ما رواه البخاري عن المسيب بن حزن ، في قصة مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي طالب وقوله له: (يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)، فمات وهو يقول: على ملة عبد المطلب ، فهذا الحديث فيه: بيان أن الانتقال من الكفر إلى الإسلام هو بقول: لا إله إلا الله ثم الاستمرار عليها، فإن لم يستمر عليها فإنها لا تنفعه، لكن انتقاله الأولي من حيث المبدأ يكون بقول: لا إله إلا الله.
وأيضاً يدل على ذلك حديث أسامة رضي الله عنه، عندما قتل الرجل المشرك الذي هرب منه فحالت بينهما شجرة، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقتله أسامة ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم عندما بلغه الخبر، واعتذر أسامة بأنه إنما قالها تعوذاً، يعني: استعاذة وفراراً من السيف, بحيث أنه يترك قتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشققت عن قلبه؟!!)، فدل هذا على أن الإنسان ينتقل من الكفر إلى الإيمان بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذا يدل على أنها شرط أساسي في الإيمان.
وأما المرجئة فإنهم يرون أنه لو ترك هذه الأعمال القلبية كاملة فلا يكون كافراً.
وإذا جئنا إلى عمل الجوارح فنجد أن السلف رضوان الله عليهم يرون أن مجمل عمل الجوارح من أساس الإيمان، وأن الإيمان يزول بزوال جنس هذه الأعمال، وأعمال الجوارح كثيرة، منها المستحبات التي لا يعاقب عليها الإنسان، ومنها الواجبات التي إذا تركها الإنسان يأثم بتركه لها ويعاقب على تركها في الآخرة، ولكنه لا يكفر بتركها، ومنها ما يزول الإيمان بزواله إذا لم يأت به.
ويزول الإيمان بترك الأعمال جميعاً، بحيث لا يعمل عملاً من أعمال الجوارح, فالذي لا يعمل شيئاً من أعمال الجوارح كافر عند أهل السنة، وليس من المؤمنين، وإنما هو من الكافرين، ويدل على ذلك إجماعهم على ذلك، فإنهم أجمعوا على أن عمل الجوارح من الإيمان.
ولا يتصور أن يكون هناك عمل قلبي في قلب الإنسان، وهو لا يعمل شيئاً من أعمال الجوارح ، فإذا كان لا يعمل أي عمل من أعمال الجوارح فهذا يدل على أنه ليس في قلبه أي عمل من أعمال القلوب؛ لأن عمل القلب ينتج عنه عمل الجوارح الظاهر في الحالة الطبيعية, ويدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
فإذا وجد في القلب إيمان فعلى قدر الإيمان توجد أعمال صالحة في الظاهر، وإذا انعدمت الأعمال الصالحة في الظاهر بالكلية فإنها تدل على أنه لا يوجد في القلب شيء من أعمال الإيمان بالكلية، إلا في مثل حالة المكره مثلاً، وإن كان حتى المكره لا يتصور أن يترك جميع أعمال الإسلام بالكلية؛ لأن صورة ترك جميع أعمال الجوارح هي كالآتي:
أن يترك الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وأركان الإسلام عموماً، ويترك أيضاً المستحبات، ويفعل جميع المحرمات؛ لأنه إذا ترك محرماً من المحرمات ابتغاء للأجر فلا يطلق عليه أنه تارك لأعمال الجوارح بالكلية؛ لأن ترك الزنا مثلاً أو ترك شرب الخمر أو ترك أي محرم من المحرمات قصداً للترك يعتبر من عمل الجوارح، ولكن الصورة التي يقال عنها: إن هذا الإنسان تارك لأعمال الجوارح بالكلية لا تتحقق إلا في شخص كافر تارك لأعمال القلب بالكلية.
ومن أعمال الجوارح التي أجمع السلف على كفر من تركها: ترك الصلاة، فمن ترك الصلاة فهو كافر، وقد أجمع السلف رضوان الله عليهم على هذا.
والمرجئة يخالفون السلف في هذه الأمور.
ولو رجعنا أيضاً إلى كتاب الإرشاد للجويني ، وكتاب الرازي مثلاً لوجدنا أنهما يقرران هذه الحقيقة، وعامة كتب الأشاعرة تقرر هذه الحقيقة وتشرحها وكذلك كتب الماتريدية، فلو رجعنا إلى شرح العقائد النسفية للتفتازاني ، أو شرح المقاصد له، أو التمهيد لـأبي المعين النسفي ، أو التبصرة في أصول الدين لـأبي المعين النسفي أيضاً لوجدنا أنهما يقرران حقيقة الإيمان على أنه مجرد التصديق القلبي، ويخرجان عمل القلب وعمل الجوارح.
فالإرجاء في العصور المتأخرة هو مذهب الأشاعرة والماتريدية ، وقد بدأت سلسلة التطور التاريخي للمرجئة أولاً في صفوف فقهاء الكوفة، ولكن كان إرجاؤهم أقل غلواً، ثم بدأ الغلو عند جهم ، فلما مات جهم وانقرضت الجهمية الأولى تبنى مذهب الإرجاء الأشاعرة، وكان مذهبهم في الإرجاء أقل غلواً من مذهب جهم .
والفرق بين مذهب الجهمية الأولى؛ أتباع مذهب الجهم بن صفوان الأولون، وبين الأشاعرة:
أن الجهم لا يعتبر أن الأعمال لها ثمرة في الإيمان ولا يعتبر أن فعل المعاصي لها تأثير في الإيمان، ولهذا روي عنهم -وإن كان ابن تيمية رحمه الله يقول: لا يعرف لهذه الكلمة قائل محدد، ولكن هو مقتضى مذهب جهم - لا ينفع مع الكفر شيء من الطاعات كما لا يضر مع الإيمان شيء من الذنوب، أو نحو هذه العبارة.
والجهمية الأوائل كفرهم السلف، بسبب قولهم بنفي الأسماء والصفات نفياً مطلقاً، وقولهم بالجبر المطلق وبأن الإيمان هو المعرفة فقط.
ولهذا يلزمهم أن يكون إبليس مؤمناً؛ لأنه يعرف الله عز وجل وأن يكون فرعون مؤمناً؛ لأنه يعرف الله في الحقيقة، كما قال الله عز وجل: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، ومذهب الإرجاء في العصور المتأخرة هو مذهب الأشاعرة والماتريدية، وللأشاعرة والماتريدية انتشار كبير في حياة المسلمين، ولهم معاهد ومصنفات، وما زالت كتبهم تطبع إلى الآن، وما زال لهم مشايخ يدرسون هذا المذهب في المعاهد وفي المساجد، ويؤلفون ويصنفون وينافحون عن هذا المذهب.
وهذا الخلاف له أثر كبير في حياة الأمة وواقعها، فإن هناك طوائف تترك الأعمال بالكلية، وتعرض عن الدين بالكلية إعراضاً تاماً، وتجعله مجرد انتساب فقط، فيرى أهل السنة أن هؤلاء كفار؛ لأنهم تولوا وأعرضوا عن الدين، ويرى الأشاعرة أنهم مسلمون، ماداموا يقرون بشهادة أن لا إله إلا الله ، ويصدقون بقلوبهم.
فهو ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية، وهذا نوع من التقسيم.
والنوع الثاني من التقسيم: يقول السلف: إن التوحيد ينقسم إلى قسمين:
توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد القصد والطلب، ويعبرون عن توحيد المعرفة والإثبات بالتوحيد العلمي أو الاعتقادي أو الخبري ونحو ذلك من التعبيرات، ويعبرون عن توحيد القصد والطلب بالتوحيد الإرادي أو الطلبي أو القصدي أو نحو ذلك من التعبيرات.
والفرق بين التقسيم الثلاثي والتقسيم الثنائي: هو أن التقسيم الثلاثي باعتبار تعلق التوحيد بالله عز وجل, فباعتبار تعلق التوحيد بالله عز وجل ينقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الله في ربوبيته، وفي ألوهيتة، وفي أسمائه وصفاته.
وأما التقسيم الثنائي فهو باعتبار تعلق التوحيد بالعبد نفسه؛ لأن المعرفة والإثبات من فعل العبد، وكذلك القصد والطلب أيضاً من فعله.
فالتوحيد جزء منه اعتقادي نظري، وجزء منه عملي، وإذا قارنا بين الإيمان وبين التوحيد لوجدنا أنهما حقيقة واحدة؛ لأن الإيمان: قول وعمل، وكذلك التوحيد: قول وعمل, فالقول في الإيمان: قول القلب واللسان، وهو نفسه توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
والعمل في الإيمان: عمل الجوارح وعمل القلب، وهو نفسه توحيد الألوهية.
فلما أخرج المرجئة التوحيد من الإيمان أخرجوا مباشرة توحيد الألوهية من التوحيد، واعتبروا أن التوحيد الحقيقي الذي جاءت به الرسل، وأنزلت من أجله الكتب، وجاهد من أجله المجاهدون، ومن أجله خلق الله عز وجل السماوات والأرض هو: توحيد الربوبية والأسماء والصفات فقط، وأما توحيد الألوهية فإنه غير داخل في حقيقة التوحيد، كما أن العمل غير داخل أيضاً في حقيقة الإيمان.
وصار الشرك عندهم هو الشرك في الربوبية فقط، فإذا اعتقد أن هناك خالق غير الله أو رازق غير الله فإنه يكون مشركاً، وإذا لم يعتقد فلا يكون مشركاً.
وحينئذ حصل بين أهل السنة وبين المرجئة خلاف عميق جداً في أصول الدين، فمثلاً من مسائل التوحيد التي اختلفوا فيها: أن الذي يطوف حول القبور لا يعتقد المرجئة أنه كافر لمجرد أنه طاف حول القبور, والذي يذبح لها لا يعتبرونه أيضاً كافراً لأنه ذبح لها, والذي يستغيث بغير الله يطلب منه المدد فيما لا يقدر عليه إلا الله كمغفرة الذنوب، وستر العيوب، ونحو ذلك من المطالب الخاصة التي لا تطلب إلا من الله عز وجل، لا يعتبرونه مشركاً، في الوقت الذي يعتبره أهل السنة شركاً مخرجاً عن الملة.
وفي مسائل الكفر مثلاً لا يرون أن من أعرض عن الدين أو استكبر عنه أو حكم بالقوانين الوضعية مثلاً كافراً خارجاً عن الإسلام لمناقضة القوانين الوضعية للعمل، وإنما يعتبرون ذلك معصية من المعاصي، ولا يعتبرونه كفراً.
وهنا مسألة مهمة جداً، وهي أن كلام الذين تكلموا عن الشيخ: محمد بن عبد الوهاب بأنه من الخوارج لم يأت اعتباطاً، ولم يكن مجرد تهويش، أو خلاف شخصي، وإنما هو خلاف حقيقي له آثاره في حياة الناس، وفي تقويم كثير من الأعمال والأشخاص والمناهج، وكثير من الأمور التي تكون في حياة الناس.
وقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على طريقة أهل السنة والجماعة يعتقد - كما يعتقدون- أن عبادة غير الله عز وجل لمجرد العبادة شرك أكبر مخرج عن الإسلام، حتى ولو كان يعرف أن الله هو الخالق والرازق والمحيي والمميت، فإن معرفة هذه الأشياء في حد ذاتها لا تثبت له الإسلام إذا لم يضم إليها عبادة الله عز وجل, فكيف إذا ترك العبادة مطلقاً واكتفى بأنه يعرف أن الله هو الخالق الرازق؟! لا ينفعه ذلك شيء، وكذلك إذا مارس الشرك فإنه لا ينفعه ذلك شيء.
فهذه الطوائف الكبيرة التي تعبد غير الله عز وجل، وتطوف حول القبور وتذبح لها، وتطيع الأولياء في تشريعاتهم كان يصنفهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنهم من المرتدين بعد إقامة الحجة عليهم، وبعد وجود الشروط وانتفاء الموانع المعروفة في تكفير المعين، وكان يعتبر أن عملهم شرك مخرج عن الملة يجب أن يحارب، وقد قال -مثلاً- أحد الذين ردوا على الشيخ محمد بن عبد الوهاب وهو علوي الحداد في كتاب له اسمه (مصباح الظلام): إن هذا الرجل -يعني: الشيخ محمد بن عبد الوهاب - هون في نفوس العوام الاستغاثة بالأنبياء والصالحين، ثم اعتبر أن الاستغاثة بالصالحين وبالأولياء من تعظيمهم وتقديرهم, وأن تعظيم الصالحين وتقديرهم واجب، والاستغاثة بهم واجبة ثم أمر وطالب أهل العلم أن يحثوا العامة على الاستغاثة بالأنبياء؛ لأن في هذا احتراماً لهم وإظهاراً لهذا الاحترام، وفيه رد على هذا المبتدع النجدي، كما يقول، وكما يعبر.
فأمر العلماء بأن يظهروا الشرك، وطالب الناس بممارسة الشرك، وهو في ذلك يظن أنه يحترم الأنبياء والصالحين.
فأما الشيعة والصوفية فإنهم مارسوا هذه الأمور الشركية عملياً، والأشاعرة دافعوا عنها نظرياً، فالصوفية اتفقوا مع الشيعة في أن الطواف حول القبور والذبح لها والاستغاثة بغير الله ليس شركاً.
و الخميني مثلاً في (كشف الأسرار) عرف الشرك بقوله: هو: أن يعتقد أن هناك خالق غير الله، أو مدبر غير الله، أو موجد غير الله عز وجل. فقط.
وأيضاً نجد أن محمد علوي المالكي في كتابه (مفاهيم يجب أن تصحح) يقول: ولا يكفر المستغيث بغير الله ما لم يعتقد الخلق والإيجاد لغير الله.
فكلا التعريفين يتفقان في المعنى، وليس بينهما فرق، والحقيقة أن الصلة بين الصوفية والشيعة أكبر من هذا، لكن هذا الجزء من علاقتها هو الذي يهمنا في هذا المقام، وهو: أنهم اتفقوا على أن الطواف حول القبور، والذبح لها، والنذر لغير الله عز وجل ليس من الشرك.
فالصوفية يرون أن ما يدور في مقامات الأولياء ليس من الشرك، وإن طلب المدد من علي بن أبي طالب ، والاستغاثة بغير الله عز وجل كل ذلك ليس من الشرك، ومرد ذلك إلى الإرجاء.
والصوفية عندما يتحدثون عن العبودية مثلاً كما في كتاب (الرسالة) لـأبي القاسم القشيري ، يفسرونها بأنها الاستسلام للقدر والقدر: هو أفعال الله عز وجل التي يأمر بها سبحانه وتعالى.
فهم يرون أن التعبد لله عز وجل يكون بالاستسلام لأفعاله تعالى؛ لأنهم يعتقدون أن توحيد الله عز وجل يكون في أفعال العباد, ففهموا من توحيد الله عز وجل الاستسلام المطلق لما يأتي من أفعاله، وحينئذ من وقع في المعصية فهو مستسلم أيضاً وعابد على مفهوم القشيري وأمثاله، وهو أيضاً ما فعل أي معصية من المعاصي التي لا يمكن أن تحصل أصلاً في الوجود إلا بأمر الله عز وجل وبخلقه الكوني، وعلى مقتضى تعريف العبودية عند القشيري يكون عابداً، ومن الصالحين الصادقين.
ومن هنا وقعت المصيبة في حياة المسلمين، واختلف أهل السنة حول المرجئة اختلافاً كبيراً.
وهذا أيضاً يفيدنا أنه عندما توجد فرق في الأمة هذه آثارها.
فكيف يقال: إن هذه الفرق قد أكل عليها الدهر وشرب، وبعض الناس يقولون: إن هذه الفرق قديمة لا حاجة لنا في الكلام عنها، وإنما نحن نحتاج أن نتكلم عن العلمانية والحداثة.
وصحيح أننا نحتاج إلى أن نتكلم عن العلمانية وبحاجة أن نتلكم عن الحداثة؛ لأنهما من الأمور الكفرية التي انتشرت في عصور المسلمين المتأخرة, ولكن في نفس الوقت لابد أيضاً أن نفهم عقيدة أهل السنة فهماً جيداً، وأن نرد على الفرق الضالة الأخرى؛ فإن طريق الدعوة إلى الله عز وجل، وطريق الإصلاح يبدأ بتنقية الناس من شوائب الفرق الضالة، ومن شوائب المذاهب الفكرية المعاصرة، أما أن ننقيهم من شوائب المذاهب الفكرية المعاصرة وهم واقعون في مذاهب الفرق الضالة القديمة فهذا يعني أننا لم نعمل شيئاً خصوصاً في مثل هذه القضايا المصيرية الخطيرة التي تتعلق بالإيمان والكفر، وتتعلق بالتوحيد والشرك.
ويمكن مراجعة كتب أهل العلم في موضوع الإرجاء والمرجئة، ومن أنفعها وأطولها كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والذي يصبر على هذا الكتاب ويقرؤه، ويتأنى في قراءته يستفيد منه فائدة كبيرة.
الجواب: الاستحلال منه ما يكون بالقول، ومنه ما يكون بالعمل، ومثال الاستحلال بالقول أن يكون هناك محرم من المحرمات فيصرح بأن هذا حلال، وذلك مثل قول علي بن الفضل عندما قال:
وما الخمر إلا كماء السماء حلال فقدست من مذهب.
فصرح بأن الخمر حلال بلسانه.
وهناك نوع آخر من الاستحلال، وهو الاستحلال العملي، ومثاله قصة الرجل الذي تزوج بامرأة أبيه، وكانت هذه عادة من عادات الجاهلية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة أن يذهب إليه وأن يفرق بينهما، وأن يقتله ويخمس ماله، ومجرد قتله لا يدل على كفره، ولكن تخميس المال يدل على أنه كافر.
وعرفنا أن هذه الصورة من صور الاستحلال؛ لأنه قد نهى عن الزواج من امرأة أبيه فتزوجها، ومعنى هذا أنه سيستمر في معاشرتها بشكل طبيعي، فهو أضفى الشرعية على فعله من الناحية العملية، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، وأمر بتخميس ماله، ويمكن أن يراجع كلام ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) عن هذا الرجل وقصته.
الجواب: هناك بعض الصوفية الغلاة يقولون: إن أبا طالباً مسلم, وقد كتب أحمد زيني دحلان مفتي الشافعية في مكة كتاباً سماه: (أسمى المطالب في نجاة أبي طالب )، وهذه من ضلالات المرجئة.
الجواب: ليست هناك فروق كبيرة بين الأشاعرة والماتريدية, فهم يتفقون في عامة الأصول، وهناك فروق بسيطة ألفت فيها كتب قليلة؛ لقلة الفروق، ويمكن أن يراجع كتاب (موقف ابن تيمية من الأشاعرة) للدكتور المحمود ، فقد عقد فصلاً في هذا الموضوع.
الجواب: هناك كتب كثيرة، منها:
(مفاهيم يجب أن تصحح) لـمحمد علوي المالكي ، وأيضاً كتب أبو حامد بن مرزوق ، وكتاب براءة الأشعريين، (والتوسل بالنبي), (جهلة الوهابية)، (الدرر السنية في الرد على الوهابية), وغيرها من الكتب، فهذه جميعاً تعتبر من كتب المرجئة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر