بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
ففي المحاضرة الماضية سمعتم بإيجاز شيئاً عن عقيدة أهل السنة والجماعة، وسنأخذ اليوم بإذن الله الشق الثاني من هذا الموضوع: وهو موقف الحركات الإسلامية منها.
ونقدم لهذا الموضوع بمسألتين مهمتين:
الأولى: حقيقة الانتساب إلى أهل السنة والجماعة.
والثانية: مستلزمات هذا الانتماء.
إن المتأمل لواقع الدعوات والحركات الإسلامية المعاصرة الآن يجد أن غالبها يدعي الانتماء إلى أهل السنة والجماعة، وهذه الدعوى قد تكون صادقة، وقد تكون دعوى ترويجية، ومسألة دعوى الانتساب إلى أهل السنة والجماعة تحتاج إلى شيء من التحقيق لدى الحركات الإسلامية المعاصرة في سائر بلاد المسلمين، بل في سائر العالم، فمسألة الانتماء لأهل السنة والجماعة مثلها مثل الانتماء إلى الإسلام نفسه، فهناك الكثير من الفرق تدعي الإسلام، فمنها ما هو مسلم بحق، ومنها ما في دعواه نظر، فمثلاً: نجد أن الرافضة اليوم تدعي الإسلام، بل إنها الآن رفعت شعار الوصاية على الإسلام والمسلمين، فهل هذه الدعوى حق؟ لا، وكذلك قديماً رفعت فرق كثيرة راية الإسلام، وكانت من معاول الهدم للإسلام نفسه، كالمعتزلة والجهمية والخوارج والحركات الباطنية والحركات الصوفية الغالية والحركات الفلسفية الغالية، ومثل: القاديانية مثلاً في عصرنا الحاضر، والبهائية والبهرة والنصيرية والإسماعيلية، كل هؤلاء وغيرهم كثير يدعون أنهم من المسلمين، وأحياناً يدعون أنهم هم المسلمون.
فكما تجد هذه الدعوى في مسألة الانتماء للإسلام أيضاً تجد في مسألة الانتماء لأهل السنة والجماعة، وإن كانت أخف في الحقيقة.
إذاً: لا شك أن من الحركات والدعوات الإسلامية المعاصرة ما هو جدير بالانتماء لأهل السنة حقاً، ومنها ما هو بعيد كل البعد، ومنها ما هو بين ذلك، فهناك من الدعوات من يرفع شعار أهل السنة والجماعة وهو كاذب وهو مروج، وهناك من يرفع شعار أهل السنة والجماعة وهو صادق، لكنه لا يعرف منهج أهل السنة والجماعة، خاصة تلك الدعوات التي تنتمي إلى الأشاعرة والماتريدية، فهذه الدعوات ترفع شعار أهل السنة والجماعة، وقد تكون في كثير من أصولها على حق في ذلك، لكن عند التحقيق في انتمائها إلى أهل السنة لابد من شيء من التفصيل. وهذه هي النقطة الأولى.
النقطة الثانية: مستلزمات الانتماء لأهل السنة، وهذه لابد أن أقولها قبل أن أعرض لبعض مواقف الدعوات المعاصرة من مذهب أهل السنة والجماعة قولاً واعتقاداً وعلماً وعملاً.
فكما ذكرت سابقاً أن أغلب الدعوات والحركات الإسلامية المعاصرة، الآن يرفع شعار أهل السنة والجماعة، لكن منهم ما يعي ما يقول، ومنهم من ينتمي مجرد انتماء، لكنه يجهل أصول أهل السنة والجماعة وقد لا يعمل بها وقد يخالفها، ومنهم من لا يهمه إلى أي عقيدة ينتمي كما سيأتي بيانه، والآن سأعرض لأهم المستلزمات في نظري التي ينبغي أن يعمل بها ويعتقدها من ينتمي لأهل السنة والجماعة.
أهم ما يلزم لمن ينتسب لأهل السنة والجماعة: تعلم عقيدتهم والتشبع بها، وأن يكون ملماً بأصولها في الجملة.
الثاني: لابد لمن ادعى الانتساب لأهل السنة والجماعة أن يدعو إلى عقيدتهم علناً، ويبينها للناس ويذود عنها؛ لأنها هي الحق، كذلك أن يُظهر أثرها على أفكاره وتصوراته وأحكامه وأهدافه وعلى أقواله وكتاباته، بل وعلى سلوكه وأعماله، سواء كان فرداً أو جماعة، لاسيما الدعاة، فالدعاة مطالبون أكثر من غيرهم بأن تظهر عقيدة أهل السنة والجماعة على كل ما يصدر عنهم من أفكار وأحكام ومعتقدات وأعمال وسلوك، فلابد من الإيمان تفصيلياً بأصول العقيدة، كأصول الإيمان، وأصول التوحيد، وأصول الأسماء والصفات، والقدر، وحقوق الصحابة، ولابد أن يكون متمسكاً بالسنن والأخلاق الفاضلة التي هي من أصول أهل السنة والجماعة، ولابد أن يكون على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه السلف الصالح، في هديه الظاهر، وفي اعتقاده الباطن.
الثالث: يجب على الداعية أن يقتفي منهج أهل السنة في الدعوة، وذلك من خلال إظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن خلال النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، ومن خلاف تربية الدعاة والمنتسبين للدعوة أياً كانت على هذه الأصول بكل دقة وحزم.
الرابع: من مستلزمات الانتساب لأهل السنة والجماعة: موالاة دعواتهم ودعاتهم وأئمتهم من الماضين والمعاصرين، مثل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي هي بمثابة الدعوة السلفية المعاصرة، والتي لا تزال حية بأصولها ومنهجها وأتباعها، فهذه الدعوة هي أظهر الدعوات المعاصرة في إظهار وإبراز مذهب أهل السنة والجماعة عقيدة وعملاً، لذلك أرى أنه من أوجب الواجبات على الدعوات المعاصرة أن تعلن ولاءها لهذه الدعوة بأي شكل وبأي صيغة وبأي أسلوب؛ لأنها هي الدعوة الحية التي يتمثل بها منهج أهل السنة والجماعة في الاعتقاد والقول والسلوك.
الآن سأعرض لواقع الدعوات المعاصرة أو بعضها بدون تشخيص، من أجل أن نعرف مدى تمسك الدعاة والدعوات في العموم بمذهب أهل السنة والجماعة، وحيث أن هذه المستلزمات التي ذكرتها وغيرها تحتاج إلى تطبيق على الواقع ليتبين المراد منها، فإني الآن سأبين شيئاً من الأمثلة لما عليه بعض الدعوات والدعاة والحركات الإسلامية أفراداً وجماعات من مخالفات بينة لعقيدة أهل السنة والجماعة منهجاً وسلوكاً.
والمنهجية تقتضي مني أن أذكر أمثلة من الدعاة بأسمائهم والدعوات أيضاً بأسمائها، لكن ومع ذلك سأتخطى هذه المنهجية وتعذروني؛ وذلك خوفاً من مغبة التشهير ومظنة الشماتة بالآخرين، وهذا يجعلني أعرض شيئاً من الأخطاء التي وقع فيها الدعاة أو الدعوات المعاصرة دون ذكر للأسماء أو العناوين، انطلاقاً من قاعدة: (ما بال أقوام) التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أرى من المصلحة أن نذكر أسماء، فالطالب المحقق سيتعرف على ما أريده من خلال البحث.
والآن سأطرح بعض التساؤلات حول واقع الدعوات المعاصرة، وحول مواقفها حيال هذا الأمر العظيم، يعني: عقيدة أهل السنة والجماعة.
فأقول: أولاً: كيف ينتمي إلى أهل السنة والجماعة من يؤول صفات الله سبحانه وتعالى، بل ويقول على الله بغير علم، ويقع فيما حذر منه السلف من تقديم المقررات العقلية الظنية الناقصة على النقل، على كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، خاصة في صفات الله، وفي القدر، وفي سائر أمور الغيب، وأمور العقيدة؟
إن بعض الدعوات القائمة تقوم على أساس التأويل، وعلى أساس الخوض في العقيدة بمجرد العقل، وهذا مذهب كلامي للفرق التي جانبت أهل السنة والجماعة في هذه الناحية.
ثانياً: كيف ينتمي إلى أهل السنة والجماعة من يرى أن الطرق الصوفية المبتدعة منهجاً سليماً للدعوة؟ والكتاب والسنة بحمد الله موجودان، وقد رسم الله فيهما المنهج والطريق المستقيم لكل مسلم يريد أن يسلك سبيل الخير وسبيل الهداية، وهذه دعوى عريضة بدأت الآن، وقد رفعها بعض المخلصين إن صدق التعبير، لكن دون تشرب لعقيدة السلف، ودون معرفة واضحة لمذهب أهل السنة والجماعة.
إن اعتماد الطرق الصوفية أو التصوف منهجاً للدعوة هذا أمر خطير جداً، وينسف قواعد أهل السنة والجماعة.
ثالثاً: كيف يدعي الانتساب لأهل السنة والجماعة من الدعاة من يدافع عن البدع وعن أصحابها، وربما يروج أيضاً بعض البدع أو يرضى بها على الأقل، ويرى أن أمر البدع والخرافات والطرق الصوفية أمر يسير، ويجب أن يتخطاه المسلمون في هذه المرحلة، بل منهم من يرى أن مسائل بدع القبور والصوفية.. ونحوها من مسائل الدين غير المهمة، كبدع الموالد، والاحتفالات الدينية البدعية؟ فأين هذا من عقيدة السلف؟ من الدعاة من يمارس هذه البدع، ومنهم من يستهين بأمرها ويهون من خطرها، ومنهم من يروجها، أرى أن هذا مسلك خطير يخالف أصول أهل السنة كل المخالفة، ولا ينبغي لمن يدعي الانتماء لأهل السنة والجماعة أن يسلك هذه المسالك، فإما أن يلتزم بمذهب أهل السنة والجماعة منهجاً وسلوكاً، أو يعفي أهل السنة من هذه الاتجاهات الخطيرة.
هناك من الدعاة الكبار الذين ينتمون إلى حركات إسلامية مشهورة وذات شعارات عالية من يتمسح بالقبور والأولياء، ومنهم من يتمسح بالأموات والأحياء، ويتبرك بهم التبرك غير الشرعي، ويطلب منهم كشف الضر وجلب النفع، ويلجأ إليهم في السراء والضراء، وهذا أمثلته كثيرة، وقد استعفيتكم في أول الحديث عن ذكر أسماء، لكن يكفي أن أنقل هذه القواعد كما قررها السلف.
فمن يفعل هذه الأمور لا ينبغي أن يرفع شعار أهل السنة والجماعة، وكيف يدعي الالتحاق بأهل السنة والجماعة ويتصدر دعوات ويقود أناساً من الدعاة والمسلمين وهو لا يعرف عقيدة السلف على التفصيل ولا على الإجمال أحياناً؟ وكثير ما يُسأل بعض الدعاة الكبار المشاهير عن قضية بدهية من قضايا عقيدة أهل السنة والجماعة فنجده لا يجيب، وإن أجاب خلط، وهذا أمر كثير، والأمثلة عليه متوافرة عندي، من أرادها بيني وبينه فلا مانع.
كيف ينتمي إلى أهل السنة والجماعة من الدعاة والحركات من لا يكف لسانه ولا قلمه عن التعرض للنقيصة أو اللمز أو السباب لبعض الصحابة؟ وهذا أمر مع الأسف كثير جداً، نتيجته في الغالب الجهل بمبدأ أهل السنة والجماعة في هذا الجانب، بل منهم من يلمز أيضاً كثيراً من التابعين وأئمة الهدى المعتبرين وسلف الأمة الماضين، خاصة علماء السنة وعلماء الحديث، إن من يفعل هذا لا شك أنه إما أن يكون جاهلا بعقيدة أهل السنة والجماعة وهو الغالب، وإما أن يكون صاحب هوى أو صاحب بدعة.
كيف ينتسب لأهل السنة في السلوك والعمل من لا يطلب السنن الظاهرة، وربما يجهل أكثرها؟
كيف من ينتسب لأهل السنة والجماعة من يقصر في الواجبات، وينساق وراء الشهوات والمكروهات، وربما المحرمات دون ضرورة؟
وبعبارة أوضح: هناك من كبار الدعاة الذين يتصدرون جماعات لها شأنها، ويزعمون أنهم دعاة ثم يؤخرون صلاة الفرائض عن وقتها، وهذا أمر مشهود به ومتواتر، وليست قضية فردية ولا حوادث شاذة، بل يؤخرون صلاة الفرائض عن أوقاتها، كتأخير الفجر إلى بعد طلوع الشمس، وكتأخير الظهر إلى بعد العصر، أو تأخير العصر إلى بعد الغروب، هذا أمر يحدث كثيراً لاسيما في البلاد الأجنبية، تمشياً مع أوضاع تلك البلاد.
وهناك أيضاً من الدعاة الذين وصفتهم من لا يهتم بصلاة الجماعة، ومنهم من يستحل الربا والأغاني والموسيقى والصور المجسمة، أو يمارس محرماً من المحرمات المجمع عليها كالتدخين، أو حلق اللحية دون ضرورة، ومنهم من يتشبه بالكفار في لباسه ومظهره وسائر تصرفاته المعاشية، ومنهم من لا يهتم بالحجاب الشرعي للنساء، ومنهم من يقر الاختلاط المحرم، ومنهم من يفعل بعض هذه الأشياء، ومنهم من يفعل أكثرها.
إن هذه الأمور والمعاصي من الطبيعي أن توجد بين عامة المسلمين، لكن أن توجد هذه الأمور في دعاة يتصدرون الدعوة، ويرفعون لواء الإسلام، ويرفعون شعار أهل السنة والجماعة هذا غير مقبول أبداً؛ لأن من مستلزمات عقيدة أهل السنة والجماعة ألا يوجد شيء من هذا في سلوك الدعاة وعقائدهم.
هل يجدر ممن ينتسب لأهل السنة والجماعة بألا يجعل من أهدافه وأهداف دعوته تعلم وتعليم عقيدة أهل السنة والجماعة؟ وها هي مناهج الدعوة وكتبها موجودة، ومع ذلك لا نجد إلا القليل ممن يهتم بتعلم وتعليم عقيدة أهل السنة والجماعة، لكن الأكثر لا.
كيف يكون من أهل السنة والجماعة من يجعل من أهدافه في الدعوة تحاشي التظاهر أمام الآخرين باعتقاد أصول أهل السنة، باسم مصلحة الدعوة، أو تحاشي الرد على الفرق الضالة البدعية بدعوى تفادي إثارة الخلافات بين المسلمين؟ أي منطق حكيم بأن نغض الطرف أو نسكت عن نشر عقائد أهل السنة والجماعة وعن إعلانها بشبهة ألا نفرق المسلمين، فهذه مسألة لا تجوز شرعاً، فالله سبحانه وتعالى أمرنا بخلاف ذلك.
ومن الدعاة من يسعى إلى جمع المسلمين على اختلاف معتقداتهم وفرقهم ومذاهبهم واتجاهاتهم، وإن وجدت بينهم الضلالات المكفرة والبدع، وهذا كحاطب ليل، وهذا أمر لا يوافق منهج أهل السنة والجماعة وإن حلا لآخرين، ولا شك أن جمع كلمة المسلمين هدف عظيم، بل هو من أعظم أصول الدين التي يعتقدها أهل السنة والجماعة، فهم يرون الجماعة واجبة والخروج عنها هلكة وشذوذ، فلا ينكر ذلك إلا ضال أو جاهل، لكن يجب أن يكون جمع كلمة المسلمين على الحق، على الصراط المستقيم، على منهج أهل السنة والجماعة، على الكتاب والسنة، والاعتصام بحبل الله جميعاً، أما مجرد الشعارات الفارغة من الاعتقاد الحق فلا تجمع أحداً، بل تفرق.
إذاً: التغاضي عن عقيدة أهل السنة والجماعة وعن إعلانها بدعوى جمع الكلمة وجمع الشمل هذا أمر غير وارد وليس له دليل، بل هو على خلاف عقيدة وأصول أهل السنة، وكما قلت: جمع كلمة المسلمين هدف أساسي من أهداف الدين، لكن على الحق لا على الباطل ولا على البدع ولا على الضلالات.
وأخيراً: هذه الأمور التي أشرت إلى شيء منها ليست في واقع الدعوات المعاصرة والدعاة اليوم مجرد مظاهر أو تصرفات جزئية أو فردية، بل هي سمات ومواقف ومناهج وأهداف وسلوك عام لدى كثير من الدعوات والدعاة.
أشعر أنه من واجب النصح أن أفصل في هذا الأمر أكثر، وأن أبينه بكل وسيلة، وهو الواجب على طلاب العلم أكثر من غيرهم.
بعدما عرفنا عقائد أهل السنة والجماعة وعرفنا أيضاً أهم السمات لهم، وما يجب أن يكونوا عليه، وبعض الظواهر التي برزت من الدعاة والدعوات التي تخالف مذهب أهل السنة والجماعة ربما يتساءل سائل: من هم أهل السنة والجماعة المعنيون اليوم؟ الجواب: هناك لبس كبير يقع فيه كثير من الناس قديماً وحديثاً في هذه المسألة بالذات، وهذا اللبس جاء من دعوى كثير من الأشاعرة بأنهم هم أهل السنة، فهذه دعوى كبيرة، وفيها شيء من التفصيل؛ لأن فيها شيئاً من الحق لا شك، وفيها إيهاماً وخلطاً، وبيان هذا على سبيل التفصيل يحتاج إلى بحث طويل، لكني سأحاول أن أعرفه بإيجاز بالغ على النحو التالي، والسبب في ذلك أن كثيراً من الدعوات المعاصرة تنتمي للأشاعرة.
فأولاً: أهل السنة والجماعة هم الذين التزموا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً واعتقاداً، وهم الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفهم بالجماعة، وعليه فأهل السنة هم الصحابة والتابعون ومن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، ولم يبتدع ولم يغير، ومن غير أو بدل بعد هذه الأجيال أو أحدث في الدين ما ليس منه، مما لم يكن عليه الصحابة والتابعون في أمر العقيدة، فليس منهم فيما غير أو بدل، قد يكون فيما بقي عليه من أصول السنة من أهل السنة، ولكن لابد أن يكون فيما خالفهم خارجاً عنهم.
إذاً: المسألة تحتاج إلى شيء من التفصيل.
أما الأشاعرة والماتريدية وهما أغلب أو أكثر الفرق انتشاراً في العصر الحاضر، فإنهما من الفرق الكلامية الطارئة كما تعرفون، فالأشاعرة نشأت بعد القرون الفاضلة، فقد بدأت بوادرها في نهاية القرن الثالث، لكنها لم تستقر على أصول معينة وعلى مذهب واضح منفصل عن أهل السنة والجماعة في بعض قضايا وأصول الدين إلا بعد القرن الثالث.
إذاً: فرقة الأشاعرة خرجت بعد القرن الثالث، وهي تنتسب إلى الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتوفى سنة (324هـ) رحمه الله، وكان الإمام الأشعري معتزلياً، ثم تحول عن المعتزلة عام (300هـ) تقريباً، وصار محارباً للاعتزال، فصار يرد على المعتزلة بأساليبهم الكلامية من جانب، وبنصوص الكتاب والسنة من جانب آخر، إلى أن صار لساناً من ألسنة أهل السنة، وبهذا وقف الإمام الأشعري رحمه الله للمعتزلة وقفة يشهد بها التاريخ، وتصدى لهم هو ومن نهج نهجه حتى أفحمهم، وهذا عمل جليل يحمد عليه رحمه الله.
وفي جو تحول الأشعري من الاعتزال إلى صف أهل السنة والجماعة نشأ مذهب عقدي تلفيقي مخضرم لا هو سني خالص ولا كلامي خالص، حتى هدأت العاصفة، واستقر أبو الحسن الأشعري رحمه الله، وانجلى غبار المحاكاة ضد المعتزلة التي أبلى فيها بلاء حسناً، فخرج منتصراً على الاعتزال والجهمية ومن سلك سبيلهم، وهنا استبصر أبو الحسن الأشعري رحمه الله الحق، وعرف أنه إنما انتصر بتعويله على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونصره للسنة وأهلها، ووقوفه مع أئمة السلف الآخرين، فقبل هذه الفترة كان الإمام الأشعري لا يزال متأثراً بالاتجاه العقلي للاعتزال، وإن كان حارب المعتزلة، لكن بعد فترة طويلة وبعد تأمل خرج الأشعري من مذهب الأشاعرة، وأعلن أنه على مذهب أهل السنة والجماعة كما في كتاب (الإبانة عن أصول الديانة) الذي به نقض مذهبي الاعتزال والأشاعرة، فقال: (وقولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل، وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون؛ ولمن خالف قوله مجانبون)، ثم قرر عقيدة السلف كما هي في عهد الصحابة وعهد التابعين، وتخلى عن الأصول الكلامية التي بنى عليها مذهب الأشاعرة ، وأعلن ذلك بكل وضوح، ومن شاء أن يتبين ذلك فليرجع إلى كتاب الإبانة.. وغيره من كتب الأشعري المتأخرة.
إذاً: مذهب الأشاعرة مذهب ملفق بين مذهب أهل السنة وبين مذهب أهل الكلام، لذلك صاروا أقرب الفرق الكلامية إلى أهل السنة.
ونظراً لكون فرقة الأشاعرة تشمل مساحة كبيرة من المسلمين وينتمي إليها كثير من الدعاة، فالأشعرية مرت بأطوار تاريخية، في كل طور تزداد الشقة بينهم وبين أهل السنة، لاسيما بعدما أدخل عليها زعماؤهم اللاحقون تلك الأسس والمعتقدات الدخيلة من الفلسفة والتصوف والمنطق والكلام والجدل، حتى صارت عقيدة الأشاعرة الآن مزيجاً من تلك الأخلاط، وأصدق مثال على ذلك كتب الرازي خاصة: (أساس التقديس)، فمن شاء فليرجع إليه.
إذاً: صارت الأشاعرة الآن مزيجاً من المشارب والمعتقدات بين أهل السنة من جانب وبين الفلسفة والتصوف وعلم الكلام من جانب آخر؛ لذلك نجد الأشاعرة المعاصرين أكثر وقوعاً في المخالفات العقدية والأدبية حتى من عامة أهل السنة، خاصة بدع العقائد والعبادات، وهذا بخلاف أهل السنة في كل زمان، كما نجد أيضاً أن أكثر الأشاعرة حالياً الذين تنتمي إليهم غالب الدعوات ينطوون تحت الطرق الصوفية، وكذلك تكثر فيهم بدع القبور والتبرك بالأشخاص والأشياء غير المشروعة.
وكذلك بدع العبادات والأذكار والموالد.. ونحوها، وهذه البدع هي التي تميز في الغالب الأشاعرة عن أهل السنة في أي بلد كان، لذلك نجد أن كثيراً من الأشاعرة والصوفية يصفون المتمسكين بالسنة بالوهابية، خاصة في غير هذه البلاد.
أقول: الأشاعرة في جملة يوافقون أهل السنة في أمور من العقيدة ويخالفونهم في أمور أخرى، فهم فيما يوافقون فيه أهل السنة يجوز أن نطلق عليهم في هذا الأمر أهل سنة، من حيث اتباعهم للسنة في هذه القضية، لكنهم في الجملة عند الإطلاق العام حيث خالفوا أهل السنة والجماعة في أصول أخرى ليست قليلة، فليسوا هم أهل سنة كما يدعون عند الإطلاق والعموم، وهذا قد يلتبس على كثير من الناس حتى الباحثين؛ لقلة اطلاعهم على كلام أهل العلم في ذلك.
لا يتسع الوقت للاستشهاد على مخالفة الأشاعرة خاصة المعاصرين الذين تنتمي إليهم كثير من الدعوات والحركات المعاصرة.
وأيضاً لا يتسع الوقت لعرض أهم المسائل الاعتقادية الأصولية التي خالفت فيها الأشاعرة أهل السنة بالتفصيل، لكني أعرضها بإيجاز:
من أخطر ما خالف به الأشاعرة أهل السنة: خوضهم في صفات الله عز وجل بالتأويل الذي نهى عنه السلف نهياً باتاً، وحذروا منه أشد التحذير، ويتمثل هذا في تحذير مالك رضي الله عنه حينما سئل عن استواء الرحمن سبحانه وتعالى على العرش، حينما جاءه سائل فقال: كيف استوى؟ فنهره، وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً.
فالسؤال عن الكيف يقتضي أن الإنسان لابد أن يبحث عن مخرج عن الكيفية التي رسمها في ذهنه، والله سبحانه وتعالى قال لنا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وإذا كان الأمر كذلك فمسألة التشبيه التي ترد في الخواطر غير واردة في ذات الله.
فإذاً: السؤال عن هذه الأمور والخوض فيها تأويلاً أو تحريفاً يعتبر بدعة.
كذلك مما خالف فيه الأشاعرة أهل السنة: تعويلهم على العقل والجدل والكلام، فالأشاعرة كثيراً ما يعولون على المقررات العقلية، وعلى الجدل وعلم الكلام في مسائل الاعتقاد في صفات الله، ومسائل القدر والغيب، ويقدمون العقل على ما يسمونه بالقواطع العقلية، خاصة بعد الرازي ، فالقاعدة عندهم كما قررها الرازي وغيره: أن الدلائل النقلية لا تفيد اليقين، وأن الدلائل النقلية ظنية، وأن الدلائل العقلية قطعية، والظن -يعني: الكتاب والسنة- لا يعارض القطع -يعني: العقل- وراجع كتاب أصول الدين للرازي صفحة (24).
من أصول الأشاعرة التي خالفوا فيها أهل السنة: تفسيرهم التوحيد بما يحصره بتوحيد الربوبية في الغالب، وغفلتهم عن توحيد الإلهية والعبادة لله تعالى، مع أن توحيد العبودية والإلهية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل، ومن أجله نزلت الكتب، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وهذا لعله هو السبب في وقوع كثير من الأشاعرة بالتلبس بالبدع والخرافات؛ لأنهم اهتموا بقضية توحيد الربوبية، وإثبات الخالق التي لم ينكرها حتى ولا المشركون، ونسوا أو غفلوا كثيراً في كتبهم عن قضية توحيد الله سبحانه وتعالى بالعمل والاعتقاد.
مما خالفوا فيه أهل السنة كذلك أنهم قالوا غير ما قال أهل السنة في بعض الجزئيات في القرآن وفي كلام الله لا في الجملة، فمثلاً: الأشاعرة كأهل السنة يعتقدون أن القرآن منزل غير مخلوق، لكنهم يخالفونهم في بعض التعريفات والجزئيات.
كذلك يخالفون أهل السنة في بعض مسائل الإيمان، خاصة الزيادة والنقصان، ومسائل القدر والنبوات.
هذه أهم الأصول التي يخالف فيها الأشاعرة أهل السنة، والتي تقضي بألا نسلم للأشاعرة في دعواهم الآن أنهم هم أهل السنة، أهل السنة هم الذين لم يحيدوا ولم يزيدوا عن مذهب أهل السنة والجماعة في الاعتقاد حتى اليوم؛ لأن الاعتقاد توقيفي وغيبي، فمتى ينتسب الإنسان إلى أهل السنة والجماعة يلزمه أن يعتقد ما اعتقدوه من هذه الأصول، وأن يتبع ما قالوه أو قرروه، لا أن يقول ويعتقد حسب قواعده العقلية أو الكلامية أو الفلسفية، ثم ينسب قوله وعقيدته إلى السلف، كما فعل كثير من الأشاعرة، لكن الحق والإنصاف كما أشرت سابقاً أن نقول: إن الأشاعرة في العموم هم أقرب الفرق الكلامية إلى أهل السنة، لذلك نجد أن كثيراً من أئمة الأشاعرة أسهموا إسهاماً عظيماً وجليلاً مشكوراً في العلوم الأخرى مثل: علوم الأحكام، في الأصول، في التفسير، في علوم الحديث، في الفقه، نجد أن للأشاعرة إسهاماً كبيراً ومشكوراً وهم في هذا أئمة، لكن في الاعتقاد، لا، والسبب في ذلك في نظري أن أغلب هؤلاء المتكلمين أصحاب عقول كبيرة، والله سبحانه وتعالى هيأ للعقول أن تنظر في مسائل الأحكام والاجتهاد، وأن يكون لها عمل في الاستنباط والأمور الاجتهادية، لذلك أصحاب هذه العقول الكبيرة حينما أعملوها في أصول الفقه وأصول الأحكام وفي الفقه وفي علوم الحديث والقرآن والتفسير أجادوا وأفادوا، وحينما أعملوها في العقيدة والغيب، لفقوا وخاضوا، وهذا هو وصف كبار الأشاعرة الذين هم أئمة في جوانب الأحكام، ولا يقتدى بهم في جوانب الاعتقاد، كـالرازي والباقلاني والجويني .. ونحوهم، هؤلاء أئمة فيما كتبوه في الأصول، وما كتبوه في الأمور الاجتهادية التي للعقل فيها مجال، بل هي مجال العقل التي كلفنا الله بأن نستعمله فيها، لكن حينما خاضوا في الاعتقاد، وحينما خاضوا في صفات الله وفي أمور الغيب والقدر والإيمان خلطوا، وهذا أيضاً مصير البشر؛ من تجرأ على الغيب بغير علم فلابد أن يقع فيما وقعوا فيه.
هذا في نظري أقرب تحليل للمعضلة التي يقع فيها كثير من الباحثين في الجمع بين تقدير هؤلاء كأئمة في الفقه والأصول والأحكام، وبين اعتقادهم كأشاعرة، وأنا أقول: لا يلتبس الأمر على أي طالب علم فاهم، فهذا في نظري تفسير هذه القضية، والمسألة تحتاج إلى مزيد من التحقيق.
سأنتقل الآن إلى عرض حال الدعوات والحركات الإسلامية تجاه عقيدة السلف على الإجمال.
إننا نعتقد أن منهج السلف -أهل السنة والجماعة- في الاعتقاد والسلوك هو المنهج الأسلم وهو الأعلم وهو الأحكم، وهو الأجدر، وهو الأحق بالاتباع؛ لأن منهج أهل السنة والجماعة هو صراط الله المستقيم، ولأن منهج أهل السنة والجماعة هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى المقتدى بهم، بل هو الإسلام الحنيف والدين القيم، أما ما عداه من آراء الفرق والطرق والمذاهب فإنما هي السبل؛ سبل الهلاك والبدع والضلالة والأهواء، التي نهانا الله عنها بقوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
فهذه السبل مهما كانت أسماؤها وشعاراتها فهي التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]).
وعلى هذا فإن التزام منهج السلف عقيدة وسلوكاً أمر متعين.
انطلاقاً من هذا المبدأ سأتعرض لبعض الدعوات والحركات المعاصرة ومواقفها تجاه هذا الأمر، ومدى التزامها باتباع السلف -أهل السنة والجماعة- وهديهم في الاعتقاد والمنهج والسلوك.
ذكرت نماذج أو أمثلة للأخطاء التي وقع فيها بعض الدعاة، لكني نظراً لأني التزمت ألا أذكر الأسماء والعناوين فإني أستعفيكم من ذكرها، وإن كانت مكتوبة لأنتقل إلى بعض القواعد العامة التي ليس فيها اتهام لأحد بعينه.
قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23].
وقال تعالى موجهاً عباده بهذا الدعاء: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
إذاً: فقضية التوحيد من أخطر القضايا التي تساهل فيها كثير من الدعاة في العصر الحاضر، فإنه بناء على ما ثبت في النصوص -وهو منهج أهل السنة والجماعة- يجب أن تكون العناية بالتوحيد ومحاربة البدع والشركيات هي الأمر الأول للدعاة، وهذا لا يعني أن الدعوات يجوز لها أن تغفل عن الجوانب الأخرى في تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وعلاج القضايا الاجتماعية والخلقية والفكرية والسياسية والاقتصادية، وما أثقل هذه الأمور وما أعظمها وما أعقدها، بل يجب على الداعية أن يهتم بكل شيء يهم الإسلام والمسلمين مهما صغر أو قل، ولو قصر في شيء كان ملوماً بقدر تقصيره فيما يجب عليه، وهذا هو مقتضى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح الذي أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، فاهتمام الدعوات والدعاة المصلحين لابد أن يأخذ صفة الشمول في الإصلاح، وإنما يكون باتباع الأولويات، فللأولويات اعتبار شرعي، بحيث نبدأ بما بدأ الله به، وبما بدأ به رسوله صلى الله عليه وسلم في جانب الدعوة، وما بدأ به الأنبياء عموماً، وما بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم على الخصوص هو دعوة التوحيد، فبدأ بالأخطر وبالأعظم ظلماً وهو الشرك، فبدأ بمحاربة الشرك ومحاربة البدع وفساد العقائد، وفي الوقت نفسه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى إلى الإصلاح وينهى عن الفساد، وهنا أمر أيضاً تغفل عنه الدعوات المعاصرة أو أغلبها وهو أن إصلاح أحوال الناس في معاشهم وفي أخلاقهم إنما هو مرتبط بسلامة عقائدهم وبسلامة توحيدهم، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، والإيمان والتقوى لا يتحققان إلا بصحة الاعتقاد وسلامة العبادة والمنهج لله سبحانه وتعالى؛ إذ قبول الأعمال الصالحة المفروضة منها والمسنونة كالصلاة والزكاة والصيام والحج والدعاء والإحسان إلى الناس.. إلى آخره، والبر والصدق والعفاف والصلة، كل ذلك وغيره مرتبط بصحة الاعتقاد وصحة الاتباع، وبالإخلاص لله تعالى، وأن يكون العمل صواباً على مقتضى أمر الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
بهذه المناسبة مما يؤسف له أن بعض الحركات والدعوات الإسلامية المعاصرة لا تكتفي بالاستهانة بهذا الواجب، واجب الدعوة إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، ولا تكتفي بالتخلي عنه في منهجها، بل ترى أن هذا منهج عقيم ينتج عن قصور في التفكير وضيق الأفق، وأحياناً يدعي بعض المنتسبين للدعوات أن الاهتمام بمسألة القبور والبدع والخرافات وتوجيه الناس عن الشركيات إلى عبادة الله وحده أن هذا اهتمام بالقشور.
ويتمثل هذا في الذين يأخذون على الدعوات السنية المشهورة في العالم الآن أنها إنما تدعو إلى ترك البدع والخرافات وتحارب القبورية، وأحياناً كما ذكرت يلمزونها بما يسمى بالوهابية.
نعم قد يكون لدى هذه الجماعات السنية شيء من القصور والأخطاء في الأساليب، لكن اهتمامهم بالعقيدة والعبادة ومحاربتهم للبدع هذه منقبة كبرى يجب أن تذكر لهم ويحمدون عليها ويشجعون عليها من قبل أي داعية يعرف هذا عنهم.
بل اهتمام هذا الدعوات السنية بالعقيدة جعل كثيراً من أصحاب الغيرة وأهل الغيرة على عقيدة السلف يميلون ويعتقدون بأن هذا الدعوات هي التي على الحق، وإن كان لديها شيء من القصور أو الضعف؛ لأنها تتمثل فيها صفات أهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة والفرقة الناجية.. وغير ذلك مما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإذاً: العبرة هي باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالتقيد بعقيدة السلف، لا بالكثرة أو بالشعارات والإعلانات والدعايات.
أما الذين يلمزون المتمسكين بالسنن والمحاربين للبدع ويرون أنهم مهتمون بالقشور فهم مخطئون لا شك.
من الأخطاء التي وقعت فيها غالب الحركات الإسلامية والجماعات؛ بسبب ضعف صلتها بمنهج السلف اعتقاداً وسلوكاً: ضعف الاهتمام بالعلوم الشرعية تعلماً وتعليماً، وهذا الخلل يوجد لدى أغلب الحركات الإسلامية المعاصرة غير السلفية، فهي لا تولي هذا الجانب عناية كافية على العموم، كما أنه قل أن تجد فيها وفي أتباعها علماء متضلعين في العلوم الشرعية، وأحياناً يوجد بين الحركات والدعوات الإسلامية المعاصرة، وبين أفراد من العلماء المشهورين المتمسكين بالسنة شيء من الجفوة، وربما يكون سبب هذه الجفوة أن هؤلاء العلماء المنسوبين لأهل السنة متفرغون ومتفوقون في العلوم الشرعية، بينما كثيراً من أتباع الحركات الإسلامية دونهم في ذلك، ولم تهتم الدعوات وتسعى إلى الأسلوب الأمثل للإفادة من هؤلاء العلماء كما ذكرت، ومما يؤلم أن فكرة التحرر من بعض العلوم الأصولية وغير الأصولية التي كان عليها السلف، كعلوم الحديث والأصول والفقه أصبحت محل نظر عند بعض الدعوات المشهورة والدعاة المعاصرين، بدعوى ضرورة التجديد، فقد سرت فكرة التخلص من الأصول التي اتفق عليها السلف وأثرت أثرها السلبي في كثير من الدعاة اليوم من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وإن كان يؤسفني كما يؤسف أي مسلم أن نذكر هذه الحقيقة، لكن الحق لابد أن يقال، وهذا واجب النصيحة.
ولو تأملنا واقع أكثر الدعاة والدعوات لوجدناهم مصابين بالضحالة في العلوم الشرعية، وقلة البضاعة من نصوص الكتاب والسنة، وتراث سلفنا الصالح قراءة وحفظاً وتدبراً وعلماً وعملاً؛ مما نجم عنه التخبط في العقيدة، وفي الأصول وفي الأحكام، وضعف التمسك بهدي القرآن والسنة، ولو أنهم امتثلوا قول الله تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]، لو أن الدعوات المعاصرة خصصت فريقاً من أتباعها للتعمق والتضلع في الكتاب والسنة أو استفادت من جهود العلماء المتبحرين في علوم الكتاب والسنة لكان هذا خيراً لها وخيراً للمسلمين.
إذاً: جانب الضعف والاهتمام بالعلوم الشرعية من أخطر الجوانب، بل من أخطر السمات التي تتسم بها كثير من الدعوات المعاصرة، وأيضاً نظراً لجهل كثير من الدعوات والدعاة المعاصرين لعقيدة أهل السنة والجماعة نجد عندهم كثيراً من التعصب والحزبية والغرور، وهذه السمة مع الأسف سمة غالبة في الكثير من الدعوات الإسلامية المعاصرة، وكل حزب بما لديهم فرحون، وكل فريق يرى أنه أجدر بالاتباع، وأنه المنقذ للمسلمين، وأنه هو الجدير بقيادة الأمة، وكل فريق يرى أنه هو الذي يملك القدرة على حل المشكلات، وأن ما عداه من الحركات لا يملك ذلك.
بل من الحركات الإسلامية المعاصرة من ينظر إلى غير منسوب جماعتها أنه على درجة أقل من الجدارة، أو له تقويم خطير عند أتباع هذه الحركة، وربما يصفون الآخرين بأنهم مساكين، وينظرون إليهم نظرة إشفاق وإهمال، بل وجد من الحركات الإسلامية من يدعي أنه هو جماعة المسلمين وبقية المسلمين، لا حظ لهم في هذا الاسم، وهذه مسألة خطيرة ينبغي ألا تصدر من مسلم يخاف الله.
وقد أودى التعصب والغرور والحزبية لبعض الحركات الإسلامية بأن جعلها تستهين بالعلوم الشرعية، وبالعلماء المتمسكين بالعلوم الشرعية الذين لا ينتمون إليها، ورمي بعضهم بالتغفيل وقصور التفكير، وبضيق الأفق؛ لأنهم لم يواكبوا هذه الدعوة أو تلك، أو أنهم ربما اهتموا بإنكار المنكرات بطريقة بدائية كما يذكر بعض الدعاة الكبار الآن، بل ربما يقصدون العلماء الذين يذهبون للحكام والسلاطين لمناصحتهم أو نحو ذلك، فبعض الدعاة يرى أن مناصحة الحكام قصور وتغفيل، وهذا يخالف منهج أهل السنة والجماعة، فالمناصحة مبدأ شرعي حتى لأكفر الكفار، كما وجه الله تعالى موسى بأن يقول لفرعون قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى.
إذاً: الغرور سبب رمي من يناصح ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالتغفيل والجهل من قبل بعض الدعاة.
من تلك الأخطاء التي وقعت فيها بعض الحركات الإسلامية؛ بسبب ضعف الاهتمام بمنهج أهل السنة والجماعة: التفرق والاختلاف، وهذا مع الأسف من أبرز سمات الدعوات الإسلامية المعاصرة، والله تعالى يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
ويقول: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا [آل عمران:105].
ويقول: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105].
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)، فمع شدة النهي عن التفرق في الدين قد وقع فيه كثير من الدعاة والحركات الإسلامية المعاصرة مع الأسف رغم إلحاح الحاجة إلى الاجتماع على الحق وعلى الكتاب والسنة، وعلى منهج أهل السنة.
فالدعوات المعاصرة بسبب عدم تمسكها أو ضعف تمسكها بمنهج أهل السنة والجماعة لا تزال متفرقة في مناهجها وفي أهدافها وفي أساليبها وفي أعمالها، وتعلن هذا الخلاف وتصعده ولا تزال، بل حتى تلك الدعوات المتشابهة في المنهج وفي الأصول تنزع إلى الاستقلالية والتفرق، واصطناع الاختلاف ولو تكلفاً بينها وبين الآخرين الذين هم أقرب إليها، مما يدل على أن المشكلة إنما هي في رءوس الأشخاص أنفسهم أكثر منها في مناهج الدعوات، والسبب الرئيسي لذلك هو ضعف الصلة بعقيدة السلف الصالح المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبالمناسبة فينبغي أن نطالب جميع الدعوات المعاصرة التي تدعي انتمائها لأهل السنة والجماعة أن تحقق هذا الأمر فعلاً في واقعها، ولا نطلب منهم أن يجتمعوا على ما هم عليه من مخالفات عقدية وسلوكية لمنهج السلف، فهذا مبدأ تلفيقي نبرأ إلى الله منه أو ندعو إليه، إنما المطلوب من جميع الدعاة المنتمين للسلف أو لأهل السنة والجماعة الاجتماع على الحق، والحق واضح من خلال كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خلال منهج السلف وأئمة الهدى.
أخيراً في هذا الموضوع بعض الوقفات والخواطر وهي محل بحث وينبغي أن تطرح على كل الباحثين الذين يهمهم أمر المسلمين وأمر الدعوات المعاصرة، ويهمهم الالتزام بعقيدة أهل السنة والجماعة.
فبعد هذا الجولة السريعة في مسائل العقيدة والدعوات سأذكر لكم بعض الخواطر والوقفات بعضها مرت الإشارة إليه، وبعضها لا يزال على أنه لابد من مزيد البحث فيه.
من ذلك: أن كثيراً من الدعوات والحركات الإسلامية المعاصرة، وأكثر الدعاة في شتى بقاع العالم، هم في الحقيقة رغم ما فيهم هم أفضل فئات المسلمين بحسب حالهم اليوم، يستثنى من ذلك الحركات الهدامة التي خرجت من الإسلام، فلا كلام لنا معها الآن، إنما الكلام عن الدعوات والحركات الإسلامية المعاصرة والدعاة، فينبغي أن نحمد لهم مواقفهم وما فعلوه حيال الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ونصرة دينه، والاهتمام بأمور المسلمين ورفع راية الإسلام، وكل دعوة نجد عندها من الخير والصلاح والنفع بحسب حالها وبحسب أهدافها، ثم إن غالب هؤلاء الدعاة في الحقيقة نجد أنهم ينشدون الصلاح والإصلاح، لكن كونهم كذلك لا يعصمهم من الخطأ والزلل، بل العكس، يجعل هؤلاء عرضة للأخطاء ما لم يتمسكوا بالكتاب والسنة، ويجعلهم عرضة للنقد والنصح والتقويم والتسديد والمحاسبة، حيث وضعوا أنفسهم في الوظيفة العظمى التي هي الدعوة إلى الله وإلى دينه.
من الخواطر: رغم كثير من المهتمين بالدعوة والعقيدة ظهر لي خطأ لابد أنكم لاحظتموه وهو خطأ فادح في التصور حول الدعوة ومستقبل الإسلام والدعوة والمسلمين، وهذا يقع فيه كثير من الناس تبعاً للدعوات المعاصرة؛ وذلك حين يتكلمون فيما يجب أن يكون عليه المسلمون، وأن تكون عليه الحركات والدعوات الإسلامية من مناهج وطرق، وأيها أسلم وأيها أصوب لإخراج المسلمين من وهدتهم، فهذا الخطأ يتمثل في أن بعض الدعاة يصر على أن المسلمين لا يكون عزهم ولا نصرهم إلا بالأسلوب الفلاني الذي هو يراه؛ فمن قائل: بأنه لا يمكن عز المسلمين إلا بالوصول إلى الحكم في البلاد التي لا تحكم بما أنزل الله وإقامة الدولة الإسلامية، وأنه هو الحل الأول والوحيد.
ومنهم من يقول: لا، القوة والعنف هي الطريق الوحيد لعودة المسلمين إلى الدين.
ومنهم من يقول بأن التقدم الحضاري والأخذ بأسباب الحضارة الحديثة هو الأسلوب الأفضل.
ومنهم من يرى أن التجمعات الحزبية وشبه الحزبية هي الأسلوب الحتمي لا سواه، ومنهم من يجزم بأن الإصلاح الفردي هو الأسلم لا سواه.
ومنهم من يرى بأنه لابد من الإصلاح الجماعي وإلا فالعمل هباء.. وهكذا.
أنا في الحقيقة لا أعترض على مثل هذا الأفكار ووجهات النظر في العموم، لكني أعترض على أن يكون هذا المنهج لمن طرحه أنه هو المنهج الوحيد لا غير، وأن يردد هذه الفكرة ويجعلها هي الميزان في تقويمه الآخرين وفي إخضاع النصوص أيضاً، وحين يرى كثيراً من الدعاة ممن حاد عن طريقته أو خالفها أنه مخطئ، أو أنه عقبة في وجه الدعوة والإصلاح، مما أدى إلى وجود الحزبيات والتكتلات والفرق والتفرق بين صفوف الدعاة، وهذا يبدو واضحاً كما تعلمون الآن من كثرة الاتجاهات والجماعات، كل جماعة ترى أن منهجها هو الأسلم، ونقد الدعوات والدعاة بعضهم لبعض أحياناً، ومن خلال نقدهم للآخرين أيضاً، والذي أراه وأظنه -إن شاء الله- هو الحق -وأرجو أن تشاركوني الرأي-: أن الأسلوب الأمثل أو الطريقة المناسبة في الدعوة والإصلاح مسألة اجتهادية مشروطة بالتقيد بالكتاب والسنة، والتزام منهج السلف عقيدة وسلوكاً، خاصة منهج السلف في الإصلاح والدعوة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إذاً: فالأسلوب الأمثل هو مسألة اجتهادية بهذه الشروط، وإن تعددت الأساليب والوسائل في كل بلد بحسبه، مادام الأمر في حدود المباح شرعاً.
الأمر قبل الأخير في هذا الموضوع: أن مسألة مستقبل الإسلام والمسلمين مسألة غيبية لا يعلمها إلا الله سبحانه، ونحن إذا بذلنا الأسباب أياً كانت على المنهج الأسلم فقد يهيئ الله سبحانه وتعالى للأمة من أمرها رشداً من حيث لا نحتسب، ومن حيث لا يدور بخلد واحد منا، فمهما بالغنا في التصورات للمستقبل وفي وضع الخطط والمناهج والأساليب للدعوات، أو وضع الاعتراضات والافتراضات، فإن هذا أمر يبقى مجرد تصور لا أساس له من الواقع؛ لأنه كما هو معروف من تاريخ الأمة الإسلامية أن الله سبحانه وتعالى يبعث لهذا الأمة مصلحاً واحداً يجمع كلمتها ويوحد صفها ويجدد لها أمر دينها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وينصر السنة وأهلها كما وعد بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها)، ورأس المائة لا يحد بالسنة والسنتين ولا العشر.
فهذا أمر ممكن، لكن أيضاً يمكن أن يهيئ الله سبحانه وتعالى للأمة أمراً آخر غير هذا الأمر، فربما يكون النصر والخير على يد حاكم صالح، كما حدث على يد صلاح الدين بعدما هيمنت الرافضة على كثير من بلاد المسلمين، وقمعت السنة دهراً طويلاً، وهيمنت الصليبية على البلاد المقدسة، وأصبح حال المسلمين يشبه حالهم اليوم، فبعث الله حاكماً صالحاً قاد المسلمين إلى الخير، وجمعهم على كلمة التقوى، ووحد صفوفهم وأحيا السنة؛ ذلكم هو صلاح الدين الأيوبي .
إذاً: ربما يكون النصر من حيث لا نحتسب، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بقوله: (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)، مسلم على التوحيد، لكنه قد يكون فاجراً، ومع هذا قد يؤيد به الدين، بل ربما يبعث الله أقواماً آخرين من غيرنا وأحسن منا عقيدة وأصلح منا وأجدر، فتجتمع الأمة على الهدى والحق.
وربما تحدث أحداث عظام جسام تلجئ الناس إلى اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى اللجوء إلى الحق والتماس الطريق المستقيم والاعتصام بالدين والاستمساك بالكتاب والسنة وهدي السلف الصالح، وربما يأتي الفتح أيضاً من الله بما لا يخطر على بال البشر، وهذه افتراضات كلها جائزة، وبعضها قد يجتمع وقد يفترق، وقد تجتمع كلها أيضاً، فما المانع بأن يحدث في بلد من بلاد المسلمين إصلاح على هذا النوع، وفي بلد آخر على نمط آخر، وفي بلد ثالث على نمط ثالث؟ فهذه الافتراضات لا مانع منها مادامت كلها جائزة عقلاً، ولها أمثلة من التاريخ الإسلامي قديماً وحديثاً.
إذاً: فعلام الخلاف بين الدعاة؟ وعلام الخلاف بين الدعوات والحركات الإسلامية؟ فكل فريق يزعم أنه هو الذي يرسم للمسلمين سبيل الإصلاح والصلاح، وأن غيرهم لا يملك منهجاً ولا يملك أسلوباً.. إلى آخر ذلك.
وعلى هذا يجب أن يحترم كل مسلم وجهة نظر الآخر في الأمور الاجتهادية لا في الأمور الاعتقادية، مادامت في حدود الشرع ولم تخالف الكتاب والسنة، ولو تعددت الوسائط والمناهج الاجتهادية، هذا والتصور الأسلم في هذا الموضوع.
وهناك أيضاً ما يزيد المسألة وضوحاً، وهو أن اختلاف بلاد المسلمين واختلاف أحوالهم ومجتمعاتهم وأوضاعهم الجغرافية والسياسية قد يستلزم تعدد الأساليب والمناهج لكل بلد بحسب أحواله، مادام في حدود لا يخالف النصوص الشرعية، ولا يخالف عقيدة السلف وأحكام الشرع.
أمر أخير من الخواطر التي أبديها لكم من خلال هذا الموضوع: هو أننا نرى كثيراً من الدعاة والدعوات المعاصرة يصرفون جل اهتمامهم إلى تشخيص علاج مظاهر الانحراف والفساد الأخلاقي لدى المسلمين، وهذه خصلة تحمد لهم، بل الواجب أن يكون الأمر كذلك، لكن مع ذلك لا نعذرهم ولا نعذر الكثير منهم حين يذهلون ذهولاً أعمى عن الخلل الأعظم والخلل الأخطر؛ ذلكم الخلل الذي لا شك أنه هو السبب الأول إلى الانحراف الخلقي والفسادي والاجتماعي والفوضى، وسبب الجهل والتخلف وسبب سائر المفاسد؛ ذلكم الخلل الحاصل في اعتقادات المسلمين علماً وعملاً، المتمثل بالجهل بأبجديات الإسلام، والوقوع في المعتقدات الضالة والأعمال الشركية والبدعية التي لا يقبل معها عمل؛ من بدع المقابر، وتقديس الأشخاص الأموات والأحياء، ومن بدع تقديس الأولياء وأقطاب الصوفية.. وما يدور في أفلاكهم، ومن بدع طرق الصوفية التي استفحلت بين المسلمين، ومن بدع المشاهد والآثار والأشجار والأحجار ورفع الصور والتماثيل، وصرف كثير من أنواع العبادة لغير الله سبحانه.. ونحو ذلك مما يكون كفراً، ولا يخفى على ذي البصيرة.
فهذا الخلل العظيم يذهل عنه كثير من الدعوات اليوم، وهو أمر خطير؛ فنجدهم منشغلين بتشخيص الأمراض الخلقية والاجتماعية والسياسية وهذا أمر لا بأس به، لكن يجب أن يفهموا -كما تقرر في الكتاب والسنة- أن أصل الشرور والمفاسد هو فساد الاعتقاد.
وأما علاج المعاصي فقط والمفاسد الخلقية والسياسية والاقتصادية فقط دون علاج العقائد بمثابة علاج الشجة في رأس المقتول، فهل يجدي ذلك شيئاً؟!
إذاً: أرى أن هذه القضية من أخطر الأخطاء التي تقع فيها كثير من الدعوات المعاصرة، فهي تخالف مخالفة صريحة لأصول أهل السنة، الذين يرون أن تقويم الناس على عبادة الله واستقامتهم على التوحيد الخالص هو المنهج الأول، وهو الهدف الأول وغيره تبع له، ويهتمون بالإسلام كاملاً وشاملاً دون تجزئة له، إنما يبدءون بالأهم فالأهم، وأهم شيء هو ما يحقق رضا الله سبحانه وتعالى والعبادة الصحيحة.
يبدو لي أن الوقت قد انتهى وإن كان بقي عندي بعض الفقرات، لكن أتيح الفرصة لمن عنده سؤال، مع الإذن لمن أراد أن يخرج؛ لأنه الوقت الرسمي لهذه المحاضرة قد انتهى، فمن أراد أن يخرج فهو في حل، فما بقي من الوقت أتركه لتعليق أو سؤال أو فائدة جديدة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
السؤال: يقال: إن كتاب (الإبانة من أصول الديانة) ينسب إلى أبي الحسن الأشعري وليس من تأليفه، فهل يوجد ما يثبت نسبته إليه علمياً؟
الجواب: في الحقيقة هذا القضية وفيرة عند المتخصصين أو عند كثير من الباحثين، وإذا فهمنا السبب بطل العجب، كتاب أبي الحسن الأشعري (الإبانة) نسب إليه في وقته وبعد وقته، والذين نسبو له أئمة كبار لا يتهمون بالكذب، وهذا الكتاب ذكر في وقت أبي الحسن نفسه، ذكره غيره، بمعنى أنه كان يشار إلى هذا الكتاب كحجة في قول الأشعري بعد وفاته مباشرة هذا هو الأصل، وهو الموجود الآن وذكره كثير من العلماء والباحثين، من ذلك مثلاً مقدمة الشيخ حماد الأنصاري على الطبعة الأخيرة، طبعة الجامعة الإسلامية، وأعظم من ذلك ما كتبه كثير من الأشاعرة، وغير الأشاعرة، ولا مجال الآن لذكر التفصيل فيه.
أقول: إن شبهة التشكيك في الكتاب جاءت بعدما وجد الأشاعرة المتأخرين الحرج من الجمع بين انتساب الأشعري في مذهبه وسط بين الاعتزال وبين أهل السنة -يعني: في مذهبه الملفق- وبين ما ذكره في كتابه (الإبانة)، والأشاعرة المتأخرين اليوم يقعون في حرج، فليس أمامهم إلا أحد أمرين: إما أن يعترفوا بالكتاب ولا ينتسبوا للأشعري ، أو يشكوا في الكتاب ويستريحوا من هذه المعضلة؛ لأن كتاب (الإبانة) قرر مذهب أهل السنة والجماعة وخالف الأشاعرة، وهو للأشعري نفسه.
إذاً: التشكيك جاء متأخراً، وفيما أعلم لم أقرأ ولم أعرف أن أحداً شكك في نسبة الكتاب للأشعري في زمانه ولا بعد زمانه بقرن أو أكثر، وإنما جاء التشكيك فيما بعد.
فعلى أي حال تبقى المسألة محل تحقيق، لكني أجزم من خلال ما قرأت، والمتقرر عند الأئمة المحققين من أشاعرة وغيرهم هو أن هذا الكتاب للأشعري ، إنما جاءت المعضلة بسبب وجود آراء فيه تخالف مذهب الأشاعرة.
السؤال: قلتم: إن توحيد الربوبية لم يخالف فيه أحد حتى المشركين، فما الرد على الدهريين الذين قالوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا [المؤمنون:37]، وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24]؟
الجواب: هذه المسألة واضحة في الحقيقة من خلال القرآن والسنة، ومن خلال كتابات الأئمة في هذا الموضوع، قضية توحيد الربوبية لها شقان: توحيد الربوبية بمعنى إثبات أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق وهو الرازق وهو المحيي وهو المميت وهو المدبر، هذا عليه غالب الأمم وسائر الناس ولا يخالف فيها إلا ما ندر، وأنا لا أعرف أمة من الأمم أنكرت هذا حتى الأمم المشركة كالثانوية مثلاً (المجوس) والنصارى أصحاب التثليث، والصابئة أصحاب عبدة الأصنام، فهؤلاء بأن أعطوا معبوداتهم شيئاً من صفات الإلهية، لكنهم يؤمنون بأن هناك الإله الخالق الأصل، حتى الثانوية الذين قالوا: بأن هناك إلهين: إلهاً للخير وإلهاً للشر، قالوا: بأن إله الخير هو الإله الأول وهو المدبر الأول، فأرادوا أن ينزهوا الله عن الشر، فقالوا: للشر خالق آخر، وهذه من شبهات الشيطان.
فالشق الثاني: مسألة إنكار وجود الله، فهذه لا توجد عند غالب المشركين، إنما توجد عند بعض الملاحدة خاصة غلاة الفلاسفة وبعض الملاحدة الدهريين، وهؤلاء قليلون في العرب الذين أنزل فيهم القرآن، وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم أول الأمر فيه، ونجد أن جدالهم قليل في القرآن، أغلب ما جاء في القرآن من تقرير التوحيد هو مجابهة المشركين الذين يقرون بوجود الله، وأنه هو الخالق، وأنه هو الرب الرازق المدبر، لكنهم يعبدون معه غيره، وسائر الآيات التي جاءت في هذا الموضوع إنما قررت هذه القضية.
فإذاً: المسألة لها جانبان: جانب إنكار وجود الله، فهذه لا توجد في الغالب إلا على يد أفراد، وأنا أعتقد أن أغلب الشيوعيين المعاصرين لا ينكرون وجود الله من حيث الوجود كفطرة، إنما ينكرون مستلزمات وجود الله، ..... الناس في الطاعة والعبادة والتشريع والنبوات والوحي هذا غالب الملاحدة.
والموضوع له تفصيل، والذي أقصده وتكلمت عنه هو قضية الشرك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر