وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فموضوع هذا الدرس: فرقة المرجئة، وعقيدة المرجئة تتعلق بموضوع الإيمان والكفر، وهي من أهم موضوعات العقيدة وأعظمها خطورة، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الإيمان قول وعمل، و(القول) يعني: قول القلب وقول اللسان، فأما قول القلب: فهو تصديقه بالله سبحانه وتعالى، وتصديقه بالرسول صلى الله عليه وسلم، وتصديقه بالدين، وهو كما يعرفونه: نسبة الصدق إلى الخبر، والمخبر به، وأما قول اللسان: فهو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقراءة القرآن، وذكر الله تعالى، والدعاء ونحو ذلك من العبادات التي تكون متعلقة باللسان، وأما العمل فهو يشمل عمل القلب، وعمل الجوارح، وعمل القلب هو الخوف من الله والخشية والرجاء والإخلاص والمحبة والتوكل والرضا والقبول ونحو ذلك من أعمال القلوب، وهي كثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى.
والنوع الثاني من العمل: هو عمل الجوارح، وعمل الجوارح يشمل الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد في سبيل الله ونحو ذلك من أعمال الجوارح، فنلاحظ من خلال هذا التعريف الذي اتفق عليه أهل السنة جميعاً أنه يشمل الدين كله، لا يخرج عنه شيء من الأحكام، ونلاحظ أيضاً في تعريف الإيمان، أن منه ما يتعلق بالقلب وهو قول القلب وعمله، ومنه ما يتعلق باللسان وهو قول اللسان، ومنه ما يتعلق بعمل الجوارح وهو عملها.
وقد ثبت في الصحيحين في حديث جبريل الطويل عندما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وأشراط الساعة وفي آخره قال: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم)، وهذا الأمر -أعني: تعريف الإيمان- مما اتفق عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم، وقد حكى إجماع أهل السنة على هذا الشافعي رحمه الله كما نقله عنه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وكذلك الإمام أحمد والبغوي وابن أبي حاتم وغيرهم من أهل العلم المتقدمين، ومن المتأخرين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعاً.
وهذا الإجماع يستند إلى النصوص الشرعية، ويستند إلى الواقع العملي الذي كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم، فأما النصوص الشرعية: فقد دلَّ القرآن ودلت الأحاديث على أن الإيمان: قول وعمل في غير موضع، منها قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، والمراد بقوله (إيمانكم) هنا يعني: صلاتكم، فإنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فلما حولت القبلة إلى الكعبة تحدث بعض الناس أن الصلوات الماضية التي كانت إلى بيت المقدس باطلة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية فسمى الصلاة إيماناً، والصلاة كما تعلمون هي عمل من أعمال الجوارح.
ومنهم أصحاب الصحيحين فالإمام البخاري أفرد كتاب الإيمان في صحيحه، وكذلك الإمام مسلم ، وكذلك جماعة من أصحاب السنن والجوامع.
فمثلاً الإمام البخاري رحمه الله بوب: (باب الإيمان) وجعله بعد بدء الوحي، وجعل بعده العلم، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا يدل على فقهه رحمه الله تعالى، فإنه بدأ كتابه أولاً ببدء الوحي ليبين أن مصدر العقائد ومصدر الأعمال الوحي، ثم جاء بكتاب الإيمان بعده ليبين أن الأعمال مبنية على الإيمان ولا تصح إذا لم يصح الإيمان، ثم ثلث بالعلم بعد الإيمان ليبين أن الأحكام لا تصح إلا بالعلم.
يقول الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان: باب الإيمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس)، وهو قول وفعل ويزيد وينقص، قال الله تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4]، وقال: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، وقال: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76]، وقال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، وقال: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر:31]، وذكر جملة من الآيات في موضوع زيادة الإيمان ونقصانه.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي : إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.
ثم ساق جملةً من الأحاديث الدالة على الإيمان، فنجد مثلاً: أنه يذكر أبواباً متعددة من شرائع الإيمان ومن شعب الإيمان فمثلاً يقول: باب إطعام الطعام من الإسلام، ويقول: باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، ويقول: باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، ويقول: باب علامة الإيمان حب الأنصار، ويقول: باب من الدين الفرار من الفتن، وهكذا يذكر نماذج كثيرة من الأبواب ثم يربط بين الإيمان والعمل؛ لأن أهم ركن من أركان الإيمان التي سردناها سابقاً هو ركن العمل، فركن العمل من أهم أركان الإيمان؛ لأن بناء الإيمان على هذا العمل، فنجد أن الإنسان المصدق فقط بدون العمل لا إيمان له، ونجد أيضاً: أن الإنسان المقر باللسان من دون عمل لا إيمان له، ونجد أنه لا بد من العمل مع الإيمان؛ ولهذا أفرد الإمام البخاري باباً فقال: باب من قال: إن الإيمان هو العمل لقول الله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، والجنة: هي مصير أهل الإيمان، فبين أن المصير إلى الجنة مرتبط بالعمل، وهذا يدل على أن من لم يعمل فإنه لا يصل إليها.
ويقول: وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93]، فنجد أن السؤال مرتبط بالعمل أيضاً.
وفسر قوله: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93]، عن قول: لا إله إلا الله، يعني: أنهم يسألون عن قول لا إله إلا الله وهو قول، وهو عمل اللسان، ثم ساق بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سئل أي العمل أفضل؟) إذاً: السؤال عن العمل فقال: (إيمان بالله ورسوله)، وهذا يدل على أن الإيمان هو العمل كما بوب رحمه الله تعالى، (قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال حج مبرور)، ولا يعني: أن الجهاد في سبيل الله وأن الحج المبرور ليس من الإيمان، بل هذا من عطف الخاص على العام، فإن العطف تارة يفيد التغاير وتارة يفيد عطف الشيء على المعنى الكلي فيه، مثل قول الله عز وجل: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فقوله: (والصلاة الوسطى) هذا عطف للخاص على العام، فإن العام قوله: (حافظوا على الصلوات) تشمل جميع الصلوات بما فيها العصر، وهي الصلاة الوسطى، وهكذا يكون تفسير قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227] فالعمل في قوله: (وعملوا الصالحات) من عطف الخاص على العام فهو من الإيمان.
وبوّب رحمه الله للصلاة باباً وقال: باب الصلاة من الإيمان، وقال: باب الجهاد من الإيمان، وقال: باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، وهكذا بوب أبواباً كثيرة تدل على أن العمل داخل في مسمى الإيمان، وساق أحاديث كثيرة عليها، ويمكن أن يراجع كتاب الإيمان من صحيح البخاري ، وأوسع حديث من أحاديث الإيمان هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فجمع في هذا الحديث بين أركان الإيمان وهي عمل القلب عندما قال: (الحياء من الإيمان)، فالحياء من عمل القلب، ونطق اللسان، عندما قال: (قول لا إله إلا الله)، وأيضاً عمل الجوارح عندما قال: (إماطة الأذى عن الطريق)، فأمور الدين جميعاً داخلة في الإيمان.
فقد أوذي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بداية إيمانهم، ومع هذا لم يركنوا إلى الذين كفروا، ولم يأخذوا بالرخص، وإنما جاهدوا في سبيل الله، ولم يأذن أحد منهم لنفسه أن يأخذ بالرخص، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: عندما نزل قول الله عز وجل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16]، لم يكن بيننا وبين أن عاتبنا الله عز وجل بهذه الآية إلا أربع سنين يعني: ما زالوا في بداية الإيمان، ومع هذا عوتبوا بأن الخشوع ضعيف عندهم.
فلم تكن هناك صورة لرجل لا يصلي ولا يصوم ولا يحج ولا يزكي ولا يجاهد في سبيل الله، ولا يعمل من أعمال الإسلام شيء، لكنه ينطق بالشهادة، هذه الصورة ما كانت موجودة، ولا عرفها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى في المستضعفين لم تكن هذه حالته، وكذلك لم يكن فيهم من يركنُ إلى الكفار ويحبهم، ويتعاون معهم ويطبق أحكامهم، لم تكن هذه الصورة عندهم أبداً، بل إن الله عز وجل ذمّ القادرين على الهجرة وهم لم يهاجروا، ذمهم الله عز وجل عندما بقوا بين أظهر المشركين ولم يهاجروا في سبيل الله.
إذاً: الأدلة على أن العمل من الإيمان أدلة قوية وواضحة في كتاب الله عز وجل، عندما نقرؤها نجدها واضحة ونجد التركيز في القرآن والسنة وفي سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على العمل وأهمية العمل سواءً كان عمل القلب أو عمل الجوارح، وينبغي للإنسان أن يلاحظها عند قراءته للقرآن الكريم ولأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان الأمر في بدايته شبهة نظرية عند هؤلاء الكوفيين، ورد عليهم السلف ردوداً قوية، ومن أراد أن يراجعها يمكن أن يراجع كتاب السنة لـعبد الله ابن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، رد عليهم السلف ردوداً قوية، لكنهم لم يكونوا يعتبرون مثلاً أن من يوالي أعداء الله عز وجل ولاء تاماً ويتولاهم ويحبهم ويعاونهم على المسلمين مسلماً، وكذلك الطواف حول القبور والذبح لها والنذر لغير الله تعالى لم يكونوا يعتبرون أن هذا إسلاماً، بل كانوا يعتبرونه كفراً مخرجاً عن الملة.
وهكذا نماذج من الأمور التي حدثت بعد ذلك مما برر له المرجئة ما كانوا يعتبرون صاحبه مؤمناً إيماناً تاماً، ومع هذا تكلم عليهم السلف كلاماً قوياً، والحقيقة أن إرجاء الفقهاء هؤلاء قد انتهى في العصور المتأخرة، لكن بقيت بعض الكتب التي تتضمن هذه الشبهة، وبقي بعض أهل السنة الذين حاولوا أن يرصفوا الشقة بين أهل السنة وبين مرجئة الفقهاء مثل صاحب شرح العقيدة الطحاوية رحمه الله تعالى، فإنه صور أن الخلاف خلاف صوري وليس خلافاً حقيقياً، والحقيقة أن الخلاف بين أهل السنة وبين مرجئة الفقهاء خلاف حقيقي، فإنهم يعرفون الإيمان فيقولون: هو تصديق القلب والإقرار باللسان، ولا يدخلون عمل الجوارح في حقيقة الإيمان، وهذا في حد ذاته بدعة مخالفة للتعريف الشرعي لمفهوم الإيمان الذي وردت عليه نصوص كثيرة من القرآن والسنة، وكذلك أصبحوا يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ويقول بعضهم: إن إيماني كإيمان جبرائيل وميكائيل على أساس أن حقيقة الإيمان هي التصديق والإقرار، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وبناءً على هذا: فالإيمان واحد كما يقول الطحاوي : والناس في أصله سواء، فيعتبرون الإيمان واحداً، وأنه موجود في نفوس الناس جميعاً، وأنه لا يزيد ولا ينقص.
ولهذا قال الجهمية هؤلاء: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وأصبح جهم يتبنى هذا المذهب، ثم انقرض قول جهم بهذه الصورة، وهي صورة: أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
ثم جاءت مرحلة جديدة من مراحل الإرجاء وهي: إرجاء أهل الكلام، وإرجاء أهل الكلام هو إرجاء الأشاعرة والماتريدية، فالأشاعرة تبنوا مذهب المرجئة، وصورة الإرجاء الموجودة عند الأشاعرة هي أنهم قالوا: الإيمان هو تصديق القلب، وأخرجوا من الإيمان عمل القلب وأخرجوا عمل الجوارح، واختلفوا في الإقرار باللسان، فبعضهم قال: إن الإقرار باللسان هو شرط لإجراء أحكام الإسلام على الظاهر، وبعضهم قال: إنه داخل في حقيقة الإيمان، لكن أكثرهم يعتبرون أن قول: لا إله إلا الله هي شرط لإجراء الأحكام الظاهرة على الإنسان، فلو أن شخصاً مثلاً لم يقل: لا إله إلا الله وكان مصدقاً ثم مات، فإنهم يعتبرونه كافراً في أحكام الدنيا، لكن يحتمل أن يكون من أهل الجنة في الآخرة، لأن قول: لا إله إلا الله عندهم ليس من حقيقة الإيمان الذي يكفر صاحبه في الحقيقة، وإنما يعتبرونه شرطاً لإجراء أعمال الإسلام في ظاهر الأمر، وفي ظاهر الحياة الدنيا، وأما في الآخرة فإنهم لا يعتبرونه شرطاً، وإنما يقولون: إنه قد يكون مؤمناً إذا كان تصديقه صحيحاً!
هذه الصورة صورة خطيرة لمفهوم الإيمان، فإن تصديق القلب ركن أساسي في الإيمان عند أهل السنة، فالمكذب ليس بمؤمن، ونطق اللسان شرط أساسي في الإيمان، ويدل عليه حديث المسيب بن حزن عندما ذكر قصة أبي طالب عندما جاءه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا عم: قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله،) فلم يقلها فمات على الكفر.
وهذا يدل على أن قول: لا إله إلا الله شرط للإسلام، وكذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله)، وهذا يدل على أنها شرط في التعامل مع الإنسان على أنه مسلم.
وكذلك عمل القلب هو شرط أساسي وركن أساسي في الإيمان، فلو أن إنساناً انتفى عنه عمل القلب كله لا يكون مؤمناً؛ لأن حقيقة الإيمان هو محبة الله والخوف منه والتوكل عليه، فإذا كان الإنسان ليس في قلبه محبة لله، وليس في قلبه خوف من الله، وليس في قلبه توكل، وليس في قلبه إنابة، كيف يكون موحداً؟! كيف يكون مؤمناً؟! لا يمكن أن يكون مؤمناً.
وكذلك أعمال الجوارح، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن آخر من يخرج من النار هم الجهنميون من الموحدين، ولا يبقى في النار إلا الكفار الذين لا يخرجون منها أبداً، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يصلون فقال: يعرفون بمواطن السجود، والمقصود بمواطن السجود يعني: بالصلاة، فقد كانوا يصلون فيكون أثر السجود في جباههم ويعرفون به، ولهذا ذكر هذا الحديث -حديث الجهنميين- البخاري رحمه الله في كتاب الصلاة في باب فضل السجود مما يدل على أن هؤلاء من أهل الصلاة، فالصلاة هي ركن أساسي في الإيمان متعلق بأعمال الجوارح، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه لا يتصور أبداً أن يترك إنسانٌ جميع أعمال الجوارح فعلاً وتركاً ثم يكون عنده أعمال القلب؛ لأن أعمال القلب متفقة مع أعمال الجوارح، وأعمال الجوارح هي أثر من آثار أعمال القلب، فإذا انعدمت أعمال الجوارح في الظاهر كلها فعلاً وتركاً فإنا نجزم بأنه ليس في قلبه من أعمال القلب شيء، أي: ليس في قلبه من الإيمان شيء؛ لأن ترك أعمال الجوارح معناه: أن يترك جميع ما أمر الله به من الأفعال، كالصلاة والصيام والحج والزكاة، والأعمال الظاهرة جميعاً، وكذلك يدخل في أعمال الجوارح فعل المحرمات، فإن ترك المحرمات احتساباً من أعمال الجوارح، فإذا ترك الإنسان المعصية فهذا يدل على أنه عمل.
فالصورة المفترضة عند من يرى أن ترك أعمال الجوارح غير مكفرة هو أنه يرى أنه لو ترك أعمال الجوارح الفعلية جميعاً بمعنى: أنه فعل جميع المعاصي لا يكفر، وهذا مستحيل أصلاً، فإن باطن الإنسان متعلق بظاهره، ولا يختلف تعلق باطن الإنسان بظاهره إلا في حالة الإكراه، فإن الإكراه حالة مستثناةٌ تجعل الإنسان في حالة غير طبيعية، بحيث إنه يعتقد شيئاً ولا يستطيع أن يعمله، ويمتنع عن عمله لوجود المكره له، لكن في الحالة الطبيعية وهي الحالة التي نعرف الإيمان من خلالها هي: أن عمل القلب مرتبط تماماً بعمل الجوارح، فإذا انتفى عمل الجوارح بالكلية فإنه كذلك ينتفي عمل القلب بالكلية، وكذلك العكس، إذا انتفى عمل القلب بالكلية انتفى عمل الجوارح بالكلية، هذا في الحالة الطبيعية.
أيضاً هناك حالة مستثناه غير الإكراه وهي حالة النفاق، فإنه قد ينتفي العمل الباطني بالكلية ومع هذا توجد أعمال ظاهرها الإسلام، لكن هذه الأعمال التي في الظاهر للإسلام يفعلها المنافق حتى يتقي السيف، أو يتقي التكفير، أو يتقي هجران الناس، ونحو ذلك من الإحراجات التي يواجهها في المجتمع الإسلامي، لكن الصورة التي نتحدث عنها، هي الصورة الطبيعية للإنسان الطبيعي بدون إكراه وبدون نفاق، هذا إذا وجد عنده عمل القلب، وجد عنده عمل الجوارح مباشرة، وإذا انتفى عنه عمل القلب انتفت عنه عمل الجوارح مباشرة، وهكذا العكس: إذا وجدت عنده أعمال الجوارح وجد عنده عمل القلب وبقدر نقصان أعمال الجوارح ينقص عمل القلب، وبمقدار نقصان عمل القلب ينقص عمل الجوارح.
ولهذا أخطأ المرجئة والخوارج خطأً كبيراً في هذه المسألة مما أدى إلى حصول البدع عندهم، فنجد أن المرجئة صورت أنه يمكن للإنسان أن لا يكون لديه عمل في الظاهر أبداً، يعني: ليس لديه عمل من أعمال الظاهر بالمرة، ومع هذا يكون لديه عمل في الباطن، وهذا محال وغير واقع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، فجعل التلازم بينهما تلازماً تاماً، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا صلح القلب صلحت الأعضاء وإذا فسد القلب فسدت الأعضاء.
هذا ما يتعلق بنشأة الإرجاء، وما يتعلق بظهور الطوائف المخالفة لمنهج أهل السنة فيه.
وحينئذٍ سمى ابن تيمية رحمه الله وكثير من أهل العلم الأشاعرة: جهمية؛ لأنهم على طريقة جهم ، ومما يدل على عقيدة الأشاعرة هذه كلام الباقلاني في الإنصاف، فإنه عرف الإيمان بأنه التصديق وقال: هذا هو المعروف في اللغة، حيث إن اللغة الإيمان فيها: هي التصديق دون أعمال الجوارح وأعمال القلب، ويمكن أن ننقل لكم من كتب الأشاعرة كتاب (المواقف في علم الكلام) ومؤلفه هو: عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي ، وهذا الكتاب يدرس في كثير من جامعات العالم الإسلامي ومنها الأزهر، يقول في تعريفه لحقيقة الإيمان:
المقصد الأول في حقيقة الإيمان: اعلم أن الإيمان في اللغة التصديق، قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17] أي: بمصدق، وقال عليه الصلاة والسلام: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) أي: تصدق، وأما في الشرع فهو متعلق بما ذكرنا من الأحكام، فهو عندنا وعليه أكثر الأئمة كالقاضي -يعني: القاضي أبو بكر الباقلاني -والأستاذ- وهو الإسفرائيني - يقول: التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورةً.
إذاً: تعريف الإيمان: هو التصديق فقط، والعجيب: أنه فرق بين قولهم وقول السلف، فهو يقول: وأما في الشرع -يعني: حقيقة الإيمان- فهو عندنا -يعني: عند الأشاعرة- وعليه أكثر الأئمة كالقاضي والأستاذ: التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة، ثم يقول: وقال السلف وأصحاب الأثر: إنه مجموع هذه الثلاث، فهو تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان، ففرق بين السلف وبين قوله وقول أصحابه!
فنجد أن أصحاب الدعوة الإسلامية اختلفوا على ثلاث طواف:
الطائفة الأولى: هي التي انتهجت منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، ورأت أن الإيمان عمل بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، وعرفوا الإيمان بأنه قول وعمل، ورأوا أن هذه الثلاث جميعاً من أركان الإيمان إلا التفصيلات، يعني: الإيمان قول القلب فإذا زال قول القلب بالكلية زال الإيمان، وقول اللسان، فإذا زال قول اللسان بالكلية زال الإيمان، وعمل القلب فإذا زال عمل القلب بالكلية زال الإيمان، وعمل الجوارح فإذا زال عمل الجوارح بالكلية زال الإيمان، لكن إذا زالت بعض فقرات من هذه الأركان الأربعة فإنه لا يزول الإيمان، إلا التصديق القلبي، فإنه لا ينقص التصديق إلا بالشك، إلا إذا اعتبرنا أن التصديق عمل من أعمال القلب فحينئذٍ نقول: إنه يزيد وينقص.
أما بقيتها الثلاثة فإن منها الواجب الذي يأثم الإنسان بتركه، ومنها الركن الذي يكفر الإنسان بتركه، ومنها المستحب الذي لا يعاقب الإنسان بتركه، ومنها غير ذلك، فمثلاً: من أعمال الجوارح رد السلام، فرد السلام من الإيمان، فلو ترك الإنسان رد السلام لا يكفر، وكذلك السنن من الإيمان، كركعتي الفجر من الإيمان، والوتر من الإيمان، فإذا تركها الإنسان لا يكفر، وكذلك كثير من أعمال القلب مثل: محبة الله، ومحبة الله نفسها تزيد وتنقص، فبعض الناس محبته لله قوية جداً، وبعض الناس محبته لله أقل، لكن إذا زالت المحبة من أصلها بحيث لا يكون هناك محبة بالمرة حينئذٍ لا يكون مؤمناً.
نرجع إلى حديثنا عن موضوع دخول الإرجاء في الدعوة الإسلامية فأقول: صار أصحاب الدعوة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من تبنى منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم وعرف الإيمان بأنه قول وعمل، وأن أركانه ثابتة فيه، وأن العمل ركن منه، سواءًً عمل القلب أو عمل الجوارح، وقالوا: إنه يزيد وينقص إلى ما هنالك من مسائل الإيمان.
وطائفة ثانية: اعتبرت أفراد العمل من حقيقة الإيمان نفسه، يزول الإيمان بزوالها وهم الخوارج، فقالوا: إن الإنسان لو ترك واجباً من الواجبات كرد السلام مثلاً أو صلة الأرحام فإنه يكون كافراً خارجاً عن الإسلام، وهذا غلو وإسراف مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تحدثنا سابقاً عن الخوارج.
الطائفة الثالثة: هم الذين تبنوا الإرجاء، والذين تبنوا الإرجاء من المشتغلين بالدعوة على أصناف أيضاً.
فمنهم: من تبنى الإرجاء كإرجاء الأشاعرة.
ومنهم: من كان أقل من ذلك، وسيأتي بيان ذلك.
فممن تبنى الإرجاء على أصول الأشاعرة من المعاصرين: الشيخ حسن أيوب في كتاب له اسمه: (تبسيط العقائد الإسلامية) يقول في صفحة (33): حكم النطق بالشهادتين، الشهادتان هما: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والنطق بهما شرط لإجراء الأحكام الدنيوية على المسلم مثل تزويجه المسلمة، والصلاة خلفه، والصلاة عليه إذا مات، ودفنه في مقابر المسلمين، فإذا لم ينطق لعذر كالأخرس أو لم يتمكن من النطق بهما بأن مات عقب إيمانه بقلبه فهو ناج عند الله.
أما إذا استطاع النطق، ووجد وقتاً كافياً ولم ينطق بالشهادتين، فإن كان عدم النطق عناداً فهو كفر، ولا عبرة بالتصديق القلبي، أما إذا كان عدم النطق لخوفه من الهلاك فالإيمان صحيح، إلى أن قال: أما من لم ينطق بالشهادتين لغير سبب من الأسباب ولكنه مصدق بقلبه ومطمئن إلى دين الله وأحكامه فالقول الراجح: أنه ناجٍ عند الله، يعني: لو أن إنساناً ترك النطق بالشهادتين متعمداً لكنه -كما قال- ليس عناداً وليس رفضاً قال: فهو ناجٍ عند الله، وإن كان لا يعامل معاملة المسلمين لعدم العلم بإيمانه وعدم الدليل عليه، ثم يقول: لقد حذر الشرع من الأمور المنافية للإيمان وحكم بكفر من يرتكبها، وذلك كالسجود للصنم اختياراً أو الاستهانة بالفرائض أو التلفظ بكلمة الكفر أو نحو ذلك.
إذاً: الشيخ حسن أيوب يعتبر أن من ترك النطق بشهادة لا إله إلا الله من غير سبب من الأسباب لكنه مصدق بقلبه فهو ناجٍ عند الله سبحانه وتعالى، وهذا هو مذهب المرجئة كما سبق أن بينا.
وممن تبنى الإرجاء في هذه الأيام صاحب كتاب (إحكام التقرير في أحكام التكفير) فإنه عرف الكفر بأن حقيقته: هو التكذيب والجحود القلبي، وهذا لا شك أنه تعريف المرجئة؛ لأن المرجئة خالفوا منهج أهل السنة ومذهب أهل السنة في تعريف الإيمان، وكذلك في تعريف الكفر؛ لأن الكفر عكس الإيمان، فإذا كان الإيمان عندهم التصديق، فالكفر سيكون التكذيب حينئذٍ، وأما غير التكذيب فليس بكفر عندهم، فلو أن إنساناً أعرض عن دين الله عز وجل بالمرة وتولى عنه، فإنه لا يعتبر كافراً عندهم ما دام أنه مصدق؛ ولهذا صدرت عن اللجنة الدائمة ثلاث تحذيرات من ثلاث كتب كلها تتبنى الإرجاء، وأصحابها ممن ينتسب إلى الدعوة إلى الله عز وجل، فمثلاً كتاب (إحكام التقرير في أحكام التكفير) حذر منه المشايخ لتبنيه قول غلاة المرجئة، وكتاب (ضبط الضوابط في الإيمان ونواقضه) حذرت منه أيضاً اللجنة لتبنيه الإرجاء، وكذلك كتاب (الحكم بغير ما أنزل الله، وأصول التكفير) حذر منه المشايخ لتبنيه مذهب الإرجاء، وهذا يدل على أن مذهب الإرجاء بدأ ينتشر في صفوف من ينتسب إلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن هذا خطير ينبغي الحذر منه، وسنتحدث عما يترتب على مذهب الإرجاء فيما يأتي.
ثم يقول: اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق وهو: تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، ثم اعلموا: أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب.
وهذا مثل ما ذكرنا: أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً، خلافاً لقول حسن أيوب الذي نقلناه، ولا تجزئ معرفة القلب ونطق اللسان حتى يكون عمل بالجوارح، وهذا خلاف لمذهب من يرى أن ترك عمل الجوارح بالمرة لا يكون صاحبه كافراً وإنما يكون مؤمناً، فإن عمل الجوارح ركن في الإيمان، فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاث كان مؤمناً، دل على ذلك القرآن والسنة وقول علماء المسلمين، ثم ذكر جملة من الأدلة من القرآن والسنة على إثبات أن العمل من الإيمان، ثم نقل نصوصاً عن السلف الصالح رضوان الله عليهم تدل على أنهم لا يعتبرون الإيمان إيماناً إلا بالعمل، فساق بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه قالا: لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بقول، ولا قول إلا بنية، ولا نية إلا بموافقة السنة.
وأيضاً: نقل عن الحسن البصري أنه قال: الإيمان قول، ولا قول إلا بعمل، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بالسنة.
وقد تعددت تعبيرات السلف رضوان الله عليهم في نفي الإيمان عمن انتفى عنه العمل فنجد مثلاً أن بعضهم يقول: لا يكون كما جاء التعبير عند بعضهم، وبعضهم قال: لا ينفع، وبعضهم قال: لا يحصل، ونحو ذلك من التعبيرات، ونقل عن سفيان الثوري أنه قال: الإيمان قول وعمل، ونقل عن مالك بن أنس ونافع بن عمر الجمحي وغيرهما من السلف: أن الإيمان قول وعمل.
قال الحميدي : وسمعت وكيعاً يقول: أهل السنة يقولون: قول وعمل، والمرجئة يقولون: الإيمان قول، والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة، وهذا يدل على أن السلف ردوا على الأشاعرة من قديم، فإنكم تلاحظون أنه فرق السلف بين قول المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول، يعني: تصديق القلب، وبين قول الجهمية الذين يقولون: إنه المعرفة.
والحقيقة كما ذكر ابن تيمية أنه ليس هناك فرق ظاهر بين الاثنين، لكن فائدة التفريق هنا: أن نعلم أنهم ردوا على الجهمية، وكذلك ردوا على الأشاعرة وغيرهم، وقد نقل نصوصاً كثيرة ثم بوب باباً مستقلاً سماه باب ذكر كفر من ترك الصلاة، وذكر النصوص: (ليس بين العبد المسلم وبين الشرك إلا ترك الصلاة).
من آثار الإرجاء الانحراف في مفهوم لا إله إلا الله، وفي مفهوم العبادة الشرعية، فإن مفهوم: لا إله إلا الله صار عند المرجئة معناه: لا خالق ولا رازق ولا محيي ولا مميت إلا الله سبحانه وتعالى، ومفهوم العبادة عندهم صار هو اعتقاد أن الله هو الخالق الرزاق المحيي المميت، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.
وتهوين هذه الأعمال مع أمور أخرى أساسه الإرجاء، فإنه لما انتشر في حياة الأمة: أن الإيمان هاهنا وأن التقوى هاهنا، وأن الإنسان إذا كان قلبه طيباً فأعماله ليست مشكلة، وتجد كثيراً من الناس يرددها في المنتديات العامة وفي المجالس العامة، وتجد أن بعض الناس يردد أنه أهم شيء قلبك، فإذا كان قلبك صافياً وطيباً ستدخل الجنة بإذن الله، حتى لو كانت أعمالك غير سليمة، أما إذا لم يكن القلب طيباً فهذا يدل على أنك لن تدخل الجنة، فلما تربى أبناء المسلمين على هذه الفكرة والبذرة الخبيثة انتشر التهاون بهذه الطريقة.
وقارنوا بين المجتمعات المعاصرة الآن، والمجتمعات قبل أكثر من ألف سنة، تجدون أن الناس كانوا يتخوفون من المعاصي وبالذات من الكبائر، وذلك لوجود من ينهى عنها ويحذر عنها من أهل العلم الصادقين، يخافون من المعاصي ويخافون من الذنوب مع وجود من يرتكبها ولا يأبه بذلك، لكن كظاهرة عامة في المجتمع ليست كحال الناس اليوم.
أما الناس اليوم، فأي إنسان يستطيع أن يرصد هذه القضية الواضحة، وانظر إلى مخالفات الناس للشرع تجد عجب العجاب! في مجال الأعراض، وفي مجال الأخلاق، وفي مجال التعامل، وفي مجال الكلام، وفي مجال النساء، وفي الرجال، أشياء عجيبة انتشرت في حياة المسلمين ما كانوا ليتجرءوا عليها لو أنهم يعتقدون اعتقاداً جازماً أن العذاب مصير من يفعل هذه الأعمال.
وليس الإرجاء هو وحده الذي أوصل إلى هذه الظاهرة، وإنما كذلك الغفلة وأمور أخرى، لكن الإرجاء هو الذي هوّن الأمر عند هؤلاء، فتجد أنهم يمارسون المعاصي وكبائر الذنوب بشكل عادي ولا تؤنبهم ضمائرهم، لكن لو أنهم يعرفون الأحاديث، ويعرفون الآيات ومع هذا يمارسونها سيجدون تأنيب الضمير، وسيخافون من هذه المعاصي، لكن ينشأ الصغير على ما نشأ عليه الكبير من أن التقوى هاهنا، ومن أنه إذا كان عملك طيباً فإنك تكون من الصالحين حتى لو كان عملك الظاهر غير ذلك، وأصبح كثير من الناس يقول: ليس المهم هو اللحية وتقصير الثياب، وليس المهم أن الإنسان يترك الدش مثلاً، وليس المهم هو أن الإنسان لا تكون أمواله في البنوك الربوية ونحو ذلك، وإنما المهم أن يكون قلبك نظيفاً وطيباً، وكيف يكون قلبك نظيفاً وطيباً وأنت تفسده بهذه الأعمال؟!
ولهذا لما انفصل في المفهوم العمل عن القلب صار الناس يتجرءون على المعاصي كما بينّا.
وقد سبق أن نقلنا نصوصاً عن بعض الملاحدة الذين تجرءوا على دين الله عز وجل، ولو وجد هؤلاء أصحاب عقائد صحيحة لتبين كفرهم، فتعلن ذلك وتفصح به لِتَرددِ هؤلاء عن إظهار هذه العقائد الباطلة، وعلى أقل تقدير إذا لم يكن مقتنعاً بالدين فسيكتم زندقته في قلبه ولا يظهرها، لكن لما انتشر الإرجاء في حياة المسلمين وصار كثيرٌ من الناس يعتبر أن كل من كفر ملحداً فهو متشدد وأنه على مذهب الخوارج ونحو ذلك، صار كثير من هؤلاء الملاحدة يتجرءون، ووُجِهوا بكلامهم وقال الرجل منهم: أنا مسلم وهو يسب الله، ويسب الرسول، ويسب الأديان، ويسب الملائكة ومع هذا يقول: أنا مسلم، وتروج هذه الكلمة في أهل الإرجاء ويعتبرونه مسلماً لمجرد قوله: أنا مسلم، وهذا يدل على أن انتساب الإنسان للإسلام وللإيمان لا يعني أنه يكون مستمراً إذا خالفه وخرج عنه بأي ناقض من النواقض.
أما في المفهوم: فإن التوحيد مرتبط بالإيمان، أي: التوحيد داخل في الإيمان، فلما انحرفوا عن التوحيد وعن الإيمان وقالوا: إن الإيمان هو تصديق القلب فقط، وأما عمل الجوارح وعمل القلب فلا يدخل في الإيمان، كذلك قالوا: إن عمل القلب وعمل الجوارح لا يدخل في التوحيد؛ لأن التوحيد هو توحيد الربوبية وهو اعتقاد: أن الله الخالق الرازق المحيي المميت.. إلى آخره. وهذا الاعتقاد في الإيمان، وهو أيضاً إفراد الله بالعبادة وهذا عمل القلب والجوارح.
فهم لما أخرجوا العمل عن الإيمان أخرجوا كذلك عمل القلب وإفراد الله بالعبادة من التوحيد، فأصبحت حقيقة التوحيد عند هؤلاء هو توحيد الربوبية فقط، وأصبح حقيقة الإيمان هو: التصديق فقط، وحينئذٍ أصبح عند هؤلاء المرجئة لو أن إنساناً طاف بقبر أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله فإنه لا يعتبر كافراً خارجاً عن الإسلام؛ لأنه ما زال مصدقاً، فالذي يستغيث بغير الله، ويقول: أنا أعتبر هذا واسطة عند الله، أو يدعو غير الله، أو يطوف بالقبور أو يذبح لها أو يتعبد لها، أو يذهب إلى السحرة والكهنة والمشعوذين أو يكون من السحرة والكهنة والمشعوذين ونحو ذلك، لا يعتبره المرجئة كافراً ما دام أنه مصدق بالله، ولا يعتبرونه كافراً إذا كان مصدقاً بالله.
وهكذا كثير من أصحاب المذاهب المنحرفة لم يعتبروهم كفاراً، ولم يعتبروا تغيير الدين واستبداله بالقوانين الوضعية كفراً يخرج عن الإسلام، فصار الخلاف مع هؤلاء المرجئة في عدد كبير من المرتدين الذين خرجوا في الحقيقة عن الإسلام وهم ينسبونهم إلى الإسلام، ولهذا ظاهرة القبورية والذبح لغير الله والنذر لغير الله نشأت من المرجئة، وظاهرة الاستغاثة بغير الله نشأت من المرجئة، ولهذا تجد أن غالب الصوفية يعظمون الأشاعرة، فمثلاً: محمد علوي مالكي في كتابه: (مفاهيم يجب أن تصحح) أفرد عنواناً خاصاً للأشاعرة وعظمهم وبين أهمية اعتقادهم؛ لأن منهج الأشاعرة أصبح هو السند العلمي لانتشار التصوف وانتشار ظاهرة القبورية في حياة المسلمين، وأصبحت ظاهرة القبورية في حياة المسلمين فتنة لكثير من الناس.
إذاً: نلاحظ أن الإرجاء كان سبباً في انتشار القبورية وكان سبباً في انتشار العلمانية، وكان سبباً أيضاً في انتشار القوانين الوضعية؛ ولو أن الأمة فهمت أن القوانين الوضعية هذه معناها: أنه لا شرعية لهم كالإسماعيلية وكالطوائف الكافرة، ومثل أيام الاستعمار عندما كان البريطانيون يحكمون بلاد المسلمين حكماً مباشراً، لكن كثيراً من هؤلاء لم يتفهم ولم يُفهم هذه القضية، أو أن الأمة كانت غائبة عن هذه القضية فلم تعتقدها وتتبناها بقوة.
كانت النتيجة أن رماهم المرجئة في طول البلاد الإسلامية وعرضها عن قوس واحد وقالوا: هؤلاء خوارج، وقالوا: هؤلاء حرورية ومعنى: حرورية: نسبة إلى حروراء القرية التي ظهر فيها الخوارج.
فإن قال قائل: لماذا اعتبروهم خوارج؟
فالجواب: اعتبروهم خوارج لأنهم التزموا بالدين الصحيح وهم على مذهب آخر، وهو الإرجاء الباطل، وهكذا أتباع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وهم أتباع المنهج الحقيقي، بغض النظر عن الدعوات وإن كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى هو الذي جدد هذه الدعوة وأبرزها وأظهرها وألف فيها وألف تلاميذه فيها، لما ظهر أتباعهم بنفس القول اعتبرهم كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام أنهم من المتطرفين المصاصين للدماء الذين يريدون القضاء على حضارة القرن العشرين كما يعبرون.
وتلاحظون أيضاً: أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تعاملت مع أصحاب المنهج العلماني بنفس التعامل الذي تعاملت به مع الطواف حول القبور والذبح لها، وأضرب لكم بمثال على هذا؟
لما جاء محمد علي باشا وقد كان رجلاً يعتبرونه متمدناً؛ لأنه اتفق مع أوروبا وأرسل إرساليات لأوروبا وجاءت الإرساليات، وبدءوا يدندنون حول العلمنة وإن لم تكن بصورة صارخةٍ كالصورة الموجودة في حياة المسلمين الآن، ووشى الأوروبيون إلى الأتراك فطلبوا من محمد علي باشا أن يقاتل العلماء الذين كانوا في نجد في تلك الفترة، فأرسل محمد علي باشا حملة يقودها ابنه إبراهيم باشا ، ودخلت الحملة عن طريق الحجاز إلى نجد ودخلوا عليهم في الدرعية ودخلوا عليهم في بقية المدن، وأخذوا قراهم قرية قرية، ووصلوا إلى مدينة الرس، وهي مدينة موجودة الآن، وكان شيخهم وعالمهم من علماء الدعوة السلفية يسمى جرناس الجرناس ، وكان هذا العالم مجاهداً في نفس الوقت، فاجتمع أهل الرس في تلك الفترة وقاتلوا إبراهيم باشا ولم يستسلم، فحاصرهم أكثر من عشرين يوماً، ورماهم بالبارود ورموه هم حتى نفد ما معهم من البارود، فلما نفد ما معهم من البارود جمع هذا الشيخ جماعته وقال: ماذا ترون؟ فقالوا: الرأي إليك، قال: لا نستسلم، فاخترعوا فكرة وهي أنهم جعلوا في الحصن أحواضاً وملئوها بالماء، فإذا جاءتهم قذيفة من قذائف إبراهيم باشا أخذوا هذه القذيفة وبردوها ثم أخذوا ما فيها من البارود فأصبحوا يقاتلون إبراهيم باشا بنفس البارود الذي يرميه عليهم فلم يستسلموا، فخضع إبراهيم باشا للصلح، فلما خضع إبراهيم باشا للصلح طلب أن يلتقي بهذا الشيخ، فقال: الموعد يوم الجمعة تأتينا صباحاً وأعطاه الأمان، فدخل إبراهيم باشا ومعه بعض مستشاريه إلى الحصن الذي كان في الرس وتفاوضوا على الصلح، فتكلموا إلى أن جاءت صلاة الجمعة فنهض جرناس الجرناس خطيباً يعظ الناس ويوجههم ويعلمهم الخير، ثم انصرف إبراهيم باشا بعد أن انتهى من الصلح مع أهل الرس، فلما رجع إلى مصر جاءه بعض المنتسبين إلى العلم ممن كان يريد مصالح دنيوية فلم يلتفت إليه وأعرض عنه، فاستغربوا إعراضه، فبعد فترة قال: لستم أنتم العلماء الحقيقيون، العلماء الحقيقيون هم الموجودون في نجد، ويقصد بهم: أصحاب الدعوة السلفية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
ولهذا يا إخواني الذي يقرأ في تراث الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته يجد أن تغيير أحكام الشرع كفر مخرج عن الملة، ويجد أن الطواف حول القبور مخرج عن الملة، ويجد ردوداً قوية جداً على الإرجاء والمرجئة، فأنت إذا رجعت إلى كتاب يقرؤه أكثر الشباب والطلاب وهو كتاب (كشف الشبهات) تجد أن من الشبه التي أجاب عنها الشيخ شبهة المرجئة وهي قولهم: أن هذا الذي يطوف حول القبور ويذبح لها يقول: لا إله إلا الله، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل من قال: لا إله إلا الله، فرد الشيخ عليهم وقال: إنه إذا قال: لا إله إلا الله وعمل بها فلا يقتل، لكن إذا قال: لا إله إلا الله ثم نقضها فإنه يقتل، ثم ضرب لهم أمثلة، قال: لو قال: لا إله إلا الله وجحد وجوب الصلاة، قالوا: يكفر، قال: إذا قال: لا إله إلا الله وفعل مثل ما فعل المرتدين وجحد وجوب الزكاة؟ قالوا: يكفر، قال لهم: وإذا قال: لا إله إلا الله، وادعى أن مسيلمة الكذاب نبي صادق؟ قالوا: يكفر، قال: إذاً: قول لا إله إلا الله وحدها لا تكفي، لابد أن يضاف إليها العمل، ولا بد أن يضاف إليها ترك نواقض الإيمان، فإذا لم تترك نواقض الإيمان فإنه حينئذٍ لا يكون هناك إيمان، ولا تنفع الكلمة التي ينقضها عمل، وهذا مثاله في الأمور الطبيعية: لو أن إنساناً قال: أحبك ثم لطمك، ألستم تشعرون بازدواجية بين المحبة واللطم؟ ازدواجية واضحة، فكذلك إذا قال: لا إله إلا الله ثم لم يلتزم بـ(لا إله إلا الله)، هذا مثل من يقول: أحبك ثم يلطمك بعد ذلك.
هذا ما يتعلق بهذه الفرقة، ويمكن أن تراجع كتب أهل العلم في هذا الموضوع وهو موضوع حساس ومهم، ويمكن مراجعة كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو من أفضل الكتب.
وبعض الأحيان أيها الإخوة تجدون أن بعض الناس يقرر التقرير العام في الإيمان مثل أهل السنة، لكنه يأتي في بعض المسائل فيخالف منهج أهل السنة في التقرير، فيأتي إلى موضوع عمل الجوارح فيخرجه عن حقيقة الإيمان معنىً ويثبته لفظاً، فيقول: العمل من الإيمان، لكن يخرجه في الحقيقة فلا يرتب عليه كفراً، وكذلك عمل القلب ونحو ذلك من الأعمال.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح.
وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر